وهكذا مضت هيلدي في طريقها، ومضى جوني في طريق كاتي.
وظلت العلاقة بين كاتي وجوني فترة قصيرة، ثم تمت خطبتهما وتزوجا في الكنيسة التي تتبعها كاتي يوم رأس السنة الجديدة عام 1901م، وكان التعارف بينهما قد تم منذ أربعة أشهر أو أقل، قبل أن يتزوجا.
ولم يغفر توماس روملي لابنته، والواقع أنه لم يكن يغفر قط لأية بنت من بناته زواجها، وكانت فلسفته عن الأطفال بسيطة مفيدة، وهي أن الرجل يمتع نفسه حين ينجبهم، وينفق أقل ما يملك من مال وجهد لينشئهم، ثم يدفعهم إلى العمل ليكسبوا له مالا حين يتجاوزون الثالثة عشرة، وكانت كاتي في السابعة عشرة، وقد اشتغلت أربع سنوات فحسب حين تزوجت، فتخيل أنها مدينة له بالمال.
ومن طبيعة روملي أنه يكره الأحياء والأشياء جميعا، ولم يستطع أحد قط أن يكتشف سر ذلك، كان رجلا بدينا له شعر مجعد رمادي أغبر يغطي رأسا كرأس الأسد! وقد فر من أستراليا هو وعروسه هربا من التجنيد، وبالرغم من أنه يكره وطنه القديم فقد رفض في عناد أن يحب الوطن الجديد، وكان يفهم اللغة الإنجليزية ويستطيع التحدث بها إن شاء، ولكنه يرفض الإجابة حين يخاطب بالإنجليزية وحرم في بيته التحدث بها، وكانت بناته يفهمن من اللغة الألمانية النزر اليسير (فقد أصرت أمهن على أن يتكلمن بالإنجليزية فحسب في البيت، ودافعت عن ذلك بقولها إنه كلما قل فهم البنات للألمانية قل إدراكهن لقسوة أبيهن)، وهكذا شبت البنات الأربع والصلة بينهن وبين أبيهن قليلة، كان لا يتكلم معهن أبدا إلا ليشتمهن، وأصبحت كلمة «عليك لعنة الله» تدل على التحية والوداع، وحين يبلغ الغضب به مبلغه يقول لمن يحل عليه غضبه: يا لك من روسي!
وهذه أقبح شهادة في اعتباره، وكان يكره النمسا ويكره أمريكا، أما كراهيته لروسيا فتفوق الجميع، مع أنه لم يذهب إلى هذا البلد قط، ولم تر عيناه روسيا واحدا، ولم يكن أحد يفهم سر كراهيته لهذا البلد الذي لا يعرف عنه وعن أهله إلا القليل الغامض، وهذا الرجل هو جد فرانسي لأمها، وفرانسي تكرهه كراهية بناته له.
وكانت ماري روملي زوجته وجدة فرانسي قديسة، لم تنل أي حظ من التعليم، ولا تستطيع أن تكتب اسمها أو تقرأه، ولكنها تحتفظ في ذاكرتها بأكثر من ألف قصة وأسطورة، ابتدعت بعضها لتسلي بها أطفالها، والبعض الآخر حكايات قديمة سمعتها من أمها وجدتها، وهي تعرف كثيرا من أغاني القرية القديمة، وتفهم جميع الأمثال والحكم.
وبلغ بها من شدة التدين أنها كانت تعرف قصة حياة كل قديس كاثوليكي، وتؤمن بالأرواح والجان وجميع المخلوقات الخارقة للطبيعة، وتعلم كل شيء عن الأعشاب، وتستطيع أن تصنع أي دواء أو تعويذة، ما دامت لا تضمر شرا بهذه التعويذة، وكانت محل تقدير الناس في الوطن القديم لحكمتها، ويسعى إليها الناس كثيرا طلبا للنصح والمشورة، إنها امرأة طاهرة الذيل بريئة من الذنوب ولكنها تدرك مشاعر الآثمين، ومتشددة غاية التشدد في خلقها وسلوكها، إلا أنها تغتفر ضعف الآخرين، وتبجل الله، وتحب المسيح، وتفهم لماذا يتحول الناس عنهما في كثير من الأحيان.
وتزوجت وهي عذراء، واستسلمت في خضوع لحب زوجها الجامح، وقد قتل جموحه فيها مبكرا كل رغباتها المكنونة، وبالرغم من ذلك كانت تستطيع أن تفهم سطوة الجوع إلى الحب الذي يدفع الفتيات إلى الضلال - كما يقول الناس - وتدرك كيف يمكن لفتى أقصي من الحي لاغتصابه فتاة أن يظل طيب القلب، وتدرك أيضا كيف يضطر الناس إلى الكذب والسرقة وإصابة غيرهم بالأذى. أجل كانت تدرك ضعف البشر جميعا، ذلك الضعف الذي يستدر الرحمة، وكيف يندفع كثير من الأقوياء إلى القسوة والبطش.
ومع ذلك فهي أمية لا تقرأ ولا تكتب، وكانت عيناها بنيتين رقيقتين صافيتين، فيهما براءة، وشعرها الداكن اللامع مفروقا في الوسط يسترسل على أذنيها، وبشرتها شاحبة شفافة، وفمها عذبا، تتكلم في صوت هادئ رقيق فيه دفء وعذوبة يستريح لهما السامعون، وقد ورثت عنها بناتها وحفيداتها جميعا هذا الصوت.
وقد آمنت ماري بأنها حالفت الشيطان نفسه من جراء خطيئة اقترفتها في حياتها بلا حكمة أو تعقل، آمنت بذلك حقا لأن زوجها أنبأها به، فقد درج على أن يقول لها: إنني أنا الشيطان نفسه.
Bilinmeyen sayfa