وما قصدت بالإحماض فيه إلا تنشيط قارئيه، وتكثير سواد طالبيه. ولم أودعه من الأشعار الأجنبيّة إلا بيتين فذين أسّست عليهما بنية المقامة الحلوانية وآخرين توأمين ضمنتهما المقامة الكرجيّة وما عدا ذلك فخاطري أبو عذره ومقتضب حلوه ومرّه هذا مع اعترافي بأنّ البديع ﵀ سبّاق غايات وصاحب آيات، وأنّ المتصدّي بعده لإنشاء مقامة؛ ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته.
***
الإحماض: الانتقال من الشيء إلى شيء، وأصله في الإبل ترعى الخلة وهي حلوة المرعى فتملّه فتنتقل إلى الحمض تأكل منه فيذهب الحمض عن قلوبها استيلاء الحلاوة فتنشط بذلك على الرعي فيقال: أحمض الرجل إحماضا، والعرب تقول: الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها فأراد به تنقله في المقامات، من حكاية فائقة إلى قضية رائقة، ومن موعظة تبكي إلى ملهية تسلي، وفي ذلك تنشيط وترغيب في قراءتها، ونفي للملل والكسل عن قارئها، سواد: أشخاص، ويسمى الشخص سوادا، لأنه يسود الأرض بظله.
أودعه: أضمنه، الأجنبية: التي ليست من شعره، والأجنبي: من ليس بينك وبينه قرابة من الجنابة وهي البعد فذين: منفردين هذا من شعر وهذا من آخر، وتوأمين: أخوين من شعر واحد. أسست: أصلت، والأساس أصل الحائط. الحلوانية والكرجية: منسوبتان إلى حلوان والكرج، وهما بلدان، ما عدا: ما جاوز. خاطري: ذهني. أبو عذره، أي أول صانع له، يقال للمرأة: فلان أبو عذرها، أي أول زوج تزوجها فوجدها عذراء فافتضها وأزال عذرتها، أي ما بها من صعوبة، مقتضب. مقتطع. حلوه ومرّه: جيده ورديئه.
غايات: جمع غاية وهي طلق (١) الخيل والسباق منها الذي يجيء أبدا سابقا المتصدي: المتعرض. بلاغة: فصاحة، وأصلها أن يبلغ الإنسان من الكلام والحجة ما أراد.
[قدامة بن جعفر]
قدامة. وهو أبو الوليد بن جعفر، كان بليغا مجيدا عالما بأسرار صنعة الكتاب ولوازمها، وله كتاب يعرف بسرّ البلاغة في الكتابة، وترجمته تدل على متضمنه، وله تحقيق في صنع البديع يتميز به عن نظرائه، وتدقيق في كلام العرب يربي فيه على أكفائه، وتحذيق في علوم التعليم أضرم فيها شعلة ذكائه؛ فلذلك سار المثل ببلاغته، واتفق
_________
(١) الطلق: هو الشوط الواحد في جري الخيل.
1 / 26