كمحتطب ليلا أساود هضبة ... أتاه بها في ظلمة الليل حاطبه (١)
وأبين من تفسيره أن حاطب الليل لا يبصر ما يحتطب، فهو يؤلف بين الحطب الكبير والصغير والقوي والضعيف والجيد والرديء، فكذلك المكثار يأتي بالضعيف من الكلام والقوي والجيد والرديء، فشبهه لذلك بالحاطب وأراد ب «جالب رجل وخيل» ما أراد بحاطب الليل، لأن الراجل ضعيف والفارس قوي، والمكثار: الكثير الكلام، قال النبي ﷺ: «من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه، كانت النار أولى به، ألا ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت» (٢).
أقيل: أقيم ورفع. عثار: انكباب وسقوط وإقامة العاثر أن ترفعه من سقطته ومنه الإقالة في البيع ونحوه.
***
فلمّا لم يسعف بالإقالة، ولا أعفى من المقالة لبّيت دعوته تلبية المطيع، وبذلت في مطاوعته جهد المستطيع وأنشأت- على ما أعانيه من قريحة جامدة، وفطنة خامدة ورويّة ناضبة وهموم ناصبة- خمسين مقامة تحتوي على جدّ القول وهزله ورقيق اللفظ وجزله وغرر البيان ودرره وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشّحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات ورصّعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية والأحاجي النّحوية والفتاوى اللغوية والرسائل المبتكرة والخطب المحبرة والمواعظ المبكية والأضاحيك الملهية مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجيّ، وأسندت روايته إلى الحارث بن همام البصريّ.
والاسعاف المصدر، وساعفته مساعفة: قضيت إرادته ولا أعفى من المقالة، أي لم يعفني من كلامه وإلحاحه، وأعفيت: الرجل وعافيته: أزلت عنه ما يشق عليه وأصله الترك، ومنه إعفاء اللحية، وهو أن يتركها على حالها، ومنه: عفا الله عنك لبيت: أجبت وقلت: لبيك. أنشأت: ابتدأت وأخذت أفعل، أعانيه: أعالجه وأصلها من العناء وهو التعب قريحة: ذهن وأصلها ماء البئر النابع عند حفرها، ومنه القرحة للجراحة، لأن أصلها مادة وشبه الذهن بذلك لما يتولد عنه من المعاني فطنة: ذكاء والفطن: الذكيّ خامدة ساكنة وخمدت النار: سكن لهبها روية تدبر وروّأت الأمر تدبرت كيف تصنعه.
_________
(١) البيت في ديوان الفرزدق ص ٥١.
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢٣، ومسلم في الإيمان حديث ٧٥، ٧٧، والترمذي في البر باب ٤٣، وابن ماجة في الأدب باب ٣٤، والفتن باب ١٢، والدارمي في الأطعمة باب ١١، وأحمد في المسند ٥/ ٢٤، ٤١٢.
1 / 24