وكانت الأم - لما آتاها الله من بعدة الرأي وحسن التدبير - سبقت الجميع إلى الدار؛ لاتخاذ التحوطات اللازمة؛ لتصرف عن نظر خطيب ابنتها المشاهد التي من شأنها إثارة الشجن، وكان أول ما طلب البارون عند صعوده درج الدار القنصلية أن يزور غرفة «وردة»، وكان أبقى مفتاحها معه، فأجابه الجميع إلى طلبه برقة ولطف، وأقبل عليه المسيو «ب» وخاصره بحنان مرافقا إياه في هذه الزيارة المحزنة.
ولما رأى «شرل» الباب مقفلا شكر لمضيفه انصياعه إلى ما كان قد رغب فيه، وقال في ذاته: «إن مقدسي لم ينتهك حرمته أحد أثناء غيابي، وبناء على ذلك سأجد فيه البقايا المكرمة والآثار المحبوبة لدي على ما تركتها من الحال لدى تأملي إياها المرة الأخيرة.»
وبينا كان يتكلم هكذا اختلجت شفتاه وامتقعتا وابتسم ابتساما خالطه الحزن والكآبة، ثم اندفقت الدموع من عينيه فكانت لهما حجابا شفافا، ثم فتح الباب فما كاد البارون يرمي إلى الغرفة بالنظر حتى ارتد إلى الوراء مبهوتا مذعورا؛ لأنه لم ير ما كان تركه في تلك الغرفة من عدم الترتيب وقلة الانتظام كما كان يوم توارت «وردة».
فلدى هذا المشهد تنهد البارون شديدا وأن أنينا وأقبل على القنصل يلومه على هذا الصنيع، بيد أن رفيقه أسمعه من عذب الكلام ما سكن منه جأشه، وأنشأ في نفسه شيئا من الانتعاش.
ثم شرع نظر البارون يجول في الغرفة متفقدا آثارها، فوجد كل شيء على ما يرام من الانتظام والانتساق، فدله ذلك الترتيب على أن يد امرأة حسنة الذوق بارعة اللطف قد تداخلت في الأمر، فألبست تلك الغرفة من الرونق ثوبا بهيا بحيث إن كل ما فيها أضحى نظيفا رائقا يلمع بضوء شعاع الشمس.
فجعل البارون يبحث عبثا عن الخفين الحمراوين والقفازات «الكفوف» المتجعدة، ولكنه لما لم يجد هذه الأشياء استولى على قلبه الحزن واليأس فرمى بنفسه وقد أعياه التأثر والكآبة على مقعد في تلك الغرفة وهو منقبض الصدر تخنقه الحسرات ... وإذا به للحال سمع من قصاء الغرفة حفيفا خفيفا، ثم ارتفعت السجوف بلطافة وبدت «سوسنة» منجلية متوشحة بملابس شقيقتها الزهراء وفي قدميها خفاها الأحمران، فكانت على تلك الحال أشبه بشقيقتها من الماء بالماء حتى خيل للبارون أنه يرى خطيبته عينها ... فصاح متلهفا: «وردة، عزيزتي وردة.» ثم أسرع متطايرا إليها وألقى بنفسه فاقد الرشد بين ذراعي «سوسنة» وهو لا يستطيع أن ينطق ببنت شفة بعد تلفظه باسم «وردة».
وللحال بادر إليه مضيفوه يحسنون القيام عليه بانعطاف يمازجه الخوف، وقد بذلوا كل ما في الوسع لتسكين جأشه وإرجاعه إلى نفسه.
11
لما كان مساء بعض أيام الخريف كنت ترى الشمس عند أفولها ترمي بأشعتها الأخيرة على بيروت، وتكسو قمم لبنان بحلل بهية تخالها من لون الورد والأرجوان، وكان في المرفأ عدة سفن من كبار البواخر تهتز أعطافها لحركة مياه البحر تثيرها الريح الشمالية، فمن كان يسرح نظره في تلك مشاهد الطبيعة وجد نفسه تائقة إلى التخلي من هموم الحياة مجذوبة إلى الهذيذ في الخالق واعتبار المخلوقات.
وكان على باب المسيو «ب» عربتان ركب إحداهما القنصل الجنرال وزوجته المتردية بملابس الحداد مع خادم وجارية، أما الأخرى فأصعدوا فيها رجلا كهلا فاقد الرشد ممسوس العقل، جلس على جانبيه لمناظرته طبيب وفتاة يحجب اصفرارها برقع أسود، والمصاب ببصيرته كان البارون «دي لينس» نفسه، وأما الفتاة فكانت «سوسنة» ابنة القنصل «ب».
Bilinmeyen sayfa