ولم تمض على عودة الشيخ وأصحابه من الحج أشهر حتى كانت امرأة خالد قد زفت إلى زوجها، وحتى كان خالد قد اتخذ له في المدينة دارا مستقلة أقام فيها مع أهله ومن وكل مسعود بخدمة ابنته من الرجال والنساء، وقد أصبحت دار خالد دار الرغد والخير، لا تنقطع عنها هدايا مسعود على ابنته وصهره، وكان مسعود يلم بابنته بين حين وحين، فيوصيها بنفيسة وابنتيها خيرا، ويلقي إليها في السر أن تبر عليا وبنيه، فما أكثر ما كانت ترسل «منى» إلى دار علي بالطرف والهدايا على علم من زوجها حينا، وعلى غير علم منه في أكثر الأحيان، تهدي مرة إلى هذه، ومرة إلى تلك من أزواج الشيخ، والشيخ يرى هذا فلا يهتم له أول الأمر، حتى إذا كثر ذلك من «منى» خلا إلى ابنه ذات يوم فقال له: يا بني، لا تثقل على أهلك ولا على حميك؛ فإن في بعض ما ترسلون إلي مقنعا. قال خالد: والله يا أبت ما تكلفت شيئا وما علمت أن امرأتي تكلفت شيئا، وإن الخير لكثير، وإن الرزق بيد الله يؤتيه من يشاء. ولكن عليا أعاد مثل هذا الحديث على مسعود، فغضب مسعود حتى اضطربت لحيته، ورق مسعود حتى انهلت دموعه، ثم قال لصاحبه: أتريد أن أشكوك إلى الشيخ؟! هنالك اضطرب علي بعض الاضطراب وظهر على وجهه الخجل، وقال: وددت لو يستطيع الشيخ أن ينساني. قال مسعود: هيهات! ليس إلى ذلك سبيل، إنه ليذكرك في كل يوم، وإنه يستحيي أن يدعوك. قال علي: يستحيي أن يدعوني وأستحي أن أزوره! وهو يذكرني في كل يوم وأنا أذكره في كل ساعة! ما كنت أحسب أن الدهر يفعل بالناس مثل ما فعل به وبي. قال مسعود: لم يفعل بكما الدهر شيئا، وإنما أنت أسأت إلى الشيخ وأسأت إلى نفسك، إنك لا تحسن احتمال المحنة ولا الثبات للخطب، إن مال الله غاد ورائح، يصبح الإنسان غنيا ويمسى فقيرا، وإن الرجل الكريم هو الذي يحسن احتمال الفقر كما يحسن احتمال الغنى، وقد عرفت كيف تحتمل الغنى فكنت خيرا جوادا، تواسي الضعيف، وتطعم الجائع، وتكسو العاري، وتعين على نوائب الدهر، ولكنك لم تحسن احتمال الفقر، فاستحييت وليس في الفقر حياء، واستخذيت وليس في الفقر استخذاء، إنك حين تستخفي بفقرك وتتكلف ما تتكلف من الجهد لا تزيد على أن تلوم الله؛ لأنه هو الذي يغني ويفقر، والله لا يلام ولا يسأل عما يفعل؛ وإنما نحن الذين يلامون ويسألون عما يفعلون. أتريد أن تسمع لي وتقبل نصيحتي؟ قال علي وهو ينتحب: وما ذاك؟ قال الحاج مسعود: نصلي العصر معا ثم نسعى إلى الشيخ؛ فإنك إن استأنفت لقاءه والأنس إلى مجلسه لم تعد إلى مثل ما أنت فيه الآن. ولم يقبل الليل حتى كان علي في مجلس الشيخ كدأبه قبل أن تلم به المحنة، وكدأبه في مجلس الشيخ الكبير.
على أن العام لم ينته حتى ألم الموت بدار علي، فانتزع منها امرأة كانت أشوق ما تكون إليه وأزهد ما تكون في الحياة، رد أم نفيسة إلى زوجها عبد الرحمن في الدار الآخرة، وكان هذا الموت آية لعلي أثبتت له أن فقره ومحنته لم يغيرا من مكانته في المدينة شيئا؛ فقد هرع أهل المدينة كلهم إلى دار علي يواسونه ويشيعون جنازته، ويتقدمهم الشيخ، وكان الأسبوع الأول لوفاة هذه المرأة الصالحة أسبوعا حافلا في دار علي، قرئ فيه القرآن كأحسن ما يقرأ في أكثر الدور ثراء وغنى، وأقام الشيخ فيه بنفسه حلقة الذكر مرات. وقال علي لنفسه غير مرة: صدق الحاج مسعود! إن الرجل الكريم هو الذي يحسن احتمال الفقر، كما يحسن احتمال الغنى، ولكن عليا منذ ذلك الوقت قطع على نفسه عهدا ليستأنفن حياة أخرى فيها جد كثير، وزهد في اللذات، وانصراف عن متاع الدنيا، وقناعة بما قسم الله له من الرزق.
