وكثيرا ما كانت تنظر إليه وقد وقفت خصلتان من شعره على جانبي رأسه، وضاقت عيناه الرماديتان الباردتان من زاويتيهما الخارجيتين إلى أعلى، فتتنهد وتقول بينها وبين نفسها: أجل إنه هو الشيطان.
وكان له أسلوب خاص في النظر إلى وجهها الملائكي نظرة متفرسة، ويختلق أقوالا لم يقلها المسيح في نغمة تدليل بريئة من الصدق، وكان هذا يروعها دائما حتى يحملها على أن تأخذ وشاحها من فوق المسمار الذي وراء الباب، وتلقي به على رأسها وتندفع إلى الشارع، حيث تسير وتسير لا تلوي على شيء حتى يعيدها إلى البيت حرصها على أطفالها.
وذهبت إلى المدرسة الابتدائية التي تدرس بها البنات الثلاث الصغيرات، وأوصت للمدرسة بلغة إنجليزية ركيكة أن تشجع الأطفال على التحدث بالإنجليزية دون سواها، وألا يستعملن مطلقا كلمة أو عبارة ألمانية، وبذلك حمتهن من أبيهن، وحزنت حين اضطر أطفالها إلى ترك المدرسة بعد انتهائهن من الصف السادس وخروجهن إلى العمل، وحز في نفسها أيضا أنهن تزوجن رجالا لا شأن لهم ولا مكانة، وبكت حين أنجبن بنات؛ لأنها تعلم أن البنت تنتظرها حياة شقية ذليلة، وما من مرة كانت تبدأ فيها فرانسي صلاتها مرتلة: «سلام لك يا مريم، أيتها المنعم عليها، الرب معك.» حتى يتمثل لها وجه جدتها.
وقد ولدت سيسي كبرى أطفال توماس وماري روملي بعد ثلاثة أشهر من نزول والديها إلى أرض أمريكا، ولم تذهب قط إلى المدرسة، ولم تكن ماري تفهم حين بلغت سيسي السن التي يجب عليها فيها أن تذهب إلى مدرسة أن التعليم المجاني متاح لأمثالهم، وهناك قوانين تقضي بإرسال الأطفال إلى المدارس، ولكن أحدا لم يكن يبحث عن هؤلاء الناس الجهلاء لينفذ حكم القانون، وعلمت ماري بوجود التعليم المجاني حتى بلغت بناتها الأخريات سن القبول بالمدرسة، ولكن سن سيسي أكبر من أن تبتدئ مع البنات اللائي عمرهن ست سنوات، فبقيت بالبيت وساعدت أمها.
وحين بلغت سيسي العاشرة اكتمل نضجها، كأنها امرأة في الثلاثين، وأصبح الصبية جميعا يطاردون سيسي، وأصبحت سيسي تطارد الصبية جميعا، فلما بلغت الثانية عشرة كانت تلازم فتى في العشرين من عمره ووأد أبوها هذه القصة الغرامية في مهدها بأن ضرب الفتى، وحين بلغت الرابعة عشرة كانت تصاحب رجل مطافئ في الخامسة والعشرين، وقد انتهت هذه القصة الغرامية بزواج رجل المطافئ من سيسي؛ لأنه نال من أبيها بدلا من أن ينال أبوها منه، وذهب المحبان إلى دار البلدية حيث أقسمت سيسي أنها بلغت الثامنة عشرة وتزوجا على يد كاتب من الكتاب، وصدم الجيران لهذا، لكن ماري كانت تعلم أن الزواج خير شيء يمكن أن يحدث لابنتها العارمة الأنوثة.
وجيم، رجل المطافئ كان رجلا طيبا، ويعد متعلما لأنه أكمل الدراسة الابتدائية، ويكسب مالا لا بأس به، ولا يمكث بالبيت كثيرا، إنه زوج مثالي، وهو وزوجته سعيدان كل السعادة، ومطالب سيسي منه قليلة إلا في الحب، فقد كانت تطلب منه الكثير، مما جعله بالغ السعادة.
