فوكزه سيرانو برجله، وقال: اسكت يا كرستيان، فسمعت روكسان كلمته. فقالت له: مع من تتحدث؟ وهل كرستيان شخص سواك؟ قال: أتحدث مع نفسي، فقد ندمت على تطرفي واندفاعي في هذا المقترح الذي اقترحته، وقلت لنفسي: اسكت يا كرستيان، فحسبك منها أنها أصغت إليك، وسمعت صوت قلبك، وأذرفت من أجلك دمعة من دموعها الغالية، فلا تطمع فيما وراء ذلك!
وهنا رن صوت قيثارتي الغلامين من بعد. فقال كرستيان على لسان سيرانو: ادخلي الآن يا روكسان، فإني أسمع صوت قادم، ثم عودي إلي بعد قليل.
فدخلت روكسان غرفتها وأقفلت باب نافذتها، وأصغى سيرانو إلى الصوت، فسمع في آن واحد لحنين مختلفين: لحنا مفرحا، وآخر محزنا. فقال: يا للعجب! إن القادم ليس برجل ولا امرأة، فلا بد أن يكون قسيسا!
وما أتم حتى أقبل قسيس شيخ وبيده مصباح ضئيل، وجعل يمر بأبواب المنازل بابا بابا ويدني مصباحه منها ليتبينها، كأنه يفتش عن منزل يقصده، فتقدم نحوه سيرانو وقال له: إنك تعيد لنا أيها الشيخ عهد ديوجين، فهل تفتش عن منزل السيدة مادلين روبان الشهيرة بروكسان، فانبرى له كرستيان وهو يقول في نفسه: إن الرجل يضايقنا في مثل هذه الساعة، ولم ننته من أمر القبلة! وأمسك بيده وأشار له إلى جهة بعيدة، وقال له: هناك أيها الشيخ، هناك، فسر أمامك لا تعطف يمنة ولا يسرة حتى تجد المنزل الذي تريده! فشكر له الشيخ فضله وعاد أدراجه. فقال كرستيان لسيرانو: لا أستطيع أن أبرح هذا المكان حتى أنال القبلة التي أريدها! قال: لا تعجل يا صديقي، فستوافيكما سريعا تلك اللحظة السحرية العجيبة، لحظة الذهول والاستغراق التي تثملان فيها بخمرة الحب، وتذهلان فيها عن نفسيكما، فإذا شفتاكما ذاهبتان وحدهما كل منهما إلى صاحبتها حتى تتلامسا، وصمت لحظة ثم قال في نفسه: ما دامت تلك اللحظة آتية لا ريب فيها فخير لي أن أكون صاحب الفضل فيها، ثم قال له: نادها يا كرستيان، فستنال منها القبلة التي تريدها: فناداها، ففتحت النافذة ، وخرجت إلى الشرفة وهي تقول: أباق أنت يا كرستيان حتى الآن؟ فقال كرستيان على لسان سيرانو: لقد جاء الساعة هنا كاهن شيخ يسأل عن منزلك، فلم تعجبني زيارته في مثل هذا الوقت، فأضللته عن الطريق وأظن أن في يده كتابا، فذعرت روكسان واضطربت مخافة أن يكون الكونت دي جيش قد أخلف وعده، وتخلف عن السفر واختبأ في الدير، وأن يكون هذا الكاهن رسوله، ولكنها ما لبثت أن سرت عن نفسها، وأنساها موقف الغرام كل شيء عداه، وقالت: أظن أننا كنا نتكلم عن ... وتلعثم لسانها؛ فقال كرستيان: عن القبلة، وما لك لا تجسرين على النطق بها كأنها تحرق شفتيك؟ فإذا كان هذا شأنك مع لفظها، فكيف يكون شأنك مع معناها؟ تجلدي يا روكسان ولا تجزعي، فلقد تحولت منذ هنيهة من الدعابة إلى الاضطراب، ومنه إلى الخفقان، ومنه إلى التنهد، ومنه إلى البكاء؛ وليس بين الدموع والقبلة إلا رجفة.
