الإهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الإهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
شجرة البؤس
شجرة البؤس
تأليف
طه حسين
الإهداء
هذه صورة للحياة في إقليم من أقاليم مصر آخر القرن الماضي وأول هذا القرن، نقلتها من صدري إلى القرطاس أثناء الرحلة في لبنان.
فمن الطبيعي أن أهديها إلى هذا البلد الكريم، اعترافا بما أهدى إلي من معروف، وما أسدى إلي من يد.
طه حسين
الفصل الأول
فرغ الرجلان من صلاة العصر، ومما تعودا في أعقاب الصلوات من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير ودعاء، ثم تحولا عن مجلسيهما إلى مصطبة في ناحية من نواحي الحجرة لا تخلو من ترف؛ فهي لم تتخذ من الطين واللبن، وإنما اتخذت من الآجر، وفرشت بالرخام، وألقيت عليها بسط ونمارق، كدأب البيوت التي كان يسكنها المترفون من التجار وأوساط الناس، الذين كانوا يجدون شيئا من الكبرياء في تقليد السادة من الترك. ولم يكد الرجلان يأخذان مجلسيهما حتى أقبل الخادم يحمل إلى أحدهما غليونه الطويل، وأقبل خادم آخر من ورائه يحمل إليهما القهوة، وكان واضحا أن أحدهما، وهو الذي حمل إليه الغليون، لم يكن من أهل الإقليم، وإنما كان من أهل القاهرة قد جاء إلى الإقليم زائرا لصاحبه، أو زائرا وتاجرا معا، وقد يقبل من القاهرة إلى الإقليم في زيارته وتجارته مرة أو مرتين في العام، ثم شرب الرجلان قهوتهما في أناة وبطء، لا يقول أحد منهما لصاحبه شيئا، وأقبل صاحب الغليون على تدخينه، وأخرج الآخر من جيبه علبة بيضية الشكل فأمالها على بعض أصابعه، ثم رفع أصابعه هذه إلى أنفه وتنفس تنفسا عميقا، ثم رد العلبة إلى جيبه وأطرق كأنما ينتظر شيئا، أو كأنما يريد أن ينعم في تفكير عميق، ولكن صاحبه القاهري لم يتح له ذلك، وإنما قال له في أناة وصوت هادئ: ويحك أبا خالد! أخشى أن نكون قد ظلمنا أنفسنا وأرهقنا هذا الفتى من أمره عسرا.
قال أبو خالد في صوت لا تظهر عليه العناية بما سمع: وما ذاك أبا صالح؟
قال أبو صالح: إني لم أر ابنتي قط منذ كان هذا الزواج إلا رحمت الفتى وأشفقت عليه، فما رأيت امرأة أقبح من ابنتي شكلا، ولا أبشع منها منظرا، ولا أقل منها دعاء للرجال.
هنالك غضب أبو خالد، وقال لصاحبه في شيء من العنف: فإنا اجتهدنا لأنفسنا وأموالنا، واجتهدنا لهذين الشابين، ولا علينا بعد ذلك أن يسعدا أو يشقيا، أحدهما أو كلاهما. إنها ابنتك الوحيدة، وإنه ابني الوحيد، وإن لك ثروة ضخمة، وإن لي تجارة واسعة، وإن بيننا شركة بعيدة المدى، وإخاء قديم العهد، فلم يكن بد من أن يقترن هذان الشابان، ومن أن يصير إليهما هذا المال.
وأظنك في حاجة قبل أن يتقدم هذا الحديث إلى أن تعرف شيئا من أمر هذين الرجلين اللذين كانا يتناجيان. فأما أبو صالح: فقد كان رجلا من أهل القاهرة، من هذه الطبقة المتوسطة التي أخذ شأنها يظهر شيئا فشيئا في أواسط القرن الماضي حين رد إلى المصريين شيء من حرية، وحين أتاحت لهم النهضة المادية شيئا من سعة العيش، وكانت أسرته تعمل في التجارة منذ عهد بعيد، نشأ أبو صالح هذا «عبد الرحمن»، فرأى أباه مصطفى تاجرا، وتحدث إليه أبوه أنه رأى أباه تاجرا، وأنه لم يعرف أن أسرته احترفت شيئا غير التجارة. ولكن تجارة الأسرة كانت يسيرة قريبة المدى، حتى جاء مصطفى «أبو عبد الرحمن» فقدمها شيئا، ثم جاء عبد الرحمن هذا فقدمها كثيرا، وتجاوز بها القاهرة إلى الأقاليم البعيدة والقريبة، وكان يتجر في البن والسكر والأرز والصابون، ولا يكاد يتجاوز هذه الأصناف إلى غيرها من العروض، وقد نشأ في بيت الأسرة «بحي الحرنفش» نشأة قاهرية عادية، فاختلف إلى الكتاب، وحفظ شيئا من القرآن، ثم اختلف إلى الأزهر ووعى شيئا من العلم، ثم أعان أباه في التجارة، وتنقل بهذه التجارة في الأقاليم، ثم آلت إليه تجارة أبيه فنماها نموا عظيما.
وكان عبد الرحمن قد اشترى من سوق الرقيق في القاهرة جارية حبشية، أو جارية زعموا له أنها حبشية، ولكنها كانت سوداء على كل حال، وأكبر الظن أنها لم تخل من عنصر زنجي قليل أو كثير، وقد أحسن عبد الرحمن سيرته مع هذه الجارية، فأعتقها واتخذها له زوجا، ورزق منها ثلاثة بنين: غلامين، أحدهما صالح - وبه كان يكنى - وكان يعمل معه في تجارته بعد أن نشأ نشأة أبيه؛ والآخر: محمد، وقد وجهه أبوه وجها مدنيا، فلم يحصل علما، ولم يمل إلى تجارة، وإنما كان فتى متعطلا، كان ضحية من هذه الضحايا التي تكثر في أوقات التطور والتجديد، حين تلتقي حضارة قديمة مستقرة بحضارة جديدة طارئة. والثالثة: فتاة سماها نفيسة، وقد أراد الله أن يجمع ما كان يمكن أن تتوارثه هذه الأسرة من ناحيتيها من قبح الصورة ودمامة الشكل على هذه الصبية البائسة، وقد نشئت هذه الصبية تنشيئا فيه كثير من الترف وكثير من العناية. وكأن عبد الرحمن وامرأته السوداء قد رفقا بهذه الصبية واختصاها بكثير من العطف؛ لما رأيا من قبح صورتها ودمامة شكلها، وكان استهزاء أخويها بمنظرها البشع وصورتها المنكرة يزيد رفق أبويها بها وعطفهما عليها، فنشأت الفتاة وفي أخلاقها شيء كثير من التعقيد: تحب الترف وتكلف به؛ لأنها نشئت عليه، فأصبح لها طبيعة وأسلوبا في الحياة، وتحس الأشياء إحساسا دقيقا جدا ولا سيما حين تتصل بها من قريب أو بعيد، وتتأذى بما يؤذي وما لا يؤذي، ويخيل إليها أن في كل حديث يساق إليها أو يساق عنها تعريضا بها أو محاولة لإيذائها. فكانت سعيدة بين أبويها، شقية بين أخويها وبين الناس، مضطربة أشد الاضطراب إذا خلت إلى نفسها، لا تعرف إلى أي الأمرين تستقر: أإلى هذا الحب الذي يملؤه الحنان والعطف، والذي تجده من أبويها كلما خلت إليهما بل كلما لقيتهما، بل تحس آثاره حين لا تلقاهما ولا تخلو إليهما، أم إلى هذا الازورار الذي كانت تجده من أخويها والتودد المتكلف الذي كانت تجده من الناس حين تلقاهم زائرين للأسرة، أو تلقاهم حين كانت تصحب أمها في بعض زياراتها. والشيء الذي لا شك فيه هو أن أخلاق هذه الفتاة لم تكن مطردة ولا منسجمة ولا ملائمة للمألوف من أخلاق أترابها، وإنما كانت تثب من الرضا إلى السخط ومن السخط إلى الرضا، وربما اضطرت إلى شيء بين ذلك ليس فيه اطمئنان ولا ثورة، وإنما هو قلق متصل، وضيق بكل شيء، وإعراض عن كل شيء. وكان هذا كله يزيد عطف أبويها عليها، وإيثارهما لها بالحب والحنان، حتى كانت من غير شك آثر الثلاثة عند أبيها وأمها.
ثم امتحنت الأسرة بفقد ابنيها جميعا في خطوب لا أعرض لها الآن، فأصبحت الفتاة وحدها مركزا لكل ما كان الأبوان يملكان من حب وبر.
وقد ارتحل عبد الرحمن في بعض شأنه التجاري إلى مدينة من مدن الأقاليم بعيدة عن القاهرة بعدا شديدا، في ذلك الوقت الذي لم تكن فيه القطر ولا السيارات، والذي كان يرتحل الناس فيه على ظهور الدواب أو على ظهور السفن التي تشق بهم النيل مصعدة حينا وهابطة حينا آخر. وكان عبد الرحمن لا يسافر إلى الأقاليم إلا بعد أن يقدم بين يديه طائفة من السفن قد حملت ما شاء الله أن تحمل من عروض التجارة، حتى إذا بعد عهده شيئا بإقلاع هذه السفن وظن أنها قد كادت تبلغ غايتها سافر هو من القاهرة سفرا غير قاصد، وبلغ الغاية قبل أن تبلغها السفن، وهناك يتلقى سفنه ويعمل في تجارته، فيبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، ويرد سفنه إلى القاهرة وقد تخففت مما كانت تحمل، ولكنها أثقلت بعروض أخرى تحمل من الأقاليم إلى القاهرة. وكان هذا كله يضطره إلى أن يبقى في مدن الأقاليم أوقاتا تطول وتقصر، فلم يكن له بد من أن يتخذ الأصدقاء من عملائه التجار، ومن أن يتخذ الأصفياء الذين يئوونه إذا كان في هذه المدينة أو تلك، والذين يئويهم حين كانوا يهبطون إلى القاهرة لمثل ما كان يرحل له من البيع والشراء، وكان عميله في هذه المدينة أبا خالد بن سلام. وكان علي كصديقه وعميله تاجرا بعيد التجارة، نشأ في قرية من قرى الريف في مصر السفلى، وفي أسرة من هذه الأسر التي كانت تتجر بالماشية وتحصل من هذه التجارة مالا عظيما، ثم رأى أبوه سلام ذات يوم أن أهل القرى يستكرهون على امتلاك الأرض واستثمارها، وكان أبغض شيء إليه أن يكون صاحب أرض وزراعة، يتعرض لما يتعرض له الفلاحون من الظلم والعنف، ومن القسوة والشدة، ومن هذه السياط التي كانت تأكل أجسامهم حين يقصرون مع سادتهم أو مع الحكومة، أو حين يتهمهم سادتهم وتتهمهم الحكومة ظلما بالتقصير، ففر سلام بأسرته وذهبه وفضته إلى مصر العليا، واستقر في مدينة من مدنها، واستأنف فيها حياة التجارة، ولكنه لم يتجر في الماشية، وإنما اتجر في البن والسكر والأرز والصابون. وقد نمت تجارته، واستطاع أن يترك لابنه علي ثروة ليس بها بأس. وكأن سلاما هذا قد أورث ابنه ما كان يمتاز به من حب الحرية، وتجنب السلطان، والاجتهاد في ألا يخضع لحياة تفرضها عليه القوة أو النظام فرضا، فقد شب علي فرأى الحكومة تريد أن تستكره الناس على أن يعملوا في الجيش، فلم يتحرج من أن يطيح إبهامه، حتى إذا تقدم للفرز رد؛ لأنه ليس صالحا للخدمة العسكرية.
وولد له ابنه خالد، فدفعه إلى الكتاب كما دفعه أبوه هو إلى الكتاب. ولكنه رأى الحكومة تريد أن تستكره الناس على أن يتعلموا في المدارس النظامية، وكان يرى هذه المدارس إثما من الإثم وزورا من الزور، فهرب ابنه من المدينة وجد في تهريبه حتى علمه التعليم الموروث، فحفظه القرآن جالسا على حصر الليف، ونزهه عن هذه المدارس التي لا يتعلم الصبيان فيها شيئا، وإنما يلوون ألسنتهم بالتركية، وبلغة أخرى يسمونها لغة الفرنسيس. وكان علي يكره الترك كرها شديدا، لا يتصور التركي إلا ظالما غاشما، لا يعرف عدلا ولا دينا ولا قانونا ولا احتشاما، وكان يكره الفرنسيس كرها شديدا، يذكر ما كان الناس يتحدثون به عنهم من الشر، ولكنه كان يحب الدنانير الفرنسية ويؤثرها على غيرها من النقد ولا يكاد يجتمع له شيء من ذهب أو فضة إلا استبدل به دنانير نابوليون.
وقد تقدمت السن بابنه خالد حتى كاد يبلغ العشرين. وهو لم يصنع شيئا إلا أنه حفظ القرآن، وجعل يعمل مع أبيه في تجارته يقبل عليها حينا وينصرف عنها أحيانا، ويؤثر الاختلاف إلى المساجد يشهد فيها الصلوات، ويسمع فيها للشيوخ والوعاظ، فإذا كان الليل اختلف إلى مشايخ الطرق، فشاركهم في حلقات الذكر، وكان أبوه لا يكره منه هذا، وإنما يرى فيه طاعة وتقوى، وكان يجتهد في أن يحبب إلى ابنه طريقة بعينها هي التي اتخذها لنفسه طريقة، وحمل صديقه القاهري عبد الرحمن على أن يأخذ بها العهد عن شيخه، وقد وفق علي من ذلك لما أراد، فأصبح ابنه خالد يتعصب لشيخه وطريقته أكثر مما يتعصب للتجارة، حتى أشفق الشيخ نفسه على هذا الشاب أن يغرق في التصوف وينتهي إلى الانجذاب، فقال لأبيه ذات ليلة بمحضر صديقه عبد الرحمن قبل أن يقيم الذكر بقليل: يا علي؛ زوج ابنك، وليعنك على ذلك عبد الرحمن، فإني أخشى عليه الولاية وهو لم يخلق لها، ثم تلا الآية الكريمة:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا .
وانصرف الصديقان عن الشيخ بعد أن تفرقت حلقة الذكر، لم يقل أحدهما لصاحبه شيئا في شأن هذا الأمر الذي صدر من الشيخ إلى علي أن يزوج ابنه، وإلى عبد الرحمن أن يعينه على هذا التزويج. وراح علي إلى أهله، فلم يتحدث إليهم بشيء، وإنما أتم حياته العاملة كما تعود أن يتمها في كل يوم بركعتين كان يركعهما قبل أن يأوي إلى مضجعه، وبآية الكرسي التي كان يتلوها إذا استقر في فراشه. والتقى الرجلان حين نشرت الشمس رداءها الرقيق الرقراق على الأرض، وألبست منه المدينة حللا رائعة مشرقة، فحيا علي صاحبه، وسأله عن ليله كيف قضاه؟ وعن نهاره كيف يريد أن يقضيه؟ وأقبل الخادم يحمل القهوة، فشرباها في رفق وبطء وصمت يقطعه حديث نزر يسير. ولكن عليا أقبل على صديقه فجاءة يسأله: ماذا فهمت من الأمر الذي أصدره إلينا الشيخ قبل أن يقيم الذكر؟
قال عبد الرحمن متضاحكا: فهمت أنه يخشى على ابنك من حياته هذه التي يحياها، ويأمرك بتزويجه؛ لينصرف إلى الدنيا عن الإغراق في أمر الدين؛ لأنه لم يخلق ليكون شيخا، وإنما خلق ليكون تاجرا مثلك، وفهمت أنه يكلفني معونتك على ذلك، وأنا من هذه المعونة عند ما تريد.
قال علي: معونتي على ماذا؟ ومعونتي بماذا؟
قال عبد الرحمن: ما أدري، ولكن للشيخ إشارات لا تفهم عنه غالبا، ولولا أني أشفق عليك لسألتك: أفي حاجة أنت إلى المال؟
قال علي وهو يضحك: وهل حال مثلي تخفى على مثلك؟ أتراني قصرت في بعض حقوق التجارة فأجلت لك أو لغيرك حقا؟ بل أتراك أحسست مني حاجة إلى التأجيل والمهلة؟
قال عبد الرحمن: فهذا ما سألت عنه نفسي منذ الليلة، وإن كرام الناس مثلك ليعنفون بأنفسهم أشد العنف حتى لا يظهر أحد على ما يحبون أن يخفوا من الأمر، وقد عرفت ما بينك وبيني من الود والإخاء، فأنا عند ما تحب من المعونة إن احتجت إليها في تجارتك أو في تزويج خالد؛ فإن خالدا عندي بمنزلة ابني رحمهما الله.
قال علي: بارك الله عليك في مالك وولدك! ولكن أفهمت معنى الآية التي تلاها الشيخ؟ قال عبد الرحمن: لم أفهمها، ولكني قدرت أن الأمانة هي هذه الولاية التي يتعرض لها خالد على حين قد خلق للتجارة والعمل فيما نعمل فيه من أمور الدنيا، وما ينبغي أن نتحرى الدقة حين نسمع شيوخنا يتحدثون أو يتلون القرآن ويروون الحديث؛ فإن لهم آفاقا لا نبلغها، ولو قد فهمنا عنهم كنه ما يريدون لكنا مثلهم أساتذة وشيوخا، وأنت تعلم أنه لم يؤذن لنا في شيء من ذلك. قال علي: لأراجعن الشيخ فيما أراد إليه.
وأنفق الصديقان يومهما كما تعودا أن ينفقا أيامهما، فلما صليت العصر وشربت القهوة، وكان التدخين والنشوق، سعيا إلى الشيخ، فأقاما عنده بين التلاميذ والمريدين ما شاء الله أن يقيما، وعلي يهم أن يراجع الشيخ فيما سمع منه، ولكنه لا يجرؤ. حتى إذا نودي لصلاة المغرب التفت الشيخ إلى علي باسما، وقال له: يا علي، زوج ابنك وليعنك علي ذلك عبد الرحمن، فإني أخشى عليه الولاية التي لم يخلق لها، ثم تلا الآية الكريمة. وهم علي أن يسأله، ولكنه نهض فاستقبل القبلة وأقام الصلاة وصلى من خلفه تلاميذه ومريدوه.
وكان الشيخ إذا أقام صلاة المغرب لم يفرغ لأحد بعدها، وإنما يمضي في تسبيحه وتحميده حتى يتقدم الليل، فيقيم الصلاة الآخرة، ويمضي في تسبيحه وتحميده ساعة تطول أو تقصر حسب ما يكون من إقامة الذكر أو لا يكون، ولكنه على كل حال لم يكن يخلص لأصحابه إلا في ساعة متأخرة جدا من الليل. وقد حضر الصديقان مع شيخهما صلاة المغرب والعشاء وطرفا غير قصير من تسبيحه ودعائه، ثم انصرفا ولم يستطع علي أن يراجع الشيخ في شيء، وإنما عاد إلى أهله مشغولا كثير التفكير، ولكنه على ذلك لم يتحدث إليهم في شيء، بل ركع ركعتيه وأوى إلى مضجعه، فتلا آية الكرسي وترك نفسه للنوم، ثم أصبح من غده كما أصبح من أمسه حائرا يسأل نفسه عن هذه المعونة التي طلبها الشيخ إلى عبد الرحمن، ويؤكد بينه وبين نفسه أنه سيراجع الشيخ لا محالة ليعرف منه ما أراد. وقد أقبل الصديقان على شيخهما، فصليا معه المغرب والعشاء، ومضيا معه في تسبيحه وتحميده ودعائه ينتظران حلقة الذكر، ولكن الشيخ التفت فجأة إلى الصديقين، وأعاد على علي للمرة الثالثة مقالته وتلا عليه الآية. وهم علي أن يسأله، ولكن الشيخ قال باسما: سبحان الله! ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال: وما شأن نفيسة؟! ثم أمر بإقامة الذكر، وقد فهم عنه الصديقان، ولم يستطيعا مع ذلك أن يقولا له شيئا، أو يسألاه عن شيء، على أنهما لم يعودا صامتين بعد أن تفرقت الحلقة، وإنما قال عبد الرحمن لصاحبه: أفهمت الآن هذه المعونة؟ قال علي: قد فهمتها منذ الليلة الأولى، ولكني لم أكن أقطع بذلك ولا أجرؤ على تقديره عن أن أحدثك فيه. قال عبد الرحمن: فإن هذا الخاطر لم يخطر لي، وما كنت أعرف أن الشيخ يعلم أن لي ابنة، وأن اسمها نفيسة. قال علي: فإن الشيخ لا يخفى عليه شيء من أمر تلاميذه ومريديه، ولكن ما رأيك فيما أصدر إلينا من أمر؟ قال عبد الرحمن: سنستخير الله وسنتحدث إذا كان الغد. ودخل علي على أهله فرحا مسرورا يقول: أبشري يا أم خالد، فستزورين القاهرة بعد قليل. قالت أم خالد مبتهجة: شيئا لله يا أهل البيت، ولكن زوجها كان قد استقبل القبلة ليركع ركعتيه.
الفصل الثاني
وكان الحديث بين الصديقين أثناء قهوة الصباح قصيرا سريعا حاسما، بدأه علي حين سأل صاحبه هل استخرت الله؟ قال عبد الرحمن: صدق الله العظيم:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا . وقد أرتني الأحلام شيخنا غير مرة يتلو علي هذه الآية، فأفقت وأنا واثق أن الخيرة فيما اختاره الله.
قال علي متهللا: فابسط يدك لنقرأ الفاتحة. قال عبد الرحمن: مهلا أبا خالد؛ فإن بيننا وبين ذلك أمورا ثلاثة. قال علي: وما هي؟ قال عبد الرحمن: أما أولها: فأن تعلم أن ابنتي قبيحة الشكل بشعة الصورة، لا تكاد تقع عليها العين إلا انصرفت عنها مشمئزة، وانحرفت عنها نافرة. وأما الثاني: فهو أن لابنك أما كما أن له أبا، ويجب أن تعلم من هذا الأمر كله مثل ما نعلم، ويجب أن تنقل إليها في أمانة ما حدثتك به عن قبح ابنتي. وأما الثالث: فهو أنك لن تتزوج ابنتي وإنما سيتزوجها خالد، فيجب أن يعلم من هذا الأمر ما نعلم، ويعرف أن الشيخ لا يهدي إليه عروسا رائعة، وإنما يبتليه بمحنة مروعة.
قال علي وهو يضحك: أوليس قد أمر الشيخ؟! أوليس قد تلا عليك الشيخ هذه الآية في أحلامك؟! فأينا يقدر على أن يخالف أمر الشيخ؟! وأينا يقدر على أن يختار لنفسه غير ما اختار له الله؟! ثم نهض من فوره فدخل على أهله، وعاد بعد ساعة أشد ما يكون سرورا وابتهاجا، ثم سأل عن ابنه، فالتمس له في المساجد حتى جيء به بعد حين. فلما أنبأه النبأ قال في شيء من الاستحياء: وما دام شيخنا قد أمر بذلك فهو الخير.
ولم تمض إلا أيام حتى كانت سفينة من السفن تهبط بعبد الرحمن وأصهاره إلى القاهرة، ثم لم يمض بعد ذلك إلا شهر أو أقل من شهر حتى كانت سفينة من السفن تصعد بعلي وأسرته إلى الإقليم، وقد زاد عددها حتى بلغ الأربعة.
الفصل الثالث
وليس من شك في أن أم خالد أذعنت لأمر الشيخ طائعة، وفي أن خالدا أنفذ أمر الشيخ راضيا مغتبطا، ولكن ليس من شك أيضا في أن أم خالد لم تكد ترى نفيسة حتى ارتاعت والتاع قلبها التياعا شديدا، ولولا أنها كانت قوية النفس حازمة ضابطة لأمرها، لأظهرت من روعها ولوعتها ما كان خليقا أن يؤذي الفتاة وأمها ويلغي أمر الشيخ إلغاء، ولكنها حزمت أمرها وكظمت غيظها وأوت بعد قليل إلى غرفتها، فبكت ما شاء الله أن تبكي، واستقبلت زوجها كأسوأ ما يستقبل الزوج، وقالت له في نفسه وفي شيخه أسوأ ما كان يمكن أن يقال. ولكن زوجها لقى هذا كله باسما يتلو الآية:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة
فإذا أحفظته استحال ابتسامه ضحكا، وقال: ناقصات عقل ودين. ولكنها أكثرت عليه حتى ضاق بها آخر الأمر، ولا سيما حين زعمت له أنه لا يزوج ابنه طاعة للشيخ ولا إذعانا لإرادة الله، وإنما هو أمر دبر بليل. هو لا يزوج ابنه من ابنة صاحبه، وإنما يزوج نفسه من ثروة صاحبه، فهو يضحي بهذين البائسين؛ ليشارك في هذه الثروة الضخمة والمال العريض. هنالك نهض علي في تؤدة، واستقبل امرأته في هدوء وقال لها في صوت يريد أن يرتفع، ولكن صاحبه يكرهه على الانخفاض: تخيري، فإما أن يعقد هذا الزواج، وإما أن تفصم عقدة الزواج بينك وبيني، فأقسم لنعودن إلى مدينتنا أربعة، أو لتعودن إلى أهلك وحيدة.
سمعت أما خالد هذا النذير، فوجمت له وجوما طويلا، والغريب أنها جعلت تلتمس عند عينيها الدموع، فلا تسعفانها بشيء، وتلتمس عند قلبها الثورة، فلا يسعفها بشيء، وتلتمس عند لسانها كلمة ترد بها على زوجها بعض ما قال، فلا يسعفها بشيء، فلما طال عليها ذلك نهضت لتصلح من شأنها، وانصرف عنها زوجها، ثم عاد إليها بعد ساعة فرآها كعهده بها هادئة حازمة، في وجهها ابتسامة ضئيلة حزينة، قال علي لامرأته متضاحكا: أرضيت؟ قالت: لقد سمعت أبي دائما يقول كلما لقى مكروها من الأمر: رضينا بقضاء الله وقدره، ولكن ثق بأنك ستندم على ما أنت مقدم عليه من الأمر، وبأنك إن أتممت هذا الزواج لم تزد على أن تغرس في دارك شجرة البؤس.
الفصل الرابع
ولم تحاول أم خالد أن تصرف ابنها عن هذا الزواج، ولا أن تنفره منه. وما كان لها أن تفعل، فطاعة الزوج واجبة، وطاعة الآباء بر بهم، وقد أطاعت زوجها كارهة، فما ينبغي لها أن تثير ابنها على أبيه، ولا أن تغريه بالعقوق. على أنها نصحت لابنها آخر الأمر، فلم تبالغ في الثناء على خطيبته، ولم تزعم له أنها رائعة الحسن بارعة الجمال، وإنما كانت تتحدث إليه بأن الشباب لا ينبغي أن يلتمسوا عند أزواجهم جمالا ولا حسنا؛ فإن الجمال فتنة والحسن محنة، ويوشك الذي يلتمس الحسن والجمال عند زوجه أن يعرض نفسه لكثير من المكروه، إنما يلتمس الشاب عند امرأته قرينة تؤنس وحدته، وأما ترزقه الولد، ومدبرة لبيته ومربية لبنيه. والواقع من الأمر أن ابنها كان يسمع لها معرضا عن أكثر ما كانت تقول؛ فهو لم يكن يفكر في جمال ولا في حسن، ولم يكن يحفل بالولد ولا بتدبير أمر المنزل، ولم يكن يشفق من وحدة ولا يبتغي أنيسا، وإنما كان يطيع أمر الشيخ ليس غير، وقد أمره الشيخ أن يتزوج فهو يتزوج، فأما ما بعد ذلك فله وقته وإبانه.
وكان الفتى منذ هبط إلى القاهرة قليل العناية بالخطبة وأحاديثها، والزواج وما كان يعد له، منصرفا أشد الانصراف إلى هذه المساجد الكثيرة التي استقر فيها الأولياء وأهل البيت، يلم بأحدها فلا ينصرف عنه حتى يلم بأحدها الآخر، قارئا في هذا مصليا في ذاك مطوفا ومتمسحا على كل حال بما فيها من المشاهد والمقامات، مستمعا لما كان يلقى هنا وهناك من دروس التفسير والحديث ومن الوعظ والإرشاد، منتفعا بما كان يسمع، مدخرا في قلبه من هذا كله الأعاجيب، ولم يكن النهار يكفيه ليرضي حاجته من هذه الزيارات، فقد كان ينفق فيه شطرا من الليل، ولا يعود إلى أبويه إلا حين يهمان أن يأويا إلى غرفة نومهما، وقد خطر للفتى هذا الخاطر العجيب، وهو أن يختم القرآن في طائفة من هذه المساجد الكبرى، فختمه في مسجد سيدنا الحسين، ومسجد السيدة زينب، ومسجد الإمام الشافعي، ومسجد الإمام الليث. وكان واثقا بأن ذلك كله أدعى إلى أن يبارك الله في حفظه للقرآن، وكان يتحدث بهذا إلى أبيه فيرضى، ويتحدث به إلى أمه فتبتسم. على أنها تعلقت به ذات يوم وأرادته على أن يزيرها أهل البيت، فهي لم تستبشر بالهبوط إلى القاهرة حين أنبأها زوجها به؛ إلا لأنها ستزور فيها أهل البيت، ولكن الفتى لم يستجب لأمه، وإنما انصرف إلى زياراته الطويلة، وأحال أمه على ضيفها يزيرونها ما تشاء من مساجد الأولياء؛ فلم يكن يرضى عن زيارة النساء لهذه المساجد والمشاهد، ولم يكن يعجبه تشبثهن بالقبور وتمسحهن بالأضرحة وإلحاحهن على الأولياء فيما كن يطلبن إليهم من قضاء الآراب وتحقيق الآمال، إنما كان يسمو إلى بركة خير من هذا كله وأبقى. كانت فيه نزعة روحية تريد أن تمتاز، لولا أنه لم يتهيأ لهذا الامتياز بما ينبغي له من العلم والمعرفة، وكان يجد في سعيه وكده، ويتحدث إلى نفسه بأن يوما من الأيام قد يقبل يظهر فيه الشيخ على ما يبذل في سبيل العلم والمعرفة من جهد، فيلقي إليه بفضل من علمه اللدني الذي لا تسقط منه قطرة ضئيلة في قلب من القلوب إلا ملأته حكمة ونورا. وفي ذات يوم أو في ذات ليلة ألقى إليه أبوه هذه الكلمة التي لفتته إلى أنه لم يهبط إلى القاهرة لما هو فيه من سعي وجد، وإنما هبط إليها لشيء آخر. قال له أبوه: إذا كان الغد فلا تخرج حتى ألقاك. قال الفتى: ولماذا؟ قال علي: لأني في حاجة إليك. قال الفتى: إنك في حاجة إلي إذا صليت العصر، أليس كذلك؟ قال علي: بل أنا في حاجة إليك إذا صليت الصبح. ثم انصرف عنه إلى بعض الأمر. وكان علي قد قدر في نفسه أنه إذا لم يستوثق من ابنه أول النهار لم يظفر به إلا حين يتقدم الليل، فلما كان الغد صحب ابنه في زيارته لبعض المساجد، واستمع معه لبعض الدروس، وقرأ معه شيئا من القرآن، وعاد به إلى البيت بعد أن صليت الظهر، فلم يفارقه حتى تم عقد الزواج.
وأدخل الفتى على زوجه بعد أيام، فلم ينكر شيئا ولم ينحرف عن شيء، وإنما سعد بامرأته السعادة كلها، واستيقن فيما بينه وبين نفسه وفيما بينه وبين ربه أن امرأته بارعة الحسن رائعة الجمال، خفيفة الروح، ساحرة الطرف، خلابة الحديث. وكان كثيرا ما يفزع إلى الله في أعقاب صلواته ضارعا إليه ألا يجعل امرأته فتنة له تصرفه عما كان يجد فيه من التقوى والتماس المعرفة. ومع ذلك فقد أنفقت أمه ليلة ساهرة مملوءة بالشقاء، ونهارا طويلا حافلا بالآلام؛ فقد كانت تخشى أن ينفر الفتى من زوجه متى رآها، وأن يزداد منها نفورا متى أشرقت الشمس على وجهها الدميم. وكانت تصور لنفسها ما سيجد ابنها من الوحشة وخيبة الأمل، فيتفطر قلبها حزنا، وكانت تصور لنفسها ما قد يظهره الفتى لامرأته البائسة وأبويها الخيرين من الاشمئزاز والنفور، فتمتلئ نفسها ذعرا، ولكنها رأت ابنها سعيدا موفورا، ورأت امرأته هانئة محبورة، فاطمأنت أول الأمر، ثم لم يلبث اطمئنانها أن استحال إلى شعور غريب، فيه شيء من خيبة الأمل في ابنها؛ فقد كانت تحسب أن له حظا من ذوق، وقد كانت تظن أن له نصيبا من نخوة، وقد كانت تقدر أنه سيثور غضبا لذوقه الذي امتهن، وحفاظا لنخوته التي لم يحفل بها أحد من مزوجيه، ولكنها ترى ابنها راضيا ناعم البال، كأنه الشاة تنعم بما يقدم إليها من علف فتمرح وتصيح، وهي لا تقدر أن السكين قد هيئ لذبحها في بعض المكان. ومهما يكن من شيء، فقد كظمت أم خالد حدة آلامها وخيبة آمالها، وصبرت على ما كانت ترى من سخرية زوجها بها، ومن نظراته تلك التي كان يلقيها إليها من وقت إلى وقت كلما رأى ابنه مسرورا محبورا، كأنه يقول لها: أرأيت أنك كنت واهمة كل الوهم؟! ألا تعرفين أن كرامة الشيخ لا يعجزها شيء؟! إنها تحول القبح جمالا، والدمامة حسنا، والبغض حبا، والنفور فتونا. كظمت أم خالد هذا كله في نفسها، ولكنها لم تكن من القوة وشدة الأيد بحيث تستطيع أن تحتمل بعض ما امتلأ به قلبها الضعيف، فلم تمض على زواج ابنها أيام حتى أحست شيئا من خمود، وحتى أبغضت القاهرة أشد البغض، ورغبت إلى زوجها في العودة إلى المدينة، فلما بلغت دارها أوت إلى غرفتها، وطالت إقامتها في هذه الغرفة، ولكنها لم تخرج منها إلا إلى القبر.
الفصل الخامس
وكان علي يحب امرأته أشد الحب، ويؤثرها أعظم الإيثار، لا يعدل برضاها شيئا، ولا يدخر في سبيله جهدا. ولم تعرف أم خالد أن زوجها قد خالف عن أمرها أو تنكر لها أو خيب لها أملا أثناء هذه الأعوام الطويلة التي قضتها عنده، بل لم تعرف منه إلا برا بها وعطفا عليها وفناء فيها. ولولا أن الشيخ أمر بهذا الزواج المشئوم لما صمم عليه ولا ألح فيه ولنزل في أمره عند إرادة امرأته، ولكنها عرفت حين تم هذا الزواج على كره منها أن هناك شخصا هو آثر منها في قلب علي وأكرم منها على نفسه وأحرى ألا ترد له كلمة.
ولست أدري أكانت خيبة أملها في زوجها أشد عليها من خيبة أملها في ابنها، ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن هذه المرأة البائسة قد فقدت في وقت واحد ثقتها بالزوج وثقتها بالابن، واستحيت من نفسها أن يكون سلطانها على زوجها قد ضعف إلى هذا الحد، واستحيت من نفسها أن تقدم إلى جاراتها وأصدقائها في المدينة هذه الهدية المنكرة التي أهديت إلى ابنها، ولعلها كانت سعيدة بهذا المرض الذي اضطرها إلى غرفتها، وحال بينها وبين استقبال الزائرات وقد جئن يهنئنها بما كانت تحدث نفسها به، وبما تحدث كل أم نفسها به، من الفرح بابنها يوم تزف إليه عروس صالحة بارعة الجمال كثيرة المال. أعفيت من هذا كله، ولم تستقبل من الزائرات إلا هذه الآلام المبرحة التي لزمت غرفتها ليلا ونهارا، وهذه الحمى الناهكة التي كانت تزورها وجه النهار وآخره، وكان علي أشقى الناس بهذا المرض وأشدهم به ضيقا، ولكنه لم يكن يقدر أنه سينتهي بامرأته إلى الموت، ولم يقدر أن إصراره على هذا الزواج كان مصدرا لهذا المرض أو كان مصدرا من مصادره، ومع ذلك فقد أحس ذات يوم أن امرأته في آخر لحظة من لحظات الدنيا وأول لحظة من لحظات الآخرة، فجزع لذلك جزعا شديدا كاد يخرجه عن طوره، لولا أنه كان مؤمنا حقا، وقد أقبل على امرأته يستغفرها مما يمكن أن يكون قد قدم إليها من خطيئة أو جنى عليها من ذنب، ويسألها وصوته يرتجف ودموعه تغمر لحيته أن تدعو الله له بخير ليعلم أنها عنه راضية، قالت في صوت نحيل ضئيل: ليكن مرضي وموتي كفارة عما جنيت بتزويج ابننا من هذه الفتاة. قال علي وقد كاد صوته يحتبس في حلقه: فإنه أمر الشيخ. قالت: وليكن مرضي وموتي كفارة عن هذا الشيخ أيضا.
وقد عمر علي بعد موت امرأته عمرا طويلا كما سترى، ولكنه لم ينس أم خالد في يوم من أيامه، ولم يقدر قط أن الموت قد فرق بينه وبينها، وإنما استيقن دائما أنها زوجه وأنها تعيش معه في داره، وأنها قد اتخذت لنفسها من قلبه مكانا استقرت فيه فلا تبرحه، وأكثر من هذا أن عليا لم يستطع حياة الرجل الأعزب، ولكنه لم يقدم على الزواج حتى أمره الشيخ أو أمر ابنه بذلك، فقال لخالد ذات ليلة: يا خالد، زوج أباك كما زوجك، فإنه لا يقدر على حياة الرهبان. وأذعن علي لهذا الأمر راضيا، فقبل من ابنه الزوج التي اختارها له بأمر الشيخ، كما قبل ابنه منه الزوج التي اختارها له بأمر الشيخ. ثم اختلفت الخطوب على أبي خالد فاستكثر من الزوجات، واستباح ما رخص الله فيه للمسلمين من تعدد الزوجات. وكان يتحدث إلى الناس في شيء من التبجح الذي كان يزداد كلما تقدمت به السن بأن الله قد أذن للمسلمين في أن يتزوجوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وأنه مصمم على أن يأخذ حقه من ذلك كاملا، فيمسك في داره أربع زوجات لا ينقصن؛ لأن هذا حقه، ولا يزدن لأن الله حرم هذه الزيادة. ومع ذلك فلم يكن يمسك في داره إلا ثلاث زوجات؛ فإذا سئل عن الرابعة قال وعلى ثغره ابتسامة حزينة: وأم خالد ماذا تصنعون بمكانتها مني؟ وكان علي قد احتجز غرفة أم خالد كما تركتها لم يغير منها شيئا؛ وكان حريصا على العدل بين نسائه، فكان يقسم لكل واحدة منهن ليلة من لياليه؛ فإذا أعطى كل واحدة منهن ليلتها أوى إلى غرفة أم خالد، فأنفق فيها ليلة زوجه الأولى مصليا قارئا داعيا واهبا هذا كله من جهده الصالح لأم خالد، لا يفارق غرفتها ولا يتحول عن القبلة ولا ينقطع عن الصلاة والدعاء إلا أن يغلبه الإعياء والنوم، وكثيرا ما أقبل خادمه محمود يحمل إليه قهوته بعد أن تشرق الشمس في غرفة أم خالد، فيراه مكبا على وجهه قد أدركه النوم في سجوده فلم يتحول، أو يراه مضطجعا في مكانه الذي كان يصلي فيه قد أدركه الإعياء فنام حيث هو ولم يرد أن يأوي إلى الفراش.
ولم تزل هذه حاله حتى أدركته الشيخوخة المضنية. ونظر ذات يوم فإذا هو أعزب لا زوج له، قد تفرق عنه نساؤه بالطلاق أو بالموت، وقد كثر بنوه وبناته وحفدته، وتفرقوا عنه لكل منهم أسرته وأهله، وثاب هو إلى غرفة أم خالد، فأقام فيها لا يريم، يختلف إليه خادمه بما يحتاج إليه، ويختلف إليه أبناؤه وبناته يزورونه وهو ملازم لهذه الغرفة؛ لأنه قد نذر إن أقدره الله أن يموت حيث ماتت أم خالد. وقد أقدره الله فمات حيث ماتت أم خالد. ونظر بنوه في وصيته، فإذا هو يأمر بنيه أن يدفنوه مع أم خالد، وأن يفعلوا بعد ذلك ما يشاءون؛ فهم يعرفون ما يأتون من الأمر وما يدعون، وهم يعلمون أن لله عليهم حقوقا، وأنه سيسألهم عن هذه الحقوق.
الفصل السادس
وقد رزق خالد من زوجه صبية سماها سميحة، وأراد الله أن تكون هذه الصبية هي التي تكشف الغطاء عن عقل أبيها وذوقه ونفسه، وتحمل كثيرا من أهله وذوي مودته أن يعجبوا من هذه الحكمة البالغة، ومن هذه الأسرار الغامضة التي تكتنف الناس في كل ما يأتون وما يدعون، وفي كل ما يضطرون إليه من الأمر، فقد كانت سميحة آية في الجمال، ولا سيما حين تقدمت بها السن شيئا، وأصبحت صبية تدرج في البيت. لم يحفل خالد بمنظرها أول الأمر، شغل عن ذلك بشعور الأبوة وحنان الزوج. إلا أنه ذات يوم أخذ ابنته بين ذراعيه فضمها إليه وقبلها، ثم نظر في وجهها فأطال النظر، ثم التفت إلى المرآة فنظر إلى وجهه وأطال النظر، ثم التفت إلى امرأته فألقى عليها نظرة خاطفة، ثم وضع الصبية على الأرض، وقال لامرأته في صوت يقطعه ضحك عال مر: هذا غريب! من أين لهذه الصبية هذا الجمال؟ ليس وجهي بالرائع، وإن وجهك لبشع، فمن أين لها هذا الجمال؟! ووقعت هذه الكلمة من قلب نفيسة موقع الخنجر حين يطعن به عدو عدوا، فلم تقل شيئا، وإنما أجهشت بالبكاء ساعة، ثم أوت إلى غرفتها فلزمتها أياما. ولكنها منذ ذلك اليوم أحست أنها أصبحت لزوجها عدوا.
والحق أن زوجها منذ ذلك اليوم قد تحول تحولا منكرا، فكان يطيل النظر إلى ابنته، ويخطف النظر إلى زوجه، ثم تبلغ القسوة به أبشع أطوارها، فهو يفصل ما في ابنته من محاسن، ويوازن بينها وبين ما في امرأته من مقابح: يوازي بين الأنف والأنف، وبين الفم والفم، وبين الجيد والجيد. يفعل ذلك فيما بينه وبين نفسه، ثم لا يملك أن يجهر به، وإذا هو يتحدث إلى امرأته بما في وجه ابنته من حسن، وبما في وجهها هي من قبح. ولا يزال كذلك حتى ينغص عليها، وإذا هي تجهش بالبكاء وتسرع إلى غرفتها، وإذا بكاؤها يدفعه إلى الضحك، وإذا فرارها يملأ قلبه اطمئنانا ورضا.
وكانت نفيسة حاملا حين رفع الحجاب عن زوجها. فلما شق عليها ما رأت منه وشق عليها إلحاحه عليها بما تكره، رغبت إليه ذات يوم أن ترحل إلى القاهرة؛ لتنتظر طفلها بين أبويها، فلم يتردد في الإذن لها، بل قال مبتسما: وتحملين سميحة معك، ذلك أحرى أن ينسيني ما أنا فيه من إثم؛ فإن بينك وبيني عقدة فرض الله علي أن أرعى حرماتها.
لم تمض إلا أيام حتى كان خالد قد هبط بامرأته إلى القاهرة، فأنزلها عند أبويها، وقضى في الأسرة أسابيع متجملا متحملا متكلفا ما تعود أصهاره أن يروا منه من حب لابنتهم ورفق بها، ملحا في زيارة المساجد والمشاهد، يلتمس فيها العلم والمعرفة، ويلتمس فيها الموعظة والبركة، ولكنه يحس، ويا شر ما يحس! يحس أنه لا يكتسب علما ولا معرفة، ولا ينتفع بموعظة، ولا يجد هذا الروح الذي كان يجده كلما ألم بمقام من مقامات أهل البيت، ولا يجد هذا الطموح إلى قطرة يلقيها الشيخ في قلبه من هذا العلم اللدني، فتملأ قلبه حكمة ونورا، وإنما يحس الحاجة إلى أن يطوف في القاهرة لا يلم بمساجدها ومشاهدها، وإنما ينظر إلى ما فيها ومن فيها من الأشياء والأحياء، ويوازن بين هذه المدينة الضخمة الكبيرة وبين مدينته تلك المنكمشة على ضفة النيل في بعض الأقاليم.
