فأعاد فيها حمدون النظر، فرأى ما بهره وأطار صوابه، أو أنه كان قد شبع قليلا فتنبه قلبه بعد طول غفلته. فقال لها: انتظريني يا فتاتي حتى أسكت صياح تلك العصافير التي ملأت بطني ... إن غزل القلوب يأتي بعد غزل البطون. - هذا أضعف الحب. - أتؤثرين الحب الصائم؟؟ - إن الحب الصحيح لا يدعك تحس جوعا أو عطشا. - أنا أقبل أن يمسني هذا الحب، بشرط أن يتساوى فيه الطرفان: أنا، وأنت. فما رأيك في أن يسد علينا باب حجرة من هذا الفندق مدى الحياة، نستقي من رضاب الشفاه، ونقضم تفاح الخدود ... ورمان النهود؟؟ فتهانفت الفتاة في دلال، وقالت: انتظر حتى أصاب أولا بحبك، ثم اقترح ما تشاء. - آه منك يا فتاة ... إنني أحتاج في اجتذابك إلى وقت أطول من وقتي، فإن ساعة لا تكفي لاقتناص مثلك.
فأجابت الفتاة، وهي تلقي بسحرها، وتعبث بعيونها: ساعة لا تكفي!! إنك مغرور عظيم التفاؤل يا فتى ... ألا قلت: شهرا ... ألا قلت: سنة ... ألا قلت: دهرا.
إن لين الكلام ولطفه، وتجاذب النظرات، وتبادل الضحكات شيء، والغرام شيء آخر. إن كل فتاة تحييكم بكلمة طيبة أيها الشبان تظنونها قد تدلهت في حبكم، ووقعت في شباككم؟؟
لا يا سيدي، لا ... أنا لست من هذا الطراز. - من هذا الطراز أو من غيره ... كلكن بنات حواء. عمى صباحا أيتها الفتاة، واحتفظي بجمالك حتى أعود.
ثم وثب على جواده وهو لا يصرف عينيه عنها. حتى حال البعد بينهما، وأخذ جواده يمر بجبل الشرف، وهو تل أحمر التربة، دائم الخضرة، يمتد من الشمال إلى الجنوب نحو أربعين ميلا، به كثير من القرى، لا تكاد تشمس من أرضه قطعة لالتفاف أشجار الزيتون به.
فسار حمدون في ظل دائم بين هذه الأشجار، حتى انتهى بعد خمس ساعات إلى «طريانة» وهي إلى الشاطئ الأيمن من نهر الوادي الكبير، تقابل من شاطئه الآخر مدينة إشبيلية، وما وصل حمدون إلى «طريانة» حتى سلم قياد جواده إلى أحد رجال البريد هناك، ونزل قاربا اجتاز به إلى إشبيلية، ثم أخذ طريقة إلى القصر. فلما مثل بين أبي القاسم محمد بن عباد - وكان رجلا داهية في الرجال، قد جلله الشيب وأطفأ منه الهرم كل قوة إلا قوة عقله، وقوة إرادته، وقوة نفوذ عينيه وشدة بريقهما - ابتدره أبو القاسم قائلا: خير ما جاء بك. - خير إن شاء الله يا مولاي ... ولد غلام لسيدي عباد أمير باجة.
فاستشهد أبو القاسم:
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما
تخر له الجبابر ساجدينا - وهل مررت بطريقك على بطليوس؟ وهل سمعت شيئا عن المظفر بن الأفطس أميرها؟ - لا يا مولاي، إني اتخذت أقصر طريق.
ثم أراد أن يتملقه فقال: ولكني سمعت بباجة: أن المظفر لا يزال عاكفا على تأليف كتابه، وقد بلغ فيه - فيما نقل إلي - إلى الجزء الرابع والأربعين. - وي وي ... دعه يؤلف ... إننا نؤلف له كتابا سطوره صفوف الجيوش، ونقطه أسنة الرماح.
Bilinmeyen sayfa