ليلة
فندق
تهنئة
عزاء
قتل
عبث
خيبة
ولاية
فجائع
دسيسة
هزيمة
معاهدة
ثورة
الزلاقة
ضيافة
أفول
أسر
ليلة
فندق
تهنئة
عزاء
قتل
عبث
خيبة
ولاية
فجائع
دسيسة
هزيمة
معاهدة
ثورة
الزلاقة
ضيافة
أفول
أسر
شاعر ملك
شاعر ملك
قصة المعتمد بن عباد الأندلسي
تأليف
علي الجارم
ليلة
في ليلة من ليالي ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة للهجرة، كانت مدينة باجة بالأندلس يلفها ظلام دامس بعد أن ظهر القمر في طليعة الليل قليلا، يرسل شعاعه في رعدة وضعف، حتى إذا دنا من الغرب، التقمته لجة الليل، فغاص فيها وترك وراءه المدينة في تجهم وسكون وحداد، وكانت الرياح تعصف من الجنوب والشرق شديدة عاتية، فتسوق السحائب أمامها بسياط من البروق، وتزجرها بهزيم من الرعد غاضب عنيف، وكانت النجوم لا تكاد تطل من بين ثنايا هذه السحائب الراجفة المسرعة حتى تختفي، كأنها لمحات الأمل الكاذب يلتمع في سواد الخطوب، أو تلويح الغريق جاءه الموج من كل مكان، فهو يرسب ويطفو، حتى يحول الموج بينه وبين الحياة.
فزع الناس إلى بيوتهم في هذه الليلة الليلاء، والتجأ المسافرون إلى فنادقهم، وخلت الدروب من السابلة، فلا يجد المطل من خلال نافذته، إلا العسس والحراس يذهبون ويجيئون، وبأيديهم العصي الغليظة يضربون بها الأرض في عنف وقوة، حتى يعلم من لم يكن يعلم من اللصوص وقطاع الطرق، مقدار صولتهم ومدى فتكهم.
وكان يسمع بين الحين والحين عواء كلب أضر به البرد، وآذاه المطر، فالتجأ إلى حائط يعصمه من الماء، وأخذ يرتعد ارتعاد المقرور، ويرسل صوتا مستطيلا حزينا، زاده سواد الليل وهدوءه هما وحزنا.
وسكتت الطيور في عشاشها فوق أشجار الزيتون والتين، إلا بومة سكنت في جحر من بيت خرب، راحت ترسل نعيبا مؤلما، تنقبض له النفس وتضطرب الأعصاب، ويوحي بالموت والفجيعة والدمار.
في تلك اللحظة - وكان الليل في منتصفه - التقى أحد العسس بزميل له في أثناء دورته، فما كاد يراه حتى سري عنه، وتولى من نفسه عارض الهم والخوف؛ لأنه في الحق كان خائفا، على أنه يرضى أن يموت بين براثن الأخطار المحدقة، ولا يرضى أن يقول قائل: إن أبا عوف الخزامي خاف مرة في حياته!
إنه جندي قديم خاض غمار الحروب الطاحنة المستمرة بين المسلمين ومغيرة الإسبان، وطالما قذف بنفسه بين الصفوف، والموت جذلان ينظر، فلم يبال بالموت، ولم يأبه للحياة.
كان أبو عوف قوي العضل، ضخم الجسم شعشاعا، دب الشيب قليلا في عوارض لحيته، ولكنه كان على قوته الجسمية التي كانت في مقتبل شبابه مضرب الأمثال، ساذجا بطئ الفهم قليل التفكير؛ كثير الغفلة، يؤمن بالخرافات إيمان الواثق، ويصدق أقاصيص الجن والشياطين تصديق العجائز.
وقد عرف مخالطوه فيه هذا الضعف، فأكثروا من تنميته واستغلاله.
أحس أبو عوف في هذه الليلة خوفا ورهبة، زاد فيهما نعيب البومة، وهدوء الليل، وانقطاع الطريق من السابلة، فبدت أمام عينيه أشباح مخيفة غريبة الخلق، مرة تبتسم له، وأخرى تعبس مهددة متوعدة، وهو بين ذلك يحاول أن يغمض عينيه؛ ليفر من هذه المخلوقات المنكرة، فلا يزيده الإغماض إلا نكالا؛ لأنه إذا أغمض رأى أصنافا أشد بشاعة، وأعظم نكرا. أخذ يهز رأسه هزا شديدا، وحاول أن يرفع صوته بأنشودة فلم يستطع، ثم شرع يضحك ضحك الهاذي المحموم؛ ليقوي من نفسه، وليدعو إليه شجاعته، وليظهر عدم مبالاته، فكانت الضحكات خافتة، أشبه بفحيح الأفاعي أو نقيق الضفادع، منها بضحك المرح والسرور.
كان في تلك الحال حينما التقى بزميله أبي عبد الله الشنتمري، فما كاد يراه حتى أخذ يبل شفتيه بلسانه، ويمسح بيديه على وجهه مسحا عنيفا، كأنه كان يريد أن يمحو منه كل أثر للخوف، ثم تنحنح قليلا باحثا عن صوته الذي كاد أن يذهب به الفزع، وبعد أن حيا صاحبه قال: يا لهذه الليلة!! كأن أرواح الجن جميعا انطلقت فيها من قماقم سليمان بعد طول احتباسها. - أتصدق أبا عوف، أن سليمان بن داود كان يحبس الجن في قماقم؟ - أأصدق؟! إن هذا السؤال منك لعجيب. إن سليمان منح من الملك والقوة، ما لم يمنحه أحد فيما كان، أو فيما يكون. - هل كان الجن صغارا أقزاما ، لا يزيد الواحد منهم على قبضة اليد؟ - لا. إن الجن خلق ضخام الأجسام جدا، حتى إنهم ليستطيعون أن يصلوا بأيديهم إلى الشمس، ليقتبسوا منها جذوة إذا أرادوا. - وهل تظن أن هؤلاء - مع ما ذكرت من ضخامتهم - يستطاع حبسهم في قماقم لا تكاد تتسع لهريرة؟ - إن القماقم تتسع، أو هم يصغرون. - إذا اتسعت القماقم لم تكن قماقم، وإذا صغرت الجن لم تكن جنا. - إن لعقلك أبا عبد الله لفتات ودورات، وفروضا تدعو إلى الحيرة والارتباك، وإني لا أحب أن يتخذ الحوار هذه الطرق الملتوية؛ لأنني أفكر في طريق مستقيم، ولا أريد أن أجهد عقلي بهذا التشعب الذي لا يؤدي إلى شيء. الجن جن، والقماقم قماقم، وقد سمعنا من أمهاتنا، ومن شيوخ القصاصين: أن سليمان كان يحبس الجن في قماقم، وهذا كاف، فدعنا من هذا بحقك ... أرأيت في حياتك مثل هذه الليلة؟ - إنها - بلا شك - ليلة شديدة الأنواء، عاصفة الرياح منهمرة المطر، وقليلا ما نجد لها مثيلا في هذه الولاية من الجزيرة ... غير أني علمت من أبي: أنه في شتاء السنة التي حدثت فيها الفتنة بقرطبة، اشتدت الأنواء، وأنذرت السماء بالصواعق، وكاد المطر يهدم الدور، حتى ظن بعض الناس أن ذلك كان غضبا من السماء، وإنذارا بالويل والعذاب، لما شاع بين المسلمين - وبخاصة الأمراء والوزراء وجماعة المثرين المستهترين - من الانغماس في الشهوات، والاستسلام للنعيم، وإهمال شئون الدولة إهمالا كاد يذهب بريحها، ويلقي بها في أيدي أعدائنا الإسبان الذين يتربصون بنا الدوائر، والذين لا ينسون أن لهم عندنا ثارا. بعد هذه الحادثة السماوية، وقعت الفتنة بقرطبة، بين محمد بن هشام المهدي وسليمان الملقب بالمستعين، وقد كانت فتنة شعواء ضلت فيها العقول وانحطت الدولة، واستعان كلا الأميرين بالأذفونش (الفونسو) على صاحبه، واشتد الحصار على قرطبة ونهبها البربر وعرب زناتة والرعاع. - حقا إنها لحادثة مفجعة ... لقد كنت في الخامسة عشرة في ذلك العهد، وأذكر أن أبي كان كثير الاهتمام بالأمر، يستطلع الأخبار من البريد القادم من قرطبة في كل يوم، وكان أبي جنديا شجاعا، ولكنه كان مولعا بقراءة التاريخ، وقد أنفق نصف ماله على الوراقين الذين كانت لهم أساليب الأبالسة في اجتذابه إليهم، لشراء كتب عتيقة بالية، يزعمون أنها جاءت من المشرق، حتى لقد ضاقت نفسي بذلك الإسراف يوما فلم أستطع عليه صبرا، فقلت: يا أبي لقد أضعفت بصرك بقراءة هذه الكتب، وهؤلاء الوراقون لصوص أدنياء، وقد استلانوا منك مغمزا فأخذوك بحيلهم الخداعة، وكتبهم الكاذبة الزائفة.
فاتجه إلي ولمحات الغضب في عينيه، وقال: اعلم يا بني أن العقل عقلان: مولود، ومكتسب. فأخذتني الدهشة، وقلت: إذا كانت عقبى قراءة الكتب يا أبي، أن تزعم أن العقل عقلان، فهذا في الحق ما كنت أخشى عليك منه؛ فضحك أبي، وهزني من كتفي، وقال: هون عليك أبا عوف، أنت ثور وحشي صغير! - وقد أصبحت الآن ثورا كبيرا. - ذاك مزاح مضى وقته ... أليس من العجب ألا يفهمني الناس؟، وأنني كلما صدعت برأي، تهامسوا أو ابتسموا كأن الله أنزل عليهم حكمة داود دوني!! منذ شهرين عزم ابني محمد على التزوج بفتاة نصرانية شغفته حبا، فذهبنا إلى قاضي العقود، فلما هم بعقد الزواج طلب شاهدين، فبصرته بأنه يجب أن يكون أحدهما نصرانيا؛ ليكون المسلم شاهدا على الزوج، والنصراني شاهدا على الزوجة. فابتسم وصرف وجهه عني في صلف وغرور يعرف هؤلاء الفقهاء كيف يتقنونه، فلما ألححت، مد عينيه في من قمة رأسي إلى جوف أخمصي، وقال: ما لك ولهذا أبا عوف؟! إنما أنت رجل حرب وجلاد، فدع ما لغيرك لغيرك. فغضبت وقلت: لو لم أكن رجل حرب، ولو لم أدفع عنك وعن أمثالك صولة الإسبان بسيفي وبساعدي، لكنت اليوم من سكان القبور، وما استطعت أن تنظر إلي - كما تفعل الآن - نظراتك إلى حيوان عجيب الخلق، ولذهب علمك وفقهك اللذان تتبجح بهما طعمة للسيف والنار. فسكت الرجل على دخل، ومن العجب أنه تمسك برأيه، وعقد الزواج بشاهدين مسلمين. - دعنا من هؤلاء الفقهاء أبا عوف، فإن بينك وبينهم بعد ما بين باجة وأربونة ... أسمعت تلك البومة التي أخذت تولول بصوت مفزع مليء بالأحزان؟! - سمعتها وتشاءمت منها أشد التشاؤم، وأعتقد أنها نذير سوء. - تلك أوهام أبا عوف، فإن ما كان يكون:
وما غراب البين
إلا ناقة أو جمل
وبينما هما في حديثهما؛ إذ سمعا خطوات أشباح في الظلام، يدنو صوتها إلى حيث وقفا، فقال أبو عبد الله: لا بد أن أمرا ذا بال دفع هؤلاء الناس إلى النزول في هذه الليلة القاسية.
وما كاد يأخذ في الحديث، حتى مرت بهما طائفة من حرس الوالي عباد بن أبي القاسم وبينهم امرأة متلففة بالصوف، مجللة بالسواد، وقد حملها الخدم في محفة غطيت بنسيج من الكتان الغليظ لا يكاد ينفذ منه المطر. فوقفت المحفة قليلا، وسأل أبو عبد الله عن الخبر، فأجابه جوهر السوداني: بأن امرأة الأمير جاءها المخاض في منتصف الليل، وأنهم أحضروا لها نزهة الغرناطية القابلة (وأشار إلى المرأة التي بالمحفة). حينئذ ساروا جميعا إلى قصر الأمير، وكان قصرا فخما بني على الطراز العربي، وزخرف بعجائب الصنعة ودائع الفنون، وقد أطل النور من جميع نوافذه ومشارفه، وكان الخدم والجواري في شغل شاغل يجيئون ويذهبون.
فدخلت القابلة القصر، وجلس أبو عوف مع الحراس في بناء أعد لهم، حتى إذا مضت ساعة أو ساعتان، علت الأصوات في القصر، وانبسطت الوجوه، ونزلت جارية تثب فوق درجات السلم وثبا، وهي تصيح في لغة عربية متكسرة تمتزج بالرطانة الإسبانية: البشرى ... البشرى ... ولدت الأميرة ... ولدت بنت مجاهد ... إنه غلام ... إنه غلام ... إنه جميل جدا. حينئذ سحب أبو عوف عصاه، وهو يردد: إنه غلام ... إنه غلام.