وقد تنازعه نفسه إلى أماكن كانت تذكر له أحيانا من تلك الأفواه الغاوية، ولكنه يسرع إلى نفسه أن عقدة قد فرض الله عليه أن يرعى حرماتها، ثم يسرع إلى متجر صهره، كأنما يأوي إليه، وإلى صاحبه يستجير بهما من هذا الخاطر الآثم الذي مر بضميره ساعة من نهار. هناك يقيم مع صهره وأعوانه سامعا لما يقولون، مشاركا فيما يديرون من حديث، آخذا معهم في بعض العمل كأنه من أهل المتجر، ثم يروح مع حميه إلى البيت، فلا يخرج منه إلا إذا كان الغد، وكثيرا ما كان يلوم نفسه أشد اللوم على سيرته هذه الآثمة مع امرأته هذه البرة؛ فهي لم تخلق نفسها، وإنما خلقها الله: فإنكار صورتها إنكار لما خلق الله، فيه إثم قد ينتهي بصاحبه إلى الكفر. وهي لم تدعه إلى أن يتخذها زوجا، ولم تعرفه إلا بعد أن أحكمت عقدة الزواج، وإنما هو الذي هبط إليها من أقصى الإقليم. ثم هي لم تره منذ عرفها إلا خيرا، لم يعرف منها إلا البر به والنصح له والطاعة في كل ما أراد. فماذا جنت عليه أو ماذا قدمت إليه؟ وما باله يجزيها من الخير شرا، ومن العرف نكرا، ومن البر عقوقا؟! ثم هي لم تخلق ابنتها جميلة كما هي، وإنما خلقها الله، والله يخرج الحي من الميت، ويخرج النهار من الليل؛ فلم لا يخرج الصبية الجميلة من الأم الدميمة؟ ولو قد خيرت «نفيسة» لاختارت أن تكون ابنتها جميلة كما هي. فماذا ينقم منها؟ وماذا يعيب عليها؟ وما هذا الإثم البشع الذي يدفعه إلى أن يفسد ما بين الأم وابنتها الصبية الناشئة، وأن يوقد في هذا القلب الكريم الرحيم هذه النار المنكرة الآثمة: نار الحسد والحقد والغيرة، وأن يغرس في هذا القلب النقي الطاهر البريء هذه الشجرة الخبيثة: شجرة الغرور والفتون والاستعلاء حتى على الأمهات. يغرس هذه الشجرة الخبيثة في قلب صبية لم تبلغ بعد الثالثة من عمرها؛ فكيف بها إذا تقدمت بها السن ومازت الجمال من القبح، وعرفت ما يحيط بالفتيان والفتيات من هذه الأهواء الجامحة!
كثيرا ما كانت هذه الخواطر تملأ قلب خالد فتملأ نفسه خزيا واستحياء، هنالك كان يذكر أمه حين كانت تزعم له أن الشباب لا ينبغي أن يطلبوا عند أزواجهم الحسن الذي يدعو إلى الفتنة، والجمال الذي يدفع إلى الموبقات، وإنما ينبغي أن يطلبوا إلى أزواجهم القرين التي تسد عن الوحدة، وترزق الولد وتقوم على تربيته، وتدبر المنزل وتحيط زوجها بما يحتاج الرجل إليه من الرحمة والبر والحنان، وكان خالد يترحم على أمه، ويسأل نفسه: فيم كانت تتحدث إليه بهذه الأحاديث؟ ألم تكن تكره هذا الزواج، وتشفق على ابنها من قبح زوجه؟! ثم يأبى خالد أن يتعمق هذه الخواطر، وإنما يسرع إلى المصحف فيقرأ فيه سورا من القرآن يهب ثوابها لأمه، ثم يقبل على زوجه رفيقا بها عطوفا عليها حتى ينسيها أو يكاد ينسيها ما يمزق قلبها من الألم، وكذلك عاد خالد إلى المدينة، وترك امرأته عند أبويها وقد ظن أنها راضية، واعتقد أنه هو راض، واستيقن أنه سيلقى امرأته أحسن لقاء متى أقبل الوليد الذي ينتظرانه، وسيستأنفان حياتهما كما كانت حلوة هادئة لا يكدر صفوها شيء. ولا يكاد يبلغ المدينة حتى يسرع إلى الشيخ فيزوره، ثم يكثر من زيارته يلتمس عنده البركة والسكينة التي ينزلها الله على القلوب، فيملؤها رحمة وعطفا واطمئنانا للأحداث، وعزاء عن الملمات، وثباتا للخطوب.
وتمضي الأشهر ويأتي النبأ من القاهرة بأن نفيسة قد رزقت زوجها صبية أخرى، وأنها سمتها جلنار، فيبتهج خالد وأبوه بنعمة الله. وكان خالد يود لو رزقته امرأته غلاما، وكان علي يود لو جاءه ابنه بغلام. ولكن الله قد أراد، وإرادة الله نافذة، والحق على المؤمنين الصادقين أن يقبلوا نعمة الله شاكرين. والشيخ ينظر ذات ليلة إلى الأب وابنه نظرة فيها كثير من سخرية وتأنيب، وهو يقول لهما: «حسنة وأنا سيدك» أليس كذلك يا علي؟ أليس كذلك يا خالد؟ إن فقراء الترك يقولون هذا لأغنياء المصريين، فأما أنتما فلا تقولان هذا لغني من الناس، وإنما تقولانه للغني عن الناس وعن كل شيء. ليصومن كل منكما سبعة أيام وليطعمن كل منكما أهل الحلقة في هذا الأسبوع، وليصلين كل منكما، وليدعون وليستغفرن حتى أؤذنه بأن الله قد تاب عليه، سأعرف ذلك في وجوهكما. ثم يتحول عنهما فيقيم الذكر. وقد أدى كل منهما ما أمره الشيخ بأدائه، فصام كل منهما ودعا وتصدق واستغفر الله، ولعل كلا منهما بكى واستعبر. وهما يروحان على الشيخ في كل يوم، فينظر الشيخ في وجوههما ثم يتحول عنهما لا يقول لأحد منهما شيئا. وفي ذات يوم ينظر الشيخ إليهما وقد عرف في وجوههما الحزن والندم وقال: اجتهدا لعل الله أن يتوب عليكما. ومهما يجتهد الأب وابنه، فقد يظهر أن الله لم يتب عليهما؛ لأنهما يصومان ويصليان ويتصدقان ويدعوان وفي قلب كل منهما خاطر ضئيل، ضئيل جدا لا يكاد يحس: لو رزقنا الله غلاما مكان هذه الصبية.
ثم يهبط خالد إلى القاهرة ليرى ابنته، ويرد أهله إلى المدينة. فإذا بلغ القاهرة وأدخل إلى أهله وقدمت إليه الصبية، نظر في وجهها ثم نظر في وجه امرأته، ثم جهر بقراءة آيات من القرآن يرد نفسه إلى الأمن وقلبه إلى الاطمئنان؛ ويمسك نفسه أن تخرج عن طهورها؛ فقد رأى ويا نكر ما رأى! رأى ابنته الثانية صورة مطابقة لأمها أشد المطابقة، وقد تكلف الاستبشار والرضا. وأحست منه زوجه ما أحست، فلم تظهر شيئا. ثم خلا إليه حموه، فقال: أصبر نفسك على ما تكره يا بني، فإن الله يمتحن عباده المؤمنين بالصبر. وأقسم لقد نهيت أباك عن تزويجك من ابنتي فإنها لم تخلق للزواج. وأقسم يا بني لقد رحمتك وأشفقت عليك وتحدثت إلى أبيك في ذلك، ولكن لله أمرا هو منفذه وحكمة هو بالغها.
قال خالد وقد ثاب إلى عقله كله وقلبه كله: فإني لا أفهم عنك ما تقول منذ اليوم. علام أصبر وفيم أمتحن وما رأيت منك ولا من زوجي إلا خيرا، وما أنكرت شيئا وما ينبغي أن أنكر شيئا؟! أفترى نفيسة قد شكت إليك بعض قسوتي عليها في الدعابة والمزاح؟ فإني معتذر إليك وتائب إلى الله من هذا الإثم العظيم.
قال عبد الرحمن وهو يقبل ختنه: لا والله يا بني ما شكت إلي نفيسة شيئا، وما علمتك إلا برا كريما وابن أخ بر كريم. ومنذ ذلك اليوم أنزل الله السكينة على قلب خالد، فثاب إلى أهله وابنتيه كأحسن ما يثوب الزوج الصالح والأب العطوف.
الفصل السابع
على أن للشيطان في قلب كل إنسان مكانا يصغر ويكبر ويتسع ويضيق بمقدار حظه من الخير ونصيبه من رضا الله وبره به، وبمقدار اجتهاده في الدين، وحرصه على التقوى، وإيثاره للخير والمعروف. ولكن هذا المكان موجود دائما في قلوب الناس يبتلون به فيما يأتون من الأمر وما يدعون. وقد اجتهد خالد في الدين ما وسعه الاجتهاد، وآثر الخير والمعروف ما استطاع، ولكن مكان الشيطان ما زال مستقرا في قلبه؛ لأنه لا يزول إلا من قلوب الأنبياء والصديقين. والشيطان ماكر ماهر في المكر يحسن الاستخفاء بمكره وغدره، ويبرع حين يلبس الحق بالباطل، وحين يزين الشر في قلوب الناس، وحين يخدع الرجل عن نفسه وعن أحب الناس إليه وآثرهم عنده.
وقد كان الشيطان ماكرا ماهرا في سيرته مع خالد؛ فقد استخفى في ثنية من ثنايا قلبه وعطف من أعطاف نفسه أسابيع وأشهرا، لا يحدثه بقليل ولا كثير فيما بين سميحة وأمها من الاختلاف، ولا يحدثه بقليل ولا كثير فيما بين جلنار وأمها من التشابه المروع، وإنما يستخفي في زاوية من زوايا نفسه، حتى إذا أقبل خالد على ابنته الصغرى يريد أن يلاعبها أو يداعبها أو يلثمها أو يشمها انسل حتى يدنو من الصبية، فلا تكاد الصبية تبتسم إلا غشي ابتسامتها البريئة الحلوة بتقلصه المنكر البغيض الذي يسميه ابتساما. ولا تكاد الصبية تقطب وجهها لما يقطب له الأطفال وجوههم إلا اتخذ الشيطان أبشع ما يؤذن له أن يتخذه من الصور وعرضه دون وجه الصبية، فتقع عليه عين خالد، وإذا لسانه يوشك أن يتلو الآية الكريمة المروعة:
طلعها كأنه رءوس الشياطين . ولكنه يمسك لسانه في جهد شديد، ويمسح رأس الصبية وهو يتلو آية الكرسي كأنه يحصن بها الطفلة من كل خوف، وهو إنما يحصن نفسه من هذا الروع المروع الذي أشاعه الشيطان في قلبه. ولا يكاد الشيطان يسمع الحروف الأولى من هذه الآية حتى ينسل فزعا مذعورا، ولكن فزع الشيطان قصير الأجل، وحيلة الشيطان طويلة المدى؛ فهو لا ينسل إلا ريثما يبلغ الصبية الكبرى «سميحة» ذات الحسن الرائع والمنظر الأنيق، فيدفعها إلى أبيها، فتندفع فرحة مرحة، وإذا خالد البائس بين أجمل وجه خلقه الله، وأقبح وجه خلقه الله، وإذا هو مضطر إلى أن يلقي نظرة إلى تلك، وإذا هو مضطر إلى أن يفكر في امرأته، فيلحظها لحظة خاطفة، ثم ينصرف مسرعا رافعا صوته بآية الكرسي، حتى إذا بعد عن أهله شيئا أخذ المصحف، وفزع إليه بعد أن يستعيذ الله من الشيطان الرجيم.
وكذلك كانت حياة خالد عذابا متصلا بين ابنتيه وزوجه، يدفعه إليهن الحب والبر والعطف، ويصرفه عنهن الشيطان بما يتنكر من صور وما يزين في قلبه من شر، حتى أصبح لا يجد الراحة ولا الأمن إلا إذا خرج من داره وتحدث إلى أصدقائه وأترابه، وأي راحة وأي أمن! فقد كان الشيطان يألف أصدقاء خالد وأترابه. وما أكثر ما يألف الشيطان من الناس! وكان يطلق ألسنتهم بكثير من القول، فيه الإغراء بالمنكر، وفيه الصرف عن المعروف، وفيه هذه الأحاديث التي يألفها الشباب في القرى عما يأتون وما يدعون إذا خلوا إلى أهلهم، ثم فيه هذه الأحاديث التي تمتلئ بالأماني الآثمة والأحلام التي نسجت من الخطايا نسجا . فيه هذه الأحاديث التي يظهر فيها الخير والطاعة ويستتر فيها الإثم والفجور: أحاديث الاستكثار من الزوجات، والتنقل بينهن إرضاء للشهوات الجامحة والغرائز التي ليس للعقل عليها سلطان، وحديث الطلاق، واستبدال زوجة مكان أخرى للأسباب الهينة والأسباب ذات الخطر.
كل هذه الأحاديث كان الشيطان يطلق بها ألسنة الأصدقاء والأتراب الذين كان خالد يلقاهم إذا خرج من داره، فلا يكاد يسمع منها شيئا حتى يذكر امرأته وصورتها المنكرة، وإذا نفسه تنازعه إلى الطلاق، فيستحي منه ويرحم ابنتيه، وإذا نفسه تنازعه إلى الزواج فيستحي منه ويذكر حماه في القاهرة وأباه في المدينة، ويرحم امرأته وابنتيه من هذه القسوة التي لم يعرض ما يدعو إليها، ويسأل نفسه عن مكان امرأته الوفية من زوجه تلك التي يمكن أن تطرأ على داره، وعن مكان ابنتيه هاتين البريئتين من زوجه الطارئة وممن عسى أن ترزقه من بنين وبنات، ثم يسأل نفسه عن نفسه، وكيف يكون بين هاتين الزوجين، وكيف ينصفهما من حبه وقلبه، وكيف يرضي الله عن عدله بينهما، والله قد طلب إلى المسلمين هذا العدل، وبين لهم أنه عسير. وقد كان خالد على ذلك كله معذبا في حياته بهذه الأهوال التي يكبرها له الشيطان، ويجسمها في نفسه تجسيما، كما كان معذبا بشبابه القوي وفتوته الثائرة، وبهذا الشر الجديد الذي ابتلي به؛ فقد صرف عن زوجه صرفا، لا يكاد يراها إلا تولى عنها أسفا محزونا، فإذا خلا إلى نفسه جلى الشيطان له أجمل النساء وجها، وأحسنهن قواما، وأشدهن للرجال فتنة، وما زال يغريه ويغريه حتى يهم بهذه الصور الرائعة التي تتراءى له، فإذا هم لم يجد إلا ظلالا ووجد عندها ندما أليما.
ولم يكن عبث الشيطان بنفيسة أقل من عبثه بخالد، ولكنه كان من نوع آخر، فلم يكن الشيطان يغريها بفتنة ولا يدعوها إلى إثم، وإنما كان يعرض عليها صورتها البشعة في كل وجه توجه إليه طرفها، ثم يعرض عليها نساء حسانا رائعات الحسن ويلقي في روعها أن زوجها يتمثلهن ويفكر فيهن ويتمناهن، وأن أصدقاءه وأترابه والنساء من أسرته يغرونه على الزواج ويحرضونه على أن يدخل عليها في دارها ضرة، ثم يصور لها حياة الضرائر وما يكون من هذا الحقد البغيض والتنافس المنكر في أحط ما يتنافسن فيه، وما يكون بينهن من الكيد والغدر، وما يدفعن إليه من الإثم والخزي، وكان الشيطان يتبع نفيسة حيثما وجهت من دارها، فلا تكاد تلقى زوجها حتى يصوره الشيطان لها منصرفا عنها ضيقا بها زاهدا فيها، فلا تكاد تسمع صوت زوجها حتى يخيل الشيطان إليها أن هذا الصوت يقطر بغضا لها ونفورا منها، وكان الشيطان مع ذلك يذكي في نفسها غرائز الحب، فإذا هي لم تكلف قط بزوجها كما تكلف به الآن، ولم ترغب في التلطف له والرفق به كما ترغب فيهما الآن، ولم تحتج قط إلى حنان زوجها وعطفه كما تحتاج إليهما الآن، وكل ذلك مصروف عنها أشد الصرف وأقساه، وكذلك أصبحت الحياة جحيما بين الزوجين. ويروح خالد على أهله ذات ليلة، فإذا صعد في السلم سمع نشيجا مؤلما، فيسرع الخطو، وإذا هو أمام امرأة قد نثرت شعرها، ومزقت ثوبها، وخمشت وجهها حتى أسالت منه الدم، وهي تضرب صدرها ضربا عنيفا، وتنتحب انتحابا يفطر القلوب، فيقف خالد واجما أول الأمر، ثم يرفق بامرأته، ولا يزال يسألها عن أمرها حتى تجيبه في شهقتين: تمثلت لي الليلة امرأة زعمت أنها جنية البيت، وأنها تسكن في حنايا السلم، وزعمت لي أنك قد تزوجت اليوم أو أنك متزوج غدا، ثم تعود إلى شهيقها فتغرق فيه، وإلى وجهها وصدرها فتشبعهما لطما وصكا، وخالد يضرب إحدى يديه بالأخرى ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون!
ولم ينم خالد من ليلته، وإنما قام عند امرأته ذاكرا لله تاليا للقرآن، داعيا مستعيذا من الشيطان، واضعا يده على رأس نفيسة، مؤمنا بأن هذه الآيات والأدعية التي كان ينطلق بها لسانه في صوت مرتفع بعض الشيء فيه كثير من الإيمان وكثير من الخوف، لا تصدر عن فمه فتشيع في الغرفة وتطرد الشياطين فحسب، ولكنها تصدر عن جميع جوارحه بعد أن تجري مع دمه في عروقه كلها كأنها الروح اللطيف الحار. وليس من شك في أن طرفا منها يصل إلى هذا الرأس المتقد المضطرب، ثم يجري في جسم نفيسة كله، فيشيع فيه برد الراحة وحلاوة الأمن والهدوء.
والواقع أن نفيسة أقامت على ثورتها وانتحابها حينا، ثم أخذت رعدتها تخف، ودموعها تجف، وشهقاتها تهدأ، وتفصل بينها لحظات طوال أو قصار، حتى إذا مضت ساعات من الليل كانت نفيسة قد فقدت قوتها ونشاطها، ولبثت في مكانها هامدة جامدة، ثم هوت إلى جنبها كأنها البناء المنهار. ولم يشك خالد في أن روحا من الله قد مسها فردها إلى الدعة والهدوء. ولكنه على ذلك لم يتركها، وإنما جلس منها غير بعيد، ومضى في ذكره لله وتلاوته للقرآن، واستعاذته من الشيطان. وحسنا فعل؛ فلم يكد يصيح الديك حين قارب الليل ثلثيه حتى هبت نفيسة مذعورة، ثم نهضت قائمة، وأخذ صوتها يرتفع بالنشيج، وأخذت يداها تعملان في وجهها وصدرها لطما وصكا. هنالك وثب خالد كما وثبت، ثم أسرع إليها فأجلسها، وقام منها مقامه أول الليل، يده على رأسها، ولسانه ينطلق بالقرآن والدعاء، وبعد لأي ثابت إلى الهدوء، ولبث هو قائما يذكر ويتلو، حتى سمع صوت المؤذن يرجع: «سبحان فالق الإصباح.»
وقد أقام مكانه حتى رأى الشمس تسعى إلى الغرفة في استحياء، ثم يزول عنها الحياء قليلا، وإذا هي تغمر الغرفة في جرأة أشبه شيء بالوقاحة. كذلك كان يفكر خالد في إشراق الشمس ودخولها إلى غرفته ذلك الصباح، ومع ذلك فما أحب شيئا قط كما أحب شروق الشمس، ولا داعبت نفسه شيئا قط كما داعبت هذا الضوء الضئيل الذي ينفذ من الأفق كأنه السهم، ثم لا يزال يمضي أمامه ويمتد من جميع أقطاره حتى يوقظ الأرض والسماء جميعا، ويملأ ما بينهما بهجة وجمالا، ولكنه كان في ذلك اليوم مثقل القلب والنفس بحزن يشبه الموت، ولولا فضل من إيمان وبقية من تقوى وهذا القرآن العذب الذي كان يرتله ترتيلا لثارت نفسه ولانتهت به الثورة إلى جموح يخرجه عن طوره ويدفعه إلى ما لا صلاح له من الأمور، وما الذي جنى من الذنب وما الذي اقترف من الإثم حتى يمتحن في نفسه وأهله وعمله إلى هذا الحد؟! إنه لم يطلب إلى أحد أن يزوجه، ولم يفكر في الزواج، ولم يختر زوجه حين دعي إلى أن يتزوج، وإنما تتابعت الأمور عليه كأنها الصواعق يقفو بعضها إثر بعض، وإذا هو في القاهرة، وإذا هو زوج، وإذا هو بعد ذلك أب مرتين، وإذا كل ذلك لا يذيقه إلا سرورا قليلا وحزنا كثيرا، ولكن قضاء الله لا مرد له، وحكمة الله لا تأويل لها، والمؤمن حقا هو الذي يذعن للقضاء ويصبر على المحنة، ولا يسأل الله عما يفعل؛ فهذا كفر به وشك فيه، ولا يسأل الله رد القضاء؛ فقضاء الله لا يرد، وإنما يسأله اللطف فيه، فالله لطيف بعباده، وقد قال:
ادعوني أستجب لكم . وخالد يدعوه ويدعوه. لا يفتر لسانه عن ترديد هذين الدعاءين اللذين تجري بهما ألسنة الشيوخ في الريف: «اللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير. اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.» وقد رأى امرأته آخر الأمر هادئة مطمئنة تبسم لضوء الشمس، لكنها ساكتة لا تنطق بحرف، ساكتة لا تأتي حركة. فلما سألها عن حالها لم تجبه كأنها لم تسمعه، فأعاد عليها السؤال مرة ومرة، ولكنه لم يسمع لسؤاله جوابا. ولم ير أمامه إلا تمثالا بشعا على وجهه ابتسامة بشعة تزيده قبحا وتشويها، وقد امتدت عيناه كأنما تنظران إلى شيء بعيد لا يرى، وهو كذلك هامد جامد كأن ليس له حظ من حياة.
هنالك انسل خالد من غرفته في رفق وأسرع إلى أبيه، فإذا هو جالس في مصلاه من غرفة أم خالد يسبح ويحمد ويكبر، وأمامه كأسان من القهوة وقطعة من الخبز الجاف وقليل من الملح، لم يمدد إلى شيء من ذلك يده بعد؛ لأنه لم يزل في صلاته ودعائه، فلما رأى ابنه مقبلا ولم يكن تعود أن يراه في مثل هذه الساعة من النهار، ولا في مثل هذا المكان من الدار، رفع صوته بما بقي من فمه من الدعاء والتسبيح: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله وتعالى بكرة وأصيلا، ثم تحول إلى ابنه وهو يقول: أصبح بخير يا ابني! ما وراءك؟ قال الفتى في صوت منخفض: أصبح بخير يا أبت! إن ورائي إلا خير، فقد ألم بنفيسة بعض المرض. قال علي: وما ذاك؟ قال خالد: أحسب أن طائفا من الشيطان قد مسها، ثم قص على أبيه الخبر في جمل قصار، والشيخ يصغي إليه في شيء من الوجوم. فلما فرغ الفتى من حديثه لم يزد الشيخ على أن قال: ألهمك الله الصبر يا بني وغفر لي ورحم أمك! فقد أنبأتني يوم زواجك بأني لا أزيد على أن أغرس في دارنا شجرة البؤس.
ثم أراد الشيخ أن يكون شجاعا فهم أن يمد يده إلى قطعة الخبز ولكنها لم تمتد. فهم أن يمدها إلى كأس القهوة ولكنها لم تمتد، وإذا عيناه تغرورقان بالدمع، وإذا هو يقول في صوت متقطع في حلقه: «اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه.» وابنه يجثو بين يديه خاشعا، فقبل رأسه صامتا، ثم يتحول عنه، فيقدم إليه إحدى كأسي القهوة، فيأخذها منه، ويتناول هو الكأس الأخرى، فيشربان كأنهما الصديقان. ولم يكن خالد قد شرب القهوة بمحضر أبيه قبل اليوم. وقضت الدار نهارا غريبا؛ رجلان يختلفان إلى غرفة نفيسة، كلاهما يتلو القرآن ويجأر بالدعاء، وعمات خالد ونساء أبيه قد ملأن الدار يطوفن بالبخور مهمهمات متمتمات، منهن من تدعو الله ومنهن من تدعو الشيطان، وقد اجترأت إحداهن فذكرت حفل الزار، ولكن عليا ثار لذلك وزجر النساء زجرا عنيفا، وأقسم لتأوين كل واحدة منهن إلى غرفتها، ولينقطعن لغطهن الثقيل البغيض، ثم أقام يخالف مع ابنه إلى غرفة نفيسة، حتى إذا صليت العصر خرج من الدار يقصد قصر الشيخ. وقد انتهى إليه، فرآه في نفر من أصحابه يسمع منهم ويقول لهم. فلما رآه الشيخ مقبلا من بعيد لمحه لمحة خاطفة، ثم قال في صوت هادئ: إن لعلي اليوم لشأنا. وقد عرف القوم أن قد كان لعلي شأن: فقد دنا من الشيخ وألقى في أذنه بعض الهمس، وإذا الشيخ ينهض ويأخذ بيد علي، وإذا هما يسعيان إلى باب يفتح لهما في صدر المجلس، ثم يغلق من دونهما، وقد قص علي على شيخه خبر نفيسة، فاستمع له الشيخ، حتى إذا فرغ من حديثه بسط الشيخ يديه ورفع رأسه، ولم يزد على أن قال: «اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.» ثم أطرق وجعل فمه يهمهم وحبات سبحته الغلاظ تساقط بين أصابعه، حتى إذا أتم دورة السبحة رفع رأسه إلى علي وقال: وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب؛ قم يا بني فأنبئ عبد الرحمن بمرض ابنته، فما ينبغي أن يجهله، وما أشك في أنه سيقبل مسرعا، ثم ابتسم وقال: وسيتيح لنا ذلك أن نراه فقد بعد عهدنا به، ثم نهض ونهض معه علي وفتح لهما الباب وأغلق من دونهما، وإذا الشيخ بين أصحابه قد جلس إليهم يسمع منهم ويقول لهم، وإذا علي منصرف إلى داره ونفسه تتقطع حسرات؛ فقد كان يظن أن الشيخ سيصحبه إلى الدار، وسيدخل على نفيسة ويدعو لها بالشفاء، ولو قد فعل لردت نفيسة إلى خير ما كانت عليه من الصحة والعافية.
الفصل الثامن
أقبل عبد الرحمن بعد أيام وفي نفسه قلق لم يبلغ الجزع، فلم يكن علي قد أنبأه بأكثر من أن ابنته مريضة، ومن أن من الخير أن يراها وأن تراها أمها، وكان عبد الرحمن رجلا جلدا صبورا عظيم الاحتمال، قد امتحنته الأيام في ابنيه جميعا، فلم يتخلع قلبه، ولم يخرج من وقاره المألوف، وإنما بلا مرارة الحزن إلى أقصاها واصطلى نار الألم إلى أشدها، وهو ثابت لا يضطرب، وقور لا تزدهيه الخطوب، يرحمه الناس ولكنهم يعجبون به ويعجبون منه. وهو ماض في حياته، محتمل لأثقالها، ثابت لعواصفها، يشهد الصلوات الخمس في المسجد، ويتلو ورد السحر في آخر الليل، ويختلف إلى متجره وجه النهار وآخره، فيعمل ويرى أعوانه يعملون ، قليل الكلام كثير الصمت، لا يغفل قلبه عن ذكر الله، ولا تنسى نفسه أن تستخرج من آلامه مواعظ وعبرا، وهو يرحم امرأته ويشفق عليها، ويحيطها بشيء من عطف يوشك أن يكون قسوة؛ فهو لا يحب البكاء كما أنه لم يكن يحب الفرح؛ وإنما يريد لامرأته أن تكون مثله هادئة، رزينة كاظمة للغيظ، صابرة على الخطب مسلمة أمرها إلى الله، قابلة قضاءه في رضا، منتظرة قضاءه في ثقة، فلما جاءه النبأ بأن ابنته مريضة، وبأن الخير أن يراها وأن تراها أمها، لم يظهر امرأته على شيء، وإنما زعم لها أنه مسافر إلى الأقاليم في بعض ما كان يسافر له من التجارة.
فلما وصل إلى المدينة ولقي عليا وخالدا، قال لهما في صوته الهادئ وعلى ثغره ابتسامته المطمئنة: لم أخبر أم صالح بشيء ولم أكلفها مشقة السفر، فإن تكن نفيسة قادرة على الرحلة إلى القاهرة، فالخير أن تمرض هناك وأن ترى أمها في دارها، وإن تكن غير قادرة على الرحلة مرضناها هنا حتى يكون لها حظ من برء، فتتم شفاءها في القاهرة. كذلك قدرت ولله تقديره، وهو يقضي فينا بما يشاء. ولم يرد مع ذلك أن يستريح ولا أن يشرب القهوة، وإنما صمم في هدوء على أن يرى ابنته قبل كل شيء، قال علي: ستراها ولكن ... قال عبد الرحمن: ولكن ماذا؟ أتراكما خدعتماني وأنبأتماني بمرضها بعد أن بلغ الكتاب أجله؟ قال علي: لا؛ ولكن مرضها غريب. قال عبد الرحمن: مرضها غريب! لقد كانت غريبة الأطوار في طفولتها وصباها، أفتراها قد جنت؟ فأما علي فلم يجب. وأما خالد فأجهش بالبكاء. وأما عبد الرحمن فرفع يده إلى جبهته وظل كذلك حينا، ثم مسح إحدى يديه بالأخرى وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أقام مكانه لم يظهر ميلا إلى لقاء ابنته، وإنما قال لخالد: اطلب لنا القهوة يا بني. وأغرق بعد ذلك في صمته، حتى إذا جاءت القهوة وشرب منها كأسين قال مبتسما: والصبيتان ما خطبهما؟ قال علي: هما بخير، روعتا شيئا أول الأمر، ثم حيل بينهما وبين لقاء أمهما. قال عبد الرحمن: فأستطيع أن أراهما؟ قال خالد: نعم! ثم غاب ساعة وعاد ومعه ابنتان إحداهما آية في الحسن والأخرى آية في القبح! فلما رآهما عبد الرحمن ضمهما وقبلهما ومسح على رأسيهما، ثم قال لخالد: ردهما إلى لعبهما، فقد كانتا تلعبان من غير شك، ولم يكد خالد ينصرف بالصبيتين حتى انحدرت من عيني عبد الرحمن دمعتان أسرع إلى تجفيفهما وهو يقول: «اللهم عفوك ومغفرتك ورضاك؛ اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.» ثم قال: ألم تر يا علي أني قد أحسنت حين لم أزعج أم صالح ولم أجشمها السفر؛ فحسبها ما تنتظر من هول. قال علي: هون عليك أبا صالح؛ إنما هي محنة وتزول. قال عبد الرحمن: أرجو ذلك إن شاء الله. ولكن مر فليهيأ للسفر إذا كان الغد، أما اليوم فإني أريد أن أزور الشيخ وأن أحدث به عهدا. ثم سكت قليلا والتفت باسما إلى خالد وهو يقول:
آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا .
وأقبل القوم على غدائهم وحديثهم ثم على صلاتهم ودعائهم كأن لم يلم بهم خطب. فلما اصفر وجه النهار سعوا إلى شيخهم، فألفوه بين أصحابه يعظهم ويقرأ عليهم بعض الحديث، فاستمعوا واستمعوا، وشهدوا معه صلاة العشاءين وما بينهما من دعاء، وأقاموا معه حلقة الذكر كما كانوا يصنعون من قبل، حتى إذا تفرقت الحلقة وأخذ الناس ينصرفون، تثاقل عبد الرحمن فلم ينصرف ولم يظهر ميلا إلى الانصراف، ورأى الشيخ ذلك منه فأشار إليه أن أقم، وأشار إلى صاحبيه أن أقيما. حتى إذا خلا لهم وجه الشيخ هم عبد الرحمن أن يتكلم ولكن الشيخ قال: ما رأيت رجلا مثلك يا عبد الرحمن؛ إن إيمانك لحسن، وإن دينك لمتين، وإن أجرك عند الله لعظيم. قال عبد الرحمن: سمع الله لك يا مولاي؛ إني قد حرصت على أن أظفر منك بهذه الساعة مع صاحبي هذين لأشهدك علي وعليهما. قال الشيخ: وما ذاك؟ قال عبد الرحمن: إني سأرتحل بابنتي إذا كان الغد. قال علي وخالد في صوت واحد: وسنرتحل معك. قال الشيخ: دعاه يقل. ومضى عبد الرحمن في حديثه فقال: إن ابنتي لم تعد تصلح زوجا لخالد، ولكني لا أحب الطلاق؛ لأن الله لا يحب الطلاق. وهم خالد أن يتكلم، فأشار الشيخ إليه: أن صه. قال عبد الرحمن: فأريد أن أشهدك على أني سأكفل ابنتي والصبيتين ما حييت، فإذا مت فإني أوصي بهن وبامرأتي ومالي كله إلى خالد، يقوم في ذلك كله بأمر الله وبما ينبغي من البر بالزوج والولد والصهر وذوي المودة والقربى، ولم يبلغ عبد الرحمن ذلك من قوله حتى كان علي وابنه ينتحبان. قال الشيخ: ما رأيت كالليلة قوة، وما رأيت كالليلة ضعفا. ثم نظر إلى علي وابنه وهو يقول: أما تستحيان؟! ثم بسط يده إلى عبد الرحمن وقال: ابسط يدك أبايعك على ما تقول وأنا وكيل خالد، وتصافح الرجلان. ثم أقبل الثلاثة على الشيخ فقبلوا يده، ثم صفق الشيخ تصفيقا خفيفا، فلما أقبل الخادم قال الشيخ: أرسل إلينا قهوة، وقل للشيخ مدكور يغني لنا:
سائق الأظعان يطوي البيد طي
وما هي إلا لحظة حتى أقبلت القهوة وأقبلت المجمرة في شيء من بخور، وارتفع صوت الشيخ مدكور في هدوء الليل يغني في شعر ابن الفارض الجميل والقوم يشربون القهوة حسوا خفيفا، والشيخ يضطرب في مجلسه اضطرابا خفيفا ويقول في صوت همس: الله! الله! ثم ينقطع الصوت وينهض الشيخ فيصلي ركعتين، ويصلي كل من الثلاثة مثله ركعتين، فإذا أتموا صلاتهم قال الشيخ للجماعة: انصرفوا راشدين، نراك قبل سفرك يا عبد الرحمن؟ قال عبد الرحمن: لا يا مولاي؛ إنه سفر يحسن الاستعجال به.
الفصل التاسع
عاد علي وابنه من القاهرة بعد أسابيع وفي نفس كل منهما بقية من حزن عميق لم تمحها الأيام، ولكن نسجت عليها حجابا أخذ يزداد صفاقة وكثافة من يوم إلى يوم، حتى أنسي علي أو كاد ينسى نفيسة، لولا أنه كان يرى خالدا، ويذكر أنه يعيش عيشة الفتى الأعزب، فيرثي له ويفكر في مستقبل أمره تفكيرا قصيرا، لولا أن الشيطان كان يخيل إليه بين حين وحين أن ثروة عبد الرحمن صائرة إليه يوما ما، فمضاعفة ثروته، ومصلحة من أمره ما يحتاج إلى الإصلاح؛ فقد كثر نساؤه، وأخذ ولده يكثرون، وأخذت النفقة تزداد وتثقل أعباؤها، وأخذت الحاجات تكثر وتتنوع وتتعقد، وتجارة علي رابحة من غير شك، ولكن ربحها يذوب في هذه الأسرة الكبيرة كما يذوب الملح في الماء.
وإن العام ليتم دورته، ويبحث علي عما بقي له من ربحه فلا يجد شيئا. ولعله أن يجد رأس المال وقد تحيف منه قليلا أو كثيرا، فيضيق بذلك يوما أو يومين، ويغتم له ليلة أو ليلتين، ولكنه لا يلبث أن ينصرف عن ضيقه وغمه إلى حياته هذه المطردة المضطربة: تجارة أول النهار، ولغو آخره، وراحة بين ذلك، وسهر عند الشيخ إذا كان الليل، ثم العودة إلى داره ليقضي بقية الليل عند هذه أو تلك من نسائه، يسمع منها أبغض ما يسمع الرجل من امرأته: شكاة من هذه، ونعيا على تلك، وعيبا للثالثة وثناء على نفسها، ثم إلحاحا في التسوية بينها وبين ضرائرها؛ فقد أهدى إلى هذه ما لم يهد إليها مثله، وزعمت تلك أنه ترك لها من النقد كذا وكذا درهما على حين أنه يبيت عندها ولا يترك لها شيئا، وإنها لتلتمس المليمات تشتري بها الحلوى لصبيها البائس فلا تجدها، فيظل ابنها محروما ينظر إلى أبناء الضرائر وهم فرحون بما في أيديهم من الحلوى وما في جيوبهم من ألوان النقل. وعلى هذا النحو تنغص عليه ليلته حتى ينتظر الصبح أشد ما يكون إليه شوقا. فإذا سمع صوت المؤذن أسرع إلى وضوئه وصلاته، يظن أن التقوى هي التي تدفعه إليهما، وما كان يدفعه إليهما إلا الهرب من هذه الحياة البغيضة، ومن هذا الليل الطويل الثقيل، ولم يكن علي يجد الراحة والنعيم إلا في ليلة أم خالد حين يخلو إلى نفسه وإلى ذكرى زوجه الكريمة، فيمتلئ قلبه حبا وحنانا، ثم يسرع إلى ذكر الله وتلاوة القرآن ليهدي إلى هذه الزوج الصالحة شيئا من ثواب الآخرة بعد أن لم يستطع أن يهدي إليها شيئا من نعيم الدنيا. رحم الله أم خالد؛ لقد كانت برة به عطوفا عليه، لم تخالف عن أمره قط، ولم تسؤه في نفسه قط، لم تؤذه بقول ولا عمل، لم ير منها إلا خيرا منذ لقيها إلى أن فارقها. كانت مباركة لم يحس في أيامها ضيقا ولا ضنكا، وإنما كان المال يتدفق في متجره، والخير يتدفق في داره، وكانت حياته بين حبها له ورضا الشيخ عنه ونمو ابنه خالد مشرقا باسما فرحا مرحا، نعيما متصلا. أين هو من هذا النعيم؛ أيجده عند زينب هذه التي تقدمت بها السن حتى أخذ وجهها يكلح وتظهر فيه التجاعيد، وهي مع ذلك تتجمل وتتدلل وتتكلف ما يتكلفه النساء الحسان؛ وما الذي يعجبه من زينب هذه؛ وما الذي يكرهه على أن يمسكها في داره! لقد تزوجها في آخر شبابها، فلم ترزقه ولدا، ولم ير عندها خيرا، بل لم ير عندها إلا سوء الخلق، وإلا هذه الغيرة الطارئة التي أدخلتها في قلب زوجيه الأخريين. لقد كان مستمتعا بشيء من هدوء قبل أن يتخذ هذه الزوجة الثالثة، وما له لا يكتفي بزوجين اثنتين! رحم الله تلك الأيام التي كان يكتفي فيها بأم خالد. ولكن أم خالد! وكيف يقاس إليها النساء؛ ثم يصبح وقد استقر رأيه على أن يفارق زينب، فهو يلتمس لذلك الأسباب والعلل. وأي شيء أيسر من ذلك؛ يكفي أن تلقاه متجهمة تحسب تجهمها دلالا، متنكرة تحسب تنكرها تيها، يكفي أن يدعوها فتبطئ في الجواب، وإذا هو ثائر فائر، يلقي في وجهها كلمة الطلاق، ثم يفر من بين يديها مسرعا فيتنفس ملء رئتيه، ويأوي إلى غرفة أم خالد على مصلاه يستغفر الله ويتلو القرآن.
كذلك كانت حياة علي زواج وطلاق، وطلاق وزواج، واحتمال لما يقتضيه ذلك من نفقات، واحتمال لما تقتضيه كثرة الولد من نفقات أيضا، وإهمال لهؤلاء الولد الذين يكثرون من يوم إلى يوم، إهمال مصدره كثرتهم من جهة، وتنافس أمهاتهم من جهة أخرى، وانصرافه إلى تجارته ولغوه وعبادته من جهة ثالثة، وقد أهمل تربية خالد حين كان خالد وحيدا، حتى كاد يفسد ويدركه الانجذاب لولا لطف الله وكرامة الشيخ، وهنا يستعرض أمر خالد وزواجه وكل هذه المأساة، فيحزن لها شيئا، ثم يذكر عبد الرحمن وثروته فتمر على ثغره ابتسامة ينكرها، ولكنه يستعذبها على كل حال. ومما زاد حياة علي تعقدا وارتباكا وأكثر فيها الهم والحزن أن تجارته أخذت تفتر شيئا فشيئا على مر الأشهر والأعوام. لم يفطن لأسباب ذلك أول الأمر، وإنما ضاق به وشكا منه. وحاول أن يطب له فلم يفلح. ثم أصبح ذات يوم وقد كشف عنه الغطاء، وإذا هو يرى نكرا من الأمر يملأ قلبه خوفا، ثم لا يلبث أن يملأ قلبه يأسا، هذه المتاجر الجديدة التي أخذت تنشأ في المدينة على غفلة من أهلها لا يدرون كيف جاءت إليهم، ولا كيف استقرت فيهم، وإنما هو بناء يقام لا يعرف أهل المدينة من يقيمه ولا لمن يقام، ثم ينظرون فإذا عمارة فخمة ضخمة قد ارتفعت شاهقة في السماء ممتدة في الفضاء، وقد أقبل عليها قوم غرباء جاءوا من القاهرة، فملئوها بضائع وعروضا، وأحاطوها بألوان من الزينة والبهجة تدعو الناس وتغريهم بها، وإذا هم ينظرون ثم يقفون ثم يدخلون ويخرجون بعد ذلك، وقد تركوا ما كان معهم من نقد، وحملوا من السلع والعروض أشياء حزمت لهم حزما حسنا ليس مألوفا في هذه المتاجر القديمة التي توارثها الأبناء عن الآباء، وأغرب من هذا أن هذه المتاجر التي أخرجها الشيطان من الأرض لا تقتصر على لون بعينه من البضائع أو ضرب بعينه من السلع، وإنما هي تبيع كل شيء. متجر واحد يعدل جميع متاجر المدينة، أي غرابة في أن يفتن الناس بهذا الجديد ويتهالكوا عليه ينفقون فيه أموالهم ويقتضون منه حاجاتهم؛ فأما علي وأصحابه ومتاجرهم هذه القديمة القذرة المهملة النائمة، فعليهم وعليها العفاء.
كذلك أحس ذات يوم أنه لن يستطيع أن يثبت لهذه الشياطين الجديدة التي هبطت على المدينة لتفقر أغنياءها وتذل أعزاءها، وتأخذ ما فيها من مال، فتحمله إلى شياطين أخرى تقيم في القاهرة أو في مدينة أخرى غير القاهرة، وقد تحدث علي بذلك إلى بعض أصحابه التجار، فإذا هم يرون مثل ما يرى، ويجدون مثل ما يجد، ثم لا يملكون، كما أنه لا يملك، إلا أن يضربوا يدا بيد ويقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم سعوا إلى شيخهم، وتحدثوا إليه في ذلك، فإذا هو يرى مثل ما يرون، ويجد مثل ما يجدون، ويقول كما كانوا يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم يحدثهم عن أشراط الساعة، ويذكرهم بأيام الله، ويعظهم فيبغض إليهم الغنى ويحبب إليهم الفقر، ويؤكد لهم أن أكثر أهل الجنة من الفقراء، وأن أكثر أهل النار من الأغنياء الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.