وكان جيم يخجل في بعض الأحيان؛ لأن زوجته لا تعرف القراءة أو الكتابة ولكنها على درجة كبيرة من الذكاء والبراعة، ولها قلب عامر بالحب حتى إنها جعلت الحياة شيئا مرحا غاية المرح، بهيجا كل البهجة، وبدأ جيم بمضي الزمن يتغاضى عن أميتها، وكانت سيسي تعامل أمها وأخواتها الصغيرات معاملة طيبة، وجيم يعطيها نفقة معتدلة للبيت تنفقها في حرص شديد، ويبقى منها في الغالب قدر تعطيه لأمها، وحملت سيسي بعد شهر من زواجها، وكانت لا تزال فتاة جريئة في الرابعة عشرة من عمرها، بالرغم من أنها قد أصبحت امرأة، وارتاع الجيران حين رأوها تنط الحبل في الشارع مع الأطفال الآخرين، بالرغم من الجنين الذي تحمله في أحشائها والذي أصبح نتوءا ناشزا في بطنها أو يكاد. وأخذت سيسي تفكر في تدبير أمور طفلها المقبل في الساعات التي لا تقضيها في الطهي، أو تنظيف البيت، أو مطارحة زوجها الغرام، أو نط الحبل، أو محاولة الاشتراك في لعبة كرة البيسبول مع الصبية، وعزمت أن تسمي مولودها ماري تيمنا باسم أمها إذا جاء بنتا، وتسميه جون إذا جاء صبيا، وكانت تحب اسم جون حبا كبيرا لسبب غامض، وبدأت تنادي جيم باسم جون، وقالت إنها تريد أن تسميه باسم الطفل، وكان هذا الاسم في أول الأمر اسم تدليل، ولكن سرعان ما أصبح كل شخص يناديه جون، واعتقد كثير من الناس أن هذا الاسم هو اسمه الحقيقي.
وولد المولود الجديد، وكان بنتا جاءت بعد ولادة يسيرة كل اليسر، فقد استدعيت قابلة تسكن في أسفل منطقتهم السكنية، وسارت الأمور سهلة هينة، واستغرقت ولادة سيسي خمسا وعشرين دقيقة فقط، كانت ولادة رائعة، ولكن الخطأ الوحيد الذي شاب هذه العملية كلها أن الطفل ولد ميتا، وتصادف أن ولد الطفل ومات في يوم عيد ميلاد سيسي الخامس عشر.
وحزنت سيسي فترة، وغير الحزن منها، فبذلت جهدا أكبر لتجعل بيتها نظيفا لا تعلوه غبرة، بل أصبحت أكثر تفكيرا في أمها، ولم تعد فتاة متسكعة، وآمنت بأن نط الحبل كلفها حياة طفلها، وكانت تبدو حين تخلد إلى السكينة أصغر سنا وأقرب إلى الطفولة.
وحين بلغت العشرين كانت قد أنجبت أربعة أطفال، ولدوا كلهم موتى، واستقر رأيها أخيرا على أن الخطأ هو خطأ زوجها وليس خطأها، ألم تقلع عن نط الحبل بعد أن وضعت الطفل الأول؟ وقالت لجيم إنها لم تعد تحبه ما دام حبهما لا ينتج إلا الموت، وطلبت منه أن يتركها، وجادلها قليلا ثم تركها أخيرا، وكان يرسل لها أول الأمر نفقتها من حين إلى حين، وكانت سيسي في الفترات التي تفتقد فيها الرجل تسير مارة بمبنى المطافئ، حيث يكون جيم جالسا خارج الدار، وقد انحرف بمقعده على جدار البناء المصنوع من الآجر، وتمشي على مهل وتبتسم، فيأخذ جيم إجازة غير رسمية ويجري لمقابلتها، ويقضيان معا حوالي نصف ساعة في سعادة غامرة.
Bilinmeyen sayfa