فندق
بزغت شمس اليوم الثاني مشرقة وضاءة، وانحسرت الغيوم عن السماء وصحا الجو، كأن لم يكن نوء، وكأن لم يكن أمطار، وكأن لم يكن رياح هوج، ومضى الناس في شوارع باجة مستبشرين بعد ما دهمهم من الغم والعرب في الليلة الفائتة.
ولم يكن لهم من حديث إلا ما كان حول السقوف وكيف نفذ منها المطر، والشرفات وكيف أطاحت بها العواصف، والبرق وما كان من خوف أولادهم ونسائهم من توهجه، والرعد وما ترك في النفوس من رعب وفزع ... وجلست طائفة من الشبان المثقفين بفندق يتناشدون الشعر ويتطارحون النوادر وطرائف الأحاديث، وكان يقيم بالفندق شيخ جاوز الأربعين هو العالم الزاهد أبو حفص عمر الهوزني، قدم من إشبيلية لينسخ بعض كتب الحديث التي بخزائن باجة.
جلس الشيخ في صمت وإطراق، تتحرك شفتاه بما لا يكاد يسمع من أدعية أو تسبيح، وقد كان عرفه أحد الفتيان حينما كان يدرس العلم بإشبيلية، فاتجه إليه سائلا: كيف كانت ليلة الشيخ أمس؟ فأجاب الشيخ: الحمد لله على كل حال ... صدق الله العظيم:
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس .
هذا يا بني إنذار من الله لهذه الأمة التي نسيت الله فأنساها أنفسها، وانغمست في النعيم فغطى على أعينها فهي لا تبصر، وعلى آذانها فهي لا تسمع ... ولا تجد أينما سرت إلا مجالس لهو ومحاضر أنس ... خمر ونساء ... نساء وخمر ... هذا شعار هذه الأمة المنكودة، كأنما هي في حلم لذيذ لا تريد أن تستيقظ منه، وقد جاءتها المثلات وصاحت في آذانها العبر ... ولكنها سادرة عابثة تسير إلى الهوة التي لا قرار لها وهي لا تشعر.
إن هذه الأمة المسكينة كقطيع من الشاء. لا راعي له ولا حافظ، وقد أحاطت بها الأسود من كل جانب، والأمراء الأمراء؟؟ ... أين هم؟! ... إنهم في تصارع وتطاحن ... بعضهم أعداء بعض، لا تنطفئ نيران الحروب بينهم، يريد كل واحد منهم أن ينفرد بالقوة والسلطان، ويريد أن يمحو ملك أخيه، ويستأصل شأفته ولو أدى ذلك إلى الاستعانة بملوك الإسبان، وهؤلاء يغرون بعضهم ببعض، ويزينون لهم ما هم فيه من حقد وخلاف وحرب؛ ليضربوا هذا بذاك، حتى يضعفوا جميعا.
كان على هؤلاء الأمراء أن يلتف بعضهم حول بعض، وأن يكونوا حلفا عربيا قويا أساسه المحبة والتعاضد، وأن يكونوا كالبنيان المرصوص، إذا فجأتهم صيحة، أو حلت بهم نازلة.
إن الله سبحانه وهب لأحط أنواع الحيوان غريزة تدفعه إلى التجمع والتعاون للدفاع عن النفس والحوزة: فالنمل تعيش أسرابا ... والنحل تعيش أسرابا ... والطير تصف في جو السماء أسرابا ... والظباء تسير أسرابا ... فما للإنسان المسكين يميت غريزته، وتتغلب عليه شهوة التملك والقهر، فيحارب من يجب أن يستعين بهم، ويبدد قوته في سبيل أن يعيش منفردا بعظمة موهومة وسلطان كاذب.
انظروا كيف أضعف هذه الأمة صبية بني أمية الذين دعوا أنفسهم ملوكا، ثم خلعوا على أنفسهم ألقاب الخلافة أسوة ببني العباس!! فقد استعان بعضهم على بعض بالبربر والصقالبة وملوك الإسبان، فهلك أربعة منهم في نحو سبع سنين وأضاعوا ملكا عظيما، بناه آباؤهم الأولون بآرائهم وسيوفهم.
ثم ماذا حصل لما تفرقت الكلمة وكثر الأمراء، وانفرد كل أمير بولاية؟؟ المصيبة نفسها ... لهو وسرف، وإغراق في الشهوات، ثم تفرق وتخاذل وغدر.
ارجعوا إلى ما حصل في هذه المدينة منذ عهد قريب ... ثار فيها البربر واشتد فيها الخلاف، وتأججت نار العصبية بين البربر والعرب، فتنازع للتغلب عليها أبو القاسم ابن عباد وبنو الأفطس، وأرسل أبو القاسم ابنه عبادا لإخضاعها، فحاصر ابن الأفطس بها وأفنى رجاله، ثم أسره وتملك المدينة.
وكانت هذه الحادثة صائحة الشر بينهم، ولا يزالون إلى اليوم في حروب لا تنطفئ نارها، ولا يخمد أوارها، ومثل هذا من الشر والتنازع، ترونه في بقية الأمراء.
نحن يا أبنائي غرباء في هذه الأرض ... غرباء في مملكة قوية ملكناها من أهلها بقوة السلاح، ولا نستطيع أن نبقى فيها إلا بقوة السلاح. نحن غرباء فاتحون بين قوم أولي قوة وأولي بأس شديد، لا ينامون على الضيم طويلا، ولا يصبرون على ضياع ملكهم ... غرباء فاتحون نزلنا أرض الأندلس، وهي جنة وارفة الظلال، متدفقة الأنهار، كثيرة النعم، وافرة الخير، فكان علينا أن نشكر الله - عز شأنه - بالحرص على هذا الفردوس الأرضي، وأن نجاهد متواثقين لتنمية خيراته وإعداد العدة للذود عنه، وأن نستعيذ دائما من نزعات إبليس الذي أخرج آدم من الجنة، وما كان فيها من نعيم مقيم. كان علينا أن نعلم - وقد نزلنا أرض الإسبان، وأخضعنا أهلها ووضعنا الجزية على سادتها وكبرائها - أننا قد انعزلنا بديننا وقومنا - وهم فئة قليلة - في بلاد نائية، وفي جزيرة منقطعة عن المشرق، وكان علينا أن ندرك المرمى البعيد الذي ألمع إليه طارق حين أحرق سفنه وقواربه، وصاح في قومه: «البحر وراءكم والعدو أمامكم، وليس لكم إلا الجلد والصبر».
كان الشيخ يتحدث في تأن وصوت مرتعد، وكانت آثار الغضب والحزن بادية على وجهه، وكان الفتيان ينصتون إليه واجمين، كأن شيئا مما ذكره وأفاض فيه لم يخطر لهم ببال، ثم ابتدره أحدهم قائلا: «صدقت يا شيخ، إن أخلاقنا العربية ذهبت عنا منذ حين، وإني أعتقد أن العرب لا تسود إلا إذا تمسكت بعاداتها، عادات البداوة والخشونة، فإذا انصرفت إلى الحضارة أذهلها بريقها فتفننت في النعيم، واستنامت إلى الدعة وتجردت من الشجاعة والحمية، وضعفت فيها تلك العقيدة الإسلامية القوية التي هزمت بها الممالك وثلت العروش، أمام عدد أكبر من عددها، وقوة أضخم من قوتها، وأظن هذا معنى قول الله - وهو الصادق العليم:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين .
وقال ثان من الفتيان: أظن أن الشيخ صور داء الأندلس في كلمتين: التنازع على الملك والشهوات!
إن هؤلاء الإسبانيات وبال على الملك والملة معا ... إن فيهن لفتنة وسحرا يستلان من النفوس كل أخلاق الرجولة ويستعبدان القلوب ... وفي بيت كل أمير من هؤلاء مئات يتمتع بهن، ويلهو بين الكاس والطاس، وأعتقد أن كثيرا من هؤلاء الجواري جاسوسات لملوك قشتالة وغيرها، ينقلن إليهم أخبار كل أمير، وينفذن ما يأمرونهن به من كل ما يضعف الدولة ويذهب بصولتها.
إن جمال هؤلاء الإسبانيات ورقة حديثهن ولطف دلالهن، مما يعجز عنه الصف ويكبو دونه التعبير، حتى كثرت الأسواق التي يبعن فيها في كل بلد من الأندلس، وأقبل الشبان على التسري بهن، وامتنعوا عن التزوج بالحرائر، فكسدت سوق بناتنا وأصبحن يحتلن على الزواج بالتبرج وإظهار الزينة، واتخاذ وسائل الإغراء، واجتذاب الرجال، ففسدن وسقطن في حمأة من الرذيلة ذادت عنهن الرجال.
وهكذا عدن بالخيبة بعد أن حاولن الاستشفاء من داء بداء.
فقال الشيخ: إننا أتينا من ذلك الجنون الذي أصاب أمراءنا، وهو غرامهم بالتشبه بملوك بني العباس.
سمعوا كثيرا عن إغراق هؤلاء في اللهو والمجون، واقتناء القيان والغلمان، وتبديد الأموال في العظمة الكاذبة، فأبوا أن يكونوا دونهم في شيء من هذا: خمر وقيان وغلمان، ولهو وعبث ومجون، ثم قصور شامخات، وحدائق باسمات ... أما الدولة والأمة ... فلها رب يحميها.
فانبرى ثالث وقال: إن روح اللهو والمجون هذه سرت إلى كثير من الناس، حتى جازت الحد.
دعاني مرة أبو منصور السلامي للتنزه بمنية الفرح، وهي على بعد فرسخين من المدينة، وكان قد صنع صنيعا دعا له طائفة من الأدباء والشعراء والتجار وبعض الفقهاء، فلما استقررنا بالمنية - وكان قد سبقنا غلمانه وعبيده إليها مدت الموائد فلنا منها طعاما شهيا، ثم رفع الطعام، وصفت أواني الشراب، وأخذت القيان في الغناء والرقص، ولعبت الخمر برءوس أصحابي، وعلا ضجيجهم، فكانت قهقهة الإبريق تمتزج بقهقهة المرح، ورنات العيدان والطنابير تختلط بأغاريد طيور الربيع، وخطوات الرقص تساير الألحان فتثير الأعصاب وتهيج الأشجان ... بين نكات وطرف، وفرائد من الشعر تتناثر هنا وهناك:
كما نثرت فوق العروس الدراهم
أما القوم: فقد خلعوا عذارهم، وأرسلوا للهو عنانهم، فطاروا إلى اللذات، وأغرقوا عقولهم في الكاسات، والقيان تمشي بينهم وكلهن فتن وإغراء، يرسلن الشباك لاصطياد العقول، بين غمزة بالعين، ومدة للشفتين في دلال يشبه الغضب، وكلام هو السحر أو دونه السحر.
وإذا بماجن يستخفه الطرب فيصيح منشدا:
لا تنم واغتنم ملذة يوم
إن تحت التراب نوما طويلا!
وثان ينشد:
يقولون: تب والكأس في يد أغيد
وصوت المثاني والمثالث عالي!
وثالث ذهبت الخمر بصوابه، فأخذ يغني في تلعثم:
أفنيت عمري شربا
على وجوه الملاح
أحيي الليالي طروبا
في نشوة ومزاح
ولست أسمع ماذا
يقول داعي الفلاح
ورابع يغني، ويقول:
سقوني وقالوا لا تغني ولو سقوا
جبال حنين ما سقوني لغنت
ثم قام شيخ جاوز الستين، وأخذ يرقص وهو متوكئ على عصاه، وقد غلبه السكر، ثم شرع يترنم بأبيات ابن شهيد، التي أنشدها حينما رقص في مجلس المنصور ابن أبي عامر:
هاك شيخا قاده عذر لكا
قام في رقصته مستهلكا
عاقه عن هزها منفردا
نقرس أخنى عليه فاتكا
من وزير فيهم رقاصة
قام للسكر يناغي ملكا؟
أنا لو كنت كما تعرفني
قمت إجلالا على رأسي لكا
قهقه الإبريق مني ضاحكا
ورأى رعشة رجلي فبكى
وبينما نحن على تلك الحال، إذا غلام قروي خبيث يصيح: الإسبان ... الإسبان ... إنهم قادمون مع جيش من البربر للوثوب على باجة.
فأطار الخوف الخمر من رءوس القوم، وأخذ منهم الذعر والهلع كل مأخذ، واصطدم بعضهم ببعض، وداسوا فوق العيدان والكئوس، واجتذبوا ذيولهم من القيان اللاتي حاولن الاحتماء بهم ... ثم تبين بعد قليل أنها فرية دنيئة، وأن الغلام اللئيم أراد أن يكدر صفوهم، ويفرق جمعهم.
فأسرع الشيخ قائلا: إن إنذار الغلام لم يكن كاذبا، وستأتي إليهم الإسبان حتما، إن لم يكن اليوم فغدا.