وكذلك عملت حياة علي في ماله وتجارته، وعملت في ماله وتجارته هذه الشياطين التي انقضت على المدينة كأنها الجراد، وإذا إحساسه بالضيق يكثر ويشتد، وإذا هو يقصر مع بعض عملائه في القاهرة، فلا يؤدي إليهم حقوقهم في إبانها، وإذا هو مضطر إلى أن يتخفف من بعض ما اختزن من العروض يبيعها بثمن بخس ليؤدي بعض ما عليه من دين، وقد خطر له ذات ليلة وهو قاصد إلى غرفة أم خالد أن يهبط إلى القاهرة ليرى عبد الرحمن، فيعلم علمه، ويسأل عن نفيسة وابنتيها؛ فقد أهملهن منذ زمن طويل، ومن يدري، لعله أن يجرؤ فيلتمس عند صهره شيئا من معونة، فلما انتهى إلى غرفة أم خالد جلس على مصلاه، فدعا واستغفر وصلى وتلا القرآن واستخار الله، ولم يهمل بعد أن صلى الصبح أن يقرأ سورة «يس» سبع مرات يعقبها في كل مرة بدعائها المعروف. فلما فرغ من ذلك غفا غفوة ثم استفاق، وإذا محمود يحمل إليه كسرة من خبز جاف، وشيئا من ملح، وكأسين من قهوة، فطعم وشرب وحمد الله، ونهض وهو مستيقن أن الله قد عزم له على الرشد، ومزمع أن يسافر إذا كان الغد، وقد أنفق نهاره في الاستعداد لهذا السفر؛ فلم يكن بد من أن يحمل إلى نفيسة وابنتيها ما يسرهن، والله يعلم كيف احتال في ذلك وجد في الحيلة، ولكنه سافر من الغد كما تعود أن يسافر موفورا كثير المتاع، وقد استخلف ابنه خالدا على داره ومتجره، فلما وصل إلى القاهرة وانتهى إلى دار عبد الرحمن لم ينكر شيئا أول الأمر، فقد لقيه صديقه الشيخ باسما وقورا مرحبا، ولقيته أم نفيسة باسمة عن ثغر محطم في وجه مربد قد عبثت به السنون، ولقيته نفيسة هادئة مطمئنة راضية، فأما الصبيتان فقد نمتا نموا حسنا، فازدادت إحداهما جمالا، وازدادت الأخرى قبحا، ولكن عليا لم ينفق مع صديقه الشيخ يوما وبعض يوم حتى أنكر كل شيء، وإذا هو يلعن الأيام في القاهرة كما كان يلعنها في المدينة، فقد تعرضت تجارة صاحبه في العاصمة لمثل ما تعرضت له تجارته في الإقليم؛ لا لأن صاحبه استكثر من النساء والولد فكثرت نفقته وثقلت أعباؤه؛ فقد كان عبد الرحمن صاحب نسك وقناعة وزهد في الدنيا، بل لأن القاهرة امتلأت بهذه الشياطين التي أقبلت على مصر تغزوها منذ أعوام فأفسدت فيها كل شيء.
قال عبد الرحمن: ولست أدري ما الذي سلط علينا هذه الشياطين؛ فقد كنا آمنين وادعين موفورين، ثم أصبحنا ذات يوم وإذا الشر يأخذنا من جميع أقطارنا، شياطين يأتوننا من يونان، وشياطين يأتوننا من إيطاليا، وشياطين يأتوننا من فرنسا، وشياطين يأتوننا من بلاد الإنجليز. صدقني يا أبا خالد إن الله قد غضب علينا، وقد بحثت كثيرا عن أسباب هذا الغضب، فالله لا يغضب على الناس لغير سبب، وإنما هو قد عودهم أن يحسن إليهم تفضلا منه، وألا يغضب عليهم حتى يستوجبوا غضبه بمنكر يأتونه، أو ذنب يقترفونه، أو إثم يتورطون فيه، وقد سألت الشيوخ في الأزهر والأولياء الصالحين الذين يعكفون في المساجد، ويلوذون بمشاهد أهل البيت، فلم أجد عند أحد منهم شيئا. ولكني غفوت ذات ليلة بعد أن صليت العشاء، فما راعني إلا شيخنا وهو يبسم لي ساخرا، ثم يدنو مني فيمسح على رأسي ويتلو هذه الآية الكريمة:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، ثم ينأى عني قليلا قليلا وهو يقول: اتبعني أبا صالح فإني سأفر بنفسي وديني من هذه القرية الظالم أهلها، وقد أفقت مذعورا، ولم أستطع منذ تلك الليلة أن أقنع نفسي بأني لم أر إلا حلما، وإنما استقر في قلبي أن الشيخ منتقل إلى رضوان الله، وأني لن ألبث بعده إلا قليلا، ولقد أقبلت أبا خالد وأنا أحدث نفسي بالسفر لأزوركم وأحدث عهدا بالشيخ، فمن يدري! لعله الوداع.
قال علي وصوته يرتجف: هون عليك! فإنك لم تر إلا حلما، وقد تركت الشيخ على أحسن ما عهدته قوة ونشاطا، وقد حملني تحية إليك ودعاء لك، ولكنه دعاني حين انصرفت عنه بعد وداعه، فأسر إلي أنه هابط إلى القاهرة؛ فقد طال عهده بأهل البيت، ثم قال في ابتسامة ما رأيت قط أعذب منها، لقد كانت شفتاه كأنما تنفرجان عن نور قال: أبلغ عبد الرحمن أنا سنكون له ضيفا.
هنالك لم يملك عبد الرحمن نفسه أن قال بأعلى صوته: الله اكبر! الشيخ ضيفي! ثم أهوى إلى صديقه فقبل رأسه وهو يقول وفي عينه دمعتان تترقرقان: ويحك أبا خالد! لم أخرت علي هذا النبأ السعيد؟!
ومهما يكن من شيء فقد سافر علي إلى القاهرة وفي قلبه شيء من حزن وشيء من أمل، وعاد إلى المدينة وفي قلبه كثير من الحزن وكثير من اليأس، إلا من روح الله، ولكنه قال لصديقه وهو يودعه: سأعود إليك بعد حين؛ فما ينبغي أن أتخلف عن مصاحبة الشيخ، ولا بد من أن نزور معه أهل البيت.
الفصل العاشر
أما خالد فقد كدنا نشغل عنه بحديث أبيه، وليس في هذا شيء من بدع؛ فإنه كان يعيش في أيام لم تكن حياة الأبناء فيها شيئا ما دام آباؤهم ناهضين بما كان ينهض به الآباء من الأمر في ذلك الوقت، فهم كانوا كل شيء، يصدر عنهم ما يدبر شئون الأسرة من أمر، وينتهي إليهم ما يعرض للأسرة من خطب، وما أبناؤهم إلا ظلال لهم، بل ظلال ناقصة تصور ما كان آباؤهم يريدون لهم أن يكونوا، إنما كان الأبناء يستكملون شخصيتهم وينهضون بأمرهم كله حين كان آباؤهم يفارقون هذه الأرض أو يضطرهم المرض والكبر إلى أن يلزموا بيوتهم عابدين أو فارغين، لا يأتون شيئا ولا يدعون شيئا؛ لأنهم لا يقدرون على شيء.
وكان علي في ذلك الوقت مالكا لأمره كله، لم يعرف قط نفسه قويا كما كان في ذلك الوقت، ولم يستجمع قط قواه العاقلة والعاملة كما استجمعها في تلك الأيام، ولذلك أسرف على نفسه وعلى أسرته في كل ما كان يأتي ويدع: إضاعة للتجارة، وإتلاف للمال، وإسراف مع ذلك في الزواج والطلاق، واستكثار مع ذلك من البنين والبنات، حتى كان حديث الناس في المدينة وفي بعض القرى المجاورة، وحتى تحدث إليه أصحابه في ذلك، فكان يقول لهم ما ذكرناه آنفا من أنه إنما يستوفي ما أباح الله له من الحق حين أذن للمسلمين أن يتزوجوا مثنى وثلاث ورباع، وكان يقول لهم في شيء من الغلظة والاستهزاء: ما تنقمون مني! من استطاع منكم أن يصنع صنعي فليفعل، ألسنا قد أمرنا بالزواج وبأن نستكثر من النسل ما وسعنا ذلك؛ لأن نبينا
صلى الله عليه وسلم
مباه بنا الأمم يوم القيامة؟ فهل تعيبون علي أن أكون سببا من أسباب امتياز النبي بأمته على غيرها من الأمم يوم القيامة! وكان أولو الجراءة من أصدقائه يذكرون له كثرة النفقة وثقل العبء، فيسخر منهم وقد يتجاوز السخرية إلى التأنيب، ويقول لهم: ما رأيت قوما مثلكم يشكون في قدرة الله، وينكرون فضله على الناس؛ إن الله هو الذي يرزقنا الولد. وقد ينبغي أن تعلموا، إن كنتم لا تعلمون، أن الله لا يخلق فما إلا أطعمه، ولا يبرأ نسمة إلا كفل لها رزقها، وقد نهينا عن قتل الولد مخافة الإملاق، ولست أفرق بين قتل الولد مخافة الإملاق وتجنبه مخافة الإملاق، كل ذلك يرجع إلى شيء واحد هو ضعف الثقة بالله، وأعوذ بالله أن تضعف ثقتي به أو يحل في قلبي اليأس من فضله.
وكذلك كان يمضي في طريقه هذه، لا يفكر في عاقبة، ولا يحفل بموعظة، ولا يسمع لنصيحة، وإنما هو مندفع في حياته واقتضاء لذاته المباحة، كما يندفع السيل إلى الوجه الذي دفع إليه. فلا غرابة في أن تشغلنا حياته هذه عن حياة ابنه خالد، وقد كانت ضئيلة نحيلة في ظل هذه الحياة الضخمة العريضة التي تندفع أمامها لا تقف عند شيء ولا تلوي على شيء، وقد كان خالد مع ذلك حين عاد من القاهرة بعد أن رد امرأته وابنتيه إلى حميه مقسم النفس بين نوعين من الشعور؛ فقد كان في نفسه شعور بحزن مقيم مقعد حاول هو أن يفهمه فلم يستطع، ولكن فهمه مع ذلك يسير.
كان حزينا أيسر الحزن لفراق امرأته التي عاشرته أعواما ورزقته ابنتين، ولم تره في سيرتها معه إلا خيرا. وكان حزينا لأنه كان ينتظر لنفسه حياة غير هذه الحياة وحظا غير هذا الحظ: كان يرجو أن يتيح الله له زوجة صالحة يحبها ويسكن إليها ويرى فيها متعة عينه وقلبه وأم ولده وربة بيته وصاحبته، منذ بدأ هذا الطريق إلى أن ينتهي منها، ولكن الله لم يتح له هذه الزوج. وقد رضي مع ذلك بما قسم الله له، ورآه نعمة وفضلا، ولكن الله أبى أن يتم عليه هذه النعمة وأن يكمل له هذا الفضل، فكشف له الغطاء عن قبح امرأته، وامتحنه بهذا القبح حينا، فكاد يخفق في الامتحان، ولكنه حاول أن يثبت له، وكاد يخرج من المحنة ظافرا لولا أن الله قد ابتلاه بمحنة أخرى، فأغرى بامرأته جنية البيت، تلك التي تسكن حنايا السلم والتي جعلت تتراءى لها متى خلت إلى نفسها فتغرها وتضلها وتلقي في روعها الأباطيل، حتى أفسدت عليها أمرها، وسلبتها ما كان لها من عقل، وإذا هو مضطر - بعد أن ردها إلى أبيها - إلى هذه الحياة الفارغة المؤلمة، حياة الوحدة؛ فقد كان على كل حال يأنس إلى امرأته، فيرى في عشرتها راحة وروحا، وقد كان ينعم بطفولة ابنتيه، ويرى في ابتسامهما أملا ونعيما، وإذا هو قد حرم هذا كله ورد إلى وحدته الأولى، بل أين وحدته الآن من وحدته قبل أن يتزوج، فقد كان بين أم ترأمه وتحنو عليه، وبين أب يحبه ويؤثره بالكرامة، فأما الآن فهو غريب في دار أبيه بين هؤلاء الضرائر اللاتي لا ينظرن إليه ولا يحفلن به؛ لأنه لا يغني عنهن شيئا فيما يكون بينهن من تنافس وتباغض وخصام، وبين هؤلاء الصبية الذين يكثرون في كل يوم وينبتون كما ينبت العشب في الأرض، لا يدري كيف جاءوا.
فأما أبوه فقد كان عطوفا عليه حفيا به أيام محنته، فلما بعد بها العهد، شغل عنه بهذه الهموم الكثيرة التي لا يتركها في الدار إذا غدا إلا ليلقاها في المتجر، ولا يتركها في المتجر إذا راح إلا ليلقاها في الدار، وهو سعيد كل السعادة أن تركت هذه الهموم له طريقه حرة بين داره ومتجره، لم ينتظره في هذا الثني أو ذاك من أثناء الطريق، ولم يخرج له بعضها من هذا العطف أو ذاك من أعطاف المدينة. فهذا نوع من الشعور الذي كان يجده خالد عندما آب من القاهرة، ولكنه كان يجد نوعا آخر من الشعور ليس أقل من هذا النوع تأثيرا في قلبه وفي حياته العاملة بنوع خاص. فقد كان يشعر كأن حملا ثقيلا ألقي عن عاتقه، وكأن شيئا من الراحة والأمن رد إلى قلبه، ذلك أن لقاءه امرأته كل يوم مصبحا وممسيا، ونظره إلى ابنتيه وما كان بينهما من اختلاف، وموازنته بين ابنتيه وأمهما، كل ذلك كان يسوءه ويؤذيه، فقد أراحه الله من هذا السوء ورد عنه هذا الأذى، وأتاح له حياة فارغة، تؤذيه من غير شك، ولكن لا كما كانت تؤذيه حياته تلك الملأى.
وكذلك كان خالد يضطرب بين الحزن والرضا، وبين القلق والأمن، وكان إذا أحس الرضا صلى ودعا وقرأ القرآن حامدا لله على نعمته، وإذا أحس السخط صلى ودعا وقرأ القرآن مستعينا بالله على نقمته، وكان أشد ما يخاف أن يغري به الشيطان في وحدته على نحو ما كان يغري به قبل أن ترحل عنه زوجه، فكان يكثر من القراءة والدعاء والصلاة تحصنا من هذا الشيطان، ولكن الله صرف عنه الشيطان صرفا تاما، فكانت وحدته نقية حتى من التفكير في الإثم، وكانت عزلته طاهرة حتى من الشعور بأن له غرائز يجب أن ترضى، وقد هم أن يستأنف حياته الأولى، فيختلف إلى المساجد، ويتبع حلقات الذكر ويواظب على مجالس الوعظ، ولكنه لم يجد من نفسه نشاطا إلى هذه الحياة، وإنما وجد من نفسه شوقا إلى عمل أحسن غناء وأقرب نفعا من هذه الحياة المشردة، وقد ألقي في روعه أن التقرب إلى الله لا يكون بالاختلاف إلى هذه المساجد والحلقات ومجالس الدرس والوعظ فحسب، وإنما يمكن أن يكون بأن يظل الإنسان على ذكر من ربه دائما، يذكره إذا خلا إلى نفسه، ويذكره إذا لقي الناس، ويذكره حين يقدم على العمل أو يحجم عنه، فتكون خشيته لله هي التي تحمله على الإقدام أو الإحجام، وكان خالد على ذكر من ربه دائما، حتى إن أيسر انفعالاته كان يترجم عنه بهذه الكلمات التي تجري بها ألسنة الناس كثيرا، ولكنها لا تصدر عن قلوبها إلا قليلا، فكان إذا أنكر شيئا أو أسخطه شيء قال: سبحان الله. وإذا رضي عن شيء أو سره شيء قال: الحمد لله. وإذا أعظمه أمر يسر أو يسوء قال: الله أكبر. وإذا أحس من حوله شرا يدنو منه أو يبعد عنه قال: لا إله إلا الله.
وكان الناس يحبون خالدا في المدينة ويعجبون به ويودون لو أن أباه ترك له تجارته، وفرغ هو لما يعنيه من أمر دنياه وأمر دينه، ولكن أباه كان شديد النشاط لم يشعر بعد بالضعف، ولم يحتج بعد إلى الراحة، وهم خالد أن يعين أباه على تجارته، فلم ير من أبيه ابتهاجا بهذا العون، ولم ير من نفسه ميلا إلى التجارة، وكان له ابن عم لم نتحدث عنه إلى الآن - ويظهر أننا سنكثر الحديث عنه منذ الآن - كان له ابن عم يدعى سليما، توفي عنه أبوه محمد ولما يبلغ السنتين من عمره، فكفله عمه علي من بعيد، يقوم بحاجته ويشمله ويشمل أمه خديجة بالبر المتصل، ولكن خديجة توفيت عن ابنها ولما يتم العاشرة من عمره، فكفله علي من قريب، ضمه إليه، وأقره في داره، واتخذه لخالد أخا، فكان يقسم بينهما حبه وعطفه وبره، وتلقت أم خالد هذا الصبي لقاء حسنا، فبرته ورفقت به كما كانت تبر ابنها وترفق به، ورحم الله أم خالد! فقد كانت خيرة من جميع نواحيها، ولم تكن أم خالد إذا تحدثت إلى ابنها عن سليم تقول له: ابن عمك قال كذا أو كذا أو فعل كذا أو كذا. وإنما كانت تقول له: أخوك قال أو فعل.
وكان سليم يكبر خالدا بثلاثة أعوام، فكانت أم خالد تلقي دائما في روع ابنها أن سليما أخوه الأكبر وأن له عليه حق الكبير على الصغير، وقد أنفق خالد صباه وهو مؤمن بأن سليما أخوه، لم يتبين حقيقة الصلة بينهما إلا حين تقدمت به السن شيئا، ولكن ذلك لم يغير من سيرته مع سليم قليلا ولا كثيرا، أحبه دائما، وأكبره دائما، ووقره دائما، وآثره دائما على إخوته بعد أن كثروا، فلم يكن يولي أبناء العلات من إخوته وأخواته إلا ميلا قليلا وعطفا معتدلا، فأما سليم فقد كان له وده كله وإخاؤه كله، حتى كان الناس يضربون المثل بما كان بين هذين الشابين من تعاطف ومودة.
وقد تتابعت الأيام والأشهر والأعوام ومضى جيل من الناس وأقبل جيل، فلم يكد الجيل الطارئ يشك في أن خالدا وسليما أخوان أبوهما علي وأمهما تلك التي يقسم لها علي بعد أن ماتت يومها فيما يقسم من أيامه بين نسائه، وكان الشيوخ يبسمون في حنان ورضا إذا سمعوا أحاديث الشباب بذلك، وقلما كانوا يردونهم عن هذا الخطأ الذي يصور مثلا نادرا للمودة والإخاء. وقد بعدت الأسباب شيئا بين هذين الصديقين الأخوين حين بلغ سليم رشده وأسلم إليه علي ما ترك له أبوه، ولم يكن شيئا ذا غناء؛ فقد جد الفتى واجتهد وأصلح من أمره، واتخذ لنفسه زوجا أحبها وأحبته، وأقام مع امرأته في دار خاصة به مقصورة عليه، فآذى ذلك عمه بعض الشيء أول الأمر، ثم اطمأن إليه بعد ذلك، وكانت زبيدة زوج سليم معتدلة الجمال، ولكنها كانت خفيفة الروح كثيرة المرح والدعابة في براءة وطهر وخفر، وكانت أسباب المودة قد اتصلت بينها وبين نفيسة على ما كان بينهما من اختلاف في النشأة والتربية، ومن اختلاف في المنظر بنوع خاص؛ فقد نشأت في القاهرة، ونشأت مترفة في بيت ثروة وغنى، على حين نشأت زبيدة في المدينة وفي أسرة لا تكاد تبلغ الطبقة الوسطى من الناس. وكان الصديقان الأخوان سعيدين بهذه المودة المتصلة بين زوجيهما، ينتظران منها خيرا كثيرا، وآية ذلك أن «جلنار» لم تكد تبلغ الشهر السادس من عمرها حتى خطبتها زبيدة لابنها سالم، وكان سالم في الثانية من عمره، وتضاحكت المرأتان لهذه الخطبة، وقالت نفيسة لصاحبتها: إنك لتسيئين الاختيار لابنك، فأين أنت من سميحة وهي على ما ترين من جمال ورواء؟! قالت زبيدة ضاحكة: إن سميحة أكبر من سالم، وإني أرى البركة في جلنار، وإن اسمها يعجبني، فإنه من أسماء «الذوات»، وسيسعدني أن أسمع ابني يدعو زوجه، فيقول: يا جلنار. فأما سميحة فاسم بلدي كاسمك وكاسمي. وأي فرق بين سميحة وحميدة وخديجة. قلت لك: إني أخطب جلنار، ولن يتزوج ابني إلا جلنار. وكان الصديقان الأخوان قد جلسا غير بعيد، فلما سمعا هذا الحوار أعجبهما، قال خالد لسليم: أتسمع؟ قال سليم: أسمع. قال: أرضيت؟ قال سليم: رضيت. قال خالد: فامدد يدك ولنقرأ الفاتحة. فبسط سليم يده، وتصافح الرجلان وقرءا الفاتحة. ولم تشك الأسرتان منذ ذلك الوقت في أن سالما وجلنار زوجان، ولا سيما حين سمع علي هذا النبأ، فأقر الخطبة وبارك الخطيبين، ورفع الأمر إلى الشيخ فأقره ودعا للعروسين، وانتهى النبأ إلى عبد الرحمن في بعض زياراته للمدينة، فقال لسليم وهو يبتسم: فإن ابنك ابني منذ اليوم.
أقبل خالد ذات يوم بعد محنته على صديقه وأخيه، فتحدث إليه في شيء من أمن وثقة وقال له فيما قال: إنه ضيق بالحياة التي يحياها؛ فقد بلغ الخامسة والعشرين من عمره وليس له عمل يطمئن إليه ويكسب منه قوته، وقد تركت له أمه شيئا، ولكنه لا يدري أين هو فقد اختلط بمال أبيه، وأبوه لا يبقي على شيء، وقد أحب أن يعمل مع أبيه في التجارة فلم يجد من نفسه ولا من أبيه ارتياحا إلى ذلك، وهو لا يشكو من أبيه بخلا ولا تقتيرا، ولا يذكر أن أباه قد أنكر عليه تصريحا أو تلميحا هذه الحياة الفارغة التي يحياها، ولكنه هو ينكر هذه الحياة أشد الإنكار ويمقتها أعظم المقت، وقد أخذت أسرة أبيه تعظم وتمتد، وأخذ بنوه وبناته يكثرون، وما يحب أن يرزقه أبوه كما يرزق هؤلاء الصبية الصغار، أو كما يرزق هؤلاء النساء المحمقات.
قال سليم: أما انصرافك عن التجارة، فإني أراه الخير كل الخير؛ فليس لك ولا لي ولا لأمثالنا في التجارة أرب. إنا لم نخلق لها أو قل: إنا خلقنا لتجارة قد انقضى عهدها، ألا ترى إلى هذه المتاجر الجديدة! أين منها متجر أبيك ومتاجر أصحابه الشيوخ! صدقني! إن مثلك ومثلي من الشباب ينبغي أن يتخذوا لأنفسهم أعمالا جديدة. ألا ترى إلى هذه المناصب الحكومية الكثيرة في المديرية والمراكز والمحاكم والدائرة السنية؛ إن كثيرا من الشباب يأتون من القاهرة أو من أقاليم غير إقليمنا يعملون في هذه المكاتب والدواوين، فما لنا لا نعمل كما يعملون!
قال خالد: فإنا لم نهيأ لعمل الحكومة. قال سليم: فإنا نحسن القراءة والكتابة والحساب، ولسنا بالمغفلين ولا بالحمقى، وما أريد أن يكون أحدنا مديرا أو مأمورا، وإنما يكفيك ويكفيني منصب الكاتب في هذا الديوان أو ذاك؛ أما أنا فأحب أن أكون كاتبا في المديرية. قال خالد: وأما أنا فأحب أن أكون كاتبا في المحكمة الشرعية. قال سليم وهو يضحك: طبعا بين المفتي والقاضي والمأذون. قال خالد: بين العمائم على كل حال. ثم سكت الفتيان حينا، ثم قال خالد لصاحبه: إن هي إلا أحلام يا سليم؛ فقد علمت أن هذه المناصب لا تنال إلا بالواسطة. قال سليم وهو يضحك: ألستم تقرءون في أورادكم: «إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط.» قال خالد: لا تعبث بأورادنا فإني أخاف عليك عاقبة هذا العبث. قال سليم: فإني لا أعبث بشيء، وإنما أبحث عن الواسطة وقد وجدتها. قال خالد: وجدتها؟ وما عسى أن تكون؟ قال سليم: كلمة من شيخنا في أمرك وأمري إلى الباشا تبلغنا ما نريد.
ولم يأت المساء حتى كان الفتيان قد راحا إلى الشيخ، فأسرا إليه أمرهما، فلما استمع لهما صمت لحظة، ثم قال: أفعل إن شاء الله، ولكن استعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان. ولم تمض أيام حتى امتلأ قلب علي سرورا وبشرا، وأذيبت مقادير هائلة من السكر فسقيت للأغنياء والفقراء جميعا، وأقيم الذكر في بيت علي وذبحت الذبائح، وطعم الناس وكثرت قراءة علي لبعض الأدعية؛ لأنه خاف على نفسه وعلى ابنيه من حسد الحاسدين؛ فقد أصبح سليم كاتبا في المديرية يسعى بين الوكيل والمدير، وأصبح خالد كاتبا في المحكمة الشرعية يجلس بين القاضي والمفتي، ويتلقى من المأذونين صكوك الزواج والطلاق بين حين وحين، وقد رزق كل واحد منهما راتبا شهريا قدره أربعة جنيهات.
الفصل الحادي عشر
أنجز الشيخ وعده، فزار القاهرة وأقام فيها أسبوعا، وأكرم عبد الرحمن فنزل عليه ضيفا، وفرق أصحابه في المدينة تخفيفا على مضيفه؛ فقد كانوا أكثر من أن تسعهم دار واحدة. ولكنه استبقى معه خمسة أو ستة من أصفيائه الذين كان يحرص دائما على أن يلزموه. وقد أراد عبد الرحمن أن يئوي أصحاب الشيخ جميعا، ولكن الشيخ رده عن ذلك ردا عنيفا، وقال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. قال عبد الرحمن في شيء من الاستحياء: فالأمر لك يا سيدنا، ولكنك ستكرمني بأن تصلي ويصلي إخواننا عندي العشاءين، وبأن تقام في دارنا هذه حلقة الذكر. قال الشيخ: هو ذاك. ولم يكن معنى ذاك إلا أن تقام الولائم في دار عبد الرحمن مساء كل يوم يشهدها العشرات من الرجال، والعشرات الكثيرة، منهم من هبط إلى القاهرة مع الشيخ، ومنهم من كان يقبل لزيارة الشيخ من القاهرة أو من المدن والقرى المجاورة لها.
وقد نهض عبد الرحمن بهذا الحق كأحسن ما ينهض به الرجل الكريم؛ فكان إذا أصبح غدا خدمه الذين استأجرهم لهذه الفرصة على الشيخ وأصحابه بالطعام، ثم يخرج مع الشيخ وأصفيائه فيزورون الموتى في قبورهم والأحياء في دورهم، ويصلون الظهر في مسجد من مساجد أهل البيت، ثم يعودون إلى دار عبد الرحمن حيث ينتظرهم الغداء، إلا أن يكون الشيخ قد استجاب لدعوة بعض أصدقائه من علماء القاهرة وأغنيائها. فأما العشاء وصلاة الليل وحلقات الذكر فكان هذا كله قد أكرم به عبد الرحمن. والشيء الذي لا يشك فيه هو أن أتباع الشيخ - وما كان أكثرهم - لم يتحملوا نفقة ما أقاموا في القاهرة، بل لم يتحملوا نفقة منذ تركوا المدينة حتى عادوا إليها. فما كان الشيخ ليقبل أن يرزأ أحد من أصحابه في ماله قليلا أو كثيرا وهو يرافقه.
وكانت مجالس الشيخ في دار عبد الرحمن رائعة حقا، يمتلئ لها قلب المضيف غبطة وسرورا، فكان الشيخ إذ صليت العصر اتخذ مكانه في صدر هذا الفناء الذي كان ينبسط أمام الدار، وأخذ أصحابه يفدون فيجلسون من حوله حتى يمتلئ بهم هذا الفناء. وقد أحس أهل الحي أن في دار عبد الرحمن عيدا أو شيئا يشبه العيد، وأنه سيتصل ويمتد أياما، فكان أغنياؤهم وأوساطهم يقبلون ليشاركوا في هذا العيد من قرب، وكان فقراؤهم وذوو الحاجة منهم يقبلون ليشاركوا في العيد من بعد. يجتمعون جماعات متكاثفة خارج الدار وهم يذكرون الله ويسبحون بحمده وقد ينجم من بينهم الشيخ ذو الصوت الحسن فيغني لهم شيئا من شعر الصوفية، أو الفتى ذو الصوت العذب فيغني لهم شيئا من أغاني القاهرة. وكانوا على كل حال في فرح ومرح، يطربون هذا الطرب الغريب الذي هو مزاج من العبادة واللهو البريء معا. وكان الشيخ يعجبه ما يرى من ذلك وما يسمع، وكان كثيرا ما يقطع حديثه أو حديث بعض جلسائه ليصغي إلى هذا الصوت أو ذاك، وليسمع لما كان يبلغه من حديث القوم ولما كان يدعو إليه هذا الحديث غالبا من الضحك والصياح.
وكان زوار الشيخ من أهل المكانة في القاهرة يقبلون لزيارته، منهم من كان يقبل راكبا بغلته يسعى بين يديه غلام من غلمانه، ومنهم من كان يأتي راكبا عربة تجرها الخيول المطهمة. وكان مجيء هؤلاء الناس جميعا يثير في نفوس هذه الجماعات كثيرا من العجب وكثيرا من الرضا، وكثيرا من الفرح أيضا، ولم يكن بين هؤلاء الزائرين على اختلاف طبقاتهم ومراكزهم زائر إلا طرح كبرياءه وطبقته ومركزه عند باب الدار، ثم أقبل ساعيا متواضعا منخفض الرأس. فإذا دنا من الشيخ حياه ولثم يده، وجلس حيث يشير إليه الشيخ أن يجلس. وقليل منهم كان يستطيع أن يبدأ الشيخ بالحديث، وإنما كانوا جميعا يتخذون مجالسهم في صمت، ويستقرون فيها لا يأتون حركة، ولا يديرون ألسنتهم في أفواههم، إلا أن يدعوهم الشيخ إلى شيء من ذلك بما يلقي عليهم من سؤال أو يسوق إليهم من حديث.
وكانت نفس الشيخ تصفو في مجلسه هذا للناس جميعا صفاء ممتازا، يصل إلى قلوبهم فيملؤها حبا وإكبارا. وكان صوته يعذب عذوبة رائعة تخلب أسماع الذين يحيطون به ويصغون إليه. وكثيرا ما كان الشيخ يفاجئهم مفاجآت تملأ قلوبهم روعة وإيمانا، فهو يتحدث إلى فلان أو فلان من جلسائه في شئونه الخاصة أو في الشئون العامة، ولكنه يقطع حديثه فجأة ويطرق إطراقة خفيفة، ثم يرفع إلى الناس وجها مشرقا كأنه القمر، ويقول في صوت مرتفع شيئا: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان، ويمضي بسنده متصلا حتى يبلغ النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم يروي حديثا طويلا أو قصيرا، ثم يأخذ في تفسيره وتأويله في لهجة المؤمن الصادق، ولغة الرجل الذي يعرف كيف يصل إلى قلوب الناس ويبلغ أفهامهم، على ما يكون من اختلاف حظوظهم في الثقافة والعلم، وإذا القلوب تخفق، وإذا النفوس تذعن، وإذا دموع تنهل، وإذا عبرات تحتبس في الحلوق، والشيخ ماض في حديثه وتفسيره، حتى إذا بلغ من ذلك ما يريد ألقى على جلسائه نظرة تحيط بهم جميعا وتلا قول الله عز وجل:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون . ثم يطرق لحظة، ثم يرفع رأسه، ويتلو الآية الكريمة:
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما . ثم يرفع صوته بهذه الكلمات وجلساؤه معه: «اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون.» وإذ ذاك يكون المؤذن قد دعا إلى صلاة المغرب، فينهض الشيخ وهو يقول: المغرب جوهرة فالتقطوها. فإذا صلى وصلى الناس معه ودعا فقصر في الدعاء، مشى إلى المائدة ومشى معه الضيف جميعا. وقام عبد الرحمن كأنه الجني يشرف على طعامهم داخل الدار، وعلى عشاء هذه الجماعات المتكاثفة خارج الدار، وينفق أولئك وهؤلاء في طعامهم وأحاديثهم وقتا غير قصير. ثم يدعو الشيخ عبد الرحمن ويسأله باسما: ألا تظن أنه قد آن لك أن تستريح؟ فيقول عبد الرحمن: وأي راحة آثر عندي من هذا! ولكن صلاة العشاء قد وجبت يا سيدنا. يقول الشيخ: الليل كله وقت لصلاة العشاء، ثم ينهض مع ذلك متثاقلا فيخطو خطوات لا يلبث بعدها أن يسترد نشاطه ويعود شابا فتيا، وإذا هو يقيم الصلاة ويؤم الناس، فإذا أتم الفريضة أكثر من التنفل، ثم يتحول عن القبلة ويأخذ في بعض الحديث ساعة أو بعض ساعة يستخفي أثناءها عبد الرحمن فلا يراه أحد. ثم ينظر الشيخ فإذا عبد الرحمن ماثل بين يديه، فيقول: الآن أقيموا حلقة الذكر.
ولم يعرف عبد الرحمن في حياته كلها سعادة كالتي عرفها في هذا الأسبوع، ولكنه لم يعرف في حياته كلها شقاء كالذي عرفه بعد أن قفل الشيخ وأصحابه راجعين إلى المدينة. فقد كان حق هذه الزيارة الكريمة المباركة أن تتم قبل أعوام طويلة حين كانت تجارة عبد الرحمن الضخمة رابحة، وحين كانت ثروته العريضة نامية. فأما في هذه الأيام التي كسدت فيها التجارة وتضاءلت فيها الثروة، وثقل فيها الرجل عن السعي وضعف عن احتمال الهم الملح والجهد الثقيل، فإن هذه الزيارة الكريمة المباركة قد تملأ قلب المضيف غبطة وسرورا، وقد تشيع ذكره والثناء عليه، وقد ترفع مكانه في الجنة درجات، ولكنها بعد هذا كله تكلفه من النفقة ما لا طاقة له ولا قدرة له عليه. وقد جد الرجل مع ذلك حتى نهض بالحق، وأدى ما استتبعه هذا الأسبوع من دين. ولكنه لم يكد يفرغ من ذلك حتى أحس الجهد وبلغ منه الإعياء، فلزم داره ولم يبرحها إلا حين دعي إلى رضوان الله بعد شهور.
الفصل الثاني عشر
لم تعرف المدينة قط عاما كهذا العام، امتلأ فيه شهر الصوم بالخير والبركة وبالحب والتواصل، وبذكر الله والعكوف على طاعته، حتى لم يشك الفقير فقرا، ولم يحس البائس ضرا، ولم يجد الغني غرورا بثروته ولا فتنة بماله وجاهه. إنما شاع في المدينة شيء من الدعة والأمن والأمل والرخاء، فصام الناس مخلصين لله في صومهم، وقد اطمأنوا جميعا إلى أنهم سيفطرون إذا وجبت الشمس كما لم يتعودوا أن يفطروا، وسيؤدون صلاتهم على أحسن ما تؤدى الصلاة، وسيسمعون القرآن كأحسن ما تكون تلاوته وترتيله، وسيعودون إلى بيوتهم فينامون نوما هادئا مطمئنا ليستقبلوا يوما راضيا سعيدا.
وكان الشيخ مصدر هذا كله؛ فقد عاد من القاهرة في هذا العام كما تعود أن يعود من أسفاره، فاحتجب عن أصحابه ثلاثة أيام. ثم ظهر لهم في اليوم الرابع، فقال لهم وسمع منهم، ولكنه قال لهم أثناء السمر: قد أظلنا شهر الصوم. ثم التفت إلى خالد وقال ضاحكا: وما أرى قاضيك إلا سيأمرنا بالصوم بعد غد. ثم أطرق ساعة ورفع رأسه وقال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما. وما أرى أنه سيغم علينا غدا، وما أرى أننا سنكمل شعبان ثلاثين يوما. سنصوم بعد غد إذا، فأذنوا في الناس ، وليبلغ القريب منكم البعيد في المدينة أن من شاء أن يكرمني فهو ضيفي أثناء الصوم كله. فلما سمع جلساء الشيخ حديثه هذا وجموا له شيئا كأنهم يعجبون لما سمعوا، وينكرون هذه الدعوة العامة.
ولكن الشيخ قال في تؤدة وهدوء: إن الذين صحبوني منكم إلى القاهرة يعلمون أن يدي لم تمتلئا قط بالخير والنعمة كما امتلأتا في هذه الرحلة. والذين لم يصحبوني إلى القاهرة قد رأوا من غير شك هذه السفن الكثيرة الموقرة التي ألقت مراسيها على الشاطئ وأرسلت إلي ما كانت تحمل من أنواع الهدايا وضروب البر. ولست أدري ماذا أصاب الناس في هذا العام؛ فقد مرضوا كلهم بالكرم، وحرصوا كلهم على أن يعطونا مما أعطاهم الله، فاجتمع لنا من ذلك ما لا نستطيع أن نستنفده إلا أن يشاركنا الناس فيه، وإنما هو مال الله، فيجب أن يرد إلى الله. وهم بعضهم أن يتكلم، فابتدره الشيخ قائلا: هون عليك! فإنا لم نكن ننتظر هذا الخير لنكفل لإبراهيم بعدنا حياة راضية، وإبراهيم بعد خليفتي فيكم، وأنتم أوصيائي عليه. هنالك ارتج مجلس الشيخ وضج الناس بالبكاء، والشيخ ينظر إليهم باسما ويتلو السورة الكريمة:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا . ثم يقول بعد إطراقة خفيفة: لقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المنام، وقد قال الغزالي إن النبي لا يرى في المنام. والله ما هكذا كان الأمل فيك يا غزالي! لقد رأيته بعيني رأسي هذا راكبا بغلته. وسمعته يتلو هذه السورة في صوت ما سمعت قط صوتا يشبهه حلاوة وعذوبة. فلما أفقت من نومي ذكرت أن الله عز وجل نعى إلى سيد الخلق نفسه حين أنزل عليه هذه السورة، فأولت رؤياي هذه كما أول سيد الخلق نزول السورة عليه. ثم سكت وأطرق، وسكت القوم مثله وأطرقوا كأن على رءوسهم الطير، ثم رفع رأسه قائلا:
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت . صدق الله العظيم.
فلما كان الغد امتلأت المدينة وما يليها من القرى والضياع بأن الناس جميعا ضيف الشيخ أثناء شهر الصوم. واستجاب الناس جميعا لدعوة الشيخ. فأما أغنياؤهم فكانوا يبتغون البركة والكرامة ويؤثرون رضا الشيخ، وأما فقراؤهم وذوو الحاجة منهم فكانوا يؤثرون البركة والكرامة ويؤثرون إرضاء حاجاتهم أيضا. ويقول بعضهم لبعض: إن بركة الشيخ لشاملة، سنصوم هذا العام دون أن نشقى بالعمل أثناء الصوم، ودون أن ننتظر معونة تأتي أو لا تأتي من القادرين.
وكان الشيخ وخاصته يتتبعون أصحاب الأسر من أوساط الناس وفقرائهم فيكرمونهم في بيوتهم لا تنقطع عنهم مئونة الشيخ، تأتيهم مصبحين وممسين. ولولا أن الباشا كان من أتباع الشيخ ومريديه والمؤمنين له المطمئنين إليه لشك في هذا الكرم، ولأشفق من عواقبه على السلطان. ولكن الباشا نفسه كان من أسرع الناس استجابة لدعوة الشيخ وأكثرهم ترددا على مائدته. ولم يهمل أن يدعو الشيخ إلى قصره مرتين، ولم يهمل الشيخ أن يستجيب لهذه الدعوة كما تعود أن يفعل، وأن يستكثر من الأصحاب والأتباع، ويقول للباشا: فأما وقد دعوتني فسأرزؤك في مالك رزءا عظيما. ولم يكن الشيخ يهمل أن يزور الأغنياء من أهل المدينة، ويستجيب لهم إذا دعوه، فيفطر على موائدهم ويصلي عندهم العشاء والتراويح، ويسمع لقرائهم. وكان الشيخ قد دعا قراء المدينة جميعا ليقرءوا في داره وفي دور أصحابه، حتى لم يدع منهم قارئا حسن الصوت إلا ضمن له تلاوة القرآن أثناء شهر الصوم، وحتى احتاج إلى أن يدعو قراء من المدن القريبة يقرءون عنده. ولم يدع أثناء هذا الشهر أحدا من أصحابه إلا اختصه بشيء من حديث.
وفي ذات ليلة كان يتحدث بين سورتين من سور القرآن، والخدم يطوفون بقهوة البن والقرفة على جلسائه، وإذا هو يقطع حديثه فجاة وينظر إلى اثنين من أصحابه كانا يتحدثان، أحدهما علي أبو خالد، والآخر رجل من أصفياء الشيخ ومن أغنياء الريف القريب يقال له الحاج مسعود. نظر إليهما نظرة نافذة قطعت حديثهما وردتهما إلى الصمت، وقال لهما: فيم تتحدثان؟ فهم علي أن يجيب ، ولكن الشيخ لم يمكنه من الجواب، وإنما قال: استمع لي يا مسعود! احذر صديقك عليا هذا، إنه يدور حولك لتزوجه إحدى بناتك؛ فلا تفعل فإنه مزواج مطلاق، ولكن عليك بابنه خالد؛ فإن فيه البركة وعنده الخير، وما أرى إلا أنه سيصهر إليك وسيخطب صغرى بناتك. إني ما زلت أذكرها، إنها لخيرة مباركة، فإن فعل فلا ترده خائبا، وإن لم يتح لي أن أزوجهما فسيزوجهما ابني إبراهيم. فأما علي فبهت وضحك ضحكا سخيفا. وأما الحاج مسعود فنهض من فوره وسعى إلى الشيخ فقبل يده وبللها بدموعه، وكان رجلا رقيق القلب بكاء، وقال في صوت تقطعه العبرة: بل يبقيك الله ويطيل عمرك يا سيدنا وتزوج سائر بناتي كما زوجت من تزوجت منهن. قال الشيخ وهو يضحك: يا غلام! قهوة سوداء للحاج مسعود، فما يرقئ عبرته هذه إلا القهوة السوداء. اجلس يا مسعود، بارك الله عليك وبارك لك في بناتك وفي ذريتك، ثم استأنف حديثه من حيث قطعه وجلساؤه يرون ويسمعون ويعجبون ويقول بعضهم لبعض: لقد نالها الحاج مسعود! من يعدل الحاج مسعود! ليتني مسعود!
على أن شهر الصوم لم ينته دون أن يحمل إلى الشيخ وإلى أصحابه نبأ محزنا؛ فقد جاءهم من القاهرة نعي عبد الرحمن قبل أن ينقضي الشهر بثلاثة أيام. فلما أقبل علي يحمل النبأ إلى الشيخ بكى واسترجع وقال: تبارك الله! لقد كنت أظن أني سأسبقه فقد سبقني. ثم سكت لحظة واستأنف حديثه فقال لعلي وابنه خالد: فإنكما تذكران ما أعطيت عنكما من العهد. قالا: نعم. قال: فاذهبا إلى القاهرة فأديا الواجب، وضما إليكما نفيسة وابنتيها وأمها. ثم التفت إلى علي وقال له كالساخر منه الراثي له: ولا تنتظر مالا يا علي فقد أتينا على مال عبد الرحمن كله حين زرناه، وانصرف الآن فإن لي مع خالد حديثا لا أحب أن تسمعه ولا أن ينبئك به. قال علي وهو ينتحب: فإنك ساخط علي يا سيدنا؟ قال الشيخ: أعوذ بالله من ذلك! وإنما أريد أن أتحدث إلى خالد حديثا لا ينبغي أن يعلمه غيره، انصرف مصاحبا. قال علي: سأنصرف طاعة لأمرك، ولكني لست راضيا. قال الشيخ: سترضى. وخرج علي متثاقلا كالخزيان. فلما خلا الشيخ إلى خالد، قال له: ستكون برا بنفيسة وأمها يا بني. قال خالد: فقد أعطيت على ذلك عهد الله يا سيدنا، وأنا أجدده. قال الشيخ: وأول البر بها أن تطلقها. فوجم خالد لهذا القول، ولكن الشيخ مضى يقول: إنها لا تصلح لك زوجا، ولا تصلح زوجا لأحد، وما ينبغي لها أن تحمل ولا أن تلد، فطلقها فتحسن إليها وإلى نفسك. إنك ستتزوج، وستتزوج من بنت مسعود، وستتزوجها بعد عام أو عامين، لأنها لم تبلغ طور الزواج بعد. فإذا تزوجتها فلا تفرض عليها ضرة، فإنها لن تحتمل الضرائر، ولا تمسك نفيسة في هذا الزواج العقيم، ولا تكلف نفسك عدلا لا تطيقه وقلما يطيقه الناس. طلق نفيسة يا بني واضممها مع ذلك إلى أهلك، وسر معها سيرتك مع أختك، واستقبل حياتك مباركا موفورا. وترحم علي كلما أصابك خير، واستغفر لي كلما امتحنتك الأيام بما تكره فإني لم آلك نصحا. ثم مسح رأسه وقبل بين عينيه وقال: انصرف راشدا، فسنصلي ونقيم الذكر، وسنذكركم في صلاتنا ودعائنا، وسنستنزل رحمة الله على عبد الرحمن.