القبلة
فارتعدت روكسان وقالت: لا أمنحك إياها حتى تصفها لي! قال: هي الميثاق الذي يعطى عن قرب، والوعد الصادق الذي لا ريبة فيه، والاعتراف بالحقيقة الواقعة، والنقطة المرقومة تحت باء الحب، والسر العميق الذي يصل إلى القلب من طريق الفم، واللحظة الأبدية التي يقصر زمنها وتدوم حلاوتها، واتفاق الخاطرين على معنى واحد، والطريق المختصر لاستنشاق رائحة القلب، وتذوق طعم النفس على الشفاه، لها دوي النحل في صوتها، ومذاق العسل في حلاوتها، وعبير الأزهار في رائحتها!
فاضطربت روكسان وقالت: حسبك يا كرستيان! فقال: إن القبلة شريفة يا سيدتي، حتى إن ملكة فرنسا لم تبخل بها على نبيل من نبلاء الإنجليز، وكلاهما شريف وعظيم. قالت: اسكت ولا تزد. قال: أنت الملكة التي أعبدها، وأدين لها أكبر مما دانت فرنسا لملكتها، وأنا اللورد بوكانجهام في صدقه وإخلاصه وألمه وحزنه. قالت: وفي جماله أيضا!
فانتفض سيرانو وشعر بوخزة الألم في قلبه، وقال: نعم، وفي جماله، ولقد كنت لذلك ناسيا. فقالت له: اصعد أيها السعيد المجدود لاقتطاف تلك الزهرة التي لا نظير لها!
فأخذ سيرانو بيد كرستيان، وقال له بصوت خافت: اصعد وتناول القبلة التي تريدها، فجبن وتلكأ وقال: ما أشد خجلي وحيائي! قال: اصعد أيها الحيوان، وتناول القبلة التي لا يستحقها منها غير شفتيك الورديتين! ثم دفعه بيده، فتسلق أغصان الياسمين حتى بلغ مكان روكسان على الشرفة، فألقت رأسها الجميل على عاتقه، فاحتضنها إليه ورسم على شفتيها تلك القبلة التي لها دوي النحل في صوتها، ومذاق العسل في حلاوتها، وعبير الأزهار في رائحتها، وسيرانو واضع يده على قلبه يتلوى في مكانه تلوي الملسوع، ويتأوه آهات خفيات مضمرات؛ ولكنه ما لبث أن ارعوى وتجمل، ولجأ إلى سلوته التي اعتاد أن يلجأ إليها كلما عظمت آلامه وهمومه، وأخذ يعزي نفسه، ويقول: يا مأدبة الحب العظيمة التي أنا صاحبها ومحييها، هنيئا للذين يذوقون طعامك، ويتناولون ثمارك، ويرتشفون كئوسك، أما أنا فحسبي منك هذا الفتات الذي يتناثر علي من مائدتك، فإن روكسان لا تقبل شفتي كرستيان، بل تقبل عليهما كلماتي التي ألقيتها في أذنها وسحرتها بها!
وهنا رن صوت قيثارتي الغلامين بلحنين مختلفين: لحن مفرح وآخر محزن، فسألت روكسان: ما هذا؟ فقال لها كرستيان: لعله سيرانو يتمشى في الطريق مع غلاميه الموسيقيين، فانفتل سيرانو من تحت الشرفة إلى موقف الغلامين فحدثهما قليلا ثم أشار إليهما بالانصراف، ومشى يترنح في مشيته كأنه شارب ثمل، ويتغنى ببعض الألحان كأنه قادم الساعة، فما وقع نظره على كرستيان حتى تظاهر بالدهشة، وقال له: أباق أنت هنا يا كرستيان حتى الآن؟ قال له بصوت عال تسمعه روكسان: نعم، أحدث روكسان وتحدثني، وإلى أين أنت ذاهب؟ قال: لقد مللت هذين الغلامين وسئمت ألحانهما وتعبت من طول المسير، فعزمت على الرواح إلى المنزل. فأشرفت عليه روكسان عندما سمعت صوته وقالت له: انتظرني يا سيرانو فإني قادمة إليك، وأقفلت باب الشرفة، وفي هذه اللحظة أقبل الكاهن بمصباحه وهو يحدث نفسه ويقول: ما زلت على رأيي الأول، فإن المنزل هنا في هذا الميدان!
Bilinmeyen sayfa