ويحي على الأندلس ويحي!! أين أيام عبد الرحمن الناصر؟، حينما كانت راية الإسلام تخفق على أرجاء الجزيرة في عزة وشموخ، وحينما كانت الوفود من ملوك الإسبان تأتي إلى الزهراء فتحسر عن رءوسها إجلالا وهيبة؟!
فهز أحد الفتيان رأسه في تحسر، وقال: هذا كلام صحيح، ولكني أنصح للشيخ أن يكتم السخط على أمراء هذا الزمان في نفسه، فإن أميرنا عبادا رجل بطاش ظالم، يسبق السيف كلمته، ويصطاد العصفور من بين براثن النسور، وهو كثير الجواسيس، ينقلون إليه أخبار الناس وأحاديثهم حتى ليقال: إنه يعرف ما يحصل في كل دار، ويكاد يعرف ما يجول في كل نفس.
فأجاب الشيخ: هون عليك يا فتى ... إن الله كتب لكل نفس أجلها، وإنما ضيع الناس الرياء، والنفاق، والسكوت على الداء وهو يدب ويستشري.
وبينما هم في الحديث، إذ دخل شاب من طلاب العلم بالمدينة وهو يقول: إن عظماء المدينة وعلماءها وشعراءها يذهبون إلى القصر لتهنئة الأمير بمولود جديد.
فنظر الشيخ في السماء ... وأخذ يردد:
بشر الدهر بمولود جديد
ليت شعري أشقي أم سعيد؟
تهنئة
أعد العبيد كرسيا للأمير عباد إلى جانب سرير زوجه، طاهرة بنت مجاهد العامري أمير دانية، وكانت أحظى زوجاته عنده وأقربهن إلى قلبه .
فدخل الأمير باشا يتلألأ وجهه بشرا على غير عادته التي اعتادها من مظاهر الجد والعبوس، وما نظر إلى طاهرة، وهي في سريرها تهش لمقدمه، وتصوب إليه عينيها الناعستين في حب وجذل - حتى عاجلها بقوله: أتذكرين يا طاهرة يوم قلت فيك:
رعى الله من يصلي فؤادي بحبه
سعيرا، وعيني منه في جنة الخلد
غزالية العينين شمسية السنا
كثيبية الردفين غصنية القد
شكوت إليها حبها بمدامعي
وعلمتها ما قد لقيت من الوجد
فصادف قلبي قلبها وهو عالم
فأعداه، والشوق المبرح قد يعدي
فقاطعته: نعم أعداه يا مولاي ... والشوق المبرح قد يعدي!
ولكن عبادا استمر ينشد:
فقلت لها هاتي ثناياك إنني
أفضل نوار الأقاح على الورد
فجلست طاهرة وقالت: والله يا مولاي ما عذبتك بصد، ولا روعتك بهجر ... ولكنها عادة الشعراء كأنهم لرغبة التمتع بلذة الوصل يقرنون إليها ألم الهجر وذل القطيعة؛ ليشعروا بكل ما في الوصل من سعادة ونعيم!! أتراني صدقتك يا مولاي - وأنت صادق دائما - حين قلت:
تنام ومدنفها يسهر
وتصبر عنه ولا يصبر
لئن دام هذا وهذا به
سيهلك وجدا ولا يشعر
فعبث الأمير بخدها، وقال: أين الغلام؟؟ وكيف الطلى وأمه؟؟
فحملته بين ذراعيها في رفق وحنان، وكشفت عن وجهه غطاء من الحرير الرقيق، وقالت: إنه جميل وسيم يا مولاي ... إن فيه كثيرا منك، وكثيرا مني.
فنظر الأمير إلى وجهه، وقال: نعم يا جارية. هذا أنفك بعينه لا يكاد يخطئ الشبه من ينظر إليهما ... أنف إسباني ورب الكعبة.
فتكلفت طاهرة الغضب في دلال وفتنة، وقالت: ألا يزال الأمير يعيرني بأبي؟! والله إن إصهارك منه لأكبر دليل على شرف محتده ونبل منزله.
نعم، إن أبي كان مولى إسبانيا من موالي المنصور بن أبي عامر، ولكن نسبه يرجع إلى أسرة عريقة من ملوك الشمال، ثم زاده الإسلام شرفا على شرف، وأضاف إلى مجده التليد مجدا طريفا. - أنا أعرف ذلك يا طاهرة، وإنما هي مزحة أردت أن أثير بها غضبك. أرجو أن يكون هذا الغلام سعيدا، كما أرجو السعادة لأخويه: إسماعيل وجابر، فإنني يا طاهرة دائم القلق على ذريتي، وعلى ذلك الملك الذي أثلناه بعزم يدك الجبال، ولاقينا في توطيده وتوسيع رقعته ما يشيب نواصي الأطفال.
إنك قوي الخيال يا مولاي، تجري وراءه فيصور لك التصاوير المزعجة، ويقض مضجعك كأنه حلم مزعج حتى إذا صحوت منه لم تجده شيئا. - لا يا ابنة مجاهد. إن المنجمين يكادون يجمعون على أن زوال ملكنا يكون على أيدي قوم يطرءون على الجزيرة من غير سكانها، وأغلب الظن أن يكون هؤلاء هم البرازلة، الذين طرأوا على الأندلس في عهد المنصور بن أبي عامر؛ لذلك صممت - إن تنفس لي العمر، وامتد الأجل - أن اكتسح غرب الجزيرة، وألا أبقي من ملوكه ملكا على عرش. - زادك الله يا مولاي قوة وتمكينا، وأمتع بحياتك.
عند ذلك تهيأ الأمير للقيام، وقبل زوجه قبلة في جبينها، ثم مشى نحو الباب وهبط من السلم والعبيد حوله، والحراس أمامه وخلفه، حتى إذا وصل إلى البهو، قام الناس جميعا في هيبة وخوف وإجلال، وتقدم إليه رجال الدولة، ورؤساء الجند، وعظماء المدينة، بالتهنئة والدعوات بتمام الإقبال وسعادة المولود. ثم تقدم الشعراء فأنشد كل منهم ما كان أسرع في إعداده، وكان فارس حلبتهم في هذا اليوم أحمد الأنصاري الشاعر، الذي أنشد قصيدة سينية كانت غاية في الإبداع. منها:
أصاخت الخيل آذانا لصرخته
واهتز كل هزبر عندما عطسا
وآثر الدرع مذ شدت لفائفه
وأبغض المهد لما أبصر الفرسا
وبعد أن انصرف القوم، دعا الأمير بالمنجمين ليروا طالع المولد، فاجتمعوا والرعب يملأ قلوبهم، فقد كانوا يعلمون أنهم دعوا لأمر جد خطير، وكان بينهم أبو مسلم الحضرمي الإشبيلي.
وبعد أن نظروا في أسطر لاباتهم وقلبوا في كتبهم، أقبل بعضهم على بعض يهمسون: ماذا نقول للأمير؟ فقال أحدهم: إن الطالع سيئ، وهز آخر رأسه في أسف قائلا: إن ما تقوله حق أبا الحسين ... ولكننا عاهدنا صناعتنا ألا نقول الحق إلا إذا كان سارا، أو تضمن شرا يمكن اتقاؤه.
فقال أبو مسلم: إن رءوسكم لا تكفي لإسكات غضب الأمير لو جبهتموه بسوء طالع ابنه ، ثم إن قتلكم لن يغير مما كتب في صفحة القدر حرفا، ولن يقول الناس إن تغيبوا في القبور: برد الله مثواهم، لأنهم كانوا شجعانا لا يبالون في الحق صولة أمير جبار ... وهبوهم قالوا شيئا من هذا، فماذا يفيدكم قولهم وأنتم تراب؟! رحم الله ذلك الأعرابي الذي قيل له حين فر من القتال: ألا تخشى العار؟ فقال: لأن يقولوا: فر لعنه الله خير عندي من أن يقولوا: مات رحمه الله!
فقال أبو الحسين: وماذا ترى أبا مسلم؟ قال: أرى أننا خوفنا الأمير منذ سنتين من خطر يدهمه، من قوم يطرءون على الجزيرة من غير سكانها، فيجب أن نستمسك بهذا، وأن نظهر البشر والابتسام وحسن التفاءل، ونبلغه بأن الطالع سعيد، غير أننا لا نزال نلح في اتقاء خطر الطارئين.
فخرجوا على هذا الرأي، ولما ألقوا كلمتهم للأمير أطرق مرددا: يفعل الله ما يشاء ... الطارئون ... الطارئون ... دائما الطارئون!!
ثم دعا بصاحب البريد، وطلب إليه أن يسير توا إلى إشبيلية لينقل الخبر إلى أبيه.
وما كاد حمدون اللخمي يتلقى أمر مولاه، حتى أسرع إلى خيل البريد فاختار أكرمهم سلالة، وأسبقها عدوا، وأقواها جلدا.
ومضى به يسابق الريح بين غياض فيح، وحدائق نضر، وأشجار فينانة مختلفة الثمار، حتى أدركه الصباح عند «لبلة» وظهرت له أسوارها المنيعة القديمة، وما يحيط بها من أشجار الزيتون ومروج القرنفل والعصفر، فاجتاز القنطرة التي فوق النهر، ودخل المدينة تعبا ساغبا منهوك القوى، فأخذ سمته إلى فندق في سوق التجار، وما كاد الطعام يقدم إليه حتى طفق يلتهمه التهاما، وكان بالفندق فتاة إسبانية تنظر في شئون المسافرين، امتزجت فيها الصحة بالجمال، فكونت منها إنسانة حسانة فاتنة عربيدة، تعرض عمن يهيم بها، وتدعو المعرض عنها يهيم بها، حتى إذا اقتنصته أرته الدلال كيف يكون.
فلما رأت حمدونا لا يرفع عينيه من وعائه، يضع اللقمة في فمه ويعد أخرى، وينظر إلى الثالثة ... قالت له في رشاقة تتخللها ضحكة خفيفة: يظهر أن الطعام صرفك حسن طهوه عن جميع الناس!!
فرفع عينيه إليها في بله أو تباله وقال: ماذا تقولين يا فتاة؟؟ - أقول: إن طعام «لبلة» أو طعام فندقنا خاصة، يستهوي البطون ويحظى بغزلها وصبابتها.
فأعاد فيها حمدون النظر، فرأى ما بهره وأطار صوابه، أو أنه كان قد شبع قليلا فتنبه قلبه بعد طول غفلته. فقال لها: انتظريني يا فتاتي حتى أسكت صياح تلك العصافير التي ملأت بطني ... إن غزل القلوب يأتي بعد غزل البطون. - هذا أضعف الحب. - أتؤثرين الحب الصائم؟؟ - إن الحب الصحيح لا يدعك تحس جوعا أو عطشا. - أنا أقبل أن يمسني هذا الحب، بشرط أن يتساوى فيه الطرفان: أنا، وأنت. فما رأيك في أن يسد علينا باب حجرة من هذا الفندق مدى الحياة، نستقي من رضاب الشفاه، ونقضم تفاح الخدود ... ورمان النهود؟؟ فتهانفت الفتاة في دلال، وقالت: انتظر حتى أصاب أولا بحبك، ثم اقترح ما تشاء. - آه منك يا فتاة ... إنني أحتاج في اجتذابك إلى وقت أطول من وقتي، فإن ساعة لا تكفي لاقتناص مثلك.
فأجابت الفتاة، وهي تلقي بسحرها، وتعبث بعيونها: ساعة لا تكفي!! إنك مغرور عظيم التفاؤل يا فتى ... ألا قلت: شهرا ... ألا قلت: سنة ... ألا قلت: دهرا.
إن لين الكلام ولطفه، وتجاذب النظرات، وتبادل الضحكات شيء، والغرام شيء آخر. إن كل فتاة تحييكم بكلمة طيبة أيها الشبان تظنونها قد تدلهت في حبكم، ووقعت في شباككم؟؟
لا يا سيدي، لا ... أنا لست من هذا الطراز. - من هذا الطراز أو من غيره ... كلكن بنات حواء. عمى صباحا أيتها الفتاة، واحتفظي بجمالك حتى أعود.
ثم وثب على جواده وهو لا يصرف عينيه عنها. حتى حال البعد بينهما، وأخذ جواده يمر بجبل الشرف، وهو تل أحمر التربة، دائم الخضرة، يمتد من الشمال إلى الجنوب نحو أربعين ميلا، به كثير من القرى، لا تكاد تشمس من أرضه قطعة لالتفاف أشجار الزيتون به.
فسار حمدون في ظل دائم بين هذه الأشجار، حتى انتهى بعد خمس ساعات إلى «طريانة» وهي إلى الشاطئ الأيمن من نهر الوادي الكبير، تقابل من شاطئه الآخر مدينة إشبيلية، وما وصل حمدون إلى «طريانة» حتى سلم قياد جواده إلى أحد رجال البريد هناك، ونزل قاربا اجتاز به إلى إشبيلية، ثم أخذ طريقة إلى القصر. فلما مثل بين أبي القاسم محمد بن عباد - وكان رجلا داهية في الرجال، قد جلله الشيب وأطفأ منه الهرم كل قوة إلا قوة عقله، وقوة إرادته، وقوة نفوذ عينيه وشدة بريقهما - ابتدره أبو القاسم قائلا: خير ما جاء بك. - خير إن شاء الله يا مولاي ... ولد غلام لسيدي عباد أمير باجة.