وأتمت المدينة شهر الصوم كما بدأته سعيدة راضية، واستقبلت عيد الفطر هانئة ناعمة، ولكنها ارتجت وارتج معها الإقليم كله في اليوم الثالث من أيام العيد؛ فقد صلى الشيخ بأصحابه المغرب، حتى إذا أتم الركعة الثالثة وجلس للتشهد لم يرع الناس إلا أن رأوه يكب على وجهه قبل السلام، فيسرعون إليه فإذا هو قد صار إلى رضوان الله. ومنذ ذلك الوقت لم يشك أحد من أهل المدينة ولا من أهل الإقليم في أن الله قد آثر الشيخ بهذه الكرامة، فنقله إلى جواره أثناء الصلاة، وأقره في جنته بين الصديقين والشهداء.
الفصل الثالث عشر
صلى إبراهيم بأصحابه العشاء وسمع معهم القرآن وأقام لهم حلقة الذكر. فلما هم الناس أن يتفرقوا استبقى أصفياء أبيه، حتى إذا خلا لهم المجلس قال لهم في صوته الهادئ: تعلمون أن الشيخ رحمه الله كان قد أزمع الحج من عامه هذا، وكان عليه حريصا يريد أن يتم الحجة السابعة، ولكن الله آثره برحمته قبل أن يبلغه هذه الأمنية. وقد استخرت الله ورأيت أن أتم له ما لم يتح له، فأنا مستعد للحج إذا كان الغد، وواهب ثواب هذه الحجة إن أثابني الله عليها للشيخ. فمن أراد منكم أن يحج معنا فليتجهز من غده، ومن كان ذا عيلة فإن علينا نفقته؛ فقد ترك الشيخ لنا خيرا كثيرا. ثم أطرق إطراقة ورفع رأسه وقال: وتحدثوا بذلك إلى من شئتم من أصحابكم والذين يلونكم؛ فإني لا أكره أن يكثر الحج على اسم الشيخ، وأن أعين على أداء هذه الفريضة من عجز عن أدائها. فماذا ترون؟ قالوا كلهم: إنما رأيت رشدا، وقد خار الله لك فيما ألهمك، وكلنا متجهز للحج من غده، وكلنا واهب ثوابه للشيخ إن أثابه الله.
وكان أسرعهم إلى الجواب مسعودا؛ فقد حج مع الشيخ ست مرات، وكان مزمعا أن يحج معه السابعة، فلما توفي الشيخ فترت همته عن النفير. وها هو ذا يسمع ابن الشيخ يستأنف حديث الحج، فلا تسل عما ملأ قلبه من رضا وما شاع في نفسه من حبور. ولكن الدموع كانت تترجم دائما عن سروره وحبوره، كما كانت تترجم دائما عن خشيته لله وخوفه منه، وكما كانت تترجم دائما عن تأثر قلبه حين كان يسمع صوتا حسنا يتلو القرآن أو يغني في الحلقة بشعر ابن الفارض. فأما خطوب الدهر وأحداث الدنيا وهذه المصائب التي تلم بالناس فتفزعهم وتروعهم فقد كان يلقاها بقلب جلد ونفس ثابتة وعين شديدة البخل بالدمع. ولم يكن يبكي لأمر من أمور الدنيا إلا أن يرزأ في ولد أو صديق، فتزرف عيناه دموعا غزارا وقتا قصيرا، كأنهما السحابة، لا تكاد تجود ببعض مائها حتى تقلع، وإذا هو يتوب إلى الله ويستغفره، ويلوم نفسه لأنها بكت على أمر من أمور الدنيا، وليس في أمور الدنيا ما يستحق البكاء. على أن عبرته لم تكد ترقأ منذ توفي الشيخ؛ وأكبر الظن أنه لم يكن يرى في وفاة الشيخ خطبا من خطوب الدنيا، وإنما كان يرى فيه خطبا عظيما من خطوب الدين؛ فقد كان الشيخ رحمه الله مثلا رائعا للتقوى والورع، وداعيا صادقا إلى الله ورسوله، لا يكاد يدعو حتى تهرع إليه القلوب وتذعن له النفوس، ولا ينصرف المستمعون له إلا وقد زاد مؤمنهم إيمانا، وأقلع جاحدهم عن جحوده، وهم مقصرهم في ذات الدين أن يستدرك ما فات إن استطاع، وأن يستأنف حياة فيها رشاد وخير.
وكان الحاج مسعود مشفقا أشد الإشفاق أن يقصر إبراهيم عن غاية أبيه؛ فقد كان يرى منه في حياة الشيخ فتورا ونفورا وإقلالا من التردد على مجالس الشيخ وحلقات الذكر. وكان يحدث نفسه في كثير من التردد والخوف بأن إبراهيم قد أطال المقام في القاهرة، والاختلاف إلى الأزهر، والاتصال بشيوخه. ولم يكن مسعود ينفر من شيء نفوره من الأزهر وشيوخه؛ فقد سمع منهم وتحدث إليهم، ورأى فيهم ميلا إلى التأويل وإقبالا على التكلف، وربما رأى من بعضهم ازورارا عن الشيخ؛ فكان هذا كله يسيء ظنه في الأزهر والأزهريين، ويملأ نفسه إشفاقا على إبراهيم من لزومه لحلقات الدرس واستماعه لهؤلاء الشيوخ الأعلام. وقد اجترأ مرة على الشيخ فقال له في لهجته القروية التي لم تكن تخلو من عنف حلو: ألا تنبئني فيم ترسل ابنك إلى القاهرة ليطلب العلم في الأزهر وعلماء الأزهر يتكلفون الرحلة إليك ليأخذوا قليلا من علمك، ومنهم هؤلاء الثلاثة الذين يلزمونك منذ أعوام لا يفارقونك، والذين تشتد عليهم في تأديبك لهم، وتأخذهم بالعنف أكثر مما تأخذهم بالرفق وهم راضون بذلك متهالكون عليه؟! فهلا أمسكت ابنك وعلمته مما علمك الله وأدبته كما تؤدب هؤلاء النفر، وأعددته لخلافتك في أصحابك كما أعدك شيحنا لخلافته فينا؛ وهنا تحطم صوته وانهلت دموعه. فرحمه الشيخ وقال ضاحكا: ما أنت وذاك يا مسعود؟ أتراني كنت ابنا للشيخ؟ قال مسعود: لا. قال الشيخ: أترى أن قد كان لشيخنا أبناء؟ قال مسعود: نعم. قال الشيخ : ومع ذلك فقد صرف خلافته عن أبنائه وآثرني بها، فما يدريك أن ابني سيكون خليقتي فيكم؟ وهؤلاء الثلاثة الذين تتحدث عنهم لقد وعوا علم الأزهر كله، ثم جاءوا يطلبون ما عندي من العلم، فدع إبراهيم يحفظ من علم الأزهر مثل ما حفظوا، ولك علي أن أكون بتعليمه هنا حفيا، وأن أعنف به في التأديب كما أعنف بهؤلاء النفر إن رأيت فيه صلاحا لذلك الأمر وقدرة على النهوض به. فلما رأى مسعود أن إبراهيم لم يكد يتم الأسبوع الأول بعد وفاة أبيه حتى فكر في الحج ودعا إليه، ولم يفكر في الحج لنفسه، وإنما يفكر في الحج لأبيه، رضيت نفسه واطمأن قلبه وسالت دموعه على لحيته غزارا. وابتسم الشيخ الشاب له كما كان يبتسم له أبوه من قبل، وقال: كفكف دمعك يا مسعود، ألا يمكن أن تنفق ساعة لا تذرف فيها دمعا، ثم التفت إلى رجل من أصفيائه كان في آخر المجلس لم يظهر نشاطا شديدا للحج، وإنما أجاب كما أجاب الناس، ولم يكن هذا الرجل إلا عليا، التفت إليه إبراهيم وقال: أما أنت يا علي فمتخلف عنا. قال علي: وكيف ذاك؟ أتأمرني بالتخلف؟ قال الشيخ الشاب: لا آمرك به، ولكن أنبئك بما سيكون من أمرك، ستهم كما يهم غيرك حتى نرى أنك مسافر معنا، ثم نفتقدك فلا نراك، ثم تعتذر إلينا إذا انقلبنا؛ لأنك قد شغلت بمالك وأهلك. فإن استطعت أن تعتذر منذ الآن فافعل، ولا تكلف نفسك مشقة لا تغني، ثم تضاحك وقال: إنك حديث عهد بزواج. وكاد علي يغضب ولكن كيف يكون الغضب على الشيخ، إنما يغضب الشيوخ على مريديهم. وقد كظم علي شيئا في نفسه وانصرف مترددا لا يدري أيقدم على الحج أم يحجم عنه.
ولم يكن الشيخ مخطئا فيما قدر من أمر علي، فقد كان حديث عهد بالزواج، يتزوج للمرة الثامنة بعد أن طلق من نسائه من طلق. وكانت عرسه في هذه المرة فتاة لم تبلغ العشرين، وكان بها مفتونا وبحبها متيما. فكأن الذي أغراه بهذا الزواج هو شيخه رحمه الله حين عبث به ذات ليلة، وقال لمسعود: إنه سيخطب إليك إحدى بناتك، فلا تزوجه إن فعل، وعليك بابنه خالد، فإن فيه بركة وخيرا؛ هنالك ضحك علي ضحكا سخيفا وانصرف وفي نفسه شيء، ولكنه لم ينقطع عن التفكير في أن يتخذ لنفسه زوجا شابة. ألم يكن قد طلق زينب، ولم يمسك في داره إلا خديجة ومحبوبة، وذكرى أم خالد؛ فله الحق في زوج رابعة. وقد بحث عن زوج رابعة، فما أسرع ما اهتدى إليها عند بعض عملائه من تجار المدينة، وكان رجلا متواضعا ضئيل التجارة. فلما سعى إليه علي ذو المكانة والجاه خاطبا ابنته «هناء»، رأى في ذلك شيئا من الشرف وارتفاع القدر، فقبل خطبته راضيا، وزوجه مغتبطا، ولم يفكر في أنه يهدي هذه الفتاة التي لم تبلغ العشرين إلى شيخ قد ناهز الستين.
على أن «هناء» لم تلبث أن استأثرت بعقل الشيخ وقلبه، وتحكمت فيه تحكما لم يعرفه قط من إحدى نسائه، وكادت تصرفه عما فرض على نفسه من العدل بين أزواجه لولا أنه أخذ نفسه بالعنف واشترى رضا «هناء» عن هذا العدل بكثير من الهدايا والمنح، فأحفظ ذلك زوجيه الأخريين، وجعل منزله جحيما، ولكنه احتمل هذا الجحيم، وكان خليقا أن يحتمل أضعافه في سبيل «هناء».
ويجب أن نعترف بأن «هناء» على سحرها وطغيانها لم تستطع أن تغير من سيرة علي مع ذكرى أم خالد قليلا ولا كثيرا. ولولا ما كان من موت عبد الرحمن وسفر علي إلى القاهرة مع ابنه خالد، ثم ما كان من موت الشيخ فجأة لتحدث علي إلى الشيخ بهذا الزواج، أو لتندر الشيخ على علي في شأن هذا الزواج. وهذا الشيخ الشاب يعبث بعلي على هذا النحو، فيثير في نفسه شيئا يريد أن يكون غضبا، ولكنه يستحي أن يسمي نفسه بهذا الاسم، فلنسمه نحن فتورا. وكان فتورا ثقيلا حقا؛ فقد أصبح علي وقد صمم على ألا يتجهز للحج، فهو مشغول بأهله حقا. ألم يتزوج منذ أسابيع؛ فما تركه لامرأته أشهرا ! وإلام يصير الأمر بين أزواجه إذا تركهن؟ وهو مشغول بماله، فتجارته متأخرة كما رأيت. وقد صدق الشيخ حين قال له: لا تنتظر أن يترك لك عبد الرحمن مالا. فلم يترك عبد الرحمن مالا، وإنما ترك أربع نسمات قد نقلن إلى المدينة ليعشن في كنف علي وابنه خالد. وسيحتجن إلى نفقة من غير شك، وستزداد أعباؤه ثقلا، فلا بد من أن يعمل، ويعنى بتجارته لينهض بهذه الأعباء. وليس من شك في أن خالدا يعينه على بعض أمره منذ أصبح موظفا. ولكن أين تقع معونة خالد من هذه البطون التي لا تمتلئ والأفواه التي لا تشبع، ومن هذه الدار التي كان يشبهها علي بجرة لا قعر لها، فلا سبيل إلى أن تمتلئ؛ وأمسى علي من يومه ذاك، فصلى مع الشيخ، وشهد معه حلقة الذكر.
فلما تفرق الناس أقبل على الشيخ مستخذيا وهو يقول: لقد أنبأتني بالحق أمس يا سيدنا. قال الشيخ: ألم أقل لك إنك لن تستطيع أن تنفر معنا؟! فأصلح من أمرك وانصح لأهلك ومالك، وأقم على طاعة الله وابتغاء مرضاته، وفكر في أنك لم تؤد فريضة الحج بعد، وفي أن من الحق عليك أن تؤديها. وإني لأرجو إن أتاح لي الله حياة أن أحج لنفسي من قابل، فاجتهد في أن تصحبني في هذه الحجة. وخرج علي راضيا كل الرضا؛ فقد قبل الشيخ عذره من غير مشقة، وفتح له بابا واسعا من أبواب الأمل؛ فليصلحن من أمره، وليحسنن تدبير ماله، وليحجن مع الشيخ في العام المقبل، بينه وبين ذلك عام كامل تهدأ فيه ثورة الحب هذه التي كادت تفسد قلبه، وكادت تجعله عبدا لهذه الفتاة التي تسمى «هناء». إنها لهناء كاسمها، إن وجهها لجميل مشرق، وإن لها لقواما معتدلا. وإنها لتحسن العناية به والحنو عليه، وإنها لتلقاه بابتسام حلو شاب لم يعهده عند غيرها من النساء، وإن صوتها ليقع من قلبه موقعا عذبا كأنه قطرات الندى. ويروح على «هناء»، فإذا دخل وجدها ساهرة تنتظره، ولكنه لا يلتفت إليها ولا يلقي إليها حديثا، وإنما يستقبل القبلة فيركع ركعتيه، ويتمتم بدعائه القصير، ويأوي إلى فراشه وهو يتلو آية الكرسي، ثم يبتسم لزوجه ويقول: لقد كدنا يا هناء أن نفترق أشهرا، ولكن الشيخ أذن لي في أن أؤجل الحج عاما.
الفصل الرابع عشر
وعاد علي وخالد بنفيسة وابنتيها من القاهرة بعد أن نظما ما كان قد ترك عبد الرحمن من اضطراب قليل، وأديا من ماله ما أعجله الموت عن أدائه من الدين. ونظرا فإذا هاتان المرأتان لم ترثا عن عبد الرحمن إلا داره الفخمة هذه، ودنانير يمكن أن تحصى في غير مشقة ولا جهد، وقد تحدث علي في أن يبيع هذه الدار، فبكت نفيسة ولم تقل شيئا، وقالت أمها: لو عاش عبد الرحمن ما بيعت الدار، فأعرض علي عن هذا الرأي. وتحدث من الغد عن تأجير الدار، فبكت نفيسة، وقالت أمها: وترضى أن يسكن هذه الدار غير عبد الرحمن؟! وأين تنزل وينزل خالد حين تأتيان إلى القاهرة؟! وأين ننزل نحن إن أتيحت لنا العودة إلى القاهرة؟! ثم التفتت إلى خالد وقالت: فستأذن لنا بأن نأتي إلى القاهرة لنزور قبر عبد الرحمن؟ قال علي: سنأتي إلى القاهرة جميعا لنزور قبر عبد الرحمن. ثم أعرض عن تأجير الدار. وتهيأ القوم للسفر، وأغلقت الدار. وجعلت أم نفيسة والعربة تمضي بها تلتفت وتطيل النظر إلى دارها لا تقول شيئا، حتى إذا انعطفت بها العربة في بعض الطريق، ولم تبق سبيل إلى رؤية الدار، اعتدلت المرأة في مجلسها، وقالت لخالد: فأين مفتاح الدار؟ فإني أحب ألا يفارقني. هنالك دفع إليها خالد مفتاحها وإن شفتيه لتبتسمان وإن قلبه ليتقطع حزنا.
وقد أقر علي هاتين المرأتين وهاتين الصبيتين في جناح من داره منعزل يوشك أن يكون دارا مستقلة، وكان حريصا أن يقرهن في هذه الناحية ليعشن بمعزل عن هذه الضوضاء التي تمتلئ بها داره، والتي تأتي من نسائه المختصمات دائما، ومن بنيه وبناته الذين لم يكونوا يعرفون السكون، وقال خالد لأبيه وهما يتحدثان في ذلك: إنه لرأي صائب، سيكن مستقلات أو كالمستقلات، ولن ترى نفيسة السلم فليس في هذا الجناح سلم، ولن تلقى جنية البيت هذه المجرمة التي تسكن حنايا السلم وتسعى بالفساد بين الأزواج. قال ذلك وهو يضحك ضحكا حزينا. قال علي: وستقيم معهن. قال خالد: أما هذه فلا؛ فإن نفيسة لا تصلح لي زوجا ولا تقدر على عشرتي. ألم تر إليها تحتجب من دوني؟! إنها لا تكاد تعلم بمقدمي حتى تلقي على رأسها ووجهها ما يسترهما، وإنها لا تتحدث إلي إلا همسا ومن طرف لسانها، وإني لأوجه القول إليها فلا تملك أن تجيبني، وما أكثر ما تجيبني عنها أمها وابنتاها، وسأزورهن بين حين وحين، وسأنهض بما لهن علي من حق حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وكذلك أقام هؤلاء النسوة في طرف من أطراف الدار، لا يكدن يسعين إلى أهلها، ولا يكاد أحد من أهلها يسعى إليهن، وكانت لأم خالد أمة سوداء قد أعتقها القانون، ولكنها ظلت وفية لمولاتها، فلما ماتت وفت لسيدها خالد ووفى لها خالد، فكانت تقوم على العناية به والإصلاح من أمره، ولم يكن خالد يألف من هذه الدار الواسعة وبين هذه الأسرة الضخمة إلا شخصين اثنين هما: أبوه - ولم يكن يلقاه إلا قليلا - ومولاته نسيم، وكانت تتلقاه مصبحة بما يحتاج إليه، وتتلقاه ممسية بما يحتاج إليه، وتعكف على نفسها بين ذلك في الدار لا تحفل بأحد ولا يحفل بها أحد. فلما حمل هؤلاء النسوة من القاهرة وأقررن في طرف من أطراف الدار، قال خالد لنسيم: إن كنت تحبينني، وإن كانت في نفسك بقية من الحب لمولاتك، فقومي على العناية بهؤلاء النسوة وامنحيهن من حبك وبرك مثل ما تمنحينني، ولا تشغلي نفسك بي فإني أحسن تدبير أمري. قالت نسيم وهي تضحك: تحسن تدبيرك أمرك - وكانت تنطق الحاء هاء - وأنت لا تحسن أن تجد ثيابك ولا أن تلبسها إلا أن تهيئها لك نسيم؛ تحسن تدبير أمرك! ومن يقدم إليك القهوة؟! ومن يقدم إليك غداءك وعشاءك؟! ثم ضحكت له بوجه كأنه وجه القرد، ولكنه على ذلك كان جميلا في عين خالد، يجمله ما كان يغمره من حب وحنان. ضحكت له وقالت: سأخدمهن كما أخدمك، فإني كنت أقضي يومي وليلي فارغة لا أعمل شيئا، فقد أصبح لي عمل منذ الآن.
ولم تكد نفيسة تراها حتى اطمأنت إليها، ووثقت بها الصبيتان وأحبتهما هي أشد الحب، فما أكثر ما تمنت أن يكون لها ولد تعنى به، فقد أرسل الله إليها ابنتين تعنى بهما.
ثم يعود الشيخ من حجه بعد أشهر، ويهرع أهل المدينة وأهل الإقليم إلى لقائه مقبلا، وإلى زيارته وتحيته بعد أن استقرت به الدار. ويسعى علي إليه فيمن يسعى، فيلقاه الشيخ أحسن لقاء، ويدفع إليه سبحة ضخمة الحبات وهو يقول له: لقد ذكرتك في مكة واستغفرت لك، وسألت الله لك عفوا وعافية في المسجد الشريف، وأنا أهدي إليك هذه السبحة على شرط ألا تفارقك عن إرادة منك، وعلى شرط أن تدير ذكر الله عليها مرة في كل يوم وتهب ثواب هذا الذكر لوالدي رحمه الله. فيكب علي على يد الشيخ لثما وتقبيلا، ويأخذ السبحة فيقبلها مرة ومرة، وأصحاب الشيخ ينظرون إليه ويقول بعضهم لبعض همسا: لو قال الشيخ هذه المقالة للحاج مسعود لأجهش بالبكاء، ولكن انظروا إلى علي ما أقسى قلبه! إن وجهه ليبسم كأن الشيخ يداعبه.
ويقبل خالد لزيارة الشيخ فيمن أقبل، فيلقاه الشيخ لقاء حسنا ويمنحه يده ليقبلها، ثم يقول له: إذا فرغنا من هذه الزيارات فالقني فإن لي معك حديثا. ويسعى خالد إلى الشيخ بعد أيام، فإذا رآه الشيخ أدناه واستبقاه، حتى إذا خلا إليه قال له: ألم أعلم أن أبي كان قد خطب لك بنت الحاج مسعود؟ قال خالد: بلى. قال الشيخ: فأين أنت من هذه الخطبة؟ قال خالد في شيء من استحياء: فإن الحول لم يحل على موت عبد الرحمن. قال الشيخ: وصلتك رحم يا بني وبارك الله عليك! ولكن لنقرأ الفاتحة فأما الزواج وزفاف أهلك إليك فاضرب لهما ما شئت من موعد، و«منى» ما زالت بعد صبية. ثم صفق بيديه، فلما أقبل الخادم قال له الشيخ: ادع لي الحاج مسعودا. وأقبل الحاج مسعود، فاستدناه الشيخ حتى أجلسه على يمينه على كره منه، فقد كان الحاج مسعود يحرص دائما على أن يقوم بين يدي شيخه الكبير ثم بين يدي شيخه الصغير، لا يجلس إلا مأمورا، فلما استدناه الشيخ وأجلسه عن يمينه استعظم ذلك وأخذت دموعه تسيل. قال الشيخ: أما ترحمنا من دموعك هذه آخر الدهر! كفكفها ولو ساعة، ابسط يدك فقد أنى لنا أن ننفذ وصية الشيخ. ثم بسط الحاج مسعود يده وبسط الشيخ يده فتصافحا، وقرأ الفاتحة الثلاثة وإن الحاج مسعودا لينتحب بقراءته انتحابا.
الفصل الخامس عشر
وكان الحاج مسعود نادرة في عصره وبيئته. كان رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع ذلك يحفظ القرآن كأحسن ما تكون التلاوة، لولا أن تلاوته هذه كانت تضطرب أحيانا، وربما انقطعت بهذا البكاء الذي كان يغلبه كلما قرأ آية فيها نذير أو تبشير، وكان أبوه الحاج عمران أميا مثله، أو قل إنه كان أميا كأبيه الحاج عمران، وكانت الأمية مذهبا لهذا الشيخ من شيوخ الريف المصري؛ فقد أبى أن يرسل ابنه إلى الكتاب؛ لأن أباه لم يرسله إلى الكتاب، وكان يقول: ينبغي أن ندع القراءة والكتابة والحساب لهؤلاء الأقباط الذي يغنون عنا بها في كل ما نحتاج إليه. علينا أن نتجر ونثمر المال إن كنا من أصحاب التجارة، وأن نزرع ونستثمر الأرض إن كنا من أصحاب الزرع، وأن ننهب ونملأ الأرض فسادا إن لم نكن من أولئك ولا هؤلاء، فإن احتجنا إلى شيء من قراءة أو كتابة أو حساب فأهون هؤلاء الأقباط يكفينا مئونة ذلك.
وكان يشير إلى شيخ يكاد يماثله في السن ويقول: انظروا إلى هذا المعلم مرقص؛ لقد رأيته يكتب لأبي، وهو قد كتب لي حتى أخذ يضعف كما أضعف، ولكنه علم ابنه بطرس الكتابة والحساب ليقوم مقامه إن عجز عن العمل، كما علمت ابني مسعودا التجارة في غلات الأرض ليقوم مقامي حين تقعدني السن عما أسعى فيه الآن من البيع والشراء ، وكان الناس ربما ذكروا له أنه مسلم غني، وأن من الحق عليه أن يقرئ ابنه شيئا من القرآن ويعلمه شيئا من العلم؛ فإن ما يقضي بالجهل على الفقراء هو الأمية، فكان ذلك يضحكه ويحفظه في وقت واحد: كان يضحك لأنه رأى أباه يحفظ من القرآن ما يجزئ عنه في صلاته، وقد حفظ هو من القرآن ما يجزئ عنه في صلاته أيضا، وعلمه ابنه فحفظه؛ وآية ذلك أنه يصلي ويجهر بالقراءة حينا ويخافت بها حينا آخر، لا يأخذ عليه أحد خطأ فيما يقرأ، وأن ابنه يصلي ويقرأ القرآن في صلاته، فلا يخطئ فيما يقرأ منه، والله لم يأمر المسلمين بأن يحفظوا القرآن كله، ولا بأن يقرءوه كله، وإنما أمرهم أن يقرءوا ما تيسر منه؛ فأما حفظه كله وقراءته كله، فيكفي أن ينهض بهما الذين تفقهوا في الدين؛ وكان يغتاظ حين يرى الزراية على الأمية والغض من الأميين، كان يرى في ذلك شيئا من الإثم؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان أميا، ولأن العرب كانوا أميين، لم يعابوا بذلك، ولم يغض ذلك من قدرهم قليلا ولا كثيرا، ولم يكن يغني شيئا أن يقال للحاج عمران إنه ليس النبي، ولا شيئا يشبه النبي من بعد، فإذا كانت أمية النبي آية له، فأمية الحاج عمران نقص فيه، وإن العرب لم يفاخروا قط بأميتهم، وإنما جاء النبي ليخرجهم من هذه الأمية. لم يكن من المفيد أن يقال شيء من ذلك للحاج عمران؛ فإنه لم يكن يسمع له أو يلتفت إليه، وإنما استقرت هذه الآراء في نفسه لا تبرحها، وأقفل الأفق بينه وبين ما وراء هذه الآراء من المعاني والحقائق، فهو لا يتجاوزه ولا يعدوه، وكان ابنه مسعود يرى رأيه ويسير سيرته في كل شيء: جهل بالقراءة والكتاب، ومفاخرة بهذا الجهل، وبراعة في التجارة وتزيد في هذه البراعة، وانصراف عن الشر ما وسعه الانصراف عن الشر، وإيثار للخير والمعروف ما أطاق إيثار الخير والمعروف.
ولكن الله أتاح لمسعود ما لم يتح للحاج عمران، فوصل أسبابه بأسباب الشيخ حين ارتحل الشيخ لأداء حجته الأولى، فكان مسعود ممن سافروا مع الشيخ وأدوا معه الفريضة، وقد ألقى الله في نفسه حب الشيخ، فكان يلزمه أثناء السفر ويتطوع لخدمته، يضايق بذلك خاصة الشيخ وأصفياءه، ولكن الشيخ كان يرضى ذلك منه ويشكره له، ويسأل عنه إذا غاب، ويستدنيه إذا حضر، فإذا عادت القافلة إلى وطنها كان الحاج مسعود من خاصة الشيخ والممتازين بين ذوي مودته، ومنذ ذلك الوقت لم يفارق الحاج مسعود شيخه في سفر ولا في إقامة، ولم يتخلف عن مجلس من مجالسه، ولم يتعمد التخلف عن الصلاة التي كان يقيمها الشيخ، إنما كان يكره على ذلك إكراها في بعض الأحيان، فيؤدي الصلاة كما يستطيع وفي نفسه شيء من حزن؛ لأنه لم يؤدها مع الشيخ، وكان الله قد منحه ذاكرة قوية رائعة، فلم يكن يسمع شيئا إلا حفظه، ولم يكن يتحدث إليه بشيء إلا وعاه، وهو من أجل ذلك قد حفظ القرآن كله لكثرة ما كان يستمع لتلاوة القرآن، وحفظ كثيرا من الحديث لكثرة ما كان يستمع إلى الشيخ وهو يروي الحديث، وحفظ كل ما كان الشيخ يبتهل به إلى ربه من دعاء، بل حفظ أكثر من ذلك: حفظ أطرافا من علوم الدين ومن الفقه والتصوف والكلام خاصة، لكثرة ما سمع الشيخ يتحدث في هذه الألوان من العلم إلى الذين كانوا يفدون عليه ويقيمون عنده من علماء القاهرة، وعرف الشيخ منه ذلك فأكبره، وازداد عنه رضا وبه ثقة وإليه اطمئنانا، ولكنه قال له ذات يوم: إنك تحفظ ما تسمع من القرآن والحديث، وإني أخشى عليك أن تعيد ما تحفظ فتخطئ فيه، فالخير ألا تطمئن إلى حفظك حتى تعيد ما حفظت على الذين يعون القرآن ويحسنون العلم؛ ذلك أحرى أن يعصمك من خطأ قد تضطر إليه، ولكني لا آمن عليك عواقبه، هنالك لجأ الحاج مسعود إلى شيخ من حفاظ القرآن، فتلا عليه كتاب الله كله مرة ومرة، حتى استيقن أنه حافظ مجود، ثم لم يكن يسمع من الشيخ حديثا يرويه عن النبي حتى ينتظر بالشيخ ساعة يخلو فيها إليه، فإذا أمكنته الفرصة قال للشيخ وعلى ثغره ابتسامة تشرق عن مثل اللؤلؤ، وفي عينيه دموع تترقرق ولا تكاد تنهل: ألست قد حدثتنا بكذا وكذا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ فإذا قال الشيخ: بلى. قال الحاج مسعود: أواثق أنت بأني قد وعيت عنك؟ فإذا قال الشيخ: نعم. قال الحاج مسعود: أفأستطيع أن أتحدث به إلى الناس؟ فإذا قال الشيخ: نعم. قال الحاج مسعود: ومع ذلك فلن أفعل إلا مضطرا؛ فما أنا بالمعلم، وما ينبغي إلي أن أكونه، وإنما أنا المتعلم، والمتعلم دائما.
وكان الحاج مسعود قد ورث عن أبيه تجارة واسعة ضخمة في غلات الأرض، فلم تكن أرض الإقليم تنبت حبة إلا صارت من الحقل إلى الحاج مسعود، ثم تفرقت بعد ذلك من مخازن الحاج مسعود إلى من صيرها الله له رزقا من أهل المدينة أو من أهل الإقليم، بل من أهل الأقاليم البعيدة. ولم يكن أحد يمر بمخازن الحاج مسعود في ساعة من النهار إلا رأى أمامها جماعات لا تكاد تحصى من الحمر والإبل، هذه يوضع عنها ما تحمل قد أقبلت به من المتاجر والحقول، وهذه توقر بالأحمال لتنقلها إلى المتاجر والدور ولتنقلها إلى السفن بوجه خاص، فقد كان للحاج مسعود ما يشبه أن يكون أسطولا نهريا، وكانت سفنه المملوكة له والتي كان يستأجرها من غيره ما تزال مصعدة في النيل نحو الصعيد أو هابطة فيه نحو القاهرة، وكان الحاج مسعود مصدر رزق لخلق كثير من أهل المدينة والقرى المجاورة، فما أكثر الذين كانوا يعملون عنده بأيديهم كيلا ووزنا وتعبئة وسعيا بالتجارة هنا وهناك، وما أكثر الذين كانوا يأجرونه من حمر وإبل لينقلوا عنه وينقلوا إليه، وكان الناس لا يرون قطارا من الإبل يحدو به حاد، أو قافلة من الحمر يسوقها سائق وهو يتغنى بهذا اللفظ القروي الظريف «يا دواب يا دواب» إلا قالوا: هذه إبل الحاج مسعود أو هذه حمر الحاج مسعود.
وكان الحاج مسعود يسكن داره في طرف من أطراف المدينة يوشك أن يكون قرية من قراها، بل توشك الدار نفسها أن تكون قرية صغيرة من القرى، وكانت هذه الدار قد نمت نموا مطردا، ورثها الحاج مسعود عن أبيه الحاج عمران واسعة فسيحة الأرجاء، لا تكاد ترتفع في السماء إلا قليلا، وورث من حولها أرضا منبسطة لا يكاد الطرف يبلغ مداها، فلما رزق ابنته الأولى فاطمة خطر له أن يبني عن يمين داره الموروثة دارا جديدة صغيرة لهذه الصبية التي لم تتم العام الأول من حياتها، وقال لامرأته وهو يضحك: إن مد الله لهذه الصبية في العمر فستتزوج، وما أحب أن تنتقل إلى زوجها فتصبح غريبة عنده، وإنما أحب أن ينتقل الزوج إليها، وأن تستقبله في هذه الدار التي تملكها، فلا تحس أنها تبع له أو ثقل على أسرته. ثم رزق ابنته الثانية حفيظة، فاتخذ لها دارا إلى جانب دار فاطمة، وقال لامرأته مثل ذلك القول، وقال للناس مثل ذلك القول، ثم رزق بعد ذلك خديجة ومنى، فاتخذ لهما دارين عن شمال داره، كما اتخذ لأختيهما دارين عن يمينها.
ونظر ذات يوم فإذا أبنيته قد كادت تستغرق ما كان يملك من الأرض في طرف المدينة، وإذا هي توشك أن تستقل عن المدينة استقلالا، وإذا هي بناء ضخم ينبسط أمامه فناء عريض قد قامت فيه بعض الأشجار متفرقة، وامتد له عن يمين وشمال جناحان طويلان على شيء من ضخامة، فلما رأى هذا كله أعجبه واتخذ من حوله سورا، وإذا داره أشبه شيء بالحصن ذي الأسوار المرتفعة في السماء تفتح أبوابها مع الصبح ليخرج منها الناس والإبل والماشية، ثم تغلق إذا تقدم الليل على من لجأ إليها وما ألجئ إليها من الناس والماشية فلا غرابة في أن يفكر علي أبو خالد في أن يصهر إلى الحاج مسعود كما قدر الشيخ الكبير، فقد كان شرف هذا الرجل ومكانه من الشيخ وتجارته الواسعة وثروته العريضة ودوره هذه المنبثة من وراء السور كأنها الحصن، وهذا الخير الكثير الذي يغدو منها مع مطلع الفجر ويروح إليها عند مغرب الشمس.
كان هذا كله مغريا لعلي بالإصهار إلى الحاج مسعود، فكيف وقد سمع علي أن صغرى بناته جميلة رائعة الجمال لم تبلغ الرابعة عشرة من عمرها بعد؛ وليس من البعيد أن يكون علي قد وجد في ضميره الخفي على شيخه بعض الموجدة حين صرف عنه مسعودا وحذره من الإصهار إليه، ولكن هذا ظن نستغفر الله منه، فإن بعض الظن إثم، إنما الشيء الذي لا شك فيه هو أن شيئا من فتور قد سرى في اجتهاد علي كما تسري النار الخفية الضئيلة في المقادير الضخمة الهائلة من الهشيم، وظن آخر نستغفر الله منه؛ لأن بعض الظن إثم، وهو أن شيئا من الفتور الخفي جدا، قد أخذ يسري في حب علي لابنه خالد وفي عطفه عليه، ولو أمكن أن يحسد الآباء أبناءهم لجاز أن تكون شرارة ضئيلة جدا من الحسد قد وقعت في قلب علي حين سمع الشيخ يرغب الحاج مسعودا في صهر خالد هذا الفتى الذي اتخذ له زوجا فأضاعت عقلها جنية البيت، والذي لم يكد يكسب حياته إلا منذ وقت قصير، والشيطان خبيث بغيض يندس إلى القلوب الطاهرة وإلى النفوس الزكية، فيلقي فيها شيئا من فساد، إلا أن يعصم الله هذه النفوس وتلك القلوب من نزغات الشيطان، ولعله قد عصم منها نفس علي الزكية وقلبه الطاهر الذي ملئ علما ودينا؛ ولكن الشيطان وقح لا يعرف الحياء، ملح لا يكره أن يثقل على الناس بما يوسوس في صدورهم من الشر الذي يغري بالإثم ويورط في سوء الظن، يلتمس لذلك حيلا لا تحصى، يوسوس بذلك مباشرة في صدور الناس أحيانا، ويجري به ألسنة الأعداء والحساد والجهال من الأصدقاء أحيانا أخرى، وهو قد فعل ذلك مع علي، لم يجترئ أن يواجه حبه للشيخ وثقته به، وعطفه على خالد وأمله فيه، فدس من أصحابه من قال له مازحا بعد تلك الليلة التي عبث الشيخ فيها به: لقد قسا عليك الشيخ أمس، وصرف عنك خيرا كثيرا. ومع ذلك فمن يدري ؛ لعل الشيخ إنما صرف عنك شرا كبيرا، فإن للأولياء أمثاله أسرارا لا يفهمها أمثالنا، ومع ذلك فإني أرجو ألا يكون نصيب هذه الصبية إن زفت إلى خالد كنصيب تلك المرأة البائسة التي لم تكد تقيم معه أعواما حتى مسها لطف الله. ولم يكد علي يسمع هذا الكلام حتى ثار وفار، وهم أن يبطش بصاحبه لولا بقية من حلم؛ فقد استباح هذا الرجل لنفسه أن يجرؤ على الشيخ، ومن دون الجراءة على الشيخ أهوال، واستباح هذا الرجل لنفسه أن يعرض بخالد، ولولا أن الله عز وجل قال:
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور
لما رجع هذا الرجل إلى أهله موفورا، ولكن لا أقل من أن تنقطع الصلة بين علي وبين هذا الرجل الذي اتخذه الشيطان مطية إلى الفساد، وقد كان ذلك، فأعرض علي عن صاحبه بعد أن زجره زجرا عنيفا، وأقسم: لا يكون بينه وبينه سبب منذ اليوم.
ومن المحقق أن عليا قد عني بتجارته عناية شديدة، عناية لم تغن عنه شيئا، ولكن على المرء أن يسعى إلى الخير جهده، وعني ببنيه وبناته وبنسائه، وأحب داره حبا شديدا، وأي غرابة في ذلك، فالمؤمن حقا مكلف أن يصل الرحم، ويحسن القيام على أهله وداره وبنيه، والقيام على الأبناء وعلى ذوي القربى وأولي الأرحام واجب يعاقب المقصر فيه ويثاب الناهض به، وهو بعد هذا صدقة يضاعف الله جزاءه لمن يؤدونه على وجهه، ومن الجائز أن تكون عناية علي بتجارته، وقيامه على أهله وسعيه في إصلاح أمره، كل ذلك قد يضطره إلى قليل من التقصير في ذات الشيخ، وإلى التخلف القليل عن بعض مجالسه، ولكن الشيخ يعرف أمره كله حق المعرفة، وهو يعذر تقصيره ويعفو عن تخلفه، ومن الجائز أن يصرفه هذا كله عن بعض الرفق بابنه خالد، ولكن خالدا رجل قد توسط العقد الثالث من عمره؛ فهو لا يحتاج إلى العناية والعطف كما يحتاج إليهما هؤلاء النسوة الضعاف، وهؤلاء الصبية الصغار، وربما كان الحق على خالد أن يعنى بأبيه وإخوته أكثر مما يفعل إلى الآن، ولكنه شاب، وللشباب ضلاله المؤقت، وخالد مغرور بمنصبه الجديد، ولا شك في أنه سيثوب إلى نفسه، وسيذكر أن حمل أبيه ثقيل، وأنه يستطيع أن يخفف بعض هذا الحمل، أليس يقبض أربعة جنيهات في آخر كل شهر؟! كل هذه خواطر لعل نفس علي قد تحدثت بها إلى علي حديثا همسا لا يكاد يسمع! ولكنها تحدثت به على كل حال، فهي خليقة أن تلام، والنفس أمارة بالسوء إلا من رحم ربي، وعلي حريص كل الحرص على أن تناله رحمة الله؛ فهو يلوم نفسه لوما عنيفا، ويجتهد في العبادة اجتهادا شديدا، وينفق في غرفة أم خالد ليلة قائمة هائمة بذكر الله جاهرة بتلاوة القرآن، قد طرد عنها الشيطان طردا، ورد عنها النوم ردا، حتى إذا صلى علي الصبح وشرب القهوة نازعته نفسه إلى الراحة وشيء من النوم، فيتجهم لها ويغلظ عليها ويشتد في تأديبها، ويقسم لا يذوق النوم حتى يذهب إلى متجره ويعود إلى غدائه؛ فإذا صلى الظهر نام وطلب إلى هناء أن توقظه ليدرك صلاة العصر، قبل أن تفوته، فإذا صلى العصر سعى إلى شيخه فشهد معه صلاة العشاءين وحضر معه حلقة الذكر.
وفي ذات يوم ذهب خالد إلى متجر أبيه بعد صلاة العصر، فرآه جالسا يدير ذكر الله على سبحته تلك؛ فسلم الفتى، ولكن عليا لم يرد عليه سلامه ولم يرفع إليه رأسه، وإنما ظل مطرقا يدير ذكره في أناة، يمد صوته بحروف المد أكثر مما تعود أن يفعل، ويساقط حبات المسبحة في بطء متكلف، حتى إذا أدار ذكر الله على سبحته من طرف إلى طرف استغفر الله فأطال استغفاره، وصلى على النبي فأكثر الصلاة عليه، ووهب ثواب هذا كله للشيخ رحمه الله، ثم أدخل سبحته في جيبه مستأنيا، ثم مسح وجهه بيديه متشهدا، ثم التفت إلى خالد وهو يقول: ألست بخير يا بني؟ إني لم أرك منذ أمس. قال الفتى: لقد أمضيت صدر الليل عند الشيخ، وغدوت إلى عملي وجه النهار، وجئت ... فقاطعه علي رفيقا به وهو يقول: جئت لتراني، ولتقص علي ما كان بينك وبين الشيخ والحاج مسعود في خلوتكم أمس؛ فقد أنبئت بهذه الخلوة. قال خالد: نعم. قال علي: عفا الله عن الشيخ! فلو كان أبوه حيا لكنت رابع ثلاثتكم أمس، وعفا الله عنك يا بني! فلولا أنك حديث السن لما قرأت فاتحة الخطبة وأبوك غائب، ولكنك رأيت الشيخ يدعوك فلم تستطع له خلافا، ولم تفكر إلا في أن تجيب إلى ما دعيت إليه. ولو كنت مكانك لانصرفت من عند الشيخ إلى أبي لأبشره بهذه الخطبة، ولكنك انصرفت بالبشرى إلى سليم؛ فقد علمت أنك طرقت بابه عليه حين تقدم الليل. قال الفتى مضطربا متلعثما: فإني لم أجرؤ على إزعاجك وقد كاد الليل ينتصف، ولم أجرؤ على أن أباكرك بهذا النبأ قبل أن أغدو على عملي. فأما سليم ... قال علي مقاطعا: فليس بينك وبينه من الكلفة مثل ما بينك وبين أبيك! ثم تشهد علي واستغفر الله ونهض إلى ابنه فضمه إليه وقبل بين عينيه، وقال: قد سامحتك فليسامحك الله، ومتى استطاع الآباء أن يطيلوا الموجدة على أبنائهم، أما الأبناء فما أقدرهم على أن يمضوا في القسوة على آبائهم! اذهب يا بني فقد عفوت عنك. ثم بسط يده فتناولها خالد وقبلها صامتا، وظل في مكانه قائما واجما لا يقول شيئا ولا يأتي حركة، فنظر إليه أبوه ثم اندفع في الضحك وهو يقول: ما قيامك أمامي كالصنم لا تقول شيئا ولا تأتي حراكا؟ أمغتبط أنت بهذه الخطبة؟ أضربت مع الحاج مسعود موعدا للزواج؟ قال خالد: أما أني مغتبط بهذه الخطبة فما أدري ماذا أقول لك، وإنما موقفي منها كموقفي من تلك الخطبة الأولى: أمر الشيخ الكبير فأطعت، ودعا الشيخ الصغير فأجبت، والله يختار لنا ويلهمنا التوفيق فيما نأتي وما ندع؛ وأما موعد الزواج فما ينبغي أن نحدده ولم يحل الحول على موت عبد الرحمن، وما كان ينبغي أن نتحدث فيه وأنت غائب؛ وبعد فإنا لم نحدث أمس أمرا جديدا، ولم نزد على أن ننفذ وصية من الشيخ الكبير كنت بها عالما. قال علي وقد أحس في نفسه شيئا من الندم لغلظته على ابنه، وكثيرا من الرضا عن طاعة ابنه له ووفائه لحميه القديم - قال علي: بارك الله عليك يا بني وألهمك التوفيق، وكتب لك الخير في كل خطوة تخطوها أو عمل تقدم عليه، أقم معي حتى إذا دنا الغروب سعينا إلى الشيخ فشهدنا معه الصلاة.
