أما «سوسنة» فإن حبها ل «شرل» كان يزداد وينمو يوما فيوما، بل امتزج الحب بنوع من التجلة والتكرمة لذاك الشاب البالغ في نظرها مبلغا ساميا من الكمال، بل كانت تشعر أنها هي ذاتها ترقى معارج الصلاح والكمال بمماسة نفسها نفس «شرل»، تلك النفس الكريمة الشريفة الغنية بالفضائل السامية، فنشأ في قلب «سوسنة» من جراء ذلك مطمع جديد ألا وهو ألا تكون دونه فضلا وكمالا.
أما البارون فكان يستغرق أوقاته مهتما في الآثار القديمة وما يتعلق بها من المباحث، على أنه لما كان يرى ملازمة «سوسنة» له بلطافة ووداعة وتأدب أخذ رويدا رويدا يعتاد النظر إليها كنظره إلى ملاك يقطر من يديه ندى التعزية والرجاء، بل اتصل به الأمر إلى أن يرى فيها صورة حية لخطيبته «وردة» التي كان شحوب لونها يوافق تمام الموافقة ما في نفسه من حاسات الكآبة والحزن، فكان من ثم ينظر إليها عن رضى ويصغي بارتياح جملة ساعات إلى كلامها، بحيث إنه عندما كان يتردد البارون عن قبول ما تعرضه الأسرة والأصدقاء من حضور حفلة انشراح أو الذهاب إلى النزهة كانت تتوسط «سوسنة» بالأمر، وكان النجاح دائما نتيجة وساطتها؛ لأن «شرل» لم يكن ليأبى عليها إجابة طلب.
ومجمل القول: أن ذلك الأب الشهم بعد أن قضى مع أسرته زهاء أربعة أشهر في عاصمة البلاد اليونانية ترويحا للنفس عول على الإياب، وكان قد نزل في قلبه وقلب زوجته شيء من التعزية والسلو، بل لقد لمعت في عينه بارقة الآمال؛ إذ رأى «شرل» و«سوسنة» متكاتفين لدى ركوبهما السفينة الماخرة عباب البحر ذهابا إلى بيروت.
10
وكان سفرهم شهر حزيران على الباخرة «الزهرة» التي تأخر موعد وصولها إلى بيروت نحو نصف نهار شأن جميع سفن شركة اللويد النمساوية، على أن البحر لم يكن هائجا ثائرا لا تكاد ترى على بساطه الأزرق غير جعودات يعقدها النسيم، لكن ضباط سفن شركة اللويد النمسوية يضرب المثل بحكمتهم وتحذرهم من الأخطار؛ ولذلك كانت السفينة «الزهرة» تسير الهوينا مجتازة جزائر الأرخبيل في اليونان قاطعة على رسلها الرءوس والخلجان الواقعة عند سواحل إزمير وقرمانية وسورية، ولما انتهت إلى بيروت دخلت مرفأها بعظمة ومهابة، وكان في ساريها الكبير راية تخفق مشيرة إلى أن في الباخرة قنصلا أو أحد منصبي السياسة.
وقد بلغت الباخرة بيروت عند الهاجرة ، وكان القيظ مستعرا والهواء حارا ساكنا على أنه كان يتخلل ذلك السكون نفحات تهب من مخانق لبنان لكنها ما كانت لتصل بيروت إلا والحرارة الشديدة قد دبت فيها بحيث كان يخيل للناس أنهم يستنشقون لهيبا لا هواء.
وكانت السماء صافية يمازج زرقتها هبوات القيظ حتى كأن الجو يستعر استعارا ويشع نارا، وكان ميزان الحرارة قد بلغ الدرجة السادسة والثلاثين في الظل، وكان منذ الصباح آخذا في الارتفاع دالا على كون ذلك النهار ذا حرارة نادرة المثل من شأنها أن تقتل الإنسان اختناقا.
وكان ماء البحر ساخنا جامدا كأنه صفيحة مرآة من الفولاذ الصقيل، تنعكس فيه أشعة الشمس المحرقة كأنها سهام من نار إذا نفذت في العين أدركها العمى. أجل، إن بيروت بقعة سورية الخضراء كانت في ذلك النهار فريسة للقيظ الشديد الذي اشتدت وطأته عليها حتى لم يبق لها إلا أن ترتمي هزيلة جعيفة على الرمل المحرق المحيط بها.
وكان القواسون قد أقبلوا على الشاطئ منذ شروق الشمس بملابسهم الرسمية المزركشة بالذهب يتقدمون مأموري القنصلية وعددا كبيرا من الأصدقاء وجميعهم ينتظرون بذاهب الصبر قدوم المسيو «ب».
أما السفينة «الزهرة» فإنها ألقت مرساتها على مهل وبعد أن جرت المعاملات الرسمية اللازمة دنت القوارب من السفينة وتعلقت بها، وعندئذ تصافح الأحباب والأصدقاء وتبادلت التهانئ بينهم، وكان وجه القنصل العام يتدفق بشرا ويقطر لطفا وهشاشة، والبارون نفسه مع ما يتنازع قلبه من الهواجس لم يتمالك عن الابتسام والبشاشة، وبعد هنيهة من الزمن انطلقوا جميعهم قاصدين دار القنصلية.
Bilinmeyen sayfa