فاستشهد أبو القاسم:
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما
تخر له الجبابر ساجدينا - وهل مررت بطريقك على بطليوس؟ وهل سمعت شيئا عن المظفر بن الأفطس أميرها؟ - لا يا مولاي، إني اتخذت أقصر طريق.
ثم أراد أن يتملقه فقال: ولكني سمعت بباجة: أن المظفر لا يزال عاكفا على تأليف كتابه، وقد بلغ فيه - فيما نقل إلي - إلى الجزء الرابع والأربعين. - وي وي ... دعه يؤلف ... إننا نؤلف له كتابا سطوره صفوف الجيوش، ونقطه أسنة الرماح.
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
عزاء
دار الفلك دوراته ... ومضى نحو سنتين من ولادة محمد بن عباد، والدنيا مقبلة على دولة بني عباد، والأيام تضاحك آمالها.
حتى إذا كان يوم من أيام الربيع، أقبل على قصر باجة فارس يحث جواده وقد تصبب منه العرق وجلله الغبار، فلما دخل الفناء تواثب إليه الحراس والجنود من كل مكان، فعرفوا فيه الحارث بن ربيعة، موضع ثقة الملك أبي القاسم صاحب إشبيلية. فابتدرهم الفارس وهو يلهث: أين مولاي عباد؟ فأشاروا إلى داخل القصر، فقفز الحارث حتى إذا مثل بين يدي الأمير، أدى كريم التحية، وقال: يا مولاي. إن سيدي أبا القاسم قد اشتد به المرض منذ أيام، وقد طلب إلي أن أسرع إليك لتراه.
فوجم عباد عند إلقاء الخبر إليه، وبدا على وجهه مزيج من حزن وأمل وخوف وتفكير، ثم قال: أتراه بارئا يا ابن ربيعة؟؟ فقال: يا مولاي إن المرض لشديد.
وما كاد يسري الخبر في القصر، حتى سرى النحيب والنشيج بين الجواري؛ فغضب عباد وقال: إنهن فاجرات يملكن عيونهن ... مر صاحب بريدي أن يعد «داحسا» فإنه أقوى خيلي على العدو. ثم قام وودع زوجه، وتأهب للسفر إلى إشبيلية، وأمر أن ترحل الأسرة والحاشية بعد يومين.
عدا الفرس بعباد كأنه البرق الخاطف، حتى لقد عجز الحارث عن مداركته، وما كانت إلا ليلة وبعض نهار، حتى وصل عباد إلى إشبيلية وكان في حجرة أبيه. فرأى شبحا نهكته الأيام وافترسته الأمراض، يردد أنفاسا قصارا، ويرسل أنات خافتة فلما رآه أبو القاسم ابتسم ابتسامة ترحيب، وأشار إليه بالجلوس، ثم قال في عبارات متقطعة: إننا ملكنا يا عباد بالدهاء والحيلة، ثم ثنينا بعد ذلك بالقوة والبطش والجبروت ... أملك الجزيرة كلها أبا عمرو، وأبدأ بالأدارسة، فإنهم أعداؤك وأعداء أبيك ... إنك لخمي يا بني ... إنك من بني المنذر بن ماء السماء، فلست بمحدث في الملك ولا واغل فيه. عند ذاك أقبل يحيى بن إسحاق الطيب، وفي يده كأس بها دواء، فصرفه عنه أبو القاسم، وقال:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
ثم مال برأسه على وسادته ومات.
دفن أبو القاسم، وأصبح عباد ملك إشبيلية وغرب الأندلس، وسمى نفسه بالمعتضد، وكان عباد باقعة في السياسة، داهية في اقتناص الفرص، حولا قلبا.
وكان بعيد الهوى والمدى
يكون الصبا ويكون الدبورا
أسد يفترس وهو رابض، وينصب المكايد وهو بين جواريه وكاساته وندمائه ... قاس أشد القسوة، وعنيد أشد العناد، ومخيف أشد الإخافة ... لا يرحم قريبا، ولا تقصر ذراعه عن بعيد، وطد دولته وقوى جيشه، ووسع بغزواته ملكه، ونصب في حديقة قصره خشبا ربط بأعلى كل خشبة رأس ملك، أو أمير، أو قائد ممن ظفر بهم في غزواته، وقد أكثر من الجواسيس حتى خافت الرعية أن تهجس بما في نفوسها، فدانت له الرقاب، وذلت الصعاب، وقهر ملوك غربي الأندلس، وقد صور نفسه بنفسه حين يقول:
حميت ذمار المجد بالبيض والسمر
وقصرت أعمال العداة على قسر
ووسعت طرق المجد طبعا وصنعه
لأشياء في العلياء ضاق بها صدري
فلا مجد للإنسان ما كان ضده
يشاركه في الدهر بالنهي والأمر
ثم أعطى نفسه صورة أخرى حين قال:
لعمري إني بالمدامة قوال
وإني لما يهوى الندامى لفعال
قسمت زماني بين كد وراحة
فللرأي أسحار وللطيب آصال
فأمسي على اللذات واللهو عاكفا
وأضحي بساحات الرياسة أختال
ولست على الإدمان أغفل بغيتي
من المجد، إني في المعالي لمحتال
قتل
استقر الملك للمعتضد وتتابع الانتصار، واستمر الزمان يسير والأيام تتوالى، وبلغ محمد بن عباد الحادية عشرة، وكان قد أتقن القراءة والكتابة، وشدا في مبادئ العلوم، فأحضر له أبوه في القصر خير الأساتذة بالأندلس لتثقيفه وتلقينه، فكان يعيش بن دينار يدرس معه فقه الإمام مالك، وبقي بن مخلد تفسير القرآن، ومحمد بن أيمن الحديث، وإسماعيل بن القاسم الأدب والتاريخ، والخوفي النحو، وأبو القاسم الصفار التنجيم، ووكل إلى رئيس قواده تعليمه الفروسية وعلوم الحرب.
وكان الشاب محمد وسيم الوجه، زكي الفؤاد، صادق الحس، قوي العارضة، فسيح مدى الخيال، فيه كثير من الجرأة والشجاعة، وشيء من التهور والعجلة، وكان مولعا بقراءة الشعر، وأكثر ما يعجبه فيه شعر الغزل والحماسة.
وقد استمرت دراسته ست سنين، خرج بعدها كامل التثقيف وافر العدة للملك والرياسة.
جلس إلى إسماعيل بن القاسم يوما بعد أن تمكن في الأدب، فلما انتهى الشيخ من شرح قصيدة عمر بن أبي ربيعة:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر
وكان ابن عباد قاسيا في نقدها، التفت إلى أستاذه وقال: ما يقول الشيخ في هذين البيتين:
أكثرت هجرك غير أنك ربما
عطفتك أحيانا علي أمور
فكأنما زمن التهاجر بيننا
ليل وساعات الوصال بدور
فقال الشيخ: هذا شعر حسن. لمن هذان البيتان؟ فقال ابن عباد: وما تظن في هذه الأبيات؟؟
تظن بنا أم الربيع سآمة
ألا غفر الرحمن دنبا تواقعه
أأهجر ظبيا في فؤادي كناسه
وبدر تمام، في ضلوعي مطالعه؟
وروضة حسن أجتنبها، وباردا
من الظلم، لم تحظر علي شرائعه؟
إذا عدمت كفي نوالا تفيضه
على معتفيها، أو عدوا تقارعه
فطرب الشيخ وصاح: هذا والله الشعر، لمن هذا؟ فقال ابن عباد: للجالس بين يديك، الذي طابت بأدبك أصائله، وغنت بلابله. فقال الشيخ: مرحى يا ابن مولاي مرحى!! هذا هو شعر الملوك، ومن سواك يقول مثله، وفيكم الرياسة والأدب والشعر منذ عهد ابن المنذر؟
خرج الشاب والعجب يملأ جوانبه، فالتقى بأخيه إسماعيل في أحد دهاليز القصر، فأنشده الأبيات فبهر إسماعيل وقال: ويلك يا محمد!! أغزل في هذا السن؟! والله لو علم أبوك ما سلمت من عصاه. فأجاب محمد: إن الناس يتناقلون لأبي كثيرا من شعر الغزل. - إن الكلب الغاضب ينبح، فإذا حاكيت نباحه وثب عليك. - هذا تشبيه عجيب يا إسماعيل ... أتشبه أبي بالكلب بعد أن قدمك على إخوتك وجعلك ولي عهده؟! - أما تشبيهي إياه بالكلب، فقد سبقني إليه علي بن الجهم في مدح المتوكل العباسي حين قال:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب - ذلك كان أعرابيا جافيا جاء من البادية، ولم تصقله الحضارة، ولكن الله تعالى يقول:
فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث
فدع المغالطة يا إسماعيل. ثم أين «أما» الثانية؟ - وأما ولاية العهد، فهي في يد الرحمن ... الرجل كثير التقلب يا محمد لا يثبت على حال، وعيونه حولك وحولي في كل مكان. أتعرف جاريتي «ماريا» التي تضرب الحاشية بها المثل في فنائها في حبي وطاعتي؟ أتعرف أنها جاسوسة له علي؟! - جاسوسة؟! - نعم جاسوسة، وقد حذرتني أمي منها بعد أن وعظتني طويلا، ونصحتني بالاتبعاد عن الاتصال بالجنود، وبالتزام الطاعة في كل ما يأمر به أبي، ولقد يحسن بك أن تعلم أن الجارية «فلورا» تتجسس عليك أيضا، وتنقل أخبار لهوك وعبثك إلى أبي. - ومن أخبرك بهذا؟ - أخبرتني الجارية «صباح» لأنها رأتها تختلف إلى حجرة أبي، وهي تعلم أن الغيرة تنهش صدرها عليك؛ لما تظهر من الصبابة والغرام بالجاريتين: سحر، وجوهرة. - ويل لابنة الأسبان ... - هذا ما يجب أن تخشاه يا محمد، أما أنا فما ذنبي؟! - حدة الطبع والتشبث بالرأي، والعجلة التي تدعوك أحيانا إلى جني الفاكهة قبل نضجها، وللفقهاء قاعدة مليحة يرددونها: «من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه».
وبينما هما يتحدثان، أقبل «صاعد» خادم المعتضد الخاص يدعو إسماعيل لمقابلة أبيه، فهرول مسرعا، حتى إذا دخل عليه رآه مطرقا عابسا، فقال: اجلس يا إسماعيل ... لمثل هذا اليوم أعددتك ... أتعرف قرطبة؟ هي قصبة الأندلس جميعها ... هي رقبتها، فإذا حزتها في قبضتي أخفت الملوك جميعا، وسيطرت عليهم جميعا ... خذ الجيش غدا ... وهات لي قرطبة بعد ثلاث أيام ... قم.
فتلكأ إسماعيل وقال: ولكن يا مولاي، جيشنا قليل العدد، وإن بقرطبة جيشا عظيما تؤيده العامة، وليس ببعيد أن تستنجد قرطبة بحليفها باديس بن حبوس، فيقع رجالي بين شقي الرحا.
فصاح المعتضد: لقد صدق فيك ظني ... إنك لجبان رعديد منخوب الفؤاد ... بمثلك تضيع الممالك؛ وتهزم الجيوش ... أغرب عني ... أغرب ... ثم وثب عليه ففر من أمامه.
فر وهو يعتقد أنه مائت لا محالة لو بقي في عرين هذا الأسد، فاختفى بعيدا عن إشبيلية أياما، ثم علم أن أباه قد غاب عن القصر، وذهب إلى حصن الزاهر. فعاد إسماعيل إلى إشبيلية، واقتحم القصر وأخذ كثيرا من ذخائره، واستكثر من المال والمتاع ومضى مع بعض الجند الموالين له إلى الجزيرة الخضراء، ومر في طريقه بقلعة ابن أبي حصاد فاستجار به فأجاره، ولكنه بادر بالكتابة إلى المعتضد سرا يخبره بنزول ابنه عنده، فأرسل إليه المعتضد من أعاده إلى إشبيلية، فاعتقله المعتضد، وبقي أياما يقلب الرأي في أمره.
حتى إذا كانت ليلة - والمعتضد أرق يتقلب على سريره لما دهمه من الهم والنكد - لمح رجلا يتسور عليه القصر، فنظر، فإذا هو ابنه مع طائفة من الجند كانوا يمالئونه، فهم المعتضد وهم معه حراسه، وقبض على إسماعيل ابنه، وحدثت ضجة في القصر استيقظ لها النوام، وجاءت أم إسماعيل حاسرة عن رأسها باكية مولولة، فسقطت على قدمي المعتضد صائحة: بحقك يا مولاي إلا ما وهبته لي ... فزمجر المعتضد وقال، وقد نحاها عنه: يكفي أن أهب لك نفسك، فقد سئمت الموالسة والمخالسة، ولن أكون كالمتوكل العباسي الغر، الذي ما زال يغمض عينيه عن الخطر، ويستجيب للحنان الكاذب - حتى صرعه ابنه، والآن فليهنأ برثاء البحتري! لا. لا ...