الفصل التاسع عشر
قالت نفيسة لصديقتها زبيدة وهي تواسيها بين نوحتين، حين انقطع فجأة تعديد المعددة، وسكت المأتم ودارت عليهن قهوة يشربنها في صمت عميق ودموع منها ما لا يزال يساقط قطرات متقطعة، ومنها ما لا يزال ينهل وابلا غزيرا، ومنها ما يريد أن يجف لولا قطرة تمده بين حين وحين - قالت نفيسة لصديقتها زبيدة هامسة كأنما تسر إليها شيئا: لو تعلمين أني لا أحزن على فقد أمي بمقدار ما أحزن على دفنها في هذه المدينة من وراء النهر بعيدة عن أبي وأخوي، أولئك الذين دفنوا في القاهرة، فهم لم يفترقوا في الحياة قط إلا هذه الأسفار التي كان يعمد إليها أبي لتجارته، وكانت أمي إذا حدثته عن كثرة هذه الأسفار وما تقتضيه من فراق، سمعته يقول لها في أناة: إنما نحن في هذه الدار على سفر، وسيكون بيننا جوار متصل في الدار الآخرة إن شاء الله لا تشكين معه بينا ولا فراقا.
قالت زبيدة: وما يحزنك من ذلك؟ لقد التقيا منذ يومين وهما يسعدان الآن بهذا الجوار المتصل الذي طالما تمنياه.
قالت نفيسة وهي تكفكف عبرة أخذت تنهل: قد التقيا! وأنى يكون لهما اللقاء! بل أنى يكون لهما التزاور وأحدهما في القاهرة والأخرى في هذه المدينة من وراء النهر، والأمد بينهما بعيد!
قالت زبيدة: قد افترق جسماهما، رقد أحدهما في القاهرة، ورقد الآخر هنا، ولكن روحيهما قد التقيا في رضوان الله؛ حتى إذا كان يوم القيامة التقى الروحان والجسمان جميعا في الجنة، بذلك حدثنا شيوخنا، وبذلك يحدثني سليم كلما ذكرنا الموت، وما أكثر ما نذكره!
قالت نفيسة: افترق جسماهما والتقى روحاهما! هذا كلام لا أفهمه ولا أصدقه، ولو كان حقا لما رأيت أبي في الليلة الأولى لوفاة أمي وهو يلقي إلي من بعيد هذا الأمر: قولي لهم يدفنوها معي فإني إليها مشوق، وقد وعدتها بذلك قبل أن أموت؛ ولو كان هذا حقا لما رأيت أمي في الليلة الثانية تلقي إلي هذا الأمر من بعيد: قولي لهم يدفنوني معه فإني مشوقة إليه، وقد وعدني بذلك قبل أن يموت، أترين لو أن روحيهما التقيا أكانا يطلبان إلي هذا الذي تواعدا عليه قبل أن يموتا؟!
قالت زبيدة: وقد أخذ شيء من الخوف الخفي يتسرب إلى قلبها فتسري له في جسمها كله رعدة خفيفة - قالت زبيدة: أفتصدقين الأحلام وتكذبين مقالة الشيخ؟! إن الأحلام كثيرا ما تكذبنا، ولكن الشيخ لا يقول إلا الحق.
قالت نفيسة: أما إني لا أدري أيهما يلم بي الليلة إذا غفوت فيلقي إلي هذا الأمر الذي لا أستطيع له تنفيذا، فكيف لي بنقل أمي إلى القاهرة وأنا لا أقدر على شيء! وكيف لي بالتحدث إليه أو إلى أبيه في شيء من ذلك وقد فعلا أكثر مما كان ينبغي أن يفعلا. قالت زبيدة: إليه! إلى من؟ قالت نفيسة: إليه! إنك لتعرفينه. ففطنت زبيدة إلى أنها إنما تشير إلى خالد، وكانت لا تسميه إذا تحدثت عنه، وإنما تشير إليه دائما بالضمير. قالت زبيدة: قد فهمت، سأتحدث إليه وإلى أبيه وإلى سليم.
Bilinmeyen sayfa