الفصل السادس عشر
قالت زبيدة لزوجها سليم: لقد سمعتك تتحدث إلى خالد أمس بأن أكثر أهل النار من النساء. قال سليم وهو يتكلف الغضب: فقد كنت تتسمعين علينا إذا؟ قالت زبيدة: لا والله ما تسمعت عليكما، ولا احتجت إلى أن أتسمع إليكما؛ فقد كان حديثكما عاليا مرتفعا، يسمعه من في الدار، ويسمعه من يمر بها في الطريق. كان خالد فخورا مغتبطا لأنه سمع هذا الحديث من شيخه فأقبل فرحا به يعيده عليك، وقبلته أنت راضيا مسرورا كأن لك عند النساء ثأرا، ثم مضيت تفسره وتعلله وتزيد فيه.
قال سليم وهو مغرق في الضحك: وماذا فهمت من هذا كله؟
قالت زبيدة: فهمت أن النساء كافرات للنعمة، جاحدات للجميل، مضيعات للمعروف، تحسنون إليهن فيفرحن، ثم يسرع إليهن النسيان! فهن لا يذكرن لكم خيرا ولا يعرفن لكم جميلا، وهن مع ذلك ذاكرات للشر حافظات للسيئة، لا يكاد زوج المرأة منهن يؤذيها بالهين أو العظيم من الأمر حتى تنسى حبه لها وبره لها وما قدم إليها من معروف، وتأخذه بسيئات لا تحصى؛ فإثمهن الأعظم وجريمتهن الكبرى هي هذا العقوق، وأي إثم أعظم من العقوق وكفران النعمة؟ وهن من أجل ذلك يصرن إلى النار فيؤلفن من أهلها الكثرة الساحقة.
قال سليم وهو لا يكاد يفيق من ضحكه: وهل تنكرين ذلك أو ترتابين فيه؟ قالت زبيدة: لا أنكر شيئا ولا أرتاب في شيء، وإني لتائبة إلى الله من كل ذنب، طالبة عفوه عن كل خطيئة، باذلة ما أملك من الجهد لأبلغ رضاه ورضاك أنت، فإن رضا الزوج من رضا الله، وأنا مع ذلك مشفقة ألا أنجو من النار . قال سليم: اجتهدي، فعسي أن يعصمك الله منها، وأن يجعلك من أهل الجنة. قالت زبيدة وقد أخذت تضحك: فأما أنتم معشر الرجال، فأقلكم في النار وأكثركم في الجنة؛ لأن الطاعة فيكم فاشية، والمعصية فيكم نادرة، ولأنكم لا تؤذون أحدا ولا تتقدمون إلى أحد بما يكره، وإنما أنتم خير خالص لا يمازجه الشر، وعسل خالص لا يشوبه العلقم؛ فأما أن تسوموا نساءكم سوء العذاب وأن ترهقوهن من أمرهن عسرا، فإنما ذلك تأديب لهن، تستوفون ما لكم من حق الطاعة، وتتقربون بتأديبهن إلى الله، وأما أن تمسكوا نساءكم على ما يكرهن من الألم والبؤس، وأن تعلقوا على رءوسهن هذا السيف القاطع سيف الطلاق، وأن تصوبوا إلى صدورهن هذا السنان الذي ينفذ إلى أعماق القلوب، سنان التزوج بضرة تدخلونها على الزوج في دارها وتنغصون بها حياتها، وتذيقونها ألم الغيرة وشقاء الحسد، وتورطونها في الغدر والكيد والنفاق، فليس عليكم من هذا كله بأس، إنما تستمتعون بما أتاح الله لكم من رخصة وبما أتاح لكم من حق، فإن ضاقت المرأة بشيء من ذلك أو أنكرته أو ثارت له، فهي كافرة للنعمة، جاحدة للجميل، عاصية لله؛ وهي من أجل ذلك صائرة إلى النار مع أمثالها اللاتي يؤلفن الكثرة الساحقة من أهلها.
قال سليم وقد أخذ يثوب إلى شيء من الجد والهدوء: ما رأيت كاليوم جدلا ولا شغبا؛ من أين لك هذا العلم كله؟ ومن أين لك هذه الفصاحة كلها؟! وما هذا الشيطان الذي استقر في قلبك وأجرى لسانك بهذا المنكر من القول؟!
قالت زبيدة وكأنها لم تسمع لزوجها: وأما أن يخون الرجل منكم زوجه أو أزواجه، فيعدو على غير حقه، ويأثم في غير حاجة إلى الإثم، فخطيئة عسى الله أن يغفرها لكم ما دمتم تصلون وتصومون وتستغفرون؛ والاستغفار يمحو الذنوب، ويعصم أصحابه من النار، ألا ترون أنكم تسرفون على أنفسكم وعلى الناس حين لا تكتفون بتدبير أمور دنياكم على ما تحبون، وإذا أنتم تدبرون أمور الآخرة على ما تشتهون أيضا؟! وهم سليم أن يتكلم وقد أخذه شيء من العنف، ولكن زبيدة مضت في حديثها وقالت في ابتسامة ساخرة مغرية معا: حدثني عن نفيسة، أمن أهل الجنة هي أم من أهل النار؟
ولم يكد سليم يسمع هذا السؤال حتى سكت غضبه وانكسرت حدته وظل واجما لا يكاد يجيب، فلم يكن يقدر أن هذا الحوار الذي استأنفته امرأته يريد أن ينتهي إلى نفيسة. وما شأن نفيسة وهذا الحديث الذي كان يفاوض فيه أخاه وصديقه أمس؟ قالت زبيدة: إن نفيسة لم تختر لنفسها صورتها البشعة ومنظرها القبيح، ولم تدع خالدا ليكون لها زوجا، بل لم تعرفه إلا حين أدخل عليها أو أدخلت عليه، ثم هي لم تمنح إحدى ابنتيها جمالا رائعا، ولم تمنح الأخرى قبحا مخيفا، ثم هي لم تؤذ زوجها في نفسه ولا في بيته، ولم تخالف عن أمره، ولم تسمعه ما يكره من القول، ولم تكلفه ما لا يطيق من الأمر، ثم هي لم تدع المرض إلى نفسها، كما أنها لم تدع القبح إلى وجهها، فهل تستطيع أن تنبئني فيم كان إقبال خالد عليها، وفيم كان إعراضه عنها، وفيم كان تعذيبه لها، ثم فيم كان هذا الطلاق، وفيم كانت هذه الخطبة؟ هنالك دهش سليم لعلم زبيدة بأمر الطلاق وبأمر الخطبة، فقال لامرأته مترفقا: ومن أنبأك بأن خالدا طلق امرأته؟ أو من أنبأك بأنه هم أن يتزوج امرأة أخرى؟ قالت زبيدة: أنبأني بذلك من أنبأني، ولكنه حق لا شك فيه، وإن خالدا لأعقل وأرفق بنفيسة من أن يهجرها هجرا غير جميل كما يفعل الآن، فيقرها في طرف من أطراف الدار ويقيم على خدمتها وخدمة ابنتيها وأمها مولاته نسيم، ثم لا يزور هؤلاء النسوة إلا زيارات متقطعة، هو أعقل وأرفق بنفيسة من أن يأتي هذا كله من الأمر دون أن ينبئها بأن الصلة بينها وبينه مقطوعة، وبأن الحبل بينها وبينه مبتوت.
قال سليم: فإنك تعلمين أن نفيسة لا تصلح له زوجا، ولا تقدر على عشرة الرجال، فما ذنب خالد إن اعترف بالحق الواقع؛ وهل ترين له أن يعيش مع مجنونة أو أن يفرض على نفسه حياة الرهبان؟ قالت: لا أدري! ولكن جنون نفيسة لم يأتها من قبل نفسها، وإنما جاءها من هذا الزواج الذي لم ترده، ومن هذه الظروف التي لم تخلقها، ورحم الله أم خالد إذ قالت لزوجها: إنه إن أتم هذا الزواج فلن يزيد على أن يغرس في داره شجرة البؤس، لقد غرست شجرة البؤس فنمت وآتت ثمرها بشعا خبيثا، امرأة ترزأ في زوجها وابنتها معا، ثم ترى ابنتها وقد اصطلح عليها المرض وهجر الزوج والحرمان، فأنت تعلم أن نفيسة ليست ميسرا عليها في الرزق، ولست ألوم أحدا، ولكنها فقدت ثروة أبيها، وتفرقت ثروة علي في أسرته الضخمة، وخالد لا يرزقها إلا كما يستطيع، ثم لم يكفها هذا كله، فقد رزقها هذا الزواج السعيد صبيتين كان من حقهما أن تنشئا في النعمة، فهما تنشئان في البؤس بين أم مريضة وجدة محزونة ومولاة سوداء تقوم من أمرهما بما تستطيع القيام به، وأب ينفق الأيام، وقد ينفق الأسبوع، دون أن يراهما، كل هذا لا يكفي، فلا بد من أن يتزوج خالد، ومن أن يتخذ لأمهما ضرة، ومن أن يكون له من هذه الضرة بنون وبنات يشاركونهما في حب أبيهما وبره، ومن يدري، لعلهم يصرفون أباهما عنهما كل الصرف، حدثني عن نفيسة أمن أهل الجنة هي أم من أهل النار؟ وحدثني عن أمها أمن أهل الجنة هي أم من أهل النار؟ ولا تنس أن نفيسة لا تحسن الصلاة، فهي لا تؤدي الصلوات الخمس كما يؤديها خالد، بل هي لم تعد تحسن شيئا، فقد ثاب إليها حظ من رشد ولكنه ضئيل جدا لا يكاد يكفي إلا لتفهم عمن يحدثها وتفهم من تتحدث إليه في أيسر الأمور، إنك لم ترها منذ عادت إلينا، وفيم تراها وقد طلقها خالد، فلم يبق بينك وبينها سبب؟ أما قبل أن يطلقها وقبل أن يلم بها هذا المرض، فقد كنت تحب حديثها وتأنس إلى لقائها وترغب في زيارتها، كانت زوج خيك، أما الآن فليست منك في شيء ، ولو قد رأيتها لرأيت شرا عظيما، أتذكر كيف كانت تتحدث فتحسن الحديث في لغتها تلك القاهرية، وكيف كانت تداعب فتحسن المداعبة في ظرفها ذاك الذي لا نحسنه نحن في الأقاليم؛ لقد ذهب هذا كله، وأصبحت حياة نفيسة وجدا كلها، وأصبح صمتها متصلا مخيفا، وأصبح صوتها خافتا لا يكاد يسمع، وأصبح حديثها غامضا متقطعا لا يكاد يستوي ولا يبين، لقد أصبحت عاجزة حتى عن أيسر الأشياء؛ إنها لا تكاد تعرف من العدد إلا العشرة: فهي لا تحسن أن تقول العشرين والثلاثين والأربعين، وإنما تقول عشرتين وثلاث عشرات وأربع عشرات، ولست أدري كيف تقول إذا جاوزت المائة! لقد انتهى بها البؤس إلى هذا كله، وتصور بؤس أمها حين تراها على هذا النحو، وحين تضطرب بين فقد زوجها ومرض ابنتها؛ فأما الصبيتان فلا تدركان من هذا شيئا، ولكن لهما حظا من قسوة الطفولة، فهما تعبثان بأمهما وتضحكان من ذهولها وما اضطرت إليه من البله، ولا تحفلان بجدتهما، ولا تكادان تحفلان بنسيم؛ لأنهما لا تفهمان عنها أكثر ما تقول؛ حدثني عن هؤلاء النسوة أمن أهل الجنة هن أم من أهل النار؟
ثم حدثني عن خالد وأبيه وعن نفسك، إنكم تصلون وتصومون وتسعون إلى الشيخ وتشهدون حلقة الذكر وتقرءون القرآن وتظنون - وأرجو - أن تكونوا من أهل الجنة، ولكنكم ترون هذا البؤس المؤلم، وهذا الشقاء المهلك، فلا تمدون إلى البائسين يدا، ولا تنالونهم بمعروف، ولا تكرهون أن تضيفوا إليه بؤسا جديدا وشقاء طريفا. قالت ذلك ثم لم تستطع أن تمضي في الحديث؛ لأن صوتها انحطم في حلقها، ولأن دموعها انهلت على وجهها غزارا، وكان زوجها يسمع لها في صمت متصل يقطعه بين حين وحين بهذه الكلمات: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما رأى زوجه تمضي في البكاء ولم يستطع أن يثبت لها لهذا الحزن، ترك امرأته وخرج من الدار، لا يريد وجها بعينه، وإنما يفر من منظر لا يستطيع له ثباتا، ثم عاد إلى أهله بعد ساعة، فرأى امرأته قد أصلحت من شأنها وانصرفت إلى أمر بيتها تدبره وتقوم عليه، وهم سليم أن يتحدث إلى امرأته حديثا غير الذي كانا فيه، ولكنها لم تستجب له، وإنما استأنفت حديثها من حيث قطعته أو من حيث قطعه عليها البكاء، قالت: أما أنا فلا أحسن صلاة ولا صوما ولا عبادة، ولكن الله يرى ما آتى من الأمر سرا أو علانية، وهو يراني عند نفيسة في كل يوم مصبحة حينا وممسية حينا آخر، أواسيها بالقول دائما، وأواسيها بالدموع أحيانا، وماذا أملك غير القول والبكاء. ثم ابتسمت لزوجها ابتسامة حزينة وقالت له: إن لي إليك حاجتين تستطيع أن تجيبني إليهما، وما أشك أنك ستظفر على ذلك بثواب الله. قال سليم: وما ذاك؟ قالت زبيدة: فأما أولاهما فأن تؤخر زواج خالد إلى أبعد أمد ممكن، فلعل الله أن يرد إلى نفيسة صحتها، فتحتمل هذه المصيبة خيرا مما تحتملها الآن. قال سليم: فإن خالدا لن يتزوج قبل أن يحول الحول على موت حميه، وما زال بيننا وبين ذلك شهور. قالت زبيدة: أخشى أن تكون محنة نفيسة في صحتها أطول من ذلك.
قال سليم: وما حاجتك الثانية؟ قالت زبيدة: أن تبر بنفيسة وتشعرها دائما بأننا لم نكن عابثين حين خطبنا ابنتها جلنار لابننا سالم. قال سليم: وهي تشك في ذلك؟ قالت: لا أدري ولكن هذا الحديث يرضيها فيما أعتقد، ولعله أن يفتح لقلبها البائس فرجة من أمل. قال سليم: فسنزورها معا إذا كان الغد.
قالت زبيدة: وحاجة ثالثة ليس بينها وبين نفيسة صلة. قال سليم: ما ذاك أيضا؟ وهمت زبيدة أن تجيب، ولكن العبرة حبست صوتها، فانصرفت من الحجرة مسرعة، وتبعها زوجها مسرعا حتى أدركها فضمها إليه وجعل يقبل رأسها وسألها: ما حاجتك؟ وماذا تريدين؟ أفصحي ولك عهد الله أن أجيبك إلى ما تبتغينه إن كان ذلك في طاقتي. قالت: لا تدخل علي ضرة، فإن هممت بذلك، فطلقني وارددني إلى أهلي الفقراء، ولا تمسكني على كره مني، وإن مرضت عندك فلا تهجرني مهما يطل مرضي، وما أظنه يطول. هنالك أغرق سليم في الضحك، وضم امرأته إليه مخلصا لها عطوفا عليها، وهو يقول: إنكن لناقصات عقل ودين.
الفصل السابع عشر
لم تجر الأمور بين خالد وأبيه على ما كانا يحبان؛ فحياة الناس ليست طوع أيديهم يصرفونها على ما يهوون، وإنما تعرض لها العلل والآفات، وتتحكم فيها الحوادث والخطوب التي لا يملك الناس من أمرها شيئا، أو لا يملكون من أمرها إلا قليلا، وهي من أجل ذلك تدفعهم إلى مسالك لو خيروا لما اندفعوا إليها، وتضطرهم إلى أمور لو استطاعوا لاجتنبوها. فلم يكن في يد علي أن تصلح تجارته، وتنمو وتغل عليه ما ينهض بحاجة أسرته الكبيرة، ولم يكن في يد خالد أن يجد من راتبه - الذي كان يرى في ذلك الوقت ضخما على ضآلته - ما يمكنه من أن يحمل عن أبيه بعض أثقاله، ثم لم يكن في يد أحد من الرجلين أن يمنع هذه الأسرة الضخمة من الحاجة إلى ما يقيم أودها من طعام، ومن الحاجة إلى ما يستر أجسامها من لباس، ومن الحاجة إلى أن تحتفظ ولو بشيء ضئيل من مكانها الاجتماعي في المدينة.
فلم يكن بد إذا من أن ينهض علي بهذه الحقوق كلها، وقد حاول الرجل فلم يستطع، وجد في إصلاح أمره فلم يجد إلى إصلاحه سبيلا، فلجأ إلى الاستدانة، مقتصدا فيها ما وسعه الاقتصاد، مؤملا أن يجعل الله له فرجا من حرج ومخرجا من ضيق، مجتهدا في تجارته، ولكن تجارته كانت مجتهدة هي أيضا في أن تسلك طريقا معاكسا لطريق صاحبها، مجتهدا فوق كل شيء في صلاته وعبادته وتوسله إلى الله أن يضع عنه هذا الإصر الذي يثقله، وأن يرد إلى خير ما كان فيه من أيام السعة والرخاء، ولكن أبواب السماء كانت كأنما أغلقت من دونه، أو كأن الله يسمع دعاءه ويجيبه إلى خير مما كان يطلب؛ فقد كان يطلب دارهم ودنانير، يؤدي بها بعض دينه، ويشتري بها لبنيه وبناته وأزواجه الغذاء والكساء والحذاء، ولكن الله كان يقبل صلواته ويسمع دعواته، ويدخر له بهن قصورا في الجنة على هذه الأنهار التي يجري فيها ماء لذة للشاربين، ويجري فيها اللبن والعسل والخمر، ويقام عليها من القصور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد انتهى الأمر بعلي إلى أن أصبح شديد الأمل في رضوان الله حين يبلغ الدار الآخرة، شديد اليأس من روح الله في هذه الدار الأولى؛ فلم يزده ذلك إلا اجتهادا في العبادة والطاعة، ليستكثر من رضا الله عنه، ومما كان يرجو أن يدخر له في الجنة من نعيم، ولكنه قصر في التجارة وأهمل أمرها، وأخذ ينظر إلى أمور الدنيا في شيء من الازدراء والاستخفاف دون أن ينسى نصيبه من متاعها ولذاتها، وقد اجتهد في أن يحمل نفسه على الرضا بما قسم له، لولا أن بطون بنيه وبناته لم تكن تطمئن إلى الجوع ولا تقنع بالقليل من الطعام، ولولا أن أزواجه وبنيه لم يكونوا يقدرون أزمته في تجارته ولا يعرفون من ضيق ذات يده شيئا، فكانوا يطلبون ويلحون في الطلب، فإذا قصر الرجل في تحقيق آمالهم استحال بيته إلى جحيم لا يطاق ولا يمكن الصبر عليه، وكثيرا ما كان الرجل يفزع إلى المساجد ومجالس الشيوخ، يرى الناس أنه يبتغي بذلك العبادة والطاعة، ويرى هو أنه يفر من أزواجه وبنيه وإلحاحهم عليه فيما يريدون وما لا يطيق من الأمر، وقد انتهى ذلك بعلي إلى شيء من سوء الخلق لوحظ عليه في أحاديثه وسيرته مع الناس، ولكن الناس كانوا يلتمسون له المعاذير لما يرون من إدبار الأمر عنه وإلحاح الكساد عليه.
ولم تبخل الظروف عليه بصديق السوء الذي يحرضه على ابنه خالد ويغريه به ويسأله: كيف تشكو الضيق، وتتعرض للحرج وخالد موظف يتقاضى أربعة جنيهات في كل شهر غير ما يمكن أن يصل إلى يده من ذوي الحاجات؟! فلا تصدق أن موظفا يكتفي براتبه الذي يقبضه في كل شهر، ويقضي للناس حاجاتهم دون أن يأخذ على ذلك أجرا، إن خالدا لقادر - إن شاء - على أن يتحمل عنك بعض أعبائك، ويسد بعض خلتك، وينهض على أقل تقدير بحاجات امرأته وابنتيه.
والواقع أن خالدا كان يبذل أكثر ما يستطيع أن يبذله، فقد كان يؤدي إلى أبيه آخر الشهر أكثر راتبه لا يستبقي لنفسه إلا ربعه، وكان يرى أن في ذلك أداء لحق أبيه عليه ونهوضا بحاجة أهله الأدنين، ولكن أباه قال له ذات يوم: أنفق على أهلك يا بني، فإني لا أجد ما أنفق على أهلي، وحسبك أنكم تقيمون في داري لا تؤدون على ذلك أجرا. وقد صعق خالد لهذا القول الذي لم يكن ينتظر أن يسمعه من أبيه لما كان يعرف من حبه له وبره به، ولم يكن ينتظر أن يسمعه لما كان يعلم من أدائه للحق ونهوضه بالواجب، فلما سمع مقالة أبيه لم يحر جوابا، فأعاد أبوه عليه مقالته مرة ومرة. قال الفتى: ومن أين أنفق على أهلي وأنا أؤدي إليك أكثر راتبي؟! قال الشيخ: لا أدري؛ ولكن أنفق على أهلك فإني لا أجد ما أنفق على أهلي. قال الفتى: سأؤدي راتبي كاملا إذا كان آخر الشهر. قال الشيخ: وأين يقع هذا الجنيه الذي تحتجزه لنفسك مما أريد؟! قال الفتى: فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. قال الشيخ: صدق الله العظيم؛ فإن الله لا يكلفني إلا ما أطيق، ولست أطيق أن أنفق على أهلك. قال الفتى: فإنك لا تنفق على أهلي، وإنما أنفق عليهم بما أؤدي إليك من راتبي. فقهقه الشيخ قهقهة كلها غضب وقال: فإنك تمن علي بما تؤدي إلي من هذا المال القليل كأني لم ألدك، ولم أربك، ولم أزوجك، ولم أنفق عليك وعلى أهلك إلى أمس القريب، إني لا أريد منك مالا ولا معونة، ولكن تحول عني وحول أهلك إلى دار أخرى، وأنفق على نفسك وعليهم براتبك إن استطعت إلى هذا سبيلا. قال الفتى محزونا: فإني لا أمن عليك شيئا، ولا أجحد من نعمتك قليلا ولا كثيرا، ولكني لا أستطيع إلا ما عرضته عليك، فسأؤدي إليك راتبي كاملا. قال الشيخ وقد ملكه غضب مجنون: لا أريد منك مالا، وإنما أريد أن تتحول بأهلك عني، فحسبي من عندي من العيال وانصرف عني الآن، فإني أخشى أن ينطق لساني بما أكره.
وخرج الفتى محزونا كئيبا لا يدري ماذا يصنع! ولكنه نظر فإذا هو يطرق باب صديقه وأخيه سليم، ولم يكد يلقى صديقه حتى قال له هذا في لهجة قد امتزج فيها الغضب والحنان: ما رأيت كاليوم رجلا يدخل على الناس بما يكرهون! ألقيت بهذا الوجه أحدا في طريقك إلى هذه الدار؟ قال خالد: وما ذاك؟ قال سليم: وجه مظلم، وجبهة مقطبة، وشفتان تمتدان شبرين إلى أمام؛ أي كارثة ألمت بك؟ أتراك قد أوسقت سفينتك بنا فغرقت في طريقها إلى المدينة؟! وكاد خالد يضحك لهذا العنف الرحيم، ولكن سليما مضى في تأنيبه وقد أخذ صوته يزداد قسوة، وأخذت لهجته تزداد حدة، فقال: أمسك عليك سرك أيها الرجل، واحفظ على نفسك غيبها، ولا تجعل من وجهك للناس كتابا مفتوحا يقرءون فيه من أمرك ما يشاءون، ليكتئب قلبك ما أرادت الأحوال أن يكتئب، وليبتئس ضميرك ما شاءت الحوادث أن يبتئس، ولكن ليكن وجهك مستوي المنظر في أوقات الشدة والرخاء! فليس يعني الناس ما يصيبك من خير وشر، وإنما أنت تثقل عليهم حين تلقاهم بوجه عابس إن تنكرت لك الدنيا، وحين تلقاهم بوجه باسم إن ابتسمت لك الأيام، تثقل عليهم وتغري شرارهم بالشماتة بك إن أصابك الضر، وبالوجد عليك والحسد لك إن أصابك ما تحب.
قال خالد وقد أخذ وجهه المنقبض ينبسط، وأخذت شفتاه الممدودتان تعودان إلى مكانهما سواء، بل أخذت تفرق بينهما ابتسامة يسيرة فيها شيء من رضا وكثير من حزن، قال خالد: ما أدري لم لا تصطنع مهنة الخطباء والوعاظ! فإنك لتحسن القول، وتحسن النفوذ إلى دخائل النفوس. قال سليم وهو يضحك: بل أحسن الإنباء بالغيب أيضا! فقد كان بينك وبين أبيك شر منذ اليوم، أليس كذلك؟ قال خالد: بلى. قال سليم: فإنه ينقم منك قلة ما تمنحه من المعونة، وقد أخرجه الغضب عن طوره، فقال لك ما لم تتعود أن تسمع منه. قال خالد: هو ذاك. قال سليم: وقد قمت منه مقام الصبي الذي لا يعرف كيف يجيب، ثم انصرفت عنه مبتسما مكتئبا، فأسرعت إلي لتشركني في ابتئاسك واكتئابك، وتجد عندي تسلية وعزاء. قال خالد: لله أنت! لقد كفيتني مئونة الحديث. قال سليم: اجلس يا بني ورفه عن نفسك، فالأمر أيسر مما تظن، ثم ضرب إحدى يديه بالأخرى وهو يصيح: أرسلي إلينا قهوة يا أم سالم وأقبلي إن شئت، فابسمي لصهرك، فقد عبست له الحياة. وأقبلت زبيدة ساخطة متضاحكة معا، تقول لزوجها: أما تنفك ترفع صوتك بكل شيء، وتشرك الناس معك في كل شيء؛ لقد كنت تلوم خالدا لأنه يجعل وجهه كتابا مفتوحا يقرأ فيه الناس من أمره ما يشاءون، فهلا خافت بصوتك وقصرت نجواك على نجيك؛ فليس كل الناس يحسن قراءة الوجوه، ولكن أكثر الناس يحسنون الاستماع لك والفهم عنك إذا رفعت صوتك بكل شيء. قال سليم وهو يضحك لامرأته: ما رأيت أطول ولا أحد من هذا اللسان! قالت زبيدة: إنه لسان امرأة من أهل النار. وأعاد الزوجان على خالد حوارهما الذي قصصناه آنفا، فضحك له ثلاثتهم وهم يشربون القهوة.
فلما انصرفت زبيدة لبعض شأنها قال سليم لأخيه: اعذر أباك؛ فإن عبئه ثقيل، وموارده أضيق من أن تعينه على النهوض به، وأعنه إن استطعت إلى معونته سبيلا. قال خالد: أما أن عبئه ثقيل فهذا حق، ولكنه هو الذي خلق لنفسه هذا العبء الثقيل، ما حاجته إلى هؤلاء الضرائر اللائي يكلفنه من النفقة ما لا يطيق ويجعلن داره جحيما؛ وما حاجته إلى هؤلاء الصبية الذين ينبتون في الدار كما ينبت العشب على شاطئ القناة. قال سليم: لمه فيما بينك وبين نفسك ولكن أعنه، فالأمر الواقع هو أن لديه ثلاث زوجات كلهن ولود. قال خالد: وكيف أعينه بأكثر مما أفعل، وأنا أؤدي إليه معظم ما أقبض آخر الشهر؟! وقد عرضت عليه أن أؤدي إليه راتبي كاملا فلم يقبل مني، وطلب أن أتحول عنه بأهلي، فحسبه من عنده من العيال. قال سليم : وقد انتهى بكما الأمر إلى هذا الحد؟ قال خالد: ولولا أنه صرفني فانصرفت لتجاوز الأمر هذا الحد.
فأطرق سليم ساعة ثم رفع رأسه وقال في صوت هادئ: فإني سأقرضك دنانير تدفعها إليه من يومك، وتؤديها إلي متى استطعت. قال خالد: ما جئت لهذا. قال سليم: فقد أخطأت، وكان يجب أن تجيء لهذا؛ فإن أباك يعاني ضيقا يجب أن نجد له منه مخرجا، فادفع إليه هذه الدنانير من يومك، فإذا كان الغد فسأدفع إليه مثلها؛ فإن له علي مثل ما له عليك من الحق. ثم نهض إلى صندوق ففتحه، وإلى درج صغير في الصندوق فاستخرج منه ذهبا وضعه في يد خالد، وخالد صامت لا يقول شيئا؛ لأنه لا يجد ما يقول، ثم استأنف سليم حديثه فقال: ولست أدري كيف تدبر أمرك، ولا كيف تعيش بهذا الراتب الذي تقبضه آخر الشهر والذي يستكثره الناس وآراه ضئيلا لا يقوم بمثل نفقتك. قال خالد: ماذا تريد أن أصنع؟ قال سليم: تصنع كما أصنع أنا وكما يصنع غيري من الموظفين. قال خالد: وماذا تصنعون؟ قال سليم: نأخذ من الناس أجر ما نؤدي إليهم من خدمة. قال خالد: فإنها الرشوة إذا. قال سليم: سمها أنت الرشوة، فأما أنا فأسمي بعضها أجرا مستحقا وأسمي بعضها الآخر هدية مبذولة. قال خالد: فإن الأسماء لا تغني عن الحق شيئا، فإنكم تتقاضون أجركم على ما تعملون آخر الشهر، فما تأخذونه من الناس لا يحل لكم؛ لأنه الرشوة لا أكثر ولا أقل. قال سليم: يحل لنا أو لا يحل، هذا آخر شيء نفكر فيه، يجب أن نعيش قبل كل شيء، والراتب الذي نقبضه لا يمكننا من أن نعيش، ونحن لا نستكره الناس على ما يضعون في أيدينا من نقد، وما يحملون إلى دورنا من عروض، وإنما هم يفعلون ذلك طائعين، ويسوءهم أن نرده عليهم، وهبك قترت على نسيم مولاتك في الرزق ومنحتها من الطعام أقل مما يقيم أودها أفتلومها إن سرقت لتشبع من جوع؟ قال خالد: فعلي ألا أضطرها إلى السرقة . قال سليم: فعلى الحكومة إذا ألا تضطرنا إلى قبول الرشوة، وإلى أن تأجرنا الحكومة أجرا حسنا، لا أرى علينا بأسا من أن نستعين على الحياة بما يدس إلينا أصحاب المصالح من المال. قال خالد: فإن هؤلاء الناس يدفعون أجور مصالحهم مرتين: يدفعونها حين يؤدون الضرائب، ويدفعونها حين يؤدون إليكم ما يؤدون من المال؛ وهذا هو الظلم الذي ليس بعده ظلم. قال سليم: يدفعونها مرتين أو مرات، هذا شيء لا يعنيني، وإنما الذي يعنيني، هو أن أعيش أولا؛ فأما هذا الظلم الذي تذكره فلست أنا الذي أقترفه، وإنما يقترفه الذين يأخذون الضرائب ثم لا يأجرون الموظفين أجرا ييسر لهم الحياة.
وهنا أطرق الرجلان إطراقتين مختلفين؛ فأما خالد فقد أطرق إطراقة الذاهل الذي يسمع ويعي، ولكنه لا يقر ما يسمع وما يعي، ولا يحسن مع ذلك أن يرد عليه، وأما سليم فقد أطرق إطراقة الرجل الذي يعرف أنه يأتي إثما من الأمر، ويقول منكرا من القول، ولكنه مع ذلك يلتمس لنفسه العذر مما يأتي ومما يقول، وهو يعيد على نفسه ذلك المثل الذي ضربه للموظفين الذين يضيق عليهم في الأجر فيرتشون، مثل الخادم التي يقتر عليها في الرزق فتسرق لتتقي الجوع، ثم رفع سليم رأسه وقطع هذا الصمت الذي كاد يطول، فقال في صوت خافت: أيهما شر: رجل يرتشي ليعيش، أم رجل يرتشي ليستكثر من المال؟ قال خالد: كلاهما آثم، ولكن الذي يرتشي ليستكثر من المال أشد إغراقا في الإثم وتورطا في المعصية. قال سليم: فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه؛ أما أنا وأمثالي فنرتشي لنعيش، هذه رشوتي قد أتاحت لي أن أقرضك ما تعين به أباك، وأن أعينه من غد، فأما غيرنا ... ثم سكت قليلا، ثم قال: فأما رؤساؤنا وسادتنا فإن الحكومة تبسط لهم في الأجر، وتوسع عليهم في الرزق، وتقوم لهم بأكثر مما يحتاجون إليه، وهم مع ذلك يرتشون لا كما نرتشي، ويأخذون لا كما نأخذ، إنا نأخذ الدرهم والدراهم، ونأخذ الدينار والدنانير، ونأخذ السفط من البن أو الجماعة من رءوس السكر، أو الحقيبة من الأرز؛ فأما هم فيأخذون أضعاف ذلك وأضعافه، ونحن نأخذ ما نأخذ لننفق على أنفسنا وعيالنا، وهم يأخذون ما يأخذون ليشتروا الضياع يضفونها إلى الضياع. صدقني! إنك لا تملك كما أني لا أملك إصلاح ما فسد من الأمر، والله وحده القادر على أن يرد الناس أخيارا أبرارا. هنالك نهض خالد وهو يتلو قول الله عز وجل:
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس . ولكنه لم يكد يبلغ باب الدار حتى كان سليم يجذبه جذبا عنيفا وهو يقول: لقد تركت دنانيرك أيها الأحمق؛ خذها وادفعها إلى أبيك؛ فليس عليك من إثمها شيء، ولو عرفت أنك سترد إلى قلبه الهدوء وإلى نفسه الأمن، وستمكنه من أن يطعم صبية جياعا ويكسو جواري كدن يبتذلن، لما ترددت ولا تحرجت.
وبعد فإلى أين تذهب بهذا الوجه الذي كسته الظلمة وعاد إليه الانقباض؟! أقسم لا تخرج حتى تستبدل به وجها آخر، ثم جذبه إليه جذبة كادت تخلع عنه جبته.
وما أقبل المساء حتى كان خالد قد لقي أباه مستحييا ووضع في كفه الدنانير متأثما؛ فابتسم الشيخ ابتسامة فيها خجل كثير، وقال لابنه: أقم فسنشهد العشاءين مع الشيخ.
وأقبل الصبح من غد، فرأى عليا في غرفة أم خالد وقد رفع إلى الله كثيرا من الصلاة والاستغفار والندم، وسكب كثيرا من الدموع؛ لأنه لقي ابنه البر بما يكره، وكان له ظالما وعليه متجنيا، ثم تمنى على أم خالد ألا تضطغن عليه ما قدم إلى ابنهما من مكروه، ثم لا يكاد يفرغ من قهوته حتى يطرق الباب ويستأذن الخادم لسليم، فإذا دخل وحيا وضع في يد عمه دنانير وهو يقول: معذرة إليك يا عم؛ فلو استطعت لأديت إليك أكثر منها: فإن نفقتك كثيرة ونحن مقبلون على شهر الصوم. قال الشيخ وقد جادت عيناه آخر الأمر ببعض الدمع: وصلتك رحم يابن أخي! فقد أعنتني في وقت الحاجة إلى المعونة.
ولما انصرف سليم لم يكن علي يشك في أن الله قد استمع لدعائه الكثير وعفا له عما أسلف إلى ابنه من مساءة. ولولا ذلك لما ساق إليه هذا الرزق الذي لم يكن يرجوه.
الفصل الثامن عشر
وقال الشيخ ذات ليلة لخاصته مقالته لهم في العام الماضي، وآذنهم بأنه سيستعد للحج وبأن من شاء منهم أن يصحبه فليعد للسفر الطويل عدته، وتقدم إليهم أن يؤذنوا في الفقراء وأوساط الناس بأن عليه نفقة من أراد منهم أن يحج بيت الله ولم يجد ما ينفق، ثم التفت إلى الحاج مسعود وقال ضاحكا: أما أنت يا مسعود فقاعد هذا العام فقد أتممت حججك السبع. قال مسعود وقد ظهر على وجهه غضب شديد لم يلبث أن استحال إلى حنان رحيم انهلت له دموعه حتى بللت لحيته الكثة - قال مسعود: أغاضب أنت علي يا سيدنا؟ قال الشيخ وهو يغرق في الضحك: غفر الله لمسعود! غفر الله لمسعود! غفر الله لمسعود! قوم يضحكون، وقوم يبكون، إنما قصدت إلى دعابتك يا مسعود، ولو أردت الجد لما تحدثت إليك.
هنالك تهلل وجه مسعود ونهض مسرعا فأكب على رأس الشيخ يقبله وهو يقول: لقد كنت نذرت لله ألا يحج شيخنا الكبير إلا صحبته، فلما انتقل إلى جوار الله جددت النذر ألا تحج إلا صحبتك، لا يمنعني من ذلك إلا أن أبلغ أرذل العمر وتعجز قدماي عن حملي. فأعاد الشيخ مقالته: غفر الله لمسعود! ثم قال في صوت ملؤه الجد: فأما وقد نذرت هذا النذر فأنت صاحب حجنا منذ الآن، فدبر أمر سفرنا وإقامتنا، وأنفق على ذلك من مالنا فإن فيه سعة. قال مسعود: ومن مالي فإن فيه سعة أيضا. وقال بعض الحاضرين: أفلا نؤذن عليا بما آذننا به مولانا الشيخ؟ فسكت الشيخ حينا ثم قال: لا تفعلوا؛ فإن عليا لا يحج العام. وعرف علي ما كان من حديث الشيخ إلى أصحابه، ولكنه لم يتأهب للحج، ولم يزر الشيخ إلا لماما، ولم يخرج مع الناس لوداع القافلة، فلما كان الشيخ في بعض الطريق ذكروا له عليا وتخلفه عن الحج وتقصيره في الوداع، وتلا بعض أصحاب الشيخ قول الله عز وجل:
ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين . فلما سمع الشيخ هذه الآية ظهر الغضب في وجهه وقال: صدق الله العظيم، ثم أطرق ساعة، ثم رفع رأسه وقال في صوت تحطمه العبرة: لا تتل هذه الآية يا فلان، ولكن اتل قوله تعالى:
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
أما إن أخاكم لا يستطيع إلى الحج سبيلا، وقد كنتم أحرياء أن تبروه وترفقوا به وتصلوا خيرا مما فعلتم، ثم أطرق إطراقة قصيرة وهو يتلو:
ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا . ثم طال صمت الشيخ وصمت أصحابه، لا يقول الشيخ شيئا، ولا يجرؤ أحد من أصحابه أن يقول بحضرته شيئا، وصاحب المقالة مستخذ قد خفض رأسه حياء، والقوم قلقون لا يدرون كيف يستأنفون ما كان عليه أمرهم من غبطة ورضا، فلما طال عليهم هذا الصمت المخيف اجترأ مسعود فقال: سبحان الله! ثم اتجه إلى الشيخ وهو يقول في صوته المتهدج: ما إغراق مولانا في هذا الصمت المخيف؟ إنا كغيرنا من الناس نخطئ ونصيب، ولكننا نحسن أن نتوب إلى الله من خطايانا، فلا تعذبنا بهذا الإعراض، ومر بما تشاء. فرفع الشيخ رأسه وهو يقول: غفر الله لمسعود! أما فلان - يريد صاحب المقالة - فيغيب عني وجهه ثلاثة أيام، ثم يلقاني إذا صليت الصبح، فعسى الله أن يرضي عنه قلبي. هنالك تنحى صاحب المقالة مستخذيا لا ينظر إلى أحد، ولا يكاد ينظر إليه أحد، فلما انصرف قال الشيخ لأصحابه: لا تهجروا أخاكم، ولكن واسوه وأحسنوا النصح له، أما أنت يا مسعود، فإذا عدنا من حجنا، فازفف إلى خالد أهله، فإن ذلك سيرفه على علي. قال مسعود: سمعا وطاعة يا مولاي.
ولم تمض على عودة الشيخ وأصحابه من الحج أشهر حتى كانت امرأة خالد قد زفت إلى زوجها، وحتى كان خالد قد اتخذ له في المدينة دارا مستقلة أقام فيها مع أهله ومن وكل مسعود بخدمة ابنته من الرجال والنساء، وقد أصبحت دار خالد دار الرغد والخير، لا تنقطع عنها هدايا مسعود على ابنته وصهره، وكان مسعود يلم بابنته بين حين وحين، فيوصيها بنفيسة وابنتيها خيرا، ويلقي إليها في السر أن تبر عليا وبنيه، فما أكثر ما كانت ترسل «منى» إلى دار علي بالطرف والهدايا على علم من زوجها حينا، وعلى غير علم منه في أكثر الأحيان، تهدي مرة إلى هذه، ومرة إلى تلك من أزواج الشيخ، والشيخ يرى هذا فلا يهتم له أول الأمر، حتى إذا كثر ذلك من «منى» خلا إلى ابنه ذات يوم فقال له: يا بني، لا تثقل على أهلك ولا على حميك؛ فإن في بعض ما ترسلون إلي مقنعا. قال خالد: والله يا أبت ما تكلفت شيئا وما علمت أن امرأتي تكلفت شيئا، وإن الخير لكثير، وإن الرزق بيد الله يؤتيه من يشاء. ولكن عليا أعاد مثل هذا الحديث على مسعود، فغضب مسعود حتى اضطربت لحيته، ورق مسعود حتى انهلت دموعه، ثم قال لصاحبه: أتريد أن أشكوك إلى الشيخ؟! هنالك اضطرب علي بعض الاضطراب وظهر على وجهه الخجل، وقال: وددت لو يستطيع الشيخ أن ينساني. قال مسعود: هيهات! ليس إلى ذلك سبيل، إنه ليذكرك في كل يوم، وإنه يستحيي أن يدعوك. قال علي: يستحيي أن يدعوني وأستحي أن أزوره! وهو يذكرني في كل يوم وأنا أذكره في كل ساعة! ما كنت أحسب أن الدهر يفعل بالناس مثل ما فعل به وبي. قال مسعود: لم يفعل بكما الدهر شيئا، وإنما أنت أسأت إلى الشيخ وأسأت إلى نفسك، إنك لا تحسن احتمال المحنة ولا الثبات للخطب، إن مال الله غاد ورائح، يصبح الإنسان غنيا ويمسى فقيرا، وإن الرجل الكريم هو الذي يحسن احتمال الفقر كما يحسن احتمال الغنى، وقد عرفت كيف تحتمل الغنى فكنت خيرا جوادا، تواسي الضعيف، وتطعم الجائع، وتكسو العاري، وتعين على نوائب الدهر، ولكنك لم تحسن احتمال الفقر، فاستحييت وليس في الفقر حياء، واستخذيت وليس في الفقر استخذاء، إنك حين تستخفي بفقرك وتتكلف ما تتكلف من الجهد لا تزيد على أن تلوم الله؛ لأنه هو الذي يغني ويفقر، والله لا يلام ولا يسأل عما يفعل؛ وإنما نحن الذين يلامون ويسألون عما يفعلون. أتريد أن تسمع لي وتقبل نصيحتي؟ قال علي وهو ينتحب: وما ذاك؟ قال الحاج مسعود: نصلي العصر معا ثم نسعى إلى الشيخ؛ فإنك إن استأنفت لقاءه والأنس إلى مجلسه لم تعد إلى مثل ما أنت فيه الآن. ولم يقبل الليل حتى كان علي في مجلس الشيخ كدأبه قبل أن تلم به المحنة، وكدأبه في مجلس الشيخ الكبير.