ثم قام إلى إسماعيل فحز رأسه بسيفه وهو يقول:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم .
ولو أن كفي لم تطعني قطعتها
وألقيتها للكلب يقضمها حولي
عبث
وكرت الأيام وتوالت الشهور، والقصر في صمت القبور، والوزراء والأمراء والخدم يمشون فيه واجفين مطرقين، ومحمد بن عباد - بعد أن جعله أبوه ولي عهده ولقبه بالمعتمد - أصبح لا يكاد يؤدي واجب تقبيل يد والده كل صباح، حتى يفر إلى أخدانه من أبناء كبار الساسة والأدباء والشعراء، وكان يطيب له اللهو بالزاهي، وهو قصر عند باب العطارين بإشبيلية، فيه كان يخلع عذراه، ويرسل لطبعه الشعري عنانه؛ ففي يوم دعا جماعته إليه، وطاب المجلس، وغنت القيان، ودارت الراح ... وكان بينهم الداني الشاعر، وأبو بكر بن زيدون، وأبو القاسم الهوزني، ثم شرعت «نشوة» المغنية تغني بشعر المعتمد:
ولقد شربت الراح يسطع نورها
والليل قد مد الظلام رداء
حتى تبدى البدر في ظلمائه
ملكا، تناهى بهجة وبهاء
وحكيته في الأرض بين مواكب
وكواعب جمعت سنا وسناء
إن نشرت تلك الدروع حنادسا
ملأت لنا هذي الكئوس ضياء
وإذا تغنت هذه في مزهر
لم تأل تلك على التريك غناء
فطرب القوم، وقام بين يديه أحد سقاته فقال:
لله ساق مهفهف عبق
قام ليسقي فجاء بالعجب
أهدى لنا من لطيف حكمته
في جامد الماء ذائب الذهب
ثم غنت «نشوة» من قول المعتمد:
يا صفوتي من البشر
يا كوكبا بل يا قمر
يا غصنا إذا مشى
يا رشأ إذا خطر
يا نفس الروضة قد
هب لنا عند السحر
يا ربة اللحظ الذي
شد وثاقي إذ فتر
متى أداوي يا دوا
ء السمع مني والبصر
ما بفؤادي من جوى
بما بفيك من خصر؟
فأبدعت إنشادا وإيقاعا.
ثم التفت المعتمد وقال: أين ابن عمار؟ فتهامس القوم، وقال أبو بكر بن زيدون: يا مولاي: إنه دون هذه المنزلة، وهو رجل لا تؤمن مغبته يرتزق بشعره، ويمدح اليوم من يهجوه غدا.
فظهر الغضب في عيني ابن عباد وقال: والله إنها الغيرة التي تأكل القلوب، وتظهر البغضاء على الأفواه، ليس منكم والله من يستطيع أن يقول كما قال ابن عمار:
علي وإلا ما بكاء الغمائم؟
وفي وإلا فيم نوح الحمائم؟
يا غلام: اذهب فأحضره، ولو كان بين براثن الأسد.
وبينما هو في انتظاره إذ أقبل صاعد خادم المعتضد مسرعا حتى إذا بلغ المعتمد قال: يا سيدي، إن مولاي يدعوك إليه لأمر لا أعلمه. فبدا الخوف في وجه المعتمد، وتمتم لأصدقائه بكلمات يعتذر فيها عن مغادرتهم.
كان المعتضد في مساء ذلك اليوم منفردا في الحجرة التي خصصها بتدبير شئون ملكه، وإذ الباب يقرع خفيفا، وإذا الجارية «فلورا» تدخل في اضطراب ورعب.
فيعالجها المعتضد صائحا: ما وراءك؟؟
فتتلعثم قائلة: يا مولاي قد طلبت إلي أن أرصد أحوال سيدي المعتمد، وقد تسللت اليوم إلى غرفة نومه، فرأيت فيها هذه الأوراق التي لا أدري ما فيها، فقلت: لعل لمولاي فيها رأيا. فاختطفها منها المعتضد وقرأ، فإذا غزل رائع لابنه المعتمد. فيه:
داوى ثلاثته بلطف ثلاثة
فغدا بذاك رقيبه لم يشعر
أسراره بتستر، وأواره
بتبصر، وخباله بتوقر
وفيه:
أسر الهوى قلبي فعذبني
يوم الوداع فلم أطلق منعا
فأذاب حر صبابتي كبدي
وأسألها في وجنتي دمعا
وفيه:
حرم النوم علينا ورقد
وابتلانا بهواه ثم صد
يا هلالا حسن خد يا رشا
سحر لحظ، يا قضيبا لين قد
بودادي لك، بالشوق الذي
في فؤادي، لا تدعني للكمد
لست أرضي عن زماني أو أرى
منك حسنا لا أراه من أحد
وفيه:
يا ليت مدة بعدك
رشيقة مثل قدك
كمدة الورد ورد الر
بيع، لا ورد خدك
فعمر ذا عمر صبري
وعمر ذا عمر صدك
رضيت منك - وإن لم
تنجز - بلذة وعدك
وفيه:
سرورنا بعدكم ناقص
والطيب لا صاف ولا خالص
والسعد إن طالعنا نجمه
وغبت، فهو الآفل الناكص
سموك بالجوهر مظلومة
مثلك لا يدركه الغائص
وفيه:
قلت: متى ترحمني؟
قال: ولا طول الأبد
قلت: فقد أيأستني
من الحياة، قال: قد
وفيه:
يا غرة الشمس التي
قلبي لها أحد البروج
لولاك لم أك مؤثرا
فرش الحرير على السروج
فبدا الغضب على المعتضد عندما قرأ البيتين الأخيرين، وقال: يا ضيعة الملك بمثله!! إنه لأجل جارية لا تساوي عقال بعير، يؤثر الحرير على السروج ... اذهبي يا جارية ... يا صاعد ... علي بمحمد، ولعلك تجده في أحد مجالس أنسه، بين الأفاقين من ندمائه، والعواهر من جواريه وقيانه.
وقف المعتمد بين يدي والده يرتعد فرقا، فابتدره المعتضد: إني لا أحظر الشعر ولكني أحظر الفجور، وأحظر أن تؤثر فرش الحرير على السروج، وأبغض أن أراك عبد شهواتك صريع غانية وكأس، وأكره أن تكون بطانتك من السفلة المخادعين، الذين لا يبالون أبقيت الدولة أم زالت ما داموا يطعمون ويشربون.
إن السيف الذي قتلت به أخاك لا يزال الدم عليه جاسدا ... ويل للدولة من الخلعاء ... ويل للدولة من الخمر والنساء.
يا محمد: إن أردت أن تكون خليفتي من بعدي، فاجعل كلماتي هذه في أذنيك أقراطا. اذهب.
خيبة
أراد المعتضد أن يصرف عن ابنه إخوان السوء، وأن يدربه على شئون الملك، فدعاه في غداة يوم، فلما ذهب إليه رآه يقرأ في رسالة، فرفع المعتضد عينيه وقال: هذه يا محمد رسالة من أشياخ «مالقة» يشكون فيها من أميرها باديس بن حبوس عدو دولتنا الألد، ويستحثونني على أخذ المدينة وأن يكونوا لي عونا في قتاله، فاذهب أنت وأخوك جابر بجيوشنا، واستأصل جماعة ابن حبوس، وهات لي رأسه ... غدا ترحل.
لم يجد المعتمد مناصا من الطاعة أمام رجل لا يعف سيفه عن أبنائه، فقال: السمع لك والطاعة لك يا أبي ... سأرحل، وسأكون ابن المعتضد والحقيق بنسبه.
رحل المعتمد وأخوه جابر يقودان جيشا عظيما، فدان لهم البلد وخضع أهله إلا فلولا من السودان لاذوا بقلعة مالقة، فأشار أهل المدينة على المعتمد بالاحتراس منهم، وأن يكون جيشه على أهبة الاستعداد والحذر، فلم يلق المعتمد لهذه النصيحة سمعا، وقضى ليلته في لهو ومجون، وقضى السودان ليلتهم في بث الرسل لباديس والاستنجاد به؛ فجاءهم في جيوش زاخرة، وفتك بجيش المعتمد، وانتهب ذخائره وأثقاله، وفر المعتمد وأخوه إلى «رندة» يجران ذيل الخزي والعار، ويرهبان صولة أبيهما الجبار.
كان المعتمد في حيرة فقال لأخيه: ما نصنع يا جابر؟؟ - إني أؤثر أن أغمد سيفي هذا في صدري على أن أرى وجه المعتضد.
وشاعت القالة في «رندة» أن المعتضد نذر دم ابنه المعتمد، وأعد لمقابلته سيفا بتارا، فقضى المعتمد ليلة في هم وسهد، يكتب ويمحو، ثم يكتب ويمحو، وبزغ الفجر وقد أتم قصيدة في استعطاف أبيه، ثم ذهب فأيقظ أخاه وقال: اسمع يا جابر، سأكتب بهذه لأبي، وقرأ:
سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر
ماذا يعيد عليك الهم والحذر؟
وازجر جفونك لا ترض البكاء لها
واصبر، فقد كنت عند الخطب تصطبر
فإن يكن قدر قد عاق عن وطر
فلا مرد لما يأتي به القدر
وإن تكن خيبة في الدهر واحدة
فكم غزوت ومن أشياعك الظفر!
يا ضيغما يقتل الأقران مفترسا
لا توهنني، فإني الناب والظفر
كم وقعة لك في الأعداء واضحة
تفنى الليالي ولا يفنى بها الخبر
سارت بها العيس في الآفاق فانتشرت
فليس في كل حي غيرها سمر
قد أخلفتني ظنون أنت تعلمها
وغال مورد آمالي بها كدر
فالنفس جازعة، والعين دامعة
والصوت منخفض، والطرف منكسر
قد حلت لونا، وما بالجسم من سقم
وشب رأسا، ولم يبلغني الكبر
ومت إلا ذماء في يمسكه
إني عهدتك تعفو حين تقتدر
لم يأت عبدك ذنبا يستحق به
عتبي، وها هو قد ناداك يعتذر
ما الذنب إلا على قوم ذوي دغل
وفى لهم عدلك المألوف إذ غدروا
قوم نصيحتهم غش، وحبهم
بغض، ونفعهم إن صدقوا ضرر
يميز البغض في الألفاظ إن نطقوا
ويعرف الحقد في الألحاظ إن نظروا
أجب نداء أخي قلب تملكه
أسى، وذي مقلة أوهى بها سهر
رضاك راحة نفسي، لا فجعت به
فهو العتاد الذي للدهر أدخر
وهو المدام التي أسلو بها فإذا
عدمتها عبثت في قلبي الفكر
وإنما أنا ساع في رضاك فإن
أخفقت فيه، فلا يفسح لي العمر
فظهر السرور على وجه جابر وصاح : نجوت من صولة الحجاج ... إن أبي على قسوته وجبروته أديب أريحي يؤثر فيه سحر الكلام، والله إنها لخير من اعتذار النابغة لجدك النعمان ... ابعث بها إليه يا أبا القاسم على جناح طائر.
فبعث بها المعتمد إلى أبيه، وبقي أياما خائفا يترقب حتى جاء البريد الخاص برسالة من المعتضد، يقبل فيها عذره ويقلده ولاية «شلب»، ويأمر جابرا بالعودة إلى إشبيلية. فطار الأخوان فرحا وتعانقا كأنهما قاما من جدثين، وأخذ يستقبلان الحياة من جديد.
ولاية
سافر المعتمد إلى شلب متمتعا برضاء أبيه، وقلبه يكاد يسابق جواده، وشلب هذه مدينة إلى الجنوب من باجة ذات بسائط فسيحة ومروج خضر، وبها جبل منيف بديع المناظر، به كثير من المياه وأشجار التفاح العجيب.
وسكان المدينة عرب من اليمن، وهم مطبوعون على قول الشعر، حتى إن العامي منهم ليقول الشعر في كل ما يقترح عليه. نزل المعتمد بقصر الشراحيب، وأرسل إلى جواريه وخدامه وحاشيته بموافاته إليها، وأقبل عليه عظماء المدينة يتملقونه، وعلماؤها يصانعونه، وشعراؤها يستجدونه، ووفد عليه ابن عمار صديقه وشاعره ووزيره، الذي كان المعتمد لا يصبر على فراقه، فاتسقت الأمور للأمير، وقضى في هذه الولاية سنوات سعيدة.
وكان يقضي النهار في تصريف شئون الدولة، وإصدار الأوامر في حزم وسداد ورفق وتؤدة، ويقضي الليل في قرض الشعر، أو مجالسة الحسان، وفي ليلة وإلى جانبه ابن عمار وحوله جواريه، وبينهن «سحر» تغمز له بعين، و«وداد» تقدم له الكأس في دلال ورشاقة، والمغنية «فتنة» تغني من شعره قوله:
أشرب الكأس في وداد «ودادك»
وتأنس بذكرها في انفرادك
قمر غاب عن جفونك مرآ
ه وسكناه في سواد فؤادك
إذا سيف رئيس الخدم يدخل ويقول: إن أبا القاسم بن عمر الهوزني بالباب، فصاح المعتمد مستبشرا: يدخل ... إنه لصديق كريم رفيع الحسب.
