قلت: رجل سمع اسم الله فذكره فعز به فاستغنى فاستكبر وأبى أن يستعين بغيره، وحقر المال وأصحابه والغنى وطلابه؛ بل رأى نفسه بالله أغنى من كل غني وأكبر من كل كبير.
وقلت: سبحان الله لقد تحول الرجل في لمحة من ذل الاستجداء إلى عز الاستغناء ، سأل فازدري وحرم، فعف فاستغنى، فلحقه المال يلح عليه فيرده، ويتضرع إليه فلا يسمع له. رفضه المال قبل لمحات وهو الآن يرفضه، وأذله منذ لحظات وهو الآن يذله. كان منذ لحظات سائلا ينهر فصار مسئولا ينهر، كان ذليلا فعز، وحقيرا فعظم، كان طالبا فطلب وسائلا فسئل، لقد اعتز بالله واستغنى به.
جاء في الأثر: استغن عمن شئت تكن نظيره.
الجمعة 9 شعبان/26 مايو
يقظة البدوي
البدوي لا تحد نظره ولا سائر حواسه حدود الأبنية وسدود الحضارة، فهو ينظر إلى الآفاق البعيدة، ويرى السماء ليلا ونهارا، وهو يعيش في حماية نفسه يخاف العدو واللص والوحش، ويحترز من ضلال الطريق والهلاك جوعا أو ظمأ، فهو منتبه الحواس حاد الفراسة كثير الارتياب.
كنت في سفر بالحجاز، ومعنا دليل بدوي، فرأينا ثلاثة بعران فقال: هذه ضالة، وسرنا ونسيناها حتى لقينا رجلا على الطريق فوقف الدليل السيارة وسأل: أتلك بعرانك؟ قال: نعم. ثم رأينا صقرا محلقا فقال: هذا صقر أفلت من الأمير، قلنا: كيف عرفت؟ قال أراه يقرب ولا يفزع من السيارات. وكنا نسير بموضع كثير الأشجار فأشار إلى سرحة قائلا: هذه تسمى السرحة الغزلانية؛ لأن الغزلان تأوي إليها، فعجبنا كيف ميز سرحة من بين سرح كثير وشجر متشابه.
ومن يساير البداة أو يعاشرهم يجد ما هو أبعد من هذا وأغرب.
فليس بعيدا ما نقرأ عن فراسة الأعراب، ودلالتهم، وتمييزهم ما يتشابه من شجر أو جبال أو طرق. وقد عرفت دليلا من جهينة يعرف الطريق ليلا ونهارا، ويهدي السائق إن حاد في الصحراء قليلا نحو اليمين أو الشمال، والذي نراه ونسمع به الآن من فراسة القافة واستدلالهم، يصدق ما قرأناه وحسبناه خرافة مما روي في كتب الأدب العربي. إننا نستطيع أن نحكم الحاضر في كثير من الأمور الماضية، والقياس صحيح أكثر الأحيان.
السبت 10 شعبان/27 مايو
Bilinmeyen sayfa