على أن العام لم ينته حتى ألم الموت بدار علي، فانتزع منها امرأة كانت أشوق ما تكون إليه وأزهد ما تكون في الحياة، رد أم نفيسة إلى زوجها عبد الرحمن في الدار الآخرة، وكان هذا الموت آية لعلي أثبتت له أن فقره ومحنته لم يغيرا من مكانته في المدينة شيئا؛ فقد هرع أهل المدينة كلهم إلى دار علي يواسونه ويشيعون جنازته، ويتقدمهم الشيخ، وكان الأسبوع الأول لوفاة هذه المرأة الصالحة أسبوعا حافلا في دار علي، قرئ فيه القرآن كأحسن ما يقرأ في أكثر الدور ثراء وغنى، وأقام الشيخ فيه بنفسه حلقة الذكر مرات. وقال علي لنفسه غير مرة: صدق الحاج مسعود! إن الرجل الكريم هو الذي يحسن احتمال الفقر، كما يحسن احتمال الغنى، ولكن عليا منذ ذلك الوقت قطع على نفسه عهدا ليستأنفن حياة أخرى فيها جد كثير، وزهد في اللذات، وانصراف عن متاع الدنيا، وقناعة بما قسم الله له من الرزق.
الفصل التاسع عشر
قالت نفيسة لصديقتها زبيدة وهي تواسيها بين نوحتين، حين انقطع فجأة تعديد المعددة، وسكت المأتم ودارت عليهن قهوة يشربنها في صمت عميق ودموع منها ما لا يزال يساقط قطرات متقطعة، ومنها ما لا يزال ينهل وابلا غزيرا، ومنها ما يريد أن يجف لولا قطرة تمده بين حين وحين - قالت نفيسة لصديقتها زبيدة هامسة كأنما تسر إليها شيئا: لو تعلمين أني لا أحزن على فقد أمي بمقدار ما أحزن على دفنها في هذه المدينة من وراء النهر بعيدة عن أبي وأخوي، أولئك الذين دفنوا في القاهرة، فهم لم يفترقوا في الحياة قط إلا هذه الأسفار التي كان يعمد إليها أبي لتجارته، وكانت أمي إذا حدثته عن كثرة هذه الأسفار وما تقتضيه من فراق، سمعته يقول لها في أناة: إنما نحن في هذه الدار على سفر، وسيكون بيننا جوار متصل في الدار الآخرة إن شاء الله لا تشكين معه بينا ولا فراقا.
قالت زبيدة: وما يحزنك من ذلك؟ لقد التقيا منذ يومين وهما يسعدان الآن بهذا الجوار المتصل الذي طالما تمنياه.
قالت نفيسة وهي تكفكف عبرة أخذت تنهل: قد التقيا! وأنى يكون لهما اللقاء! بل أنى يكون لهما التزاور وأحدهما في القاهرة والأخرى في هذه المدينة من وراء النهر، والأمد بينهما بعيد!
قالت زبيدة: قد افترق جسماهما، رقد أحدهما في القاهرة، ورقد الآخر هنا، ولكن روحيهما قد التقيا في رضوان الله؛ حتى إذا كان يوم القيامة التقى الروحان والجسمان جميعا في الجنة، بذلك حدثنا شيوخنا، وبذلك يحدثني سليم كلما ذكرنا الموت، وما أكثر ما نذكره!
قالت نفيسة: افترق جسماهما والتقى روحاهما! هذا كلام لا أفهمه ولا أصدقه، ولو كان حقا لما رأيت أبي في الليلة الأولى لوفاة أمي وهو يلقي إلي من بعيد هذا الأمر: قولي لهم يدفنوها معي فإني إليها مشوق، وقد وعدتها بذلك قبل أن أموت؛ ولو كان هذا حقا لما رأيت أمي في الليلة الثانية تلقي إلي هذا الأمر من بعيد: قولي لهم يدفنوني معه فإني مشوقة إليه، وقد وعدني بذلك قبل أن يموت، أترين لو أن روحيهما التقيا أكانا يطلبان إلي هذا الذي تواعدا عليه قبل أن يموتا؟!
قالت زبيدة: وقد أخذ شيء من الخوف الخفي يتسرب إلى قلبها فتسري له في جسمها كله رعدة خفيفة - قالت زبيدة: أفتصدقين الأحلام وتكذبين مقالة الشيخ؟! إن الأحلام كثيرا ما تكذبنا، ولكن الشيخ لا يقول إلا الحق.
قالت نفيسة: أما إني لا أدري أيهما يلم بي الليلة إذا غفوت فيلقي إلي هذا الأمر الذي لا أستطيع له تنفيذا، فكيف لي بنقل أمي إلى القاهرة وأنا لا أقدر على شيء! وكيف لي بالتحدث إليه أو إلى أبيه في شيء من ذلك وقد فعلا أكثر مما كان ينبغي أن يفعلا. قالت زبيدة: إليه! إلى من؟ قالت نفيسة: إليه! إنك لتعرفينه. ففطنت زبيدة إلى أنها إنما تشير إلى خالد، وكانت لا تسميه إذا تحدثت عنه، وإنما تشير إليه دائما بالضمير. قالت زبيدة: قد فهمت، سأتحدث إليه وإلى أبيه وإلى سليم.
واستأنفت المعددة غناءها الذي كان يمزق القلوب، واستأنف المأتم الرد عليها والبكاء معها، وانهلت الدموع غزارا، واضطربت الأصوات في الحلوق، وألمت النوبات العصبية ببعض النائحات فأسرع إليهن سائر نساء المأتم، يهدئنهن بالقول والعمل، وينضحن على وجوههن الماء. وانصرفت زبيدة من ذلك اليوم وهي تشفق على نفيسة من خطر جديد، وتزمع أن تتحدث إلى زوجها في نقل هذه المتوفاة إلى القاهرة، ولست أدري أتحدثت في ذلك أم لم تجد إلى الحديث فيه سبيلا، ولكن الشيء المحقق هو أن الليل جعل يخيف نفيسة أشد الخوف كلما مالت الشمس إلى الغروب، وكان هذا الخوف يزداد قوة وعنفا كلما تقدم الليل، وكان أبغض شيء إلى نفيسة أن تأوي إلى مضجعها مخافة أن يزورها النوم، فيزورها معه طيف هذا أو تلك من أبويها، فكانت تدافع النوم بالقهوة تسرف في شربها إذا أظلم الليل، لا تكاد تفرغ من كأس حتى تعمد إلى كأس أخرى، ثم أشفقت من العزلة التي كان الليل يضطرها إليها إذا هدأ من حولها كل شيء ونام من حولها كل إنسان، فكانت تستبقي ابنتيها معها حتى يتقدم الليل، فإذا عبث النعاس بالصبيتين ووضع رأس كل واحدة منهما على إحدى فخذيها، أدركها شيء من الجزع وهمت أن توقظهما، لولا أن نسيما كانت تسرع إلى الصبيتين فتحملهما إلى مضجعهما، ثم تعود إلى مولاتها فتسليها بالقصص والحديث، وما تزال بها حتى تسلمها إلى نوم مضطرب ثقيل، وقد اشتد هذا الأمر مع الأيام، حتى اضطرت الخادم إلى أن تنام في غرفة سيدتها، تلقي لنفسها وسادة على الأرض، وما تزال بسيدتها في حديث وقصص، حتى إذا أحست منها استسلاما للراحة أو إذعانا لشيء يشبه النوم استلقت هي على وسادتها فنامت إحدى عينيها وظلت الأخرى مستيقظة لحراسة سيدتها من هذا الطائف المزعج الذي كان يلم بها كلما اطمأنت أو كادت تطمئن إلى النعاس.
وقد عاشت نفيسة ما شاء الله لها أن تعيش، وعمرت ما أذن الله لها أن تعمر دون أن تطمئن إلى النوم ليلة كاملة، إنما كانت تهب من نومها أثناء الليل فزعة جزعة؛ لأنها رأت أمها أو أباها، وسمعتهما يلقيان إليها هذا الأمر دائما: قولي لهم يدفنوها معي فأنا إليها مشوق، وقد وعدتها بذلك قبل أن أموت. أو قولي لهم يدفنوني معه فأنا إليه مشوقة، وقد وعدني بذلك قبل أن يموت. وكثيرا ما رئيت شفتاها أثناء النهار تتحركان دون أن يصدر عنهما صوت؛ فلم يشك من كان حولها في أنها تردد هذا الأمر الذي صدر إليها من أحد أبويها أثناء الليل.
وقد قصت نسيم بعض هذا على سيدها خالد، فاستمع له ثم انصرف عن مولاته وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقول:
أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين . وقص خالد ما سمع من مولاته على أبيه، فقال: يرحم الله عبد الرحمن! ويرحم الله امرأته! ويلطف الله بنفيسة! هون عليك يا بني وارفق بها؛ فإنما طائف الليل هذا الذي يزورها كجنية البيت التي تراءت لها ذات مساء، وأنبأتها بأنك تريد أن تدخل عليها ضرة في بيتها، أتذكر جنية البيت؟! ثم سكت علي لحظة، ثم استأنف حديثه قائلا: ومع ذلك فيحسن أن نعيد هذا الحديث على الشيخ، فلعله أن يرى لنا في الأمر رأيا. وأعاد علي بمحضر ابنه على الشيخ حديث نفيسة؛ فابتسم الشيخ ابتسامة حزينة وقال: يلطف الله بها، إنما هو طائف من الشيطان قد أولع بها فصرفها عن الحياة وصرف عنها الحياة؛ ومع ذلك فارفقوا بها وجنبوها العزلة ما وجدتم إلى ذلك سبيلا. ونظر الشيخ إلى علي فإذا دمعتان تترقرقان في عينيه ثم لا تلبثان أن تنحدرا على خديه لتضيعا في لحيته الكثة، وإذا هو يقول: اللهم ارحم أم خالد، واغفر لي وللشيخ الكبير ولعبد الرحمن، فقد أنبأتني أني حين أزوج هذين الشابين لا أزيد على أن أغرس في بيتي شجرة البؤس، لقد والله غرستها، فثبتت أصولها في الأرض، وارتفعت أغصانها في السماء، وأخذت تؤتي ثمرها خبيثا مرا. قال الشيخ وهو يضحك: ما أشد ما تعبث الأوهام بعقول العقلاء! وانصرف خالد إلى أهله وهو يطيل التفكير في شجرة البؤس هذه، يسأل نفسه عن أصولها التي رسخت في الأرض، وفروعها التي ارتفعت في السماء، ولكنه لا يسأل نفسه عن ثمراتها المرة الخبيثة؛ فقد ذاق بعضها ووجد طعمها المر الخبيث حين كشف له الغطاء عن قبح زوجه، وحين ألزم المضاهاة بين وجهي الصبيتين ووجه أمهما، وحين لعب الشيطان بنفسه فوسوس له ما وسوس، بل زين له ما زين، بل لقد كانت شجرة البؤس هذه مبكرة في إيتاء أكلها، فقد ذاق أول ثمرها ولما يمض على زواجه إلا وقت قصير. رحم الله أمه! لقد كانت كارهة إذا لهذا الزواج نابية عنه، وأكبر الظن أنه هو الذي قتلها.
الفصل العشرون
وقد كان خالد سعيدا ناعم البال في حياته الجديدة، مغتبطا بما أتيح له من نعمة حين تزوج «منى» وأصهر إلى الحاج مسعود، ولم يمض عام وبعض العام على هذا الصهر حتى رزقته «منى» غلاما ذكرا سماه محمدا، وصور ما شئت من سروره بمقدم هذا الغلام الذي جاء حسن الطلعة جميل المنظر ميمون النقيبة بعد هاتين الصبيتين البائستين، نعم! إن لله لحكمة تعيا العقول عن إدراك كنهها وتعمق حقائقها، لقد غرس أبوه في داره شجرة البؤس فشقيت بها أمه، وشقيت بها نفيسة وأسرتها، وشقيت بها الصبيتان، ولقد غرس الحاج مسعود في داره شجرة النعيم فسعد بها هو، وسعد بها حموه، وسعدت بها منى، فليت أم خالد عاشت حتى تشارك في هذا النعيم وحتى تسعد بهذا الحفيد! وكان قلب خالد يخفق كلما ذكر هذه النعمة، وما أكثر ما كان يذكرها! لأنه كان يشفق أن تسقط في أثنائها ثمرة من أثمار تلك الشجرة البغيضة التي رسخت أصولها، ونمت فروعها في دار أبيه، وقد تواترت نعم الله على خالد، فرزقته «منى» غلاما آخر وغلاما ثالثا، حتى شارك امرأته في الخوف من حسد الحاسدين على هؤلاء الصبية الذكور الذين أخذ بعضهم يتبع بعضا لا تخالف بينهم صبية.
ويصبح خالد ذات يوم وإذا الأسرة في خلاف شديد وخصام يوشك أن يبلغ العنف، فقد تحدث الشيخ في مجلسه أمس، ولم يكن خالد حاضرا هذا المجلس، بأنه قد وجد لخالد عملا خيرا من عمله في محكمة المدينة يؤجر عليه بما يعدل راتبه مرتين غير ما يسوقه إليه من رزق لا حرج فيه، فهذا العمل في بعض مرافق الدائرة السنية، وما أكثر الخير الذي يساق مباركا موفورا إلى الذين يعملون في مرافق الدائرة السنية! ولا عيب لهذا العمل إلا أنه سيضطر خالدا إلى ترك مدينته وأسرته وشيخه وذوي قرابته لينتقل إلى مدينة أخرى في أعلى الإقليم مما يلي الصعيد، ولكن خالدا رجل لا يجد بالانتقال بأسا ولا يلقى فيه مشقة، والأمد بعد قريب بين المدينتين، وما هي إلا ساعات لمن يقطع الطريق ماشيا، وساعات أقل لمن يقطعها على دابة، فأما إذا اتخذ المسافر هذا البدع الجديد الذي جاء من القاهرة منذ حين والذي هو حديد يمشي على حديد، ويرسل بين يديه دخانا وغبارا، ويشق الجو من حوله بالصفير والأزيز والشهيق، هذا الذي يسمونه القطار، فإنه يقطع المسافة في ساعة وبعض ساعة، وما ينبغي لخالد أن يضيع هذه الفرصة أو أن يخيب أمل الشيخ فيه، فلم يكن الشيخ حين وجد هذا العمل واختار له خالدا يفكر في هذا الفت وأسرته وحدهما، وإنما كان يفكر مع ذلك في نفسه وفي طريقته أيضا، فقد كانت هذه المدينة التي يريد أن يرسل إليها خالدا هي المدينة الوحيدة التي استعصت عليه بين مدن الإقليم، فلم ترسل إليه الوفود والهدايا في المواسم والأعياد، ولم تنتدب من فقرائها ولا من أغنيائها من يصحب الشيخ في حجه على نفقته الخاصة أو على نفقة الشيخ، ولم تكن تحفل به إن عبرها مع أصحابه مسافرين على ظهور الخيل أو مر بها مع أصحابه مسافرين على ظهر النيل، قد استقر الشيخ في ذهبيته واستقر أصحابه في السفن التي كانت تتلوها، بل كثيرا ما تجهمت المدينة لهؤلاء السفر الغرباء، حتى كان الشيخ يأمر ألا ينزل أصحابه بها، وألا ترسو سفنه على شواطئها مخافة أن يصيبه ويصيبهم من أهلها بعض ما يكرهون، ذلك أن هذه المدينة وما حولها من القرى كان لها شيخها أو كان لها بيت طريقتها الذي تلتف حوله وتعتز به وتثوب إليه عند الملمات، وتنافس به غيره من المشايخ وبيوت المشايخ.
وكان الشيخ الكبير، رحمه الله، لا يعنى بهذه الأشياء، ولا يحفل بهذه الصغائر، ولا يلتفت إلى من يقبل عليه أو يدبر عنه؛ لأنه لم يكن يبتغي استعلاء ولا جاها ولا بعد صوت، وإنما كان يرى حياته جهادا في سبيل الله؛ فمن ثاب إليه تلقاه لقاء حسنا وعلمه مما علمه الله، ومن نأى عنه لم يفكر فيه إلا مستغفرا له وراجيا له الخير والصلاح، فأما الشيخ الشاب فمع أنه لم يقصر في ذات الله فإنه على ذلك لم يقصر في ذات الدنيا، ولم يكن يطمئن إلى أن تقوم المدينة مستعصية مريبة بين مدن الإقليم، فكان يتمنى أن يرسل إليها رسولا، أو يقر فيها داعية، أو يكون له فيها منزل ينزل فيه إذا مر بالمدينة برا أو من طريق النيل، فلما وجد هذا العمل - وأكبر الظن أنه قد جد حتى وجده - رضيت نفسه واستبشرت، وحزم أمره واصطنع السياسة والحكمة، فلم يفكر في أن يرسل إلى المدينة رسولا أو يقر فيها داعية، وإنما اكتفى أول الأمر بأن يذهب هذا الموظف، فيقيم في المدينة كغيره من موظفي الدائرة السنية، ويتخذ لنفسه فيها دارا رحبة، وينفق فيها راتبه وأكثر من راتبه، فسيأتيه فيها رزق كثير، وسيمده حموه بخير كثير، وسيألفه أهل المدينة ويطمئنون إليه ويجعلون له بينهم مكانا رفيعا، فإذا استقر هذا الموظف في بيئته الجديدة تلك عاما وعاما، ومر الشيخ بالمدينة مصعدا أو مصوبا، لم يكن بأس من أن ينزل ضيفا عليه هو وأصحابه، وما كان أكثر أصحابه هؤلاء؛ وهناك يفرح من يفرح، ويحزن من يحزن، ويغتاظ من يغتاظ، ولكنه سينزل في المدينة ويقيم فيها اليوم أو الأيام، ويقيم فيها حلقة الذكر أيضا، وكان الشيخ يطرب طربا غريبا إذا رأى في خياله أنه سيقيم حلقة الذكر في هذه المدينة التي استعصت على أبيه ولكنها لن تستعصي عليه.
ولم يتحدث الشيخ بشيء من هذا إلى أصحابه حين ذكرهم أنه وجد هذا العمل واختار له خالدا، وإنما ذكر مزايا هذا العمل الجديد وحاجة خالد إلى اتساع الرزق؛ فقد أصبح صاحب أسرة ضخمة له بنون وبنات، وينبغي أن يلتمس لهم من رزق الله، ولمح تلميحا خفيفا بأننا قد نزور خالدا بين حين وحين، فرضى أصحابه، وحمد بعضهم للشيخ هذا السعي الحسن، ووجد بعضهم على الشيخ في دخيلة نفيسه؛ لأنه لم يجد إلا خالدا يؤثره بهذا العمل الذي يغل على صاحبه خيرا كثيرا، فأما علي ومسعود فقد سمعا ورضيت قلوبهما وابتهجت نفوسهما، وشكرا للشيخ عطفه وحبه: يشكره علي باسما، ويشكره الحاج مسعود ودموعه تنهل، ويجد الشيخ ما يرضيه من بكاء هذا وابتسام ذاك.
وعاد علي ومسعود إلى أهلهما حين تقدم الليل، وأصبح خالد فغدا إلى عمله في المحكمة، فلما عاد إلى أهله رأى في داره اضطرابا واختلافا، فلما سأل عن ذلك أنبأته «مني» وهي تضحك بأن الشيخ قد وجد له عملا آخر في مدينة أخرى من مدن الإقليم، وأن أمها ضيقة بهذا الانتقال رافضة له؛ لأنها لا تحب أن تفارق ابنتها ولا أن تفارق حفدتها، وإنما تريد أن تراهم متى شاءت، تريد أن تراهم مصبحة إن أعجبها أن تراهم مصبحة، وأن تراهم ممسية إن أحبت أن تراهم آخر النهار، وأن يزوروها إن أرادوا وتستزيرهم هي إن أرادت. فأما هذه المدينة التي يسافر المسافر إليها على ظهور الخيل أو الإبل أو الحمر أو في هذا القطار البغيض، فليس لها فيها أرب، لن تأذن بأن يفرق مفرق بينها وبين ابنتها، وحسبها بالموت مفرقا للمحبين. فإذا ذكر لها ارتفاع الراتب وكثرة ما سيصيب ابنتها من الخير سخرت من ذلك ورفعت له كتفيها وقالت: ما حاجة خالد إلى ارتفاع الراتب وإلى هدايا الناس والخير عندنا كثير! وهل شكا خالد أو أحد من أهله تقتيرا في الرزق أو ضيقا في ذات اليد؟! فإذا ذكر لها أن الشيخ هو الذي وجد هذا العمل واختار له خالدا، أخذها غيظ شديد، وقالت: إن أتباع الشيخ كثيرون، منهم الشباب والكهول والشيوخ، فما باله لم يختر إلا خالدا؟ خلوا بيني وبين الشيخ، فلئن لقيته لأغيرن من رأيه، فإن لم أستطع فسأعصي أمره مجاهرة له بالعصيان؛ أفتظنون أني أخاف الشيخ أو أفرق منه؟! لقد رأيته صبيا يدرج، ولقد لاعبته وداعبته قبل أن يبلغ العاشرة من عمره؛ اتخذوه لكم شيخا؛ فأما شيخي أنا فقد مات، ولو كان حيا ما فرق بيني وبين ابنتي.
وكان زوجها يحاول إرضاءها عن اختيار الشيخ، يلطف لها حينا ويعنف بها حينا آخر، فلا يبلغ منها شيئا. فلما ارتفع الضحى، أقبلت إلى ابنتها ثائرة تريد أن تنتقل إليها الثورة، عصية تريد أن تحملها على العصيان، ولكنها تحدثت وتحدثت إلى ابنتها، فلم تر فيها ميلا إلى الثورة، ولا استعدادا للعصيان، فلما سألتها مغيظة عن رأيها، قالت «منى» في صوت هادئ مضطرب بعض الشيء: ومتى كان لي في مثل ذلك رأي؟! إنما الرأي لخالد، فأنا مقيمة إن أقام، ومرتحلة إن ارتحل، هنالك تحولت ثورة الأم فجأة إلى حزن عميق، فانحازت إلى زاوية من زوايا الحجرة التي كانت تتحدث فيها إلى ابنتها، وأغرقت في بكاء صامت متصل.
ولو كشف للناس عما كان في قلبها إذ ذاك لرأوا فيه شيئا من خيبة الأمل والاستعداد للإذعان؛ فقد رأت من زوجها إصرارا، ومن ابنتها إيثارا لطاعة الزوج، وماذا تستطيع أن تصنع وحدها أمام هذه القوى التي تكاثرت وتظاهرت لا تريد إلا أن تفرق بينها وبين ابنتها؛ ومتى لقيت من الحياة خيرا؟! أما زوجها فمشغول بشيخه وتجارته، وأما بناتها فلا تكاد إحداهن تتزوج حتى تنسى كل شيء وكل إنسان إلا زوجها وبنيها، وماذا تنكر عليهن وهن لا يزدن على أن يسرن سيرتها! فقد نسيت هي دارها وأمها منذ زفت إلى الحاج مسعود؛ فلم لا تنسى «منى» دارها وأمها منذ زفت إلى خالد، ثم تنجم في قلبها الساذج عاطفة مؤلمة تشبه الغيرة وما هي بالغيرة؛ فهي لم تلد لزوجها إلا بنات، وهؤلاء بناتها يلدن لأزواجهن البنين، فهن أحسن منها حظا، وأعظم منها نصيبا من الخير، وآثر منها عند أزواجهن، ولو أنها ولدت للحاج مسعود غلاما أو غلامين لكانت له معها سيرة غير سيرته هذه، ثم تلوم البائسة نفسها على ما ساورها من سوء الظن بزوجها، وهو الذي لم يقدم إليها إلا خيرا وبرا، وهو الذي لم يفكر في أن يدخل عليها ضرة لعلها تلد له غلاما، بل هو الذي لامها أشد اللوم وعنفها أشد التعنيف وأنذرها بأنه سيشكوها إلى الشيخ حين ألحت عليه منذ سنتين في أن يتخذ زوجا ثانية لعلها تلد غلاما، فما ينبغي أن يئول أمر هذه الدار إلى البنات وأزواجهن من الغرباء، وكانت جادة في هذا الإلحاح، وكانت قد اختارت للحاج مسعود بنفسها فيما بينها وبين نفسها زوجته الثانية، ولكن الحاج مسعود كان جادا في رفضه وجادا في إنذاره بأن يرفع أمرها إلى الشيخ، وقد زاد حبه لها منذ تلك المحنة، واشتد عطفه عليها، حتى لقد كان يصطحبها معه إلى الحج إيثارا لها بالخير وكراهية لفراقها؛ فما ينبغي أن يسوء ظنها به أو يفسد رأيها فيه، وما ينبغي لها إلا أن تطيعه وتذعن لأمره، إنه سيفرق بينها وبين ابنتها؛ فليكن ما يريد، فلولا أن الله قد كتب ذلك لما خطر هذا الخاطر للشيخ، ولما ألح فيه الحاج مسعود، وهل خلق النساء في هذه الحياة إلا لطاعة الأزواج والإذعان للقضاء المكتوب؟!
فلما عرف خالد ذلك تردد ساعة بين الرضا والسخط، ولكنه لم يلبث أن اطمأن إلى الرضا؛ فهو لم يتعود أن يخالف عن أمر الشيخ، وهو مدين بما في حياته كلها من خير وشر للشيخ ولأبيه، فأما الشيخ الكبير فقد زوجه نفيسة وأذاقه ثمرة البؤس، ولكنه خطب به «منى»، وأما الشيخ الشاب فقد زوجه منى وفتح له أبوابا من الخير،
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا .
وهو يقبل مع امرأته على حماته يسليانها ويعزيانها ويترضيانها، حتى تظهر الرضا وفي نفسها إذعان، ولكنه إذعان ساخط مغيظ.
فإذا قص خالد أمره على أخيه وصديقه سليم، قال له هذا ضاحكا: لم تنبئ بأمرك جاهلا! فقد علمت منه مثل ما تعلم، وقد سررت له وحمدته للشيخ وإن كنت لأضمر له حبا عميقا، وأكاد أندم على أني لست من أتباعه وشيعته، فلو قد كنت منهم مثلك لجاز أن يجد لي عملا كالذي وجده لك، يبسط لي في الرزق ويخرجني من هذه المدينة التي أخذت أبغضها أشد البغض وأضيق بأهلها أشد الضيق. قال خالد أتحب أن أكلمه في ذلك؟ قال سليم: لا تفعل! فإني لم أحسن رعاية حقه، ولا أراني قادرا على أن أستأنف معه سيرة جديدة؛ فقد ألحقني أبوه بعملي كما ألحقك بعملك، فوفيت أنت للرجلين، ووفيت أنا للشيخ الكبير وقصرت في ذات الشيخ الصغير، وماذا تريد أن أصنع؟ لقد لاعبته صبيا، وداعبته وخاصمته شابا، فكيف تريدني على أن أرى فيه الآن شيخا له فضل أبيه، أتراني أستطيع أن أدين لك بمثل ما تدين به للشيخ، وإنما نحن أتراب، لعبنا معا، ونشأنا معا، ثم افترقت بنا طرق الحياة، فأصبح هو شيخ طريق، وأصبحت أنا كاتبا في المديرية، وأصبحت أنت كاتبا في المحكمة، أستغفر الله، بل موظفا في الدائرة السنية يقبض في آخر الشهر ثمانية جنيهات لا أربعة. قال خالد وهو يضحك: صدق الله العظيم:
من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا . ثم سكت خالد حينا ثم قال: ولكني غير مطمئن إلى هذا الانتقال كل الاطمئنان. قال سليم: لا تكن محمقا، راتب ضخم، وخير كثير، وفراق لهذه المدينة، ورضا الشيخ، ماذا تريد أكثر من ذلك؟! وهم خالد أن يتكلم، فمضى سليم في حديثه قائلا: لا تهتم لنفيسة وابنتيها، فسأرعاهن بعد سفرك كما ترعاهن أنت الآن، وأنت تعرف بر زبيدة بهن وحبها لهن، أليست جلنار خطب سالم؟! قال خالد وهو يضحك: وصلتك رحم! فما كنت أشك أنك ستقوم مقامي منهن. قال سليم: ولكن ذلك لن يعفيك من أن ترزقهن وتعين أباك. قال خالد: وهل في ذلك شك؟ سأيسر عليهن في الرزق، وسأضعف لأبي معونته. ولم تمض أسابيع حتى كان خالد قد استقر في مدينته تلك النائية القريبة، واستأنف عمله الجديد، ثم لم تمض أشهر حتى كانت «منى» قد رزقته غلاما رابعا.
الفصل الحادي والعشرون
قال سليم وهو مغرق في الضحك - وكان قد جاء زائرا لخالد وأسرته: ماذا تريد؟ لقد أصبحت تلك الناحية من دار أبيك بيمارستانا، وأصبحت زبيدة ممرضة لإحدى المجانين، فأما نسيم فقد أمرتها أن تعزل الصبيتين وأن تعنى بهما، وألا تجعل بينهما وبين أمهما سببا حتى تنجاب عنها هذه المحنة، وأظنك توافقني على أن الدور لم تقم ليمرض فيها المجانين؛ فللمجانين دارهم الخاصة في القاهرة، وأظنك توافقني أيضا على أن زبيدة ليست هي التي تحسن رعاية المجانين والقيام عليهم، فأطعني يا بني، ولنرسل نفيسة إلى حيث ينبغي أن تقيم.
قال خالد وفي عينيه دمعتان تريدان أن تسقطا ولكنه يعلقهما بين جفونه في شيء من الجهد: حاش لله! لن يكون هذا وأنا حي، ماذا أقول لعبد الرحمن وزوجه إذا التقينا في الآخرة؟! وماذا أقول للشيخ إذا سألني عن العهد الذي أعطيته على نفسي؟ وكيف أرضى لابنتي أن يقال إن أمهما قد اضطرت إلى مستشفى المجانين؟!
قال سليم في شيء من الجد: وماذا تريد أن تصنع إذا؟ فإن حال نفيسة لا تطاق، ولا سبيل إلى تمريضها حيث هي الآن. وهم خالد أن يجيب ، ولكن «منى» سبقته إلى الحديث، فقالت: إنما مكان نفيسة هنا في هذه الدار، أقوم عليها أنا ومن معي، ويرعاها أبو ابنتيها من قريب كما كان يرعاها قبل أن ينتقل إلى هذه المدينة. قال الرجلان معا: أوتفعلين؟ قالت مني: ولم لا؟ سأتخذ ابنتيها ابنتين لي، وقد رزقني الله أربعة غلمان ولم يرزقني بنتا واحدة. قال سليم وعلى ثغره ابتسامة راضية وفي صوته حنان لم يعرف منه: بل تتخذين ابنتيها أختين لك، فما أرى أن الفرق بينك وبين سميحة عظيم. أما خالد فقد عجز عن ضبط نفسه فأرسلها على سجيتها، وعن إمساك دموعه ففرق ما بين جفونه، وإذا هو ينتحب، وإذا دموعه تنهمل على خديه انهمالا.
فلما رأى سليم ذلك من أمره عاد إلى المألوف من عنفه الظاهر وجفوته البادية، فأغرق في الضحك وهو يقول: ما رأيت كاليوم رجلا يشبه النساء وامرأة تشبه الرجال، انظر أيها الأحمق إلى امرأتك وتعلم منها كيف يكون لقاء المحن؟! وكيف يكون الثبات للخطوب؟! ألا تستحيي أن يدخل بنوك وأن يروك في هذه الحال! ثم التفت إلى «منى» وهو يقول: جففي له دموعه أو ابغيه منديلا يجفف به هذه الدموع، ولكنكما لما تسألاني كيف كان بدء هذه القصة التي انتهت بنفيسة إلى ما هي فيه؛ فإن هذه القصة مؤلمة حقا، ولكن فيها مع ذلك كثيرا من الغرابة وكثيرا من الفكاهة أيضا. قالت منى: من الفكاهة؟! قال سليم: نعم من الفكاهة. أتعرفين من دفع نفيسة إلى هذه الحال؟ قالت منى: من دفعها إلى هذه الحال؟ قال سليم: أتذكرين أم رضوان أم لعلك نسيتها؟ قالت منى: أم رضوان! وكيف أنساها، ولم يبعد عهدي بها بعد. قال سليم: فهي التي فتحت لنفيسة هذا الباب المنكر الذي لا نعرف كيف نخرجها منه. قالت منى: وكيف ذاك؟
قال سليم وهو يلتفت إلى خالد: إنك لتعرف دار أبيك في ذلك اليوم من الشهر حين يهيأ الخبز، وإن أم رضوان هي التي تخبز لهم، فتذكر إن كنت ناسيا، كيف يكون الاستعداد لهذا اليوم: لا تكاد الشمس تجنح إلى مغربها حتى تكون إحدى نساء الدار مشغولة بإعداد الخميرة، فإذا تقدم الليل شيئا تعجل النساء نومهن ونامت في الدار أم رضوان، فلم يذقن النوم إلا غرارا؛ فهن ينهضن إذا انتصف الليل أو قارب ثلثيه، وهن يسرعن إلى عجينهن ينفقن فيه الساعة أو أكثر من الساعة، يتنافسن فيما يبذلن من جهد، لكل واحدة منهن وعاؤها الذي تعجن فيه، حتى إذا أتممن ذلك وفرغن من تنافسهن وما يكون بينهن من حديث يهمسنه همسا أو غناء يخافتن به مخافة أن يصل إلى آذان الرجال، والجاهلات مع ذلك لا يلحظن أن ما يحدثن من الصوت في أوعيتهن كاف لإيقاظ المغرقين في النوم العميق، ولكنهن لا يتحدثن إلا همسا، ولا يتغنين إلا إسرارا، فإذا فرغن من عملهن ثبن إلى مضاجعهن يلتمسن فيها علالة من نوم ريثما يرتفع العجين، وتنهض إحداهن قبل صاحباتها لتحمي التنور، فتمتلئ القاعة وهجا، وتمتلئ الدار دخانا، ويهب أهل الدار مع الفجر: فأما الرجال فيصلون ويتعجلون قهوتهم، ويغدون مع الطير، وأما النساء فيسرعن أو يبطئن إلى قاعة التنور؛ فهن قد اتخذنها موعدا للقاء. هنالك تجلس أم رضوان إلى جانب الفرن لتنضج الخبر ترقصه على مطرحتها حينا ثم تدفعه إلى التنور دفعا، ثم لا تلبث أن تخرجه بغصنها ذاك اليابس من سعف النخل، وما تزال ترقص رغيفا وتخرج رغيفا حتى يرتفع الضحى والنساء من حولها يداعبنها ويتلاغطن بأحاديث مختلفة، فيها الجد وفيها الهزل وفيها الشكوى وفيها المؤاساة.
قال خالد وقد كاد يرد إلى صباه: فما شأن هذا كله وما نحن فيه؟ قال سليم: شأن هذا كله وما نحن فيه، أن نفيسة كانت بين النساء في قاعة التنور، فقصت أم رضوان قصة سمعتها نفيسة فصدقتها وهمت أن تحققها، فلما ردت عن ذلك بعد جهد أصابها ما هي فيه الآن. قال خالد: وما قصة أم رضوان هذه؟ قال سليم: كان النساء يتجاذبن أحاديث الجن وأحاديث الجنيات خاصة حين يظهرن إذا تقدم الليل ويرقصن في ضوء القمر. فقالت أم رضوان: لقد رأيت في قريتنا أمرا عجبا، رأيته بنفسي فلا أستطيع أن أكذبه، ولو حدثني به أحد غيري لرفضته كل الرفض. قال النسوة: وماذا رأيت يا أم رضوان؟ قالت: إني أخاف أن أقص عليكن ما رأيت. قال النسوة: بل قصيه علينا. وألححن في ذلك وفي نفوسهن ثقة بأن أم رضوان لم تر شيئا، ولكنه الشوق إلى القصص والرغبة في الشعور بالخوف وهذه اللذة الغريبة التي يجدنها في إثارة الفزع في نفوسهن.
قالت أم رضوان: كنت أخبز في قريتنا لجارة لنا ذات مساء كما أخبز الآن، وكانت صاحبة الدار أم عثمان جالسة معي بين أتراب لها وجارات، وكنا نتحدث كما نتحدث الآن، وإذا امرأة من أهل القرية تدخل علينا متفزعة متفجعة، فإذا سألناها عما بها زعمت لنا أنها خرجت مع صاحباتها من آخر الليل يملأن جرارهن، وإنهن لعائدات يغنين في صوت خافت يستأنسن بالغناء من وحشة الليل، وإذا هن يسمعن أصواتا لا يكدن يتبينها، فيصغين ويمددن أبصارهن فيرين نساء يلطمن وجوههن وهن يتغنين بمثل ما تتغنى به النادبات، فيقلن:
يا ساريات في السحر
يسعين في ضوء القمر
إذا بدا الصبح الأغر
فقلن يا نشر الزهر
إن أبا يحيى عمر
أصابه سهم القدر
فهو صريع محتضر
هل لك فيه من وطر
قالت أم رضوان: ولم تكد هذه المرأة تتم حديثها حتى رأينا أم عثمان قد ثارت مولولة، فنقضت شعرها، ومزقت ثيابها، وجعلت تلطم وجهها، وتضرب صدرها، ونحن نحاول أن نردها إلى الهدوء ونسألها عن أمرها، ولكنها بعد حين تثوب إلى نفسها قليلا وتقول لنا في صوت يقطعه الشهيق، أنا نشر الزهر وعمر أبو يحيى هو أخي! اقرأن تحيتي على زوجي واستوصين بعثمان خيرا؛ فلا بد من أن أرى أخي قبل أن يموت، وما أراني أدركه، ولعلي أعود إليكن وإلى زوجي وابني إذا انقضت أعوام العزاء؛ فالعزاء عندنا لا يكون في الأيام ولا في الأشهر، وإنما يكون في الأعوام الطوال. قالت أم رضوان: وكدنا نظن بصاحبتنا الجنون، ولكن ما راعنا إلا أن رأيناها تقذف نفسها في التنور، فلا نرى لها أثرا ولا نسمع لها حسا، كانت جنية تمثلت لأبي عثمان امرأة فتزوجها وولدت له ابنه عثمان، ثم جاءها النبأ أن أخاها يحتضر فأسرعت للقائه قبل أن يموت، وسلكت إليه أقرب الطرق وهو التنور حين يكون ملتهبا، والجنيات يألفن التنور؛ ولذلك لا ينبغي أن يحمى التنور دون أن يذكر اسم الله عند إشعال النار، فإن ذلك يطرد منه الشياطين، ويؤذن المسلمات بأنه سيحمى فيخرجن منه قبل أن يدركهن شيء من النار.
ولم تكد أم رضوان تبلغ هذا الموضع من حديثها والنساء يسمعن لها مرتاعات ملتاعات، منهن من تمسك الشهيق ومنهن من تدفعه، حتى ثارت نفيسة كأنها الجنية قد نثرت شعرها وقدت ثوبها وأخذت تعول إعوالا متصلا، وتلطم وجهها، وتضرب صدرها، وهي تصيح وا أبتاه وا أماه! ثم تدفع نفسها إلى التنور تريد أن تدخل فيه لتسلك أقرب طريق إلى أبويها، كما دخلت فيه أم عثمان لتسلك أقرب طريق إلى أخيها. هنالك يفيق النساء من خوفهن المتكلف وفزعهن المصطنع ويتكاثرن على نفيسة فيرددنها عن التنور بعد جهد، ثم يحملنها في مشقة شاقة إلى حجرتها، وهي تضطرب بين أيديهن، تلطم هذه وتخمش تلك، وهن على ذلك جاهدات في حملها حتى يبلغن حجرتها، وقد سبقت إحداهن إلى أبيك وهو ذلك الصباح في غرفة أم خالد مغرق في صلاته ودعائه، فإذا دخلت عليه وأنبأته النبأ، أسرع ساخطا إلى حجر نفيسة. حتى إذا رآها ثائرة فاترة لا تستقر ولا تدع من حولها يستقر، دنا منها يريد أن يضع يده على رأسها وهو يقرأ في صوت مرتفع:
قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس ، ولكنه لا يكاد يبلغها حتى تهب كأنها الشيطان مندفعة إليه في عنف آخذة بلحيته أخذا شديدا والشيخ يتراجع فزعا جزعا، وهو يلعن الجن والإنس جميعا. حتى إذا بلغ باب الغرفة قرأ آية الكرسي واستغفر الله العظيم، ثم التفت إلى النساء وقال أوثقنها إن استطعتن ودعنها حتى تهدأ، فلا بد من أن يدركها الإعياء بعد حين.
وقد وفق النساء لإنفاذ أمر الشيخ، ثم تركن نفيسة موثقة في حجرتها معولة تدعو أباها وأمها، وتلعن الذين منعوها من أن تسلك إليهما طريق التنور، وامرأة قائمة من الغرفة غير بعيد تلحظها خائفة وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وينتهي الأمر إلى زبيدة فتسرع إليها، وما تزال بها حتى ترد إليها شيئا من هدوء بعد أن ردت إليها حريتها داخل الحجرة، وهي منذ ذلك اليوم تلزمها لا تكاد تفارقها إلا ريثما تعود إليها بعد أن تعنى بما يمكن أن تعنى به من شئون البيت. أفترين أنك قادرة على أن تسكنيها في دارك وتمنحيها ما تحتاج إليه من الرعاية؟ قالت منى: نعم! يجب أن تأتي وأن تقيم معنا، وأنا واثقة بأنها ستترك المرض وراءها في مدينتكم تلك؛ فقد كانت هذه المدينة عليها شؤما.
وحملت نفيسة بعد أيام إلى دار خالد في مدينته تلك متعبة منهوكة القوى. ولكن «منى» عرفت كيف ترعاها، وترفق بها، وتتلطف لابنتيها حتى رد إليها شيء من عافية، فأقامت في الدار ما شاء الله أن تقيم حية كالميتة، ميتة كالحية، وشبحا على كل حال، لا يكاد من يراها يظن أنها كانت امرأة وأنها كانت أما.
الفصل الثاني والعشرون
وستضعف الأسباب بيننا وبين المدينة التي نشأ فيها خالد ونشأت فيها أسرته، والتي نشأ فيها علي وأسرته أيضا، والتي أقام فيها الشيخ الكبير وخلفه عليها ابنه الشيخ الشاب، ستضعف هذه الأسباب وترث حتى توشك أن تنقطع؛ لأنها قويت بين خالد وبين مدينته التي استقبل فيها الحياة؛ فقد استقر خالد في وطنه الجديد حتى أصبح من أهله، واتصلت المودة بينه وبين أهل المدينة وأهل القرى المجاورة، وأخذت زياراته هو لمدينته تقل وتتباعد، وأخذت زيارات أهل المدينة له تقل وتتباعد أيضا، وجعل الشيخ يمر بالمدينة في طريقه إلى الصعيد فيقيم فيها اليومين أو الثلاثة، ويمر بها في عودته إلى مدينته فيقيم فيها اليوم والليلة، لا يلقى من أهلها كيدا، بل يلقى منهم تجلة وتكريما؛ لأنه ضيف خالد، ولأن إلمامه بالمدينة عيد للفقراء والأغنياء جميعا، وجعل أبو خالد يزور ابنه في الشتاء كل عام، فينفق عنده الشهر أو الأشهر كريما موفورا ناعم البال، وجعل الحاج مسعود يزور ابنته مرتين في العام لا يقيم في كل مرة إلا الأسبوع يحملونه عليه حملا، ثم يعود إلى داره وشيخه وماله.
واطردت أمور القوم على هذا النحو، والأيام تمضي والأيام تجيء، والصبية يكبرون، والكهول يشيخون، والشيوخ يسعون إلى الهرم أو يسعى إليهم الهرم، ومن أولئك وهؤلاء من يدركه الموت في إبانه أو يختطفه قبل أوانه، ليكون البكاء والحزن ثم يكون العزاء والسلوة، فقد ماتت زبيدة ولما تتقدم بها السن، وتركت لزوجها ابنيها سالما وعليا، فحزن سليم وبكى، ثم تعزى سليم وسلا، واتخذ له زوجا ثانية وثالثة، وكاد يسلك طريق عمه الشيخ لولا أن الحوادث أدبته فأحسنت تأديبه، ولولا أنه كان يلقى من زوجيه نكرا أي نكر، ولو استطاع لطلق إحداهما، ولكنه كان يكره الطلاق، ويشفق على زوجيه أن يصيب إحداهما المكروه إن تحولت عن داره، فكانت عشرته لهما محنة، ويحتسب ما كان يلقى منهما عند الله ويقول لصديقه وأخيه خالد: كل امرئ يجاهد كما يستطيع: شيخك يجاهد بالحج في كل عام، فيكسب منه مالا وثوابا إن أراد الله أن يثيبه على مثل هذا الحج، وأنت تجاهد في تربية أبنائك وتعليمهم، تتكلف في ذلك ما لا تطيق، وتسلك بهم طريقا لم تسلكها أنت؛ لأن أباك لم يدفعك إليها، ولأنه لم يفكر في أن يجعلك خيرا منه كما تفكر أنت في أن يكون بنوك أحسن منك حالا، وأنا أجاهد في احتمال الشر ولقاء الضر من امرأتي، تسوءانني في كل يوم وأسوءهما من حين إلى حين، وتلقيانني بالنكر من القول والشر من العمل، فأصبر على ذلك ما وسعني الصبر، حتى إذا لم أطق عليه صبرا عمدت إلى العصا، فشفيت بها نفسي من جسم هذه أو جسم تلك، وقد يبلغ الغضب بي أقصاه، فأقرنهما في حبل واحد، وما أزال أعمل فيهما السوط أريحه من هذه لأتعبه مع تلك حتى تتوبا وتثوبا وتعتنقا والعذاب ينصب عليهما انصبابا، فإذا رفعت عنهما السوط وأطلقتهما من الحبل لم تهدآ، إلا ريثما تستأنفان ما كان بينهما من الشر، فتعود الدار جحيما، وأذوق أنا فيها العذاب الأليم.