دخل أبو القاسم فبادره المعتمد قائلا: لم أبطأت علينا وقد بعثت إليك برسولي إلى إشبيلية مرتين؟ فأجاب أبو القاسم إن الذي عاقني عن الإسراع إلى الحضرة قدوم أبي من المشرق منذ شهر، بعد أن طالت غيبته، فأحببت أن أكون بجانب الشيخ آنس به ويأنس بي، وأبل من نفسي شوقا كان يتأجج لرؤيته. فقال المعتمد: لقد سمعت أنه كان شديد الخوف من بطش أبي به، وأنه لذلك اتخذ الذهاب إلى الحج ذريعة للابتعاد عنه، فأقام زمنا طويلا بمكة ومصر، والآن عاد إلى أشبيلية، فهل اطمأنت نفسه وذهبت مخاوفه؟؟ حرق أبو القاسم أسنانه، وكتم غيظا دفينا في نفسه وقال: لا يا مولاي، هذه أكذوبة يذيعها أعداؤه ... إن الخوف لم يكن مرة من شيم أبي، وقد اشتهر بأنه جريء في الحق لا تأخذه فيه لومة لائم ... إنه غاب تلك المدة الطويلة؛ لأنه كان يتلقى صحيح البخاري، ليصل روايته بسند رجاله حتى يأخذه عنه أهل الأندلس.
كان أبو القاسم هذا في نحو الثلاثين، قوي البنيان فارها، يدل ضيق عينيه على المكر والخديعة، وتدل رقة شفتيه على القسوة والصرامة، ويدل صيد في رأسه على اعتزاز بالنفس، وعلى عزيمة لا تترك ثأرا ولا تصفح عن ذنب. قال المعتمد: وكيف تركت المعتضد؟؟ - في أوج عزه ... فقد دان غرب الجزيرة كله، وأصبح له الملوك خولا وأتباعا، فملأ مديحه كل فم، وجوده كل كف.
فصاح المعتمد: غني يا فتنة بما قلته في أبي:
يا ملكا قد أصبحت كفه
ساخرة بالعارض الهاطل
قد أفحمتني منة مثلها
يضيق القول على القائل
وإن أكن قصرت في وصفها
فحسنها عن وصفها شاغلي
واستمر اللهو والضحك والمجون ساعات.
ثم التفت المعتمد وقال: أين ابن عمار؟ ... يا سيف ... اذهب فانظر في أي مكان من القصر هو. فذهب سيف وقال: بحثت في كل الحجرات يا مولاي فلم أجده، وسألت حراس الباب فقالوا: إنهم لم يشهدوه خارجا. فبدا الاختبال على وجه المعتمد وكأنما فقد نفس الحياة، فقام وقال: هات شمعة يا سيف لأبحث عنه معك.
ثم سارا في أنحاء القصر، والمعتمد زائغ البصر ينظر في كل مكان، حتى إذا بلغا، بعد بحث طويل، أحد دهاليز القصر، رأى المعتمد حصيرا مطويا فقال: ابسط يا سيف هذا الحصير. فقال سيف: أيظن الأمير أن مثل الوزير يلتف بحصير ؟! فبسط المعتمد الحصير بنفسه، فإذا ابن عمار فيه وهو عريان وقد غلبه السكر وذهبت بلبه الخمر، فلما أحس البرد أفاق وقام وهو يستر نفسه بفضلة من الحصير، وقد أفحمه البكاء، ففاضت عينا المعتمد، وأمر طائفة من الخدم بحمله إلى سريره، ثم ذهب إليه بعد أن هدأت نفسه، وقال: ما هذا يا ابن عمار؟! وما هذه الفعلة؟! أأصابك جنون؟! - هو جنون أو شبه جنون يا مولاي، إنني كلما أخذت مني الخمر في حضرتك، وأحسست بالنعيم يحيط بي، والنعم التي طوقتني بها، والمنزلة الرفيعة التي بلغتني إياها، والشغف بي الذي لا تستطيع كتمانه - أسمع هاتفا في أذني يقول: يا ابن عمار لا تغتر، إنه سيقتلك ولو بعد حين. فأستعيذ من الشيطان، فيعيد الهاتف الكرة ثانية وثالثة، وقد حصل ذلك يا مولاي في هذه الليلة، فدعاني السكر إلى التجرد من ثياب الإمارة، والنوم إلى الفجر، حتى إذا ظهر أول بصيص منه، ارتديت ما اعتدته من الثياب قبل الاتصال بك، وخرجت مستخفيا حتى آتي البحر، فأركبه وأقصد بر العدوة. فضحك المعتمد وقال: هذه آثار الخمر يا أبا بكر، وكيف أقتلك؟! أرأيت أحدا يقتل نفسه؟! وهل أنت عندي إلا كنفسي؟؟
وفي الصباح، ورد صاعد خادم المعتضد ومعه أمران: الأول: أن ينفي ابن عمار إلى سرقسطة، والثاني: أن يعود المعتمد إلى إشبيلية.
حزن المعتمد أشد الحزن، وودع صاحبه وخليله ابن عمار، والبكاء يغلب عينيه، ثم أمر بالرحيل إلى إشبيلية.
وبعد أن اجتاز حدود المدينة وبعدت عنه مشاهدها، أخذ يقول:
ألا حي أوطاني بشلب أبا بكر
وسلهن هل عهد الوصال كما أدري؟
وسلم على قصر الشراجيب عن فتى
له أبدا شوق إلى ذلك القصر
منازل آساد وبيض نواعم
فناهيك من غيل، وناهيك من خدر
فكم ليلة قد بت أنعم جنحها
بمخصبة الأرداف مجدبة الخصر
نضت بردها عن غصن بان منعم
نضير، كما انشق الكمام عن الزهر
فجائع
جلس المعتضد في الصباح في حجرة نومه، وأطال نومه، وأطال الجلوس، ثم دعا صاعدا، وأمره أن يحضر ابنته بثينة، وكان شديد الكلف بها حتى أصبحت متعته الباقية من الحياة.
جاءت بثينة وخلفها جاريتها، وهي تثب وثبة الجذل وتصيح: أبي، أبي. ثم ألقت بنفسها بين ساعديه، وأخذ يقبلها في شغف وحنان، ثم مرت بيدها على لحيته تجتذب شعراتها في رفق، والمعتضد يعبث بخديها، ويمر بشفتيه حول عنقها وهي تضحك وتقهقه.
كانت بثينة في السادسة من عمرها بارعة الجمال، خفيفة الروح، لا تشبع العين من رؤيتها، وحين فرغ المعتضد من مداعبتها قال: ماذا كنت تعملين يا بنية؟ - كنت ألعب وأعدو خلف بنات القصر، وكانت جاريتي تنهاني عن الصياح والوثب، وتخوفني غضبك إذا سمعت صياحي. - لا تخافي يا حبيبتي، والعبي وصيحي كما تشائين ... آه يا بثينة ... ليتني ألعب وأصيح مثلك!! - لماذا لا تلعب يا أبي؟ تعال معنا فإننا قد عرفنا لعبة جديدة علمتنا إياها «جميلة» الإسبانية. - إن لي يا بنتي لعبا أخرى، ولكنها لا تضحك، وكثيرا ما تبكي!! - آه ... يجب أن تضحك يا أبي، فإني أراك دائم العبوس ... ثم لماذا يخافك الناس جميعا ولا أحس في نفسي خوفا منك؟! - لأنك صغيرة. - لا. إن جميع الأطفال في القصر يخافونك. - لأنهم يتشبهون بآبائهم وأمهاتهم. - ولم يخافك الآباء والأمهات يا أبي؟ - آه يا بنيتي!! لأنهم يخفون عني ما لو ظهر لطارت رءوسهم، ولو كان الناس جميعا في طهارتك ونقاء قلبك ما خافوني.
وفي تلك اللحظة، أعلن قدوم المعتمد، فدخل على أبيه في ثياب السفر، فقال له المعتضد: أحببت أبا القاسم أن تكون بجانبي وتحت عيني فدعوتك، أما هذا الشاعر المجتدي العربيد ابن عمار، فنفيته؛ لأنه ليس من أخدانك، ولا أحب أن أراه معك ... اذهب إلى أمك فلعلها في شوق لأن تراك.
قضى المعتمد أيامه في إشبيلية في فراغ ولهو، وعاد إلى مجالس أنسه، ومخالطة الأدباء والندماء، ومطارحة الشعر، ومغازلة الحسان.
ففي يوم طاب أصيله، ورق نسيمه، خرج للتنزه هو وأبو القاسم الهوزني في الموضع المعروف بمرج الفضة، وكان مرجا بهيجا، كثير الأشجار، يجتمع فيه الرجال والنساء للفرجة والتمتع بشاطئ نهر الوادي الكبير.
وبينما هو وصاحبه على الشاطئ؛ إذ هبت ريح لطيفة عقدت على سطح النهر حبكا، فقال لصاحبه: أجز:
صنع الريح من الماء زرد
فتلكأ الهوزني، فبادرت فتاة كانت بمقربة منهما، وقالت:
أي درع لقتال لو جمد!
فتعجب المعتمد، ونظر إليها، فإذا وجه يبهر العيون، وجسم يثير الفتنة النائمة. فقال لخادم كان وراءه: سل عن هذه الفتاة واعرف مكان أهلها، فإنها سلبت لبي، فجاء الخادم بعد يومين وأخبره أنها جارية رميك بن حجاج، فذهب المعتمد إلى أمه فكاشفها بغرامه بهذه الجارية، وأنها أصابت شغاف قلبه، وأنه لا يستطيع البعد عنها، وسألها أن تستعطف أباه وترجوه في أن يزوجه منها، فوعدته خيرا.
ثم اغتنمت في يوم فرصة ابتسامة اختلست طريقها بين شفتي المعتضد، فقالت: يا مولاي. إني نظرت اليوم من خلال نافذة القصر، فرأيت المعتمد بين قواد الجيش وعليه مهابة وجلال ملأ جوانب نفسي زهوا وإعجابا. إن كل لمحة من لمحاته يا مولاي، تقول إنه ملك، وقد وقف الرؤساء أمامه خاشعين وهو يشير بأصبعه هنا وهناك، في حسن سمت، وجلالة موقف. - إنه ابني يا طاهرة، وفيه دم ملوك بني المنذر، وإن أخوف ما أخافه عليه تلك النزعة الجائعة إلى اللهو والعبث. - إنه في ميعة شبابه يا مولاي، ولو نظر كل شيخ نظرة إلى الوراء لأغضى عن هفوات الشباب. - لكن لا يا طاهرة، إن التمادي في الشهوات نكبة الملوك، وكارثة العروش. - لعله لو تزوج بمن يحب كف وارعوى. - هو كالعصفور المرح لا يثبت على غصن، له نقرة في كل ثمرة، فإذا فرغ من نقر الثمار، ملأ الجو غناء وشدوا. - لا يا مولاي، إنه يريد أن يفرغ إلى شئون الملك بالزواج، وقد أحب جارية أديبة مهذبة عاقلة، لرميك بن حجاج، وألح في أن أطلب إليك أن تزوجه منها. - قد يصبر المرء على مر الدواء إذا كان فيه شفاؤه، فليتزوجها لو كان في ذلك أن يقصر باطله، وترعوي نوازعه.
دعي في اليوم الثاني رميك بن حجاج إلى القصر، ونزل عن جاريته للمعتمد فأعتقها وتزوج منها، وكان لها الأثر الكبير في حياته وسياسته، وسماها (اعتمادا) ليشتق اسمها من اسمه، وهو يقول في تطريز اسمها، وقد أرسل إليها برسالة وهو بعيد عنها:
أغائبة الشخص عن ناظري
وحاضرة في صميم الفؤاد
عليك السلام بقدر الشجون
ودمع الشئون وطول السهاد
تملكت منك شموس الحران
وصادفت مني سهل القياد
مرادي أعياك في كل حين
فيا ليت أني أعطى مرادي
أقيمي على العهد في بيننا
ولا تستحيلي لطول البعاد
دسست اسمك الحلو في طيه
وألفت منه حروف اعتماد
مرت شهور على زواج المعتمد وهو سعيد بحبه، يزيد في كل يوم بالرميكية هياما، ويفنى في نظراتها غراما، فلندعه في نشوته ولننتقل لنرى المعتضد في قصره، والقواد والرؤساء وقوف في خدمته، وقد قدم لزيارته العالم الحسيب أبو حفص عمر الهوزني، فسلم على المعتضد وجلس، ثم قال: جئت أليك أبا عمرو، لأسدي إليك نصحا لم أستطع كتمانه، وكلما سوفت فيه، اعتقدت أنني خائن لله ولك وللمسلمين.
إن أعداءنا الإسبان لا يتركون فرصة لقص البلاد من أطرافها إلا اهتبلوها، وهم لا ينامون عن غزو البلاد والإيقاع بملوكها، وإثارة بعضهم على بعض ليلة أو بعض نهار، وقد رأيت أن ملوك المسلمين فارت بينهم الأحقاد وخدعهم الأعداء، فأصبح بعضهم عدوا لبعض، ثم إنهم انصرفوا إلى اللهو والخمر والنساء، وتركوا الإسبانيين يفتكون بهم أميرا أميرا، حتى إن بعضهم اليوم يدفعون لهم إتاوات كل سنة، ويتزلفون إليهم.
صرح الشر فلا يستقل
إن نهلتهم جاءكم بعد عل
انهضوا فالداء رزء أجل
واكسروا سيفا عليكم يسل
فقال المعتضد: وما شأنك أنت وهذا يا شيخ؟! عجبي منكم أيها الفقهاء!! تريدون أن تدسوا أنفكم في كل شيء ...
تركنا لكم دين الله تعملون به ما تشاءون، فاتركوا له دنيانا. - إن دين الله أثبت أركانا وأقوى دعائم من أن يعمل المرء فيه ما يشاء، أما الدنيا فليست لك وحدك وإنما هي للمسلمين عامة، وقد قال سيدك وسيدي أبو بكر الصديق: إذا رأيتم في اعوجاجا فقوموه بسيوفكم، ونحن لا نقومك بسيوفنا ولكن بالنصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين. - وهل أنا معوج؟ - لقد زاد اعوجاجك وصلب، حتى يئسنا من تقويمك. - خذوا هذا الشيخ عني، وإلا قتلته بسيفي. - اقتلني إن شئت. فقد اشترى الله مني نفسي ومالي بالجنة.
وحينئذ وثب عليه المعتضد وهو كالأسد الثائر، فحز رأسه، وقال لخدمه: احملوه إلى الجحيم.
فحمله الخدم، والألم على الشيخ يكاد يخرجهم عن حد الطاعة لسيدهم. ثم جاء ابنه أبو القاسم الهوزني، والحزن الشديد يمتزج في صدره بالغضب الشديد وقد جمدت عيناه، وارتعدت شفتاه، ورفع خدمه الشيخ على الأعناق، وأبو القاسم خلفه يحدث نفسه ويتمتم.
والله لآخذن بثأرك يا أبي ... والله لن أهدأ حتى أرى دولتهم قفرا يبابا ... لن ينعموا طويلا بعد اليوم ... سأثير القلوب عليه، ثم على ابنه من بعده حتى أثل عرشه ... سأثير عليه القشتاليين، وسأثير عليه ملوك الأندلس جميعا، وسأغري به ملك المغرب، وسأبعث عليه بجانب هؤلاء جيوشا من مكري وخديعتي لن يستطيع لها دفعا ... سيذهب ملكه وملك ابنه ولو ذهبت معه الأندلس جميعا ... كل الأندلس فداؤك يا أبي.
كان حزن أهل إشبيلية شديدا على الشيخ، وقد كادت العامة تثور له لولا ما كان يخيفها من بطش المعتضد وجبروته.
وبعد مضي أشهر من الحادثة، نرى المعتضد ذات مساء في قصره، ونسمع ضوضاء بين الجواري والخدم، ونرى طاهرة تدخل عليه مذعورة وهي ترتعد من الحزن، وتقول: إن بثينة مريضة جدا ... أخذها المرض فجأة وهي تلعب بين أترابها.
فهب المعتضد كالمصعوق، وقال: ماذا تقولين؟! ... بثينة!! ... بثينة مريضة؟! لعلها وعكة تزول!! أين الطبيب؟؟ أين خلف الزهراوي؟؟ أين هو؟؟ وما هي إلا فترة قصيرة حتى جاء الزهراوي، فبادره المعتضد قائلا: كيف وجدتها؟ فقال الطبيب في صوت خافت مرتعد: إنها علة الخناق (الدفتريا) يا مولاي، ولا نعرف لها علاجا إلا تطهير الحلق، وقد بذلت كل ما في وسعى وفي وسع الطب، لأخذ الأغشية البيض من حلقها، غير أنني أخشى أن تكون أبعد من متناول يدي. - سأراها معك. آه يا بثينتي ... أنت دنياي أو ما بقي من دنياي ... أنت سلوتي بعد أن نفر مني الناس ونفرت منهم ... خذ أيها الطبيب ملكي واشفها ... لا تستطيع شفاء بنية صغيرة؟! ... ماذا في طبك إذا؟؟ إنه دجل، وخرافة ... دجل وخرافة.
ولما وقعت عينه على ابنته، رأى وجهها محتقنا بالدم في زرقة وكمدة، ورآها تعالج الأنفاس فلا تستطيع، ورأى المعتمد ابنه واقفا بحذاء سريرها والدموع تتساقط من عينيه، وحاول الطبيب أن يعطيها دواء للمضمضة فلم تستطع، ثم جس يدها فرأى البرودة تدب فيها، فهز رأسه كاليائس، والمعتضد أمامه ينظر في وجهه ليرى فيه بارقة من أمل، فلما لم يجد أخذ يبكي كالطفل، واجتذب الفتاة إلى صدره وهو يقول: سأداويك أنا بحبي يا بثينتي إذا عجز الطب ... سأقوي نبضك بنبضي، وأبعث إليك حرارة من جسمي، سأهب لك جزءا من طول أنفاسي. عيشي يا ريحانتي فإن حياتي جزء من حياتك، وإذا ذهب الكل ذهب الجزء معه. يا أيها الغصن الرطيب من أين هبت عليك هذا الزعزع النكباء؟! ويا هذه الوردة الذابلة إن ربيع الحياة لا يزال أمامك ممتد المدى ... ويا أيتها اللؤلؤة ما كان ذلك أن تغيبي ثانية في جوف ذلك البحر المجهول، قبل أن تزيني الصدور وتحلي النحور.
بثينة. هل تسمعين أباك الحيران؟؟ ... أجيبي.
وحينئذ غطى الطبيب وجهها، ومس ذراع أبيها في رفق وهو يقول: أجمل الله عزاءك يا مولاي.
وهنا ارتفع الصراخ بالقصر، ومشى المعتضد وهو ينتحب ويتوكأ على الطبيب وابنه المعتمد.
قضى المعتضد أيام العزاء في ابنته وهو لا يكاد يفيق من الحزن، وشعر في أثناء ذلك بزكام ثقيل تصحبه حرارة محرقة، فأحضر طبيبه فأشار عليه بالحجامة، ولكن المعتضد رأى تأخير ذلك إلى غد يومه.
فلما جاء الغد، زاد عليه الداء واشتد، ودعا بابنه المعتمد، فأخرج له من تحت وسادته رسالة يخبره فيها مرسلها بأن الثائرين المدعوين بالمرابطين، قد وصلت طلائعهم إلى رحبة مراكش، فلما قرأها المعتمد قال: هون عليك يا أبي وأنت في هذه الحال، إن بينهم وبين الأندلس اللجج والمهامة. فهز أبوه رأسه وقال وهو يتعثر في كلماته: والله يا بني هذا الذي كنت أتوقعه وأخشاه، ولئن طالت بك حياة ... لترين هؤلاء الملثمين هنا ...
ثم ضعف قليلا، وأخذ يعالج الموت ساعات، حتى قضى يوم السبت لليلتين خلتا من جمادي الآخرة سنة إحدى وستين وأربعمائة.
وارتفع الضجيج، ورددت أرجاء القصر: مات المعتضد ... مات المعتضد ...
وكان أبو القاسم الهوزني يمر تحت القصر ليلتقط أخبار المعتضد وصدره يغلي حقدا، فلما سمع الضجيج أخذ يتمتم:
لقد سرني أن النعي موكل
بطاغية قد حم منه حمام
تجنب صوب الغيث قبرك جافيا
ومرت عليه المزن وهي جهام
دسيسة
حزن المعتمد لموت أبيه وعزم أن يكفى كفايته، وأن يرفع دولة بني عباد إلى أوج العظمة، وأن يزيدها من شجاعته وحسن تدبيره وإحكام سياسته، قوة على قوة. كانت نفسه تجيش بآمال ضخام وأحلام بعيدة، وكانت تصور له أن ملكا لا ينتظم بلاد الأندلس جميعها لا يصح أن يسمى ملكا. شباب وذكاء وثروة ... ماذا تريد الدولة لتكون عظيمة سامقة غير هذه الثلاثة؟!
وهذه جميعا موفورة تمامة، حتى لو خلط بعضها ببعض وصنع من المخلوط تمثال لكان المعتمد بن عباد.
كان أول ما صنعه المعتمد، أن دعا خليله ابن عمار من منفاه وقلده الوزارة، ثم دعا بأبي القاسم الهوزني، ومنحه لقب المشير في الدولة، رغبة منه في استرضائه لما فرط من المعتضد من قتل أبيه ظلما وعسفا، وعندما جلس على العرش، أقبل عليه الناس من جميع أقطار الأندلس مهنئين مستبشرين متيامنين بهذا الأمير الشاب، العربي الوسيم.
وجاء الشعراء للإنشاد، وبينهم: أبو الوليد بن زيدون، والداني، وابن وهبون، وعلي الحصري الكفيف، والنحلي. فشرع ابن زيدون ينشد قصيدة منها:
لك الخير إن الرزء كان غيابة
طلعت لنا فيها كما طلع البدر
فقرت عيون كان أسخنها البكا
وقرت قلوب كان زلزلها الذعر
وصاح الحصري يقول:
مات عباد ولكن
بقي الفرع الكريم
فكأن الميت حي
غير أن الضاد ميم
وأنشد الداني قصيدة منها:
من بني المنذرين - وهو انتساب
زاد في فخرهم - بنو عباد
فتية لم تلد سواها المعالي
والمعالي قليلة الأولاد
والمعتمد في هذا الجمع الحاشد يهتز للمديح، ويرتاح للإطراء، شأن العربي الكريم؛ حتى إذا انفض الحفل دعا خزائنه أحمد العامري، وأمر بمئات من الدنانير لكل شاعر، ثم أمر بقدر واف من المال يوزع على كل معوز محتاج بإشبيلية.
ثم خلا بنفسه، ودعا إليه وزيره ابن عمار ومشيره الهوزني، ليبحث معهما في شئون الدولة، فقال ابن عباد: إن الأدارسة أعداء دولتنا، لا يزالون يتربصون بنا الدوائر، وينصبون لنا الشباك، وأرى أن نكون أصحاب الضربة الأولى حتى نلقي في قلوبهم الرعب، فإما أن يلقوا القياد مستسلمين، وإما أن يكونوا طعمة للنسور. فقال ابن عمار وهو يتطلع إلى أن يكون أميرا بإحدى مدن الأدارسة: يا مولاي: أنت اليوم أعظم ملوك الأندلس قوة وبسطة، وإن جيشا إلى مرسية يحارب بسلاح رأيك، ويقوده صنيعتك ابن عمار - كفيل أن يخترق أسوار المدينة في ساعة من نهار، وحينئذ اعترض الحديث الهوزني وقال: يا مولاي غفرا! إن لي غير هذا الرأي. إن الأندلسيين عامة، وأهل إشبيلية خاصة سئموا الحروب، وقد تيمنوا بطالعك، وقرءوا في وجهك آيات الخير والسلام، ولم يمض على وفاة المعتضد إلا أيام قليلة، فهب سنتين أو ثلاثا يا مولاي لعظمة الملك وإعلاء مراسمه، وللإغداق على الرعية وبعث روح السرور والبهجة فيهم. دعهم يفهموا أن ملكهم أريحي كريم، يطرب للهو كما يطربون، ويفرح بالملك كما يفرحون، بعد أن قضوا سنوات كبتت فيه نفوسهم ووجلت قلوبهم. دعهم يا مولاي يعرفوا أن المعتمد جمع صفات الحزم والقوة والذكاء، التي كان يتحلى بها أبوه، وأنه أضاف إليها اللين والسماح، وانبساط النفس، والتمتع بلذائذ الحياة.
فقال ابن عمار: أما إذا دعوت إلى التمتع بلذائذ الحياة، فأنا أول من يستجيب. - لذائذ الحياة التي أريد الأمير أن يتمتع بها، غير ما تفهم منها أنت.
فقال المعتمد: عزمت على ألا أشرب الخمر. فقال ابن عمار: هذا حسن، وهو يرفع من قدر الأمير في نظر الرعية.
فقال الهوزني: إن المعتضد كان يعاقر الخمر ولم يسقط ذلك من هيبته في نظر الرعية، على أننا سننشر بين الناس جميعا أن مولاي كسر قوارير الخمر وأراق ما في دنانها، وإذا دعت الحاجة إلى كأس في مجلس أنس مستتر، فإن ذلك لا يعمل شيئا.
ابسط كفيك للناس، واعف عن هفواتهم، وأدخل السرور على قلوبهم، ودعهم يفرحوا بملكهم ويقولوا: إن أيامه كانت بهجة الأيام، وعصره كان زينة العصور.
فقال ابن عمار: أنا أحب هذا الكلام، وأنا أحب البهجة والسرور.