قلت لك: كل امرئ يجاهد كما يستطيع، ولست أشك في أن حظي من رضوان الله لن يكون أقل من حظك؛ لأني أحتمل مثل ما تحتمل من الألم، بل أكثر مما تحتمل من الألم، وأحمل نفسي على مثل ما تحمل نفسك عليه من الجهاد، بل على أكثر مما تحمل نفسك عليه من الجهاد. وكان خالد يسمع هذا الحديث فيبسم له، ويظهر إقراره، ثم يعود به على امرأته فيضحكان من بعضه ضحكا كثيرا، وينكران بعضه الآخر إنكارا شديدا، والشباب والصبية من أبنائهما يسمعون من ذلك ما يسمعون فيضحكون ويقلدون، ويعبثون إذا خلوا إلى أنفسهم أو إلى أمهم، بأبيهم حينا، وبعمهم حينا، وبجدهم الشيخ حينا، وأمهم تسمع فتظهر الغضب وتكتم الرضا، وربما قصت من ذلك على زوجها أطرافا فضحك له وارتاح إليه، وربما استخفى زوجها في بعض الحجرات ليتسمع على بنيه وهم يعبثون بالأسرة ويقلدون شيوخها وكهولها، يقلدونهم في اللهجة، ويقلدونهم في الصوت، ويقلدونهم في حركات الوجه واليدين، وقد يقلدون في التفكير أيضا. وكان الاختلاف بين خالد وسليم قد اشتد وظهرت آثاره واضحة كل الوضوح على مر الأيام وتتابع السنين: فأما خالد فقد أقام في مدينته تلك بين جماعة من الموظفين يختلفون في الطبقة والثروة والثقافة والذوق، وكان خالد طموحا، ولم تكن امرأته أقل منه طموحا إلى الرقي؛ فكان خالد يحرص على أن تكون داره كدار كبار الموظفين، حسنة النظام، جميلة التنسيق؛ نفيسة الآنية والأداة، وكانت امرأته تعينه على ذلك أحسن معونة، وتدبر له ذلك أحسن تدبير، ولم يكن خالد يطمئن حتى يدعو إلى داره كبار الموظفين وأهل الثراء، فإذا رآهم يطعمون وينعمون، ولا ينكرون من أمر الدار شيئا امتلأت نفسه غرورا وفخرا، وعاد على امرأته بذلك يمنحها أخلص الحب، ويثني عليها أجمل الثناء .
وأما سليم فأقام في مدينته الأولى لم يبرحها، وعلى عمله الأول لم يغيره، وعلى عادته القديمة لم يبدل منها شيئا؛ فكان كل شيء يتجدد من حوله وهو مقيم على قدمه، يكره التطور وينفر من التجديد، ولم يكن له حظ من طموح ولا أمل في رقي، رضي بما قسم الله له، ورأى أنه أبعد آماده وآخر غاياته، فاطمأن إلى نهاره وليله، وإلى ما يلقى في نهاره وليله من حوادث الحياة، وشغل بما كان يلقى من زوجتيه من شر وضر.
وكان إذا ضاق بالحياة أو ضاقت الحياة به في مدينته عمد إلى صديقه وأخيه يزوره، يقضي عنده الأيام، وقد يقضي عنده الأسابيع، يجد في ذلك السعادة والراحة والرضا، وتجد الأسرة في مقامه عندها سعادة وراحة ورضا أيضا، فقد كان كثير العبث بأخيه وأبناء أخيه، يتندر على هذا الترف الذي يتكلفونه؛ فقد كان يرى كل شيء عندهم تكلفا، ويسخر من هذه المكانة التي يرفعون إليها أنفسهم وهم أبناء ذلك الشيخ الذي أنفق حياته في تجارة انتهت إلى كساد، وفي صلاح كاد ينتهي إلى فساد؛ يجلس إلى مائدتهم تلك المرتفعة قد صفت حولها الكراسي، فلا يملك نفسه إلا أن يغرق في الضحك، وأن يذكر خالدا بأيامه تلك القريبة وأيام أبيه حين كانوا يجلسون إلى طعامهم متربعين على الأرض، يغمسون أيديهم في صحافهم إلى الأرساغ، وقد يغمسونها إلى المرافق حين تقدم لهم صحاف الفت والكشك في بيوتهم أو في أعقاب الذكر، وكانت الأسرة تسمع هذا منه فتضحك له ضحكا كثيرا، ربما صرف الصبية والشباب عن طعامهم، وربما أشرق بعضهم بشرابه.
وكانت «منى» تسمع له فتضحك أول الأمر، فإذا أكثر سليم همت أن تظهر غيظها، ولكن سليما يضطرها إلى الضحك حين ينتقل من عمه علي إلى أبيها الحاج مسعود، ذلك الذي أتاح الله له تجارة رابحة وصلاحا متصلا، ولكنه ما زال يجلس على الأرض إذا أراد أن يطعم، وما زال أحب الطعام إليه الثريد والكشك يغمس فيه يده إلى مرفقه: فلا تفخري يا سيدتي، فلم يلدك الترك ولا أنت بنت المدير. هنالك لا تملك الأسرة نفسها من الضحك والإغراق فيه، وكان سليم أسرعهم إلى الضحك وأبطأهم في الرجوع إلى الجد، لا يسخر من الأسرة وحدها، وإنما يسخر من نفسه قبل أن يسخر من أي إنسان آخر، وكان أشد الأشياء إثارة للغيظ في نفسه أن يرى الأسرة تعاف الماء الكدر وتحرص على أن تروقه في الزير وتقطره في هذه الآنية تضعها تحت الأزيار وتضع فوقها المصفاة؛ كان يرى ذلك فيغتاظ ويهتاج، ويلتفت إلى أخيه وإلى أبناء أخيه وهو يصيح في صوته المرتفع المضحك: آه يا أولاد الكلب، من أين جاءكم هذا العز؟ إنكم لتحرمون أنفسكم خيرا كثيرا، إنكم حين تشربون هذا الماء المصفى أشبه الناس بالذين يشربون اللبن بعد أن استخرج منه الزبد، ثم أسرع إلى الكوز فيغمسه في الزير ويعب فيه عبا شديدا، ويقول: هكذا رأينا آباءنا يشربون؛ لأنهم لم يكونوا من الترك ولا من الأرنئوط.
ولم يكن هذا كل الاختلاف بين الأخوين الصديقين، وإنما كان بينهما اختلاف آخر أبعد من هذا في حياتهما وصلاتهما أثرا، فقد كان خالد يحرص على أن يعلم بنيه كما يعلم كبار الموظفين أبناءهم، لا يكتفي بأن يحفظوا القرآن ويحسنوا شيئا من الكتابة والحساب، وإنما يحرص على أن يرسلهم إلى المدارس ليلووا ألسنتهم بهذه الرطانة الأجنبية، وليلبسوا هذه الأزياء الأجنبية، ولتطلق المدارس عليهم هذه الأسماء التركية: فهمي، وشوقي، وصبحي، وليصبحوا إذا شبوا موظفين كبارا، وأما سليم فكان يضيق بذلك أشد الضيق، ويرى أن أباه لم يرسله إلى المدرسة، وأن جده لم يرسل أباه إلى المدرسة، وأنه قد فر ببنيه من المدرسة فرارا، ويرى أن هذه المدارس لم تنشأ للفلاحين، وإنما أنشئت لأبناء الذوات، وأن أبناء الفلاحين إذا ذهبوا إليها فسدت أخلاقهم وتقطعت الصلات بينهم وبين آبائهم وأمهاتهم، وطمعوا فيما لا يقدرون عليه، وانتهوا إلى فساد لا فساد بعده، وكان يقول لخالد: ألا تنظر لبنيك في هذه الأزياء الضيقة التي لم تخلق لهم، فهم إذا اتخذوها أشبه شيء بالعفاريت! ألا تسمع لهم حين يتراطنون فيما بينهم بما لا تفهم! ما يدريك! يشتمونك وأنت لا تعي. وكان هو قد أرسل ابنه سالما إلى حذاء يتعلم عنده صناعة الأحذية، وأرسل ابنه عليا إلى خياط يتعلم عنده صناعة الأزياء الأوربية، وكان يقول متضاحكا: قد كبرت يا خالد وكبر أبناؤك، وأصبحتم لنا سادة وأصبحنا لكم خدما، سيصنع أبنائي لأبنائك ما يحتاجون إليه من الأحذية والثياب، ولكن احذر أن يدفعك ذلك إلى البطر، وأن تبخل بجلنار على سالم؛ لأنه حذاء، وأن تبخل بأولى بناتك من «منى» على علي؛ لأنه خياط، ثم يغرق في الضحك وتغرق الأسرة في الضحك معه أيضا.
وكذلك رثت الأسباب قليلا قليلا بين الأسرة وبين المدينة الأولى، حتى أصبح التزاور بين أفراد الأسرة في المدينتين طرفة من الطرف، تشتد فيها الرغبة أحيانا، وتقصر الآمال عن تحقيقها، وكذلك استقلت أسرة خالد قليلا قليلا، حتى أصبحت وكأن لم يكن بينها وبين أصولها في المدينة الأولى عهد، وحتى شغلت بأمورها وخطوبها عن أمور الآخرين وما يعرض لهم من خطوب.
فلندع هؤلاء الآخرين لحوادث الأيام ونوب الدهر تصنع بهم ما تصنع بالناس جميعا، ولنقم مع هذه الأسرة الناشئة التي أخذت تنمو في سرعة؛ فقد نجد في الإقامة معها ما يكفي لإتمام هذا الحديث.
الفصل الثالث والعشرون
لبثت «سميحة» في دار أبيها عامين لم تلق فيهما إلا خيرا، ولم تذق فيهما إلا هناءة، رغد كثير لم تألفه في عزلتها تلك بين أمها وأختها ونسيم من جهة، وجدها القاسي الجافي الغليظ من جهة أخرى، وفي حياتها تلك التي لم تكن ضيقة كل الضيق ولكن لم تكن واسعة كل السعة، وإنما كانت شيئا بين ذلك، فيه الرخاء أحيانا وفيه الشدة والعسر أحيانا أخرى. في تلك الحياة لم تعرف سميحة حنان الأب ولا حنو الأم، وأنى لها حنان الأب ولم يكن أبوها يراها إلا بين حين وحين، ولم يكن يراها إلا الوقت القصير يبسم لها ويلقي إليها كلمات حلوة لعلها لم تكن تخلو من تكلف، ثم ينصرف عنها وقد ألقى في يدها نصف القرش أو المليمات، وأنى لها حنو أمها وقد كانت مريضة أكثر الوقت، لا تحفل بابنتيها، وربما نسيت في بعض الأوقات أن لها ابنتين!
وفي تلك الحياة لم تعرف سميحة فرحا ولا مرحا ولا ابتهاجا، وأنى لها ذلك وقد كانت مقصورة أو كالمقصورة على عشرة أختها جلنار، وبين أمها البائسة وخادمها السوداء، لا تكاد تختلط بصبيان الدار من أعمامها وعماتها الصغار؛ فقد كان يحال بينها وبين ذلك، يرى أبوها في مخالطتها لهم شرا عليها، ويرى جدها أن في مخالطتها لهم شرا عليهم، فأما في حياتها الجديدة فقد تغير كل شيء: أمها بائسة سقيمة من غير شك، ولكنها لا تكاد ترى أمها فضلا عن أن تطيل المقام معها، وخادمها السوداء كعهدها تلقاها بابتسامها العابس، ولكن في الدار أشخاصا آخرين وكائنات أخرى وأشياء أخرى لم تكن تألفها من قبل، فالدار فسيحة مترامية الأطراف كثيرة الحجرات واسعة الأفنية، وفيها إخوتها وقد بلغوا الآن خمسة، ويوشكون بعد قليل أن يبلغوا ستة، منهم من شب حتى لم يكد يبقى بينها وبينه فرق في السن والقد، ومنهم من لا يزال صبيا فيه كثير من المرح والفرح، وفيه كثير من الحركة والنشاط، ومنهم من لا يزال طفلا يحبو أو يدرج وهو يقدم لإخوته ضروبا من اللذة وفنونا من المتعة، يوشك أن يكون لهم لعبة لولا أنهم لا يستطيعون أن يعنفوا به أو يقسوا عليه، وفي الدار علتها التي كانت تدعوها خالتها، وهي «منى»، هذه ذات الوجه الطلق، والثغر الباسم، والشباب الغض، والقلب الذي يفيض رحمة وحنانا. وفي الدار خدم رجال ونساء، منهم من يعنى بأمور الدار تنظيفا وتنظيما وتنسيقا وإعدادا للطعام والمائدة، ومنهم من يعنى بهذه الحيوانات التي كانت تقيم مع أهل الدار في أماكن خصصت لها، والتي كانت تمثل ما ألف في المدن والقرى من هذه الحيوانات التي تعاشر الناس وتمنحهم خفض الحياة ولينها، ففي الدار البقر والجاموس، وفيها الحمر والخيل، وفيها الدواجن ذوات الريش على اختلافها.
وقد كان الحاج مسعود قد قضى فيما بينه وبين نفسه ألا يولد لابنته مولود إلا أهدى إليه شيئا من هذا الحيوان، فلهذا جاموسة، ولهذا بقرة، ولهذا فرسا، وكانت الأسرة تتخذ الدواجن وتستكثر منها؛ فكانت دار خالد خليطا غريبا من دور أهل المدن ودور أهل الريف، وكان هذا كله يملأ الدار حياة صاخبة كثيرة الضجيج والعجيج، كثيرة الحركة والنشاط، مختلفة أنواع العمل. وكان أبناء الدار يجدون في هذا كله اللذة كل اللذة والحياة كل الحياة، ولو تركوا وما يشاءون لما ذهبوا إلى الكتاب ولا إلى المدرسة، ولآثروا أن ينفقوا أوقاتهم يشهدون هذه الحركات الكثيرة المتنوعة، يلوذ بعضهم بالمطبخ حيث يهيأ الطعام وحيث لا يعدم من تلقي إليه طرفة من طرف هذا الذي تهيئه، ويلوذ بعضهم بقاعة التنور حيث يهيأ الخبز وتتخذ ألوان الكعك والفطير، ويقف بعضهم عند هذه التي تحلب البقرة أو الجاموسة، أو عند هذه التي تمخض اللبن، أو عند هذه التي تدعو الدجاج لتلقي إليهن الحب، ولكن خالدا كان قاسيا على بنيه يأخذهم بالحزم في أمر الكتاب والمدرسة، ولم تكن زوجه أقل منه شدة ولا حزما؛ فكانوا يذهبون كارهين إلى كتابهم ومدرستهم، ثم يعودون فرحين إلى دارهم.
وكانت سميحة وأختها بين هذا كله سعيدتين راضيتين قد أنسيتا ما أحستا من ألم أو وجدتا من شظف في حياتهما الأولى، وما كان أحرص سميحة على أن تتصل هذه الحياة الناعمة الفرحة، لولا أن أباها كان بعيد الصوت في مدينتيه الأولى والثانية، متهما بأن له حظا من يسار، متهما أيضا بأن حياته حديثة، فيها كثير من حضارة وترف وتأنق، ولولا أن سميحة نفسها كانت على حظ من جمال يتحدث الناس به في المدينتين، فلم تكد تبلغ الرابعة عشرة حتى خطبها الخاطبون، ولم تكد تبلغ الخامسة عشرة حتى عادت إلى مدينتها الأولى لتزف فيها إلى زوج له شيء من ثراء ومكانة، ولكن له بنين وبنات تركتهم له امرأته الأولى، فاستأنفت سميحة حياة ثالثة لسنا في حاجة إلى أن نعرض لها ولا أن نقص أنباءها؛ فلم تكن هذه الحياة الثالثة إلا حزنا متصلا وعذابا مقيما، أبناء لا يلمون بالحياة إلا ليسرعوا إلى الموت أو ليسرع إليهم الموت، وثروة تضخم ويطمع فيها أبناء الضرة، وزوج تتقدم به السن فيدركه الضعف قليلا قليلا، ويعظم حظه من الأثرة شيئا فشيئا، ويزداد سخطه على هذه الزوج الجميلة ذات الحسب والنسب، ولكنها على ذلك ميلاد مفقاد، كأن بينها وبين الموت عهدا أن تلد له وأن يسرع إلى بنيها فيختطفهم اختطافا، وقد عرفت سميحة الدموع ولما تتم السابعة عشرة من عمرها، وقد نيفت سميحة على السبعين ولم يعرف أنها أنفقت يوما لم تسفح فيه عبرة ولم تذرف فيه دمعا، إنما كانت حياتها بكاء متصلا: بكاء يأتي من الثكل، وبكاء يأتي من قسوة الزوج، وبكاء يأتي من كيد أبناء الضرة، وبكاء يأتي من فقد الزوج آخر الأمر، وبكاء يأتي بعد هذا كله من سيرة من سلم لها من البنين والبنات ومما كان يختلف على حياتهم من ظروف وخطوب.
فأما جلنار فقد ظلت الفتاة الوحيدة في هذه الأسرة بين إخوتها الشباب والصبية والأطفال، وبين أمها السقيمة، وعلتها الكريمة، وأبيها الرحيم، وكانت تجد في حياتها النعمة كل النعمة، ولكنها لم تكن تجد في حياتها الرضا كل الرضا؛ فقد كانت تعرف قبح وجهها وترى دمامة صورتها، فتكره ذلك وتضيق به، ولم يكن الشباب من إخواتها يتحرجون من التندر عليها والسخر منها، يجدون بذلك حينا ويمزحون أحيانا، ويؤذونها به على كل حال؛ وقد كانت فتاة الأسرة، وكان فيها جلد وقوة ونشاط وحب للعمل وسبق إليه؛ فما أسرع ما ألفت الأسرة منها ذلك ورأته لها طبيعة، ثم رأته عليها حقا، ثم رأت تقصيرها فيه ذنبا، فاندفعت الفتاة إلى العمل ثم دفعت إليه، وأي بأس في ذلك وقد كان عملا كريما شريفا! وأي حرج في أن تعنى الفتاة بإخوتها الصغار تحملهم وتنشئهم وتعللهم، وقد شغلت أمهم عنهم بأمور البيت وبمن كان يولد لها من البنين كل عامين أو في أقل من عامين! فهؤلاء الصبية إخوتها، وهي أرأف بهم وأعطف عليهم من الخدم، وأي حرج في أن تعمل الفتاة مع العاملات في إعداد الطعام وتهيئة الخبز وغسل الثياب! ففي ذلك كله تعليم لها أي تعليم! وهو يعدها أحسن إعداد لتكون ربة البيت يوم يصبح لها بيت، وإذا لم تكن الفتاة جميلة رائعة الجمال ولا حسنة بارعة الحسن، فلا أقل من أن تكون صناعا تحسن الإشراف على أمور البيت والنهوض بأعبائه المختلفة، فليس من المحقق أنها ستجد لنفسها دارا كدار أبيها، فيها الرخاء والثروة، وفيها الخدم من الرجال والنساء، ومن الممكن بل من المرجح أن بيتها سيكون متواضعا متضائلا مقترا عليه في النفقة، فستزف يوما إلى سالم، وهل سالم إلا حذاء يعيش من عمل يده وعرق جبينه؟! فيجب أن تكون زوجه ماهرة في تدبير أمرها، والعناية ببيتها، والقيام على تربية من سيتاح لها من الولد، وقد ألقي في روع الفتاة قبل أن تجاوز الصبا وتبلغ الشباب أنها خطب سالم الآن وزوجه غدا، قد اتفق على ذلك الأبوان خالد وسليم، واتفقت على ذلك نفيسة وزبيدة، وألحت زبيدة في ذلك أثناء مرضها الذي ماتت فيه؛ فليس عنه منصرف، وليس إلى تبديله من سبيل؛ ومن أين يأتي التبديل وقد أصبح هذا أمرا مقررا تراه الأسرتان كما تريان مقدم النهار ومقدم الليل! فكانت الفتاة تتحدث إلى نفسها بهذه الخطبة الواقعة وبهذا الزواج المنتظر، وكانت تفكر كثيرا في هذا الشاب الفتي القوي الجميل المرح، الذي يحسن الدعابة ويؤثر المزاح على كل شيء، والذي كان ينتهز كل فرصة ليزور عمه وأبناء عمه في مدينتهم هذه، فيطيل الزيارة، ويقيم بينهم فيطيل المقام، وربما أسرف في ذلك حتى يدعوه أبوه بالكتاب يتبع الكتاب، وفيه اللوم والتأنيب، وفيه التوبيخ والتقريع، وكانت الفتاة البائسة مستيقنة فيما بينها وبين نفسها بأنها الغرض من هذه الزيارة الكثيرة ومن هذه الإقامة المتصلة؛ فقد كانت تحب الفتى حبا شديدا، وتؤثره على كل إنسان وعلى كل شيء؛ لم تكن تتحدث بذلك؛ فحياء الفتيات وآداب الريف تمنع من مثل هذا الحديث، ولكنها كانت تديره في رأسها مصبحة ممسية، وتستحضره في قلبها أثناء يقظة النهار ونوم الليل. وكان ذلك يعينها على عملها المتصل المرهق الذي جعل يزداد اتصالا وإرهاقا كلما تعقدت أمور الدار؛ وكانت أمور الدار تتعقد في سرعة مدهشة؛ فقد كثر الأبناء وكثرت حاجاتهم، وعظم أمر الأسرة وكثرة الزائرون لها والملمون بها من الضيف، وجعلت «منى» تخفف شيئا فشيئا من أثقال أعبائها على الفتاة، والفتاة ماضية في العمل، جادة فيه، مخلصة له، تستعين عليه بهذا الحب الدفين، وبهذه الآمال العراض التي كانت تزين لها كل شيء في الحياة إلا وجهها وخلقها؛ فلم يكن إلى تزيينهما سبيل.
وكان حب الفتاة على شدة كتمانها إياه وحفظها له يظهر فجاءة إذا ذكر اسم سالم أو حضر شخص سالم على غير انتظار، هنالك تبرق عيناها، ويضطرب على وجهها المظلم الجهم نور ضئيل لا يلبث أن ينمحي كأنه هذه الأضواء الطارئة الضئيلة التي تنبسط على قطعة من ظلمة الليل لحظة ثم تزول كأنها لم تكن، وكان هذا الحب الكمين يظهر ملحوظا حين يقيم سالم في الأسرة قليلا أو كثيرا؛ فقد كانت الفتاة تلحظه لحظات مختلسة لها معناها، وكانت تتجنب الحديث إليه وتتجنب أن تدعو حديثه إليها، ولكنها كانت تلتهم حديثه إلى غيرها من إخوتها التهاما، تتسمع عليه إذا تحدث إلى رفاقه من بعيد، ثم كانت تؤثره بكثير من الطيبات، وكان لها إلى ذلك مسالك تملأ القلوب رحمة وحنانا؛ فلم تكن تختصه بشيء دون غيره من إخوتها، وإنما كان عطفها على إخوتها وإيثارها إياهم بطيبات المطبخ والتنور، ودعوتها إياهم إلى ما يلهي ويسر، كان هذا كله أكثر حين يزور سالم الأسرة ويقيم فيها، وكانت الأسرة تلحظ ذلك كله فتتمازح به وتداعب الفتاة فيه، وكانت الفتاة تسمع المزاح والدعابة فلا تجيب إلا برفع الكتفين وضحك فيه استهزاء بما يقال، واعتراف في الوقت نفسه بأنه صحيح.
ولم تلق جلنار من خالتها شيئا يسوءها في السر أو في الجهر، وإنما مضت أمورها على ما تحب وعلى ما تحب الأسرة، ولم تكن الفتاة تعنى بأمها عناية كثيرة ولا تلتفت إليها التفاتا خاصا، بل ربما شاركت إخوتها في مداعبة هذا الشبح الذي لم يكن يعقل كثيرا مما يقال له أو يجري حوله؛ فإذا عقل شيئا وهم أن يتكلم فيه نطق بما يملأ الدار ضحكا، وضحك الشبح نفسه مع الضاحكين، فقد ألفت نفيسة أن تعيش على هامش الأسرة لا تشارك في جدها وهزلها إلا أيسر المشاركة؛ فإن دخلت في شيء من أمر الأسرة أخطأت موضع العمل أو موضع القول، فأضحكت منها وضحكت من نفسها، وعادت إلى عزلتها هادئة مطمئنة، لا يعرف أساخطة هي أم راضية، وأكبر الظن أنها لم تكن ساخطة ولا راضية، وإنما كانت تحيا حياة سلبية من كل وجه؛ تعيش نهارها لا تعمل شيئا ولا تقول شيئا، إنما تدخن، وتشرب القهوة، وتنظر إلى ما في الدار من حركة، وتسمع إلى ما يدور حولها من حديث، تعقل من ذلك أقله وتغفل عن أكثره، وتأوي مع الليل إلى مضجعها لا يدري أحد أتنام فيه أم لا تنام، ولكنها كانت تأوي إليه في ساعة معينة، وتثب منه في ساعة معينة، فأما ما يكون بين هاتين الساعتين فعلمه عند الله، وأكبر الظن أن نفيسة لم تكن تعلم منه إلا قليلا، وقد كانت الأنباء تأتي بأن سميحة ابنتها رزقت غلاما أو صبية، وبأن سميحة ابنتها فقدت هذا الصبي من بنيها أو هذه الصبية من بناتها، وكان هذا كله يقال أمامها فتسمع وكأنها لا تسمع، ثم لا يظهر عليها فرح ولا حزن، إنما هي الحياة الآلية التي لا تترك لصاحبها إرادة ولا تفكيرا، إنما كانت «منى» هي التي تفرح وتحزن لما يصيب سميحة من خير أو شر، وهي التي تسافر لتجامل سميحة أو تواسيها، وربما عادت بسميحة إلى دار الأسرة لتجد فيها عزاء عما أصابها من خطب، أو سلوا عما نزل بها من هم، فإذا دخلت «سميحة» على أمها تلقتها هذه باسمة وقبلتها واجمة، ثم لم تزد على هذا الوجوم الباسم شيئا.
الفصل الرابع والعشرون
على أن الأمور قد أخذت تتغير قليلا قليلا في الأسرة، وبدأ التغير في قلب «منى » ذات يوم أو ذات عام؛ فهذه أشياء لا يمكن أن تؤرخ باليوم ولا بالشهر، فقد كانت «منى» تنتظر المولود السابع، وتتمنى أن يكون هذا المولود طفلة، تتحدث بذلك إلى زوجها، فيرفع كتفيه ويهز رأسه؛ لأنه لم يكن يحفل بأن تولد لها صبية أو يولد لها صبي، ولعله كان يؤثر في أعماق نفسه أن يكون ولده جميعا ذكورا، وكانت «منى» تضيق بذلك، وربما اشتدت على زوجها في اللوم حين ترى منه هذا الإعراض عن البنات أو قلة الاكتراث للبنات، وربما قالت له: وما يعنيك من ذلك ولك ابنتان سميحة وجلنار؛ فأنت رجل مجدود وقد رزقت البنات والبنين جميعا، فما عليك أن أحرم أنا هذه النعمة؛ وكان خالد يضحك لهذا الحديث، ولكن «منى» كانت تغتاظ لهذا الضحك، وكانت تقول: إن الصبي لا يكاد يدرج حتى يرسل إلى الكتاب ثم إلى المدرسة ثم يسعى في حياته؛ فأمه تحرم لذة الاتصال الدائم به؛ قبل أن يتجاوز السادسة من عمره، ينصرف عنها إلى درسه ولعبه، ثم إلى عمله وامرأته وبنيه إذا تزوج، فأما الصبية فإنها لا تبرح البيت إلى كتاب أو مدرسة أو عمل، فهي معاشرة لأمها دائما، هي متعتها صبية، وصديقتها شابة، وأختها إذا تقدمت بها السن حتى لو تزوجت، وكان خالد يسخر منها فيقول: نعم! أخت لأمها حتى لو تزوجت، كما أنك الآن أخت لأمك بعد أن تزوجت ورزقت البنين! فتجيبه «منى» ثائرة: وهل شغلني عن أمي إلا أنت وبنوك. فيقول خالد وهو يضحك: فستشغل ابنتك عنك بزوجها وبنيها كما تشغلين أنت الآن عن أمك.
ولكن الله حقق لمنى رجاءها واستجاب دعاءها فرزقها صبية، ثم تتابع البنات في الدار حتى بلغن أربعا، نشأتهن جميعا جلنار، ومنذ أصبح لمنى بنات ومنذ أخذ بناتها يسرعن إلى النمو أخذت نظرتها إلى جلنار تتحول قليلا قليلا، وكأن ما أودع الله قلبها من الحنان للبنات لم يكن يسع إلا بناتها هي، فجعلت نظرتها إلى الفتاة تقسو، وجعل صوتها إذا تحدثت إلى الفتاة يجفو، وجعلت معاملتها للفتاة تغلظ من يوم إلى يوم، والفتاة غافلة عن ذلك أول الأمر، ثم محتملة له بعد ذلك، ثم ضيقة به وصابرة عليه آخر الأمر، وسالم يزور المدينة ويعود منها لا يتحدث في الزواج ولا يشير إليه، وسليم يزور المدينة ويعود منها لا يتحدث في الزواج ولا يشير إليه، وقد كانت «منى» نفسها تتحدث في أمر هذا الزواج قديما فقد أصبحت الآن لا تتحدث فيه ولا تشير إليه، إنما يلمح به الفتيان من شباب الأسرة تلميحا قليلا ضئيلا لا يلبثون أن يكفوا عنه ويخوضوا في غيره من الجد والمزاح، ثم تنسى الخطبة نسيانا تاما، ولا يعرض أحد لهذا الزواج بلفظ أو إشارة، والفتاة ترى وتفكر، وتألم، وتصبر، وتنظر إلى وجهها في المرآة ثم تعكف على نفسها في صمت حزين، ولعلها أن تخلو إلى نفسها إن وجدت للخلوة وقتا، فتعدد وتبكي كما تعدد النساء ويبكين، حتى إذا أحست نبأة أسرعت إلى بكائها فالتهمته التهاما، وإلى دموعها فشربتها حتى تشرق بها، ووثبت مقبلة على بعض العمل كأنها لم تكن في بكاء ولا تعديد، وبمقدار ما كانت سيرة «منى» تتغير مع جلنار كان عطف جلنار على أمها يشتد ويزداد؛ فقد أخذت تعنى بها عناية خاصة في اللفظ واللحظ والإشارة والمعاملة، وكانت في الفتاة جفوة هي خير مظهر من مظاهر الحب والحنان؛ فكانت إذا جفت على إنسان في قول أو عمل دل ذلك على أنها تؤثره بالود الخالص والحب العميق، وقد أخذ حظ أمها يزداد من صوتها الغليظ وألفاظها الجافية ونظراتها الحادة وحركاتها العنيفة؛ فكانت تقدم إليها القهوة إذا أصبحت وكأنما تنهرها نهرا شديدا، وكانت تتحدث إلى أمها في صوتها المرتفع الحاد، فإذا ظلت أمها ذاهلة كعهدها اندفعت إليها عنيفة بها فهزتها هزا شديدا، وهي تقول: إني أكلمك ألا تسمعين! وإذا سمعت فهلا تجيبين! ربما اختطفت من أمها أثناء هذا العنف قبلة سريعة خفيفة لا تكاد تلحظ، وقد صبرت نفيسة على هذا العنف، لم تحسه أول الأمر ولم تلتفت إليه، ولكنه اتصل واتصل، وتكرر أثناء النهار، وتكرر في أول الليل، وأخذت الأسرة تلاحظ أن في نفس الفتاة شيئا أو أنها تريد من أمها شيئا، ولكن قلوب الشباب قاسيات وقلوب الأمهات أشد قسوة إذا شغلن بولدهن، فلم يحفل أحد من الأسرة بهذا العنف الذي كانت تهديه الفتاة إلى أمها، وما يعنيهم من ذلك! فتاة حمقاء، وأم مجنونة، فليفرغ الشباب لأمرهم، ولتفرغ الأم لبنيها ولبناتها خاصة.
وفي ذات يوم أقبلت الفتاة ضجرة إلى أمها تتحدث إليها عنيفة بها في الحديث، فلما أبطأت الأم في الجواب هجمت الفتاة عليها كأنها الغول تريد أن تلتهم فريستها، فارتاعت الأم شيئا، وهبت من مجلسها مذعورة وأسرعت إليها الفتاة وأخذتها بين ذراعيها دون أن تجد منها امتناعا أو إباء، وتنظر «منى» ومن حولها من بنيها ومن نساء الدار فإذا المرأتان قد اعتنقتا، وإذا دموع غزار تمتزج وتجري على وجهين قبيحين ملتصقين، فأما الشباب فيوشكون أن يضحكوا لولا بقية من حياء وخوف من أمهم، وأما «منى» فلا تملك دموعها أن تنهل، وإذا هي تبكي صامتة، ثم تنهض متثاقلة وتسعى بطيئة حتى تبلغ هاتين المرأتين، فتضع على رأس كل واحدة منهما قبلة مبللة بالدموع، ومنذ ذلك اليوم عاد إلى نفيسة شيء من رشدها، فعرفت أنها أم، وأن لها ابنة بجوارها تدعى جلنار، وابنة أخرى بعيدة عنها تدعى سميحة، عاد إليها شيء من رشدها، ففارقها الذهول، ولكن لم يفارقها بؤس النفس هذا الذي يضطر صاحبه إلى الإذعان، ويلجئه إلى زاوية ضئيلة من زوايا الحياة يلزمها ولا يبرحها، يرى أنها خلقت له وأنه خلق لها، وأن القضاء قد جعلها له قبرا حيا حتى يأتي اليوم الذي ينقل فيه من هذا القبر الذي يدفن فيه الأحياء إلى ذلك القبر الذي يدفن فيه الموتى.
أفاقت نفيسة من ذهولها وعرفت بعض أمرها، ولكنها ظلت ضئيلة ذليلة، تتحرك فكأنها الشبح، وتتكلم فكأنها الصدى، ولكن أي شبح وأي صدى؛ شبح هو الحزن بعينه، وصدى هو إلى الغناء النادب أقرب منه إلى الصوت المألوف، ولكن منذ ذلك الوقت عاد إلى جلنار شيء من ثقة وحظ من أمل، لا لأنها انتظرت أن تزف إلى سالم، فقد جعلت تيأس من هذا الزواج يأسا يزداد من يوم إلى يوم، ولا لأنها كانت تستطيع أن تلجأ إلى أمها فتبثها ما تجد من حزن، ولكن لأنها كانت تنظر إلى أمها فلا تقابل نظرتها تلك النظرات الغافلة الذاهلة الشاردة، وإنما كانت تقابل نظرات تفهم عنها، وتتحدث إلى قلبها حديثا تفهمه دون أن يدور لسانها في فمها بالكلام القليل أو الكثير، وكان هذا الحظ الضئيل من الحب الصامت يغني هذه الفتاة وينقع ظمأها إلى الحنان، بعد أن فقدت حنان خالتها، وكادت تفقد حنان إخوتها الذين جعلت قلوبهم تقسو، وأكبادهم تغلظ، ونفوسهم تجفو، وذاكرتهم تنسى ما قدمت إليهم أختهم من معروف.
ولم تكن «جلنار» في حاجة إلى أن تبحث عن العلة التي أجلت زفافها إلى سالم ثم ألغت أمر الزواج إلغاء؛ فقد كان يكفي أن ترى وجه أمها وأن تنظر إلى وجهها في المرآة، فيغنيها ذلك عن كل سؤال.
والواقع أن أمر سالم لم يكن يسيرا ولا سمحا، وإنما كان عسيرا لا يخلو من تعقيد، لقد نشأ هذا الفتى ساخطا أشد السخط، يرى أنه تعس سيئ الحظ، لم يكد يخرج من صباه حتى فقد أمه وحتى ذاق مرارة اليتم وعرف قسوة العلات، ثم لم يكد يعقل حتى رأى نفسه يختلف إلى حذاء يعمل عنده في صناعة الأحذية، وكان يرى أبناء عمه يختلفون إلى الكتاب ثم إلى المدارس يتخذون هذه الأزياء التي لا تخلو من ظرف، وعليهم هذه الشارة التي لا تخلو من جمال، وفيهم شيء من أنفة وكبرياء يغريهم بهما ما كانوا يحسون في أنفسهم من امتياز، فأنكر الفتى نفسه في منزله بين هاتين العلتين، وأنكر نفسه عند معلمه ذلك الحذاء، صانعا للأحذية ممارسا أقدام الرجال، وأقسم فيما بينه وبين نفسه ليهجرن دار أبيه متى استطاع، وليهجرن عمل الحذاء متى وجد إلى ذلك سبيلا. وكان أخوه علي يشاركه في هذا كله: يشاركه في الضيق بحياة البيت، وفي الضيق بهذه الصناعة التي يكرهه عليها أبوه إكراها، وكان الفتيان بعد ذلك يختلفان اختلافا شديدا: فلسالم حظ حسن من ذكاء، ولعلي حظ عظيم من الغباء والغفلة، ومهما يكن من شيء فقد اتفق الشابان على هذا السخط، واشتركا في هذا الضيق، ورأى كل واحد منهما نفسه بائسا مضطهدا، واجتهد كل واحد منهما في أن يلتمس لنفسه مخرجا من هذا البؤس وهذا الاضطهاد.
فأما سالم فقد أحسن صناعته، ثم انصرف عنها، ولما هم أبوه أن يلومه في ذلك أجابه الفتى في حزم قائلا: إنك إنما علمتني هذه الصناعة لأعيش وأكفيك مئونتي، فسأعيش وسأكفيك مئونتي. ثم أخذ يضطرب في حياته كما يضطرب الشاب الذكي الذي يحسن القراءة والكتابة، ولم يحرم يدا صناعا وعقلا يحسن التصرف في الأمور، فجعل يتنقل من عمل إلى عمل يكسب القليل مرة والكثير مرة أخرى، ويدفع إلى أبيه الجنيه أو الجنيهات من حين إلى حين، وقد اطرح زي أترابه، واتخذ زي بني عمه، فأصبح أفنديا مطربشا، ولكنه كان يشعر دائما بالنقص إذا لقي بني عمه؛ لأنه لا يرطن كما يرطنون، ولا يسعى إلى الشهادات كما يسعون إليها، وكان يشعر في الوقت نفسه بالتفوق على بني عمه؛ لأن يده لم تصفر من المال قط، فكان في جيبه من الذهب والفضة ما لم يكن في جيوبهم، وكان على ذلك خراجا ولاجا لا يضيق بشيء ولا يعييه شيء، ولا يعرض له حرج إلا خرج منه، ولا تلم به مشكلة إلا انسل منها كما تنسل الشعرة من العجين، وكان بعد هذا كله طلق الوجه، باسم الثغر، فصيح اللسان، عذب الدعابة، منشرح الصدر، لا يعرف الهم إلى قلبه سبيلا، وما دام قد اجترأ على أبيه مرة فترك صناعة الأحذية واستقل بأمره، فما يمنعه أن يخرج على أبيه مرة أخرى؟! وقد فعل؛ فقال لأبيه ذات يوم: لا أسمعك تحدثني عن جلنار، فإني لم أخطبها ولم يخطر لي قط أن أتخذها لي زوجا. قال سليم: ولكني قد خطبتها لك. قال الفتى: فإني لم أفوضك في ذلك. قال سليم: وقد خطبتها أمك لك . قال الفتى: ولم أفوضها كما أني لم أفوضك. قال سليم: ولكن أمك قد ألحت علي في هذا الزواج قبل أن تموت. قال الفتى: ألحت عليك أنت ولم تلح علي أنا. قال سليم وقد استيأس من ابنه: أنت وما تشاء! ولكن لا تجهر بذلك حتى أفضي به إلى عمك، وسأجد في ذلك جهدا وألما. قال الفتى: لن أجهر بذلك ولن أسره؛ لأني لا أحفل به، ولا حاجة إلى أن تفضي به إلى عمي، فإني لن أتزوج من جلنار ولا من غيرها. ثم انطلق الفتى وترك أباه مترددا بين السخط والرضا، وأكبر الظن أنه ارتاح إلى خطة ابنه، فلم يكن يحفل بأن يقضي على ابنه بهذه الفتاة الدميمة، فيكون حظه كحظ عمه خالد حين تزوج أمها نفيسة.
وأما علي فلم يقل لأبيه شيئا، ولم يترك صناعة الخياط التي اضطر إليها، ولم يتصرف في أمره كما تصرف أخوه، وإنما كان يذهب إلى معلمه وجه النهار فلا يصنع عنده شيئا، فلما آنس المعلم منه غفلة وكسلا سخره في قضاء الحاجات البعيدة ولم يعلمه شيئا، وكان الفتى إذا أقبل المساء تنقل بين المساجد وحلقات الذكر، يصلي هنا ويذكر هناك، وهو لا يذوق من الذكر ولا من الصلاة شيئا، وكان يلم بدار أبيه فيصيب فيها شيئا من طعام ثم ينصرف إلى حياته الفارغة خارج الدار، فإذا تقدم الليل أقبل فاستلقى على فراشه حتى يصبح فيستأنف حياة البطالة والفراغ، كان كلا على أبيه، كلا على أخيه، ضحكة لبني عمه إذا زارهم، ولم يكن يزورهم إلا قليلا، وكان فرحا دائما لا يأسى على شيء، ولا يفكر في شيء، ولا يستطيع أحد أن يؤذيه بقول أو فعل؛ لأن الأشياء كانت تنزلق على نفسه الملساء دون أن تترك فيها أثرا حسنا أو سيئا. وكان سليم محبا لابنيه ضيقا بهما في وقت واحد؛ ولكنه كان يؤثر سالما؛ لأنه أكبر أبنائه، ولأنه كان كثير النشاط حسن الشارة، يعود عليه بالدينار أو الدينارين من حين إلى حين، فيفرج أزمة أو يعين على حق ، ومع ذلك فقد كان يحنو على علي حنوا شديدا، يرى فيه فتى ضعيفا ضيق الحيلة، ويرى في الرفق به والعطف عليه والشقاء ببطالته هذه لونا من الجهاد كهذا الجهاد الذي كان يحتمل مشقته بين امرأتيه، وكان مع ذلك مشغولا عن هذين الشابين بعمله وأهله وببنين وبنات ولدوا له، فمضى في تربيتهم كما مضى في تربية سالم وعلي، أسلمهم إلى الصناع، وكان يقول لصديقه وأخيه خالد: ماذا تريد؟ لا ينبغي أن نغالب القدر ولا أن نعاند القضاء، ولا أن نكون جميعا سادة ممتازين، يجب أن يكون أبنائي هملا كأبناء أبيك، وأن تمتاز أنت ويمتاز أبناؤك؛ فحسب الأسرة أن يمتاز فرع من فروعها، ولكن صدقني، إني أراك أحمق مغفلا، تنفق مالك الكثير دون أن تدخر منه شيئا، أليس غريبا أنك لا تملك دارا تقيم فيها! فدارك هذه ملك للحكومة، وستخرج منها يوما من الأيام، وما أظن أنك ستأوي بأهلك وبنيك وبناتك إلى دار أبيك الخربة المهدمة، فأطعني وأرسل إلي جنيها في كل شهر أدخره لك، حتى إذا اجتمعت لي عشرون أو ثلاثون جنيها اشتريت لك قطعة من الأرض، واتخذت لك فيها دارا، أطعني وأرسل إلي جنيها في كل شهر، وأحتجز أنا جنيها في كل شهر أيضا، ونشتري قطعة واسعة من الأرض نقيم عليها دارين متجاورين، إحداهما لك والأخرى لي، فسيتفرق أبناؤك فيما ينتظر لهم من عمل، وسيتفرق أبنائي أيضا، وسيعود كل منا إلى صاحبه في الشيخوخة كما كان كل واحد منا لصاحبه في الشباب. كان يتحدث إليه في ذلك ملحا دائما، يجد حينا ويمزح حينا، وكان يتحدث إليه في أمور كثيرة إلا شيئا واحدا لم يستطع أن يتحدث فيه لا مصرحا ولا ملمحا، وهو هذه الخطبة التي بعد بها العهد، وهذا الزواج الذي كثر تأجيله، وهذه الفتاة التي طال انتظارها ولم يخطبها أحد؛ لأن الناس قد تسامعوا بأنها خطب لابن عمها منذ الصبا؛ لم يكن يجرؤ على أن يعرض لهذا الحديث، فقد كان يعلم علم ابنه، ولم يكن خالد يجرؤ على أن يعرض لهذا الحديث، فقد كان الحياء يمنعه من ذلك، وكان سالم يمرح بين المدينتين، وربما أتيح له السفر إلى القاهرة، فكان مرحه فيها أكثر تنوعا وأبعد مدى، وكانت الفتاة تعمل وتعمل وتشقى بالعمل، لا يدري أحد أتفكر في خطبها أم لا تفكر، أتشقى بهذا التفكير أم لا تشقى، ولكن المحقق أنها كانت شقية بقسوة خالتها التي كانت تزداد كلما تقدم بناتها نحو الشباب.
الفصل الخامس والعشرون
ومن الحماقة الحمقاء والجهالة الجهلاء أن يحاول محاول إحصاء الأيام والليالي وهي تتابع ويقفو بعضها إثر بعض، لا يدري أحد متى ابتدأت، ولا يعلم أحد متى تنتهي، وأشد من ذلك حمقا وأعظم من ذلك جهلا أن يحاول محاول إحصاء الحوادث التي تقع في هذه الأيام المتتابعة والليالي المتناصية؛ فليس إلى إحصاء هذه الحوادث من سبيل حين تحدث لفرد واحد، فكيف بها حين تحدث لأسرة كبيرة أو صغيرة؛ وكيف بها حين تحدث لمدينة من المدن أو إقليم من الأقاليم أو جيل من أجيال الناس! فهي متنوعة كثيرة التنوع، مختلفة عظيمة الاختلاف، يعظم بعضها ويجل خطره حتى يصبح له في حياة الفرد والجماعة أبعد الأثر، ويهون بعضها ويدق شأنه حتى لا يحفل به حافل ولا يلتفت إليه ملتفت، وهو مع ذلك خيط مهما يكن دقيقا هين الشأن فله مكانه ذو الخطر في هذا النسيج الذي ينسجه مر الأيام وكر الليالي والذي نسميه الحياة، وقد فطن لذلك الذين يكتبون التاريخ ويسجلون الأخبار، والذين يقصون القصص ويتحدثون بأنباء الماضي، فقال قائلوهم: عاش ما شاء الله أن يعيش، وأقام ما أتاح الله له أن يقيم. وقال قائلوهم: مري يا أيام وكري يا ليالي، فما أسرع ما يكبر أبناء الأحاديث! وليس لهذا كله إلا معنى واحد، وهو أن محاولة إحصاء الأيام والليالي عبث، ومحاولة إحصاء ما يقع فيها من الحوادث والخطوب سخف، فالخير أن نطوي من ذلك كله ما يجب أن يطوى، وألا نقف من ذلك كله إلا عند ما يستحق أن نقف عنده ونفكر فيه.
ونحن مع ذلك لا نحسن تمييز اليوم ذي الخطر من اليوم الذي لا خطر فيه، ولا التفريق بين الحادثة ذات الأثر البعيد، والحادثة التي ليس لها أثر قريب أو بعيد، وإنما نحن نقدر الأيام والحوادث كما نستطيع وكما يصور لنا العقل والخيال، فأما تقديرها كما ينبغي أن تقدر، وتصويرها كما يجب أن تصور، فذلك شيء أكاد أعتقد أنه أبعد منالا من أن يبلغه طمع الطامعين وطموح الطامحين، والشيء الذي أستطيع أن أقرره وأنا صادق عند نفسي سواء أصدقني القارئ أم لم يصدقني، هو أني تتبعت حياة هذه الأسرة من قرب وفي كثير من العناية والدقة، فرأيت كثيرا من الأحداث التي عرضت لها والخطوب التي ألمت بها خليقا أن تكتب فيه القصص وتنشأ فيه الكتب وتؤلف فيه الأسفار الطوال، وأكبر الظن أن هذا ليس مقصورا على هذه الأسرة، وإنما هو شأن كثير من الأسر المصرية في هذا العصر الخطير من حياة مصر، حين أخذ القرن الماضي ينتهي وأخذ القرن الحاضر يبتدئ، وأخذت الحياة المصرية تنتقل من طورها القديم إلى طورها الجديد في عنف هنا وفي رفق هناك.
في هذا الطور من أطوار الحياة المصرية اختلفت على أسر المدن والأقاليم خطوب، لم يكن يحفل بها أحد، ولا يلتفت إليها إنسان، وهي مع ذلك قد خلقت مصر خلقا جديدا وبدلتها من خمولها القديم نباهة، ومن جمودها القديم نشاطا، وما من شك في أن الذي أقصه من أنباء هذه الأسرة - أسرة خالد - يمكن أن يقص مثله من أنباء أسر أخرى كانت تتصل بها صلة الجوار أو صلة المشاركة في العمل وفيما كان العمل يترك في حياتها من آثار، وأنا مع ذلك لا أقص من أنباء هذه الأسرة إلا أقلها وأيسرها؛ فقد كثر أبناؤها وبناتها، واختلفت بهم وبهن نوب الأيام، وذهب كل واحد منهم مذهبه في الحياة، كما دفعت كل واحدة منهن إلى طريقها التي رسمت لها من قبل؛ لم ترسمها لنفسها ولم يرسمها لها أبوها، وإنما رسمها لها القضاء الذي ليس للإنسان عليه سلطان.
وحسبي أن أسجل أن الأعوام لم تكد تتقدم بهذه الأسرة في موطنها الجديد حتى كان أبناؤها قد شبوا واستنفدوا ما كان يمكن أن تمنحه الأقاليم لشبابها من العلم والمعرفة في ذلك الوقت، فلم يكن بد من أن يرحلوا إلى القاهرة حيث يطلب العلم ويلتمس الرقي، وقد فعلوا. وهذه كلمة يسيرة تقال في لحظة قصيرة، وتكتب في حيز ضيق جدا من الورق، ولكن التفكير فيها ينحل إلى آلام لا تحصى، ومتاعب لا تعد، وجهود لا يكاد يتصورها العقل، وعواطف منها ما يسر ويرضي، ومنها ما يسوء ويؤذي، فلم يكن انتقال الأبناء من الأقاليم البعيدة إلى القاهرة في آخر القرن الماضي وأول هذا القرن من السهولة واليسر كما هو في هذه الأيام، وإنما كان شيئا عسيرا كل العسر، معقدا أعظم التعقيد، كان يحتاج إلى كثير من النفقات لم يكن راتب خالد يستطيع أن ينهض به، وكان يحتاج إلى كثير من الجهد في إسكان هؤلاء الشباب في المنازل التي تلائمهم، وتمكنهم من العيش الذي يستطيعون أن يطمئنوا إليه، وحمايتهم من الخطر الذي يمكن أن يتعرضوا له في هذه الدنيا التي كان أهل الأقاليم يرونها عالما غريبا مملوءا بما يعرض الشباب لأعظم الأخطار وأشدها نكرا، وكان هذا كله يشغل نهار خالد وامرأته، ويؤرق ليل خالد وامرأته، ويصرفهما عن كل شيء، ويملأ رءوسهما بالخواطر المقلقة، وقلوبهما بالعواطف المزعجة، وكان سليم يرثى لهما ويشمت بهما، لا يخفي شماتته ولا يبخل برثائه، كان يحبهما ويعطف عليهما، فكان يؤذيه ما يجدان من مشقة وجهد، وقد نهاهما منذ الزمان الأول عن هذا الطموح الذي لا يلائم بيئتهما، وعن هذه الآمال التي لا يقدران على تحقيقها، كم نصح لهما بأن يدفعا أبناءهما إلى المصانع ليتعلموا فيها ما يكسبون به القوت وما يعينون به أبويهم إذا تقدمت بهما السن. وكم قال لهما: إن المدارس لم تنشأ لأبناء الفلاحين وأوساط الناس، وإنما أنشئت لأبناء الذوات من الترك والأغنياء من المصريين. فلم يسمعا ولم ينتصحا، فهما الآن يذوقان مرارة الغرور، ويبلوان ثمر العناد.
وأغرب من هذا أن شيطانا مريدا قد استقر في بيت خالد ولزم أذنيه وأذني امرأته وجعل يوسوس لهما في النهار ألا يسمعا لنصيحة سليم وأضرابه، وألا يقنعا لأبنائهما بالشهادات اليسيرة والمناصب التي تنال بقليل من الجهد وتغل على أصحابها رواتب ضئيلة يراها أهل الإقليم شيئا عظيما وهي في حقيقة الأمر لا تقيم الأود ولا تحمي من الجوع، فضلا عن أن تبيح لأصحابها ما هم أهل له من الترف وخفض العيش، وكان هذا الشيطان المريد يقول لخالد وامرأته مصبحا وممسيا: انظر إلى رئيس المصلحة وقاضي المحكمة ومأمور المركز، فأما أحدهم فيعلم ابنه ليكون قاضيا، وأما الآخر فيريد لابنه أن يكون مهندسا، وأما الثالث فيطمع لابنه في أن يكون طبيبا، فأي فرق بين أبنائكما وأبناء هؤلاء الناس؟! إن قاماتهم جميعا تعتدل في السماء، وليس أبناء هؤلاء الموظفين الكبار وحدهم هم الذين تعتدل قامتهم في السماء على حين يمضي أبناؤكما على أربع، إنهم جميعا قد سلكوا إلى الحياة طريقا واحدة، وسيسلكون بعد أعمار طوال إلى الموت طريقا واحدة، فما بالهم يختلفون في الطبقة ويتباينون في المنزلة بين الحياة والموت؟!
وكان هذا الشيطان المريد يقول لخالد وامرأته فيما كان يقول: انظر إلى رئيس المصلحة كيف يستكبر ويستعلي؟! وكيف يثني عطفه ويلوي جيده إذا تحدث إلى مرءوسيه ومنهم خالد؟! وانظرا إلى امرأة هذا الرئيس كيف تدل وتتيه وتنظر من عل إلى نساء الموظفين حين يسعين لزيارتها! وانظرا إلى أبناء هذا الرئيس إنهم لا يستكبرون على أبنائكما ولا يستعلون، كما يستكبر أبواهم ويستعليان؛ لأنهم قد ذهبوا إلى كتاب واحد ثم إلى مدرسة واحدة؛ فإن أمسكتما أبناءكما عند ما حفظا من العلم وحصلا من الشهادات وقفوا هم وتقدم أترابهم، ثم لا تمضي الأعوام حتى يكون أبناؤكما في نفس منزلتكما، وحتى يكون أبناء هؤلاء الموظفين لهم سادة وعليهم رؤساء، ومع ذلك فقد كان أبناؤكما يتفوقون في المدرسة على أبناء هؤلاء الموظفين، وهم جديرون أن يتفوقوا عليهم في المدارس الأخرى، وهم جديرون آخر الأمر أن يسبقوهم ويظفروا بما لم يظفروا به من وسائل الفوز، فانظروا كيف تجدان أنفسكما يوم يظفر أبناؤكما بالشهادة أو المنصب ويقصر على الشهادة أو المنصب أبناء الرئيس والقاضي والمأمور! وكان هذا الكلام يقع في قلب خالد وامرأته موقعا غريبا، ينسيهما كل شيء ويدفعهما إلى التضحية بكل شيء، فكان كل عام دراسي يشهد بيع شيء مما كانت الأسرة تعتز به وتحرص عليه، فيبيع البقر والجاموس والخيل شيئا فشيئا، ثم بيع حلي «منى» شيئا فشيئا حتى أصبحت أعطل من الفقيرات بين نساء المدينة، فلم تكن في المدينة امرأة فقيرة إلا ولها القرط من الذهب أو الفضة تعلقه في أذنيها، أو الخلخال من الفضة تديره حول ساقيها، وقد كان لمنى من هذا الحلي أنفسه وأكرمه، ولكنها جعلت تنزل عنه عاما بعد عام للمعلم جرجس هذا الذي كان يلم بالبيت إذا دعاه خالد، فيأخذ الحلي في يده ينظر إليه فيطيل النظر، ثم يزنه ثم يؤدي ثمنه إلى خالد، ويدفعه خالد إلى بنيه ليؤدوا منه أجور التعليم، ثم اضطر خالد أن يقتصد في زيه؛ فقد كانت ثيابه من أزهى الحرير وأجود الصوف، ينفق في ذلك ما لا ينفق أصحابه مثله، فإذا هو يزهد في هذا كله، ويتخذ ثيابه من القماش الأبيض والصوف الرخيص، وليس هو وحده الذي يقتصد فامرأته وبناته يذهبن في الاقتصاد مذهبه ويسرن سيرته؛ فقد كان يجب أن يتعلم الأبناء وأن يعيشوا في القاهرة عيشة راضية.
ولم يكن أمل في أن يستعين خالد أباه، فقد بعد العهد بثروة أبيه، وأصبح علي شيخا فانيا ضريرا أعزب عيالا على أبنائه، يرزقونه في المدينة ويودون لو أقام عند كل واحد منهم جزءا من السنة ليعيش مع أهله كما يعيشون حتى لا يكلفهم نفقة خاصة، ولكن عليا مصمم على أن يبقى في داره ليعيش في غرفة أم خالد، وهو لا ينتقل من هذه الدار إلا إذا أقبل الشتاء من كل عام؛ فإنه يحب أن ينفق الشتاء عند خالد حيث يجد من الدفء والراحة والخدمة ما لا يجده في داره، ولكنه قد أخذ على خالد عهدا إن أصابته علة أن يرده إلى داره وإلى غرفة أم خالد من هذه الدار؛ لأنه يريد أن يموت حيث ماتت زوجته الأولى؛ وليس أمل في أن يستعين خالد حماه الحاج مسعودا؛ فقد عبث الحاج مسعود بالثروة، وقد تعرضت تجارته لمثل ما تعرضت له تجارة علي من هذا الخطر الذي جاءها من القاهرة على أيدي هؤلاء الشياطين الذين نظموا التجارة تنظيما حديثا ويسروها تيسيرا لا يقدر عليه الحاج مسعود وأمثاله، ولولا أن الحاج مسعودا كان رجلا صالحا بأدق معاني الكلمة لتعرض من البؤس لمثل ما تعرض له علي، ولكنه ضبط نفسه وحزم أمره وكف عن التجارة حين رأى أن المضي فيها خطر، واكتفى بما كان عنده من مال ينفق منه على نفسه، ويبر منه بناته وأصهاره في اعتدال ورفق، ثم لزم شيخه أشد ما يكون له لزوما، حتى إذا مات الشيخ لم يلزم ابنه الحدث، وإنما أقعدته السن في داره، فكان يزور الشيخ الفتى بين حين وحين، ولو قد بقيت على الحاج مسعود ثروته عريضة وتجارته نامية لما استعانه خالد على ما كان يلقى من الجهد في تعليم بنيه، فقد كان خالد شديد الحياء، وكانت امرأته أشد منه حياء، وكان الزوجان يجدان لذة غريبة في هذا البؤس الذي كانا يضطران الأسرة إليه لتعليم أبنائهما. ومن الحق أن هؤلاء الأبناء كانوا يكافئونهما أحسن المكافأة على ما كانا يبذلان من جهد ويحتملان من ضنك، فقد كانوا نابهين على الجملة، وكانوا على كل حال ممتازين على أترابهم من شباب المدينة، فكانوا ينجحون حين كان يخفق أبناء كبار الموظفين، وقد ظفر أحدهم بالشهادة الثانوية لم يرسب مرة واحدة، على حين أن قرينه ابن المأمور الذي دخل معه المدرسة الثانوية في عام واحد لم يزل في السنة الأولى، وقد كاد يفصل من المدرسة لولا أن أباه استعان ببعض أصحاب الجاه، فكان المأمور وكبار الموظفين يحسدون خالدا، لا يكادون يخفون هذا الحسد، وكان خالد وامرأته يجدان في هذا الحسد لذة منكرة لا يكادان يخفيانها، وكان خالد يتقي هذا الحسد بقراءة القرآن والإلحاح في الدعاء، كما كانت «منى» تتقي هذا الحسد بالبخور وبهذه الأدعية التي لا يعرف أمتجهة إلى الله أم إلى الشيطان، وكان الشباب يضحكون من هذا كله ويعبثون من أمهم وأبيهم جميعا.
وفي أثناء هذا كله كان بنات «منى» ينمون ويتقدمن نحو الشباب حسانا رائعات، وكان الأبناء يتتابعون لا يكاد يدرج واحد منهم حتى يتبعه آخر، وجلنار هي القائمة على أمر هذه الدار بإرشاد خالتها وبتعنيف خالتها أيضا، وقد كثر العمل على جلنار، فالصبية كثيرون، وشئون الدار لم يقل تعقيدها، ولكن قل فيها الخدم؛ فلم يكن بد من الاقتصاد. وكان العمل يثقل على جلنار بنوع خاص أثناء الصيف وفي إجازات الأعياد حين يقبل هؤلاء الشباب، فيملئون البيت حركة ونشاطا، والغريب أن أحدا من هؤلاء الشباب لم يخطر له أن حال الأسرة قد تغيرت، وأن ثراءها قد ذهب، وأن مالها قد قل؛ ومع أنهم كانوا يرون الدار خالية مما كان فيها من الحيوان، ومع أنهم كانوا يرون أن أثاث الدار يبلى شيئا فشيئا دون أن يجدد، ومع أنهم كانوا يرون أمهم عاطلا لم يبق لها خاتم تديره حول إصبعها، فقد كانوا مطمئنين إلى أن أباهم قادر على كل شيء، وكانوا واثقين بأنهم سيجدون في الدار ما تعودوا أن يجدوا من السعة والرخاء، والشيء المهم هو أن جلنار كانت تنهض بخدمتهم لا تكل، تستيقظ مع الفجر قبل أن يستيقظوا، وتنام عند منتصف الليل بعد أن يناموا، لا تفتر عن العمل ساعة، ولا تذوق الراحة لحظة، وهي بذلك سعيدة وإليه مطمئنة، لولا ما كانت تلقى من تعنيف خالتها الذي لم يكن ينقطع، ولولا ما كان يوجه إليها هؤلاء الشباب الأشرار الجاهلون للجميل من مزاح لا يخلو مما يؤلم، ولولا أن سالما كان ينتهز هذه الفرصة فيزور الأسرة ويطيل الإقامة فيها، ويكون أشد أترابه رغبة في الدعة والرخاء وحاجة إلى الخدمة، وأطولهم لسانا بما يسوء.
وكان أحب أوقات جلنار إليها وآثرها عندها هذه اللحظات القصار التي كانت تقدم فيها القهوة إلى أبيها مع الصبح وخالتها نائمة لم تنهض بعد، فكانت تقف بين يدي أبيها وهو يأكل كسرة الخبز المجففة يغمسها في الملح ويشرب فنجانيه من القهوة السادة، ويتحدث إلى ابنته حديثا هادئا عن إخوتها كيف أنفقوا أمسهم وكيف يريدون أن ينفقوا يومهم، وماذا يجب أن تعد لغدائهم أو عشائهم من طعام، وكانت تحب أيضا هذه اللحظات القصار التي كانت تصب فيهن الماء أثناء وضوئه إذا نهض من نومه بعد الغداء، حتى إذا أسبغ وضوءه تركته يصلي العصر، ثم عادت إليه بفنجانيه من القهوة، فأخذ يشربهما مستأنيا، ويداعبها حول ما أعدت من طعام، يمدح هذا اللون ويعيب ذاك، والفتاة ترد على أبيها مداعبة، ترق له حينا وتعنف به حينا آخر، ويبلغ بها العنف أن تشبه أباها بالقطط التي تأكل ثم لا تتحرج من أن تنال مطعمها بالمخالب، وكان أبوها يسمع منها ويضحك لها، وينصرف وفي قلبه كثير من حنان، وعلى لسانه شيء من دعاء لا يسمعه إلا الله؛ لأنه كان يخشى أن يسمعه أحد أبناء الأسرة، فقد استقر في الأسرة كلها أن جلنار حمقاء ورهاء، لا تقدر على خير، ولا تستحق خيرا، وكانت جلنار تجد شيئا من الراحة والروح حين تقدم إلى أمها قهوة الصباح بعد أن ينصرف أبوها وقبل أن تنهض خالتها، فتلقي إلى أمها كلمات سريعة كأنما تخطفهن خطفا، وتلقي إليها أمها كلمات سريعة كأنها تختلسهن اختلاسا، ثم يفرق العمل بين الأم وابنتها، فالفتاة مضطربة في البيت لا تستقر كأنها خذروف الوليد، وأمها مقبلة على ما كانت موكلة به منذ عاد إليها بعض رشدها من الخياطة وإصلاح ما كان الشباب والصبية يمزقون من الثياب.
وكذلك مضت حياة الأسرة أعواما وأعواما حتى اكتهل الشاب وشب الصبي وصلح البنات للزواج، واختلف أصغر الأبناء إلى المدارس يسيرون على آثار إخوتهم الكبار، وخالد الشيخ سعيد بما يرى من تقدم بنيه واستقلال من يستقل منهم، شقي بما يرى من إعراضهم عنه وازورار أكثرهم عليه، باذل على ذلك في شيخوخته مثل ما كان يبذل في شبابه من جهد ليعين من يحتاج من أبنائه إلى العون وليبر أبناءه الآخرين، وقد كانوا خليقين أن يعينوه ويبروه، وكان خالد وامرأته يتحدثان ببر الأبناء وعقوقهم، فيفرحان بأبنائهما ويحتسبان عند الله ما بذلا في تربيتهم وتعليمهم من جهد، وكان خالد يختم هذا الحديث دائما بهذه الجملة: لن أترك لأبنائي ثروة، ولو شئت لتركت لهم مالا كثيرا؛ ولكني سأتركهم غير محتاجين إلى ميراث، ولعلهم يستطيعون أن يؤدوا إلى أبنائهم مثل ما أديت إليهم من المعروف. وكانت جلنار تسمع هذه الجملة فتقع من قلبها موقعا غريبا، فيه عطف على أبيها، وفيه عتب عليه أيضا، إنه لم يترك لأبنائه ميراثا؛ لأنهم أغنياء عن الميراث، ولكنه لم يترك لبناته ميراثا وهن لسن غنيات عن الميراث، ولا سيما من لم تجد منهن زوجا.
الفصل السادس والعشرون
وفي ذات صيف كانت الأسرة كلها مجتمعة، وكان الأمر في الدار قائما على قدم وساق كما يقال، فقد تعمد أبناء الأسرة جميعا أن يلتقوا عند أبويهم، فكان منهم الكهل معه زوجه وبنوه، والشاب معه زوجه التي لم تلد بعد، والشاب الآخر الذي لما يتزوج، والفتى الذي لما يتم الدرس، والصبي الذي لما ينل شهادته الابتدائية، وكانت الأسرة كأحسن ما تكون الأسر فرحا ومرحا، وكان خالد الشيخ كأحسن ما يكون الشيوخ الآباء غبطة وابتهاجا، أحب أوقاته إليه أن يجلس إلى المائدة وحوله هذه القبيلة الضخمة من الأبناء والحفدة وهم يتحدثون في صيحة وجلبة لا يكاد بعضهم يسمع حديث بعض، وأمهم قائمة على رأس المائدة تشرف على غدائهم أو عشائهم، توصي هذا بهذا اللون من الطعام، وتنبه ذاك إلى هذا اللون الذي كان يحبه صبيا، وتحث المقصر في الأكل على أن يأكل، وتحمس الفاتر على أن ينشط؛ وجلنار ذاهبة جائية ومعها أخواتها والخدم يطفن بالصحاف، ويصببن الماء في الأقداح، ويلتقطن من الأحاديث والنكت ما يستطعن، يدخرنه لتلك الساعة التي يجتمع فيها النساء إلى المائدة فيعدنه متندرات به مستمتعات بما يثير في نفوسهن من لذة وابتهاج.
وأيام الأسرة تمضي في هذا الصيف السعيد على خير ما يحب خالد وامرأته، والناس يتحدثون في المدينة بهذه الأسرة الضخمة، وبهذا النشاط الشديد الذي يذيعه أبناؤها في المدينة كلها، فلا يبقى فيها بيت ذو خطر إلا دعا كهول الأسرة وشبابها إلى غداء أو عشاء، ولم تجد الأسرة بدا من أن تلقى الجميل بالجميل، وترد التحية بمثلها أو بأحسن منها، فالولائم متصلة في المدينة، يوما هنا ويوما هناك، وأبناء الأسرة هم مصدر هذا النشاط وسبب هذا الرخاء، ولكن رسالة برقية تصل إلى الأسرة فتحدث فيها شيئا من رضا يمازجه شيء من عجب؛ فقد حملت هذه الرسالة إلى خالد أن صديقه وأخاه سليما سيزور الأسرة من غد، وسيصحبه في هذه الزيارة ابنه سالم، أما الشباب فيسرون لمقدم سالم، هذا الفتى المرح الذي سيزيد إقامتهم بشرا وسرورا، وأما خالد فيسر؛ لأنه سيرى أخاه، ولأنه سيرى أبناءه سعداء مبتهجين، ولكن خالدا يسأل نفسه: ما بال سليم يصطحب ابنه؟ والشباب يتساءلون: ما بال سالم يصحب أباه؟ ثم هم يتساءلون: ما بال هذه الزيارة ينبئ بها البرق ولا تتم مفاجأة كما جرت عادة سالم وسليم؟ فأما «منى» فلم تسأل نفسها عن شيء ولم تجب عما كان يلقى حولها من الأسئلة بشيء، وإنما ظلت هادئة باسمة في وجهها شيء من غموض، ثم يكون الغد ويقبل الزائران، ولكنهما لا يقبلان كما تعودا أن يقبلا، معهما أمتعتهما اليسيرة وبعض ما تعودا أن يحملا من الطرف والهدايا اليسيرة أيضا، وإنما يقبلان هذه المرة ومن حولهما ما يحتاج إلى حمالين كثيرين وما يعيا بحمله هؤلاء الحمالون؛ فألوان من الفاكهة، وضروب مختلفة من الطعام المصنوع، ثم الأرز والسكر والبن وأشياء أخرى لا تكاد تحصى؛ فأما الشباب فيدهشون ولا يقولون شيئا، وإنما ينصرفون إلى سالم يفرحون به ويمرحون معه، وأما خالد فيقول لأخيه: وماذا تركت لأهل المدينة وقد حملت ما كان في سوقها من عروض؟ وأما «منى» فلا تقول شيئا، ولكنها تتلقى هذه الهدايا فرحة بها مبتهجة لها أكثر مما تعودت أن تفرح بالهدايا أو تبتهج، وابتسامتها كما هي، وصمتها باق كما هو، والغموض في وجهها باق كما هو. وأما البنات فلا يحفلن بذلك ولا يكدن يلتفتن إليه؛ فهن مشغولات بما في الدار من نشاط وبما تحتاج إليه الدار من خدمة؛ إلا جلنار فإنها قد حدثت نفسها بشيء وساءلت نفسها عن شيء: أيمكن أن يكون سالم وأبوه قد ذكرا تلك الخطبة القديمة وفكرا في هذا الزواج المنتظر؟ ولكنها لا تجيب عن هذا السؤال، وإنما تترك نفسها معلقة مضطربة، يدفعها الشك إلى هنا وهناك، وهي تألم لهذا الشك الثقيل. ويمضي يوم ويوم والأسرة فيما هي فيه من حياة فرحة مرحة، يزيدها فرحا ومرحا نشاط سالم ودعابة سليم.
ولكن الأخوين يخلوان ساعة بعد الغداء من اليوم الثالث وقد أحس الشباب أن لهذه الخلوة ما بعدها، ولم يلتفت إليها بنات «منى». وأكبر الظن أن منى نفسها قد كانت في غرفة مجاورة تتسمع لما يقول الأخوان، أو تنتظر أن يصل إليها بعض ما يقول الأخوان؛ وأما جلنار فقد لاحظت هذه الخلوة وابتسمت لها ابتسامة غامضة، ومضت فيما كانت فيه من عمل، ولم يعرف قلبها قط من الخوف والرجاء مثل ما عرف في تلك الساعة، ثم يفترق الأخوان، يذهب كل منهما إلى مضجعه ليستريح بعد الغداء، فأما خالد فقد خلا إلى زوجه، وأما سليم فقد خلا إلى ابنه؛ والشباب يتساءلون متضاحكين، وجلنار تسائل نفسها فزعة هلعة دون أن يفطن أحد لما تضطرب به نفسها من فزع وهلع.
فإذا صليت العصر كان وجه «منى» ممتلئا بشرا، وكانت جلنار أول من لحظ ذلك، فلم يزدها إلا فرقا وقلقا؛ ولكن خالدا يدعو إليه الكبار من أبنائه ويتحدث إليهم حديثا يلقونه بثورة لا يكادون يخفونها، فقد جاء سليم خاطبا يريد أن يزوج ابنه، ولكنه لا يخطب «جلنار»، وإنما يخطب تفيدة كبرى بنات «منى»، وخالد حائر في أمره لا يدري كيف يرد على أخيه قوله: أيقبل هذه الخطبة فيضحي بجلنار البائسة، أم يرفض هذه الخطبة، فيؤذي أخاه وهو لم يتعود قط أن يرد لأخيه طلبا؟ وقد عرض الأمر على زوجه فلم تنكر منه شيئا، ومعنى ذلك أنه إن رفض فلن يؤذي أخاه وحده، بل سيؤذي معه زوجه «منى»، وسيؤذي معها سالما.
فأما الشباب فلم يفكروا في شيء من هذا، وإنما اجتمعت كلمتهم على الرفض وعلى أن في هذه الخطبة الجديدة قحة لا تبلغها قحة، وسماجة لا تشبهها سماجة، ثم أخذ الشباب يتضاحكون ويتندرون بعمهم وابن عمهم وبهذه الهدايا الكثيرة التي لم يتعودا أن يحملا مثلها، ولم تصل المغرب حتى كانت الأسرة كلها قد عرفت نبأ الخطبة، وحتى كان الفساد قد شمل أخلاق الشباب والشيوخ والصبيان جميعا، وكأن سحابة كثيفة من الغم قد أظلت هذه الدار التي كانت فرحة مبتهجة منذ حين، فملأتها حزنا وبؤسا، فأما الشبان فقد تفرقوا في أنحاء المدينة يلتمسون الرياضة ويخلو بعضهم إلى بعض، وأما الصبية فقد عشتهم أختهم «جلنار» فأكل منهم من أكل وأعرض منهم من أعرض عن الطعام، واضطروا آخر الأمر إلى مضاجعهم، وأما بنات «منى» فقد لذن بأمهن صامتات مثلها، باسمات مثلها، غامضات مثلها أيضا. وأما «جلنار» فقامت على خدمة الدار كما تعودت، وهيأت للرجال طعامهم، فلما لم يقربه أحد منهم دعت النساء إلى طعامهن، فلما امتنعن رفعت كتفيها وهزت رأسها وأصابت قليلا من طعام وجلست مكانها مع النساء صامتة تنتظر أن يأوي الرجال إلى مضاجعهم لتدور في البيت دورتها المألوفة، فتثق بأن الأبواب مغلقة، وبأن كل شيء مستقر في موضعه الذي يجب أن يستقر فيه، فأما قلبها فقد كان حزينا، ولكن عهده بالحزن قديم، وأما نفسها فقد كانت يائسة، ولكن السبب الذي كان بين نفسها وبين الأمل قد كان واهيا واهنا، حتى إذا انقطع لم تكد تحس له انقطاعا.
وهم خالد فيما أقبل من الأيام أن يرضي أخاه ويضحي بابنته الكبرى، ويكره أبناءه على ما لا يحبون؛ فهو صاحب الحق آخر الأمر في أن يرفض أو يقبل، ولكنه وجد من بنيه مقاومة لم يعهدها من قبل؛ فهم قد أقبلوا على حقائبهم يهيئونها؛ وهم يتحدثون بالقطر التي سيركبونها ليعود كل منهم إلى موطنه الذي يعمل فيه، وهم يؤذنون الأسرة بأن الصلة بينهم وبينها مقطوعة إن قبلت هذه الخطبة الوقحة؛ وخالد يلجأ مع أخيه إلى رئيس المصلحة يستعينان به على هؤلاء الشباب الذين أفسدهم التعليم، وأضاعت الحياة الحديثة من نفوسهم كل حياء، فهم يدخلون فيما لا يعنيهم، ويخالفون عن أمر أبيهم، ويتوسط الرئيس فيدعو إليه شباب الأسرة، فيمتنع أكثرهم ويذهب أقلهم، ثم يعودون كما ذهبوا وقد امتنعوا على الرئيس كما امتنعوا على أبيهم، وهنا بدأت دموع «منى» تسيل ولكنها لم تبلغ من قلوب أبنائها شيئا، واضطر سليم أن يعود أدراجه ومعه ابنه، وقد هم الشباب أن يبالغوا في مساءته فيردوا عليه ما حمل من الهدايا، لولا بقية من رشد وفضل من وقار. وقد انقضت إجازة الصيف حزينة بعد مرح، عابسة بعد ابتسام، وتفرق الشباب عن أبويهم وانصرفوا إلى أعمالهم وقد استوثقوا أنهم كسبوا الموقعة، ولكن كتب أبيهم تصل إليهم بعد أشهر تحمل إليهم هذا النبأ الأليم، فقد تم الزواج، فزوجت تفيدة من سالم، وزوجت جلنار من علي، وكانت هذه هي الحيلة التي اهتدى إليها سليم للخروج من هذه المشكلة، إن الشباب يأبون أن تزوج أختهم الصغرى وتترك أختهم الكبرى؛ فلنزوج الأختين، وما دام سالم يحب تفيدة ويخطبها فليزوج من تفيدة، فأما جلنار فإن عليا لا يكره أن يتزوجها إذا ألح أبوه عليه في ذلك، وقد اطمأنت «منى» ورضي خالد وتم عقد الزواج، لم تستشر فيه تفيدة ولم تسأل فيه جلنار، وإنما أجريت هذه الصورة المألوفة فكان خالد وكيل ابنتيه، وكان سليم وكيل ابنيه؛ وانتهت أنباء ذلك إلى الشباب متفرقين فلم يصنعوا شيئا؛ لأنهم لم يكونوا يستطيعون أن يصنعوا شيئا، ولكن قائلهم قال: أقسم ما هذه إلا حيلة ولتزفن تفيدة إلى سالم ولتطلقن جلنار قبل الزفاف. وأقسم الشباب لا يحضرون من أمر هذا الزواج شيئا.
ومضت أشهر وجاءت إجازة الصيف؛ فلم ينعم خالد وامرأته بزيارة أبنائهما، وقد تحقق ما قدر الشباب، فزفت تفيدة إلى سالم، وأقبل كتاب ذات يوم يحمل إلى خالد وثيقة الطلاق لجلنار.
وفي الإنسان خصال بغيضة لم تستطع الحضارة تهذيبها، بل ليس أحد يدري أخلقت معه فعجزت الحضارة عن إصلاحها؟! أم خلق الإنسان مبرأ منها ثم كسبته الحضارة إياها بما فرضت عليه من ظروف مرتبكة مشتبكة، وبما امتحنته به من خطوب متسابقة متلاحقة، ولكنها مركبة فيه على كل حال، تفسد عليه أمره، وتضطره إلى كثير من البغي، وتورطه في كثير من الإثم، فلست أعرف أقسى منه إذا أبطرته النعمة، ولا أعتى منه إذا ازدهاه الغرور، ولا أجهل منه إذا سيطرت عليه الأثرة، ولا أغفل منه إذا أحس خطرا قريبا أو بعيدا على ما يختص به نفسه من الخير، وأكبر الظن أن كل هذه الخصال مجتمعة هي التي دفعت «منى» إلى أن تتشدد في أن تزف تفيدة إلى سالم أو يزف سالم إلى تفيدة في دار الأسرة وفي أن يجد خالد لختنه عملا في نفس المصلحة التي يعمل فيها، بحيث لا تفارق ابنتها، وبحيث تستطيع أن ترى ختنها الأثير عندها في الصباح والمساء من كل يوم؛ وقد نسيت «منى» أن أمها حاولت شيئا مثل ذلك، فكانت هي أشد الممانعين فيه، وتركت الأمر إلى زوجها، ولم تحفل بما أظهرت أمها أو أضمرت من حزن، ولم تأبه لما سفحت أمها وأمسكت من دموع، نسيت ذلك ولم تذكر إلا شيئا واحدا، وهو أنها لا تريد أن تفارق ابنتها فلا ينبغي لأحد أن يفرق بينها وبين ابنتها مهما تكن الأحوال. ومن يدري! لعل عواطف خفية أثيمة كانت تعبث بهذا القلب الكريم، فتجرده مما عرف به من رحمة، وبهذا العقل النافذ فتحرمه ما قدر له من ذكاء؛ فقد انتصرت على زوجها وبنيها وضرتها التي لم تحارب قليلا ولا كثيرا، وينبغي أن تستغل انتصارها إلى أقصى غاياته وأبعد آماده، وأن ترى ابنتها مقيمة في دارها، سعيدة بحبها، مستأثرة بهذا الزواج الذي لم تكن تنتظره، والذي كانت الأسرة قد أعدته لغيرها، ولم يخطر «لمنى» أن في الدار فتاة خليقة أن يؤذيها هذا الجوار البغيض، وأن يمزق قلبها تمزيقا ويحرقه تحريقا، وأن فوزها الأول خليق أن يحملها على شيء من رحمة ورفق، فتجنب هذه البائسة رؤية هذا الفتى الذي انتظرت أعواما وأعواما أن يكون لها زوجا، والذي عقدت به آمالا وآمالا، ثم نظرت ذات يوم فإذا هي تجزى من هذا الانتظار الطويل والصبر المتصل بالهجران والحرمان، ثم بهذه الإهانة التي لا تطيق المرأة صبرا عليها، وهي هذا الزواج الصوري الذي لم يرد حتى خداعها هي أو تضليلها، فلم يحفل أحد حتى بخداعها وتضليلها، وإنما أريد به خداع أولئك المعارضين من إخوتها، ليتم هذا الزواج الذي هو إلى الغصب والعدوان أقرب منه إلى أي شيء آخر.
لم يخطر هذا لمنى، بل لعله خطر لها فكان دافعا على الإلحاح في أن تقيم ابنتها معها في الدار.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أخذت «جلنار» تعمل في الدار كما كانت تعمل، وكان من بين عملها بطبيعة الحال أن تمضي في خدمة أختها متزوجة بعد أن كانت تخدمها قبل الزواج، وأن تمضي في خدمة هذا النزيل الجديد بعد أن تحول عنها قلبه، وبعد أن أهدى إليها هذه الخيانة البشعة، كما كانت تخدمه من قبل حين كانت ترجو حبه، وحين استيأست من حبه، ولكنها لم تكن تنتظر أن تنتهي به القسوة إلى الخيانة. ويجب أن نعترف بأن «جلنار» مضت في حياتها وفي عملها كما كانت تمضي من قبل لم يظهر أحد من الأسرة على أنها محزونة أو يائسة، إما لأنها لم تظهر حزنا ولا يأسا، وإما لأن الأسرة لم ترد أو لم تستطع أن ترى عليها مظاهر الحزن واليأس.
إنما هي امرأة واحدة لم تستطع أن تقيم في الدار، ولا أن تحتمل هذا البؤس الأليم، وهي نفيسة التي طلبت في حياء يمازجه الذهول أن تزور ابنتها سميحة، وودت لو أذن لجلنار في صحبتها، ولكن «منى» أجابتها في قسوة هادئة: تستطيعين أن تزوري ابنتك إن شئت، فأما جلنار فلن تستغني عنها الدار في هذه الأيام.
وقد آثرت الأم البائسة أن تفارق ابنتها على أن تراها في هذا العذاب البغيض، وكذلك خلت الدار حتى من هذا الشعاع الضئيل الذي كان ينفذ إلى قلب الفتاة من حنان أمها البائسة، فيشيع فيه شيئا من الطمأنينة والراحة، ولم يبق لها إلا وجه أبيها الذي كان يبتسم لها على استحياء؛ لأنه كان يقدر بؤسها في أعماق ضميره، ويقدر قسوته عليها وتقصيره في ذاتها، ولكنه لم يكن يستطيع أن يظهر لها أو لغيرها من ذلك شيئا، فاتخذه سرا بينه وبين الله، يستغفر الله منه، ويستعينه على احتماله إن استطاع أن يخلو إلى نفسه، وما أقل ما كان يستطيع أن يخلو إلى نفسه! وأقبل مع ذلك ذات يوم شيخ متقدم في السن من أصدقاء خالد يكاد يكون تربا له - وكان هذا الشيخ قد فقد أهله منذ حين - أقبل إلى خالد ذات يوم يخطب جلنار، ولم يدر أحد أدفعته الرحمة إلى هذه الخطبة أم دفعته إليها الحاجة إلى من يؤنس وحدته، أم دفعه حرصه على أن تزداد الصلة بينه وبين صديقه متانة وتوثيقا، ولكنه خطب الفتاة إلى أبيها على كل حال، ووجد خالد في هذه الخطبة روحا من الله يخفف عنه بعض ندمه، ويغسل عن نفسه بعض ما علق بها من الإثم والحوب، فوعد صديقه خيرا على أن يشاور ابنته، ثم خلا إلى الفتاة بعد أن آذن زوجه بالأمر بهذه الخطبة في صوت هادئ لا يخلو من اضطراب، وفي ابتسامة متكلفة لا تخلو من حزن، ولكن الفتاة استمعت له مطرقة، ثم أجابته دون أن ترفع رأسها إليه قائلة: ليس لي في الزواج أرب، وما أحب أن أفارق هذه الدار. فلما أراد أبوها أن يحاورها في ذلك رفعت إليه رأسها باسمة في صوتها الذي لم يخل من عنف: ومن ذا الذي يقدم إليك وضوءك وقهوتك في الصباح والمساء؟ ثم تولت عنه معرضة وقد استيقن أنه لن يظفر منها بشيء؛ فلما أعاد حديثها على زوجه قالت «منى» في صوت ساخر بعض الشيء: إن شجرة البؤس ما زالت تؤتي ثمارها. قال خالد ولم يستطع أن يخفي عبوس وجهه : فعسى الله ألا تذوقي أنت ولا بناتك بعض هذه الثمار! ولكن الله لم يستجب لخالد دعاءه في هذه المرة؛ فقد لقيت تفيدة من زوجها ما لقيت، وابتأست في حياتها ما ابتأست.
ورأى الضحى ذات يوم بعد حين من الدهر نسوة مجتمعات يبكين أو يتباكين، وما أكثر دعاء النساء لدموعهن! وما أيسر ما تستجيب الدموع لهن إذا دعونها! رأى الضحى ذات يوم هؤلاء النسوة مجتمعات يبكين أو يتباكين، ولم تكن فيهن إلا أيم أو مطلقة، ولم يكن هؤلاء النسوة إلا «منى» قد تقدمت بها السن والأرامل من بناتها ومعهن جلنار كما عرفها الضحى من كل يوم منذ حملت إلى هذه الدار، فلما فرغ هؤلاء النسوة من بكائهن أو تباكيهن وأقلعت دموعهن بعض الإقلاع، أخذن يتذاكرن آمالهن الضائعة وآلامهن الملمة، وما كتب عليهن من الشقاء والبؤس، إنهن لم يلقين من الدهر قط رحمة أو روحا، تقول «منى» لتفيدة: والله ما جر عليك آلامك، وهذا البؤس المتصل الذي أنت فيه إلا الحسد والغيرة؛ فقد زففت إلى زوجك وإن في هذه الدار لقلبا يكاد الحسد يهلكه. قالت تفيدة في شيء من غضب: والله يا أماه ما أدري! لعلي أكون قد جنيت على نفسي حين أخذت ما ليس لي بحق، وتسمع جلنار فلا تقول شيئا، وقد تعودت منذ أعوام طويلة أن تسمع كثيرا ولا تقول شيئا، ولكنها تنهض بعد حين متثاقلة، فتذهب إلى حجرتها فتلزمها أياما، ثم لا تخرج منها إلا إلى جوار أبيها في تلك الدار التي لا يعرف أهلها تحاسدا ولا تباغضا ولا تعاديا، والتي لا لغو فيها ولا تأثيم.
بيت مري أغسطس وسبتمبر سنة 1954
Bilinmeyen sayfa