فقال المعتمد: إلى حين. فأسرع الهوزني قائلا: يا مولاي إلى حين.
ثم انفض المجلس، وخرج ابن عمار مع الهوزني، فمال ابن عمار إليه هامسا: ماذا تقصد أبا القاسم بهذه النصائح الغالية؟؟ - اسمع يا ابن عمار. أنا أعرف أنك رجل طموح، وأن نفسك الكبيرة الوثابة لا ترضى لك أن تكون ذيلا للمعتمد، وفيك دم الملوك، وفيك عزائمهم ... إن شبيهك المتنبي خاب في المشرق فلم ينل ولاية أو ضيعة؛ لأنه لم تكن فيه صفات الملوك ... أتعاهدني؟ - على أي شيء أعاهدك؟؟ - على ألا تقف في طريقي، ما دمت لا أقف في طريقك. أنت تريد أن تكون ملكا بالأندلس ولست بأقل من ملوكه منزلة وقدرا، وسأحتطب في حبلك وأساعدك على ما تبتغي، على شريطة ألا تعترض لي رأيا، أو تفند قولا، أو تفسد علي خطة، ولو أني علمت أنك فعلت شيئا من ذلك؛ لأشعلت الحرب ضروسا بيني وبينك ... أتقبل؟؟ - أقبل أبا القاسم.
ذهب الهوزني إلى منزله، فرأى في دهليزه فتاة متلففة لا يظهر من جسمها شيء، فلما رأته كشفت عن وجهها، فإذا هي أرماندا جارية المعتمد الجديدة، التي أهداها إليه الهوزني منذ أشهر، وهي في جمالها ورشاقتها ولطف حديثها وقوة سحرها، فتنة تنتهب القلوب انتهابا، وقد كلف بها المعتمد كلفا أنساه أو كاد ينسيه زوجته الرميكية. نظرت أرماندا إلى الهوزني وقالت: إني فهمت غمزتك حينما لقيتني اليوم بالقصر، وعرفت أنك تريد مقابلتي على انفراد في منزلك. - ذكية وحق عيسى بن مريم. - إنك لم تخترني للمعتمد عبثا، ألست تريد مني أن أفتنة بسحري عن كل شأن من شئون المملكة، حتى يضعف ملكه وتهن قوته؟؟ - نعم اخترتك لإبادة هذه الدولة الطاغية اللاهية؛ لتخلفها في الملك إحدى الأسر العريقة من المسلمين بإشبيلية. - أما من يخلفها، فلسنا الآن بصدده؛ لأننا اعتدنا في قشتالة، أن نعمل شيئا واحدا في وقت واحد.
فقال الهوزني متبرما: هذا يكفي، وقد دعوتك لأحثك على البدء بالعمل، واحذري أن يعرف مخلوق هذه الصلة التي بيننا، ثم احذري أن يراك إنسان خارجة من القصر أو داخلة بيتي. - إني أخرج دائما من باب القصر الخلفي، ثم إني ماهرة في أساليب الاختفاء.
غادر المعتمد مجلس ابن عمار والهوزني، وهو يخادع نفسه بالاقتناع بصحة أيهما، حتى إذا تنبه فيه العقل وهمست الحكمة، أسكتتهما صيحات الغرائز والشهوات فأخذ يقول:
أباح لطرفي طيفها الخد والنهدا
فعض به تفاحة واجتنى وردا
ولو قدرت زارت على حال يقظة
ولكن حجاب البين ما بيننا مدا
هي الظبي جيدا، والغزالة مقلة
وروض الربا عرفا، وغصن النقا قدا
ثم دخل عليه صاحب خزائنه يقول: يا مولاي، إن سهلون بن إسحاق الجوهري، جاء يطلب خمسين ألف دينار، ثمن عقد من الجوهر اختارته سيدتي اعتماد، وقد كتبت له بذلك صكا. - ادفع له، ومره أن يدخل لأرى شيئا من نفائسه.
فدخل سهلون يحمل خرجا فوق كتفه، وقال: يا مولاي! عندي في هذا الخرج ما لم يقتنه ملك، ولم تتحل به خزائن بني العباس. ثم أخرج تمثالا من البلور لجمل له عينان من الياقوت، وقد حلى جسمه بنفائس الدر والماس. فأعجب به المعتمد، وقال: بكم تبيع هذا يا ابن إسرائيل؟ فقال: بعشرة آلاف دينار، فقال المعتمد: حسن، يا أحمد أعطله ما طلب.
وبينما هما في الحديث، إذا أبو العرب الصقلي الشاعر يستأذن في المثول، فأذن له، فأنشد قصيدة رائعة في تهنئة المعتمد، فتألق وجهه وأمر له بعشرين كيسا من الفضة. فنظر أبو العرب إلى تمثال الجمل، وأعجبه حسن صنعه، ونفاسة جواهره. فقال: لا يحمل هذه الصلة إلا جمل (وأشار إلى التمثال). فأخذه المعتمد بيده وقال: خذه، فإنه حمال أثقال.
ثم انفض المجلس، وخرج اليهودي يهز رأسه ويضرب بكف على كف ويقول: أنفق الأمير الجديد في هذا اليوم خراج دولة!!
هكذا هكذا تكون المعالي
طرق الجد غير طرق المزاح!!
هزيمة
مرت سنوات قليلة، والمعتمد هانئ البال مستقيم الأمر، يصرف شئون الدولة، ويقيم مراسيم الملك في عظمة وجلال، حتى هابته الملوك وأحبته الرعية، وأصبح اسمه يدوي في الأندلس مقرونا بالثناء محفوفا بالإكبار.
أجزل إلى الشعراء العطاء فانتجعوا ساحته من أقاصي الأندلس يتسابقون إلى مديحه وجوائزه، ويذيعون أينما ساروا فضله ومكارمه، وحاط الرعية بعطف اجتذب إليه النفوس، وجمع على حبة القلوب، وعظم العلماء والفقهاء وأعلى مجالسهم، والعلماء في الأندلس - وربما كانوا في غيرها - عقدة الصلة بين الملك وشعبه، غير أنه مع كل هذه الخلال التي أنست الرعية ويلات أبيه، كان مولعا بمجالس الشراب، مفتونا بالحسان، كأن شيئا من ذلك جزء من مقومات حياته لا يكاد يعيش بدونه، وكان من عيوبه مع هذه الخلال، انقياده لآراء بعض الموالسين المخادعين من بطانته.
قابل الهوزني يوما ابن عمار بعد أن أصبحا صديقين، وقال: لم لا تطلب أبا بكر من الملك أن تذهب بجيش لأخذ مرسية، فقد طابت الثمرة وحان قطافها، فإذا أخذتها أصبحت ملكا عليها. فقال ابن عمار: سأخاطبه الليلة في مجلس أنسه وأنا واثق من أنه سيجيب طلبي؛ لأنه يتحرق شوقا إلى الغزو، فقال الهوزني: هذا حسن، وسأكون عضدك في الوصول إلى أمنيتك.
ثم ذهب إلى داره ودعا عبده سهما وقال: أتعرف الطريق إلى طليطية؟ فقال: نعم يا مولاي، إنها على مسيرة ثلاثة أيام للمجد. فقال: خذ خير أفراسي، واذهب مستخفيا إلى قصر المأمون بن ذي النون حاكمها، وقل له: إن الريح تهب على مرسية ... لا تقل له غير هذا ... اركب الآن.
كان المعتمد بعد أيام من هذه الحادثة، يطل من إحدى شرفات قصره، واعتماد إلى يمينه، وأرماندا إلى يساره، فنظرت الرميكية إلى النساء وهن يملأن جرارهن من النهر، ويمشين حافيات في الطين، وقد بدت سوقهن إلى ما فوق الركب بيضا نواصع، فقالت: وددت يا حبيبي لو مشيت في الطين حافية كهؤلاء.
فقالت أرماندا: ما أجمل وما أبهى!! إنما الجمال الحق في الرجوع إلى الطبع، فقال المعتمد: إن هذا أهون ما يكون، فقالت أرماندا: ولكن الأميرة لا تمشي في الطين، إنما تمشي في خليط من المسك والكافور، فقالت اعتماد: نعم ما رأيت يا فتاة ... أسمعت يا مولاي؟ فقال المعتمد: وأطعت ...
ودعا بأحمد العامري، وأمره ألا يترك بإشبيلية مسكا أو كافورا أو أي نوع من الطيب عند عطار، وأن تجمع ورود إشبيلية، ويستخرج ماؤها، وأن تعمل في الحديقة بركة واسعة، طينها الطيب، وماؤها ماء الورد؛ لتمشي بها الأميرة حافية بين جواريها، فأطاع أحمد العامري مطرقا، وكانت أرماندا تنظر إلى اعتماد مبتسمة، وتقول: آه ما أسعدك؟؟ ... إنه الحب ... إنه الحب.
وبعد أيام عملت البركة.
وكان المعتمد جالسا في قصره، متكئا على وسادته، وجاريته جوهرة تهز المروحة فوق رأسه، في يوم اشتد حره، وأرماندا تغمزه في يده غمزة خفيفة، وهي تناوله الكأس، وحبيبته وزوجه اعتماد، تسلط عليه سحر عينيها الناعستين فتسقيه خمرا من صنف جديد ربما كان أحلى وألذ نشوة من الخمر، والجواري جائيات ذاهبات في خدمته، كأنهن اللؤلؤ المكنون، والمغنية تطلق صوتها في أرجاء الحديقة فضيا لؤلؤيا فتكاد تردد صداه الأطيار، وكانت تغني قول المعتمد:
رحلوا وأخفى وجده فأذاعه
ماء الشئون مصرحا ومجمجما
سايرتهم والليل غفل ثوبه
حتى تراءى للنواظر معلما
فوقفت ثم محيرا وتسلبت
مني يد الإصباح تلك الأنجما
ثم صاح المعتمد: هلم أيها الفواتن إلى البركة، واكشفن عن سوقكن. فوثبت اعتماد وجواريها إلى البركة حافيات جذلات يقهقهن ويغنين غناء القرويات، ويثرن طين المسك بأيديهن يمينا وشمالا، وتزلج رجل إحداهن في الطين فيزداد الضحك والصياح، وبينما هن كذلك، أقبل الخادم سيف يقول: يا مولاي، إن ابن عمار يطلب المقابلة، فقال المعتمد دهشا: ابن عمار؟! ولم جاء من مرسية؟! ثم أسرع إليه، فدل مظهر ابن عمار على سوء خبره؛ فقال الأمير: ماذا جرى أبا بكر؟؟ - ذهب الجيش يا مولاي إلى مرسية، ولكننا رأينا قوتنا دون قوة ابن ذي النون، فجمعنا عشرة آلاف من الذهب نستأجر بها مددا من ريموند فجاء بجيشه، ولكن ريموند فر حينما رأى عظم جيش ابن ذي النون، فيئسنا ، وهجم جيشنا وحده، فهزم ولاذ جنودنا بالفرار، وقد عدت إليك يا مولاي واجفا لما أصابنا من الفشل.
فامتقع ابن عباد وقال: لا عليك أبا بكر، سنعد له جيشا يلتهمه ويلتهم طليطلة معه. أتظن أن جاسوسا أخبر ابن ذي النون بوثوبك على مرسية؟ - لا يا مولاي، فقد كان الأمر سرا مكتوما. - لا تيأس أبا بكر، فلن يفلت ابن ذي النون منا.
وحينما خرج ابن عمار رأى الهوزني عند باب القصر، فقال: هزمنا يا أبا القاسم.
فقال: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس. اذهب إلى دارك أبا بكر، وكن كما تقول في شعرك:
وقبل خلع نجاد السيف فاسع إلى
ذات الوشاح وخذ للحب بالثار
ضما ولثما يغني الحلي بينهما
كما تجاوب أطيار بأسحار
معاهدة
تمر ست سنوات يموت في أثنائها المأمون بن ذي النون، فيتجهز المعتمد للإغارة على قرطبة، وها نحن أولاء نراه يقطع الطريق إليها عدوا، في جيش كثير العدد، وحوله قواده ومشيروه وفيهم ابن عمار والهوزني، ثم يدركهم الليل، فينزل المعتمد وحاشيته في خيمة وهو حزين كاسف البال.
ذكر اغتصاب جيش ابن ذي النون لقرطبة درة ملكه ... وذكر والألم يحز في نفسه هجوم حريز بن عكاشة بثلة من رجاله على قصر ابنه الظافر بقرطبة في جنح الليل، ثم خروج ابنه إليهم في لبسه المفضل يقاتل دون حوزة القصر فريدا بعد أن فر عسكره. ثم ذكر كيف أن حريزا قتله وتركه ملقى بالعراء، حتى جاء أحد المارة في الغلس فرآه، فغطاه بثوبه ... فأخذ المعتمد يردد:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه
على أنه قد سل عن ماجد محض
ثم يقبل الجيش على قرطبة وقد خلت من جيوش القار بن ذي النون، فينزل بها جيش إشبيلية، ويفر حريز بن عكاشة في فصيلة من جنده، فيتعقبه المعتمد بنفسه حتى إذا ظفر به أغمد سيفه في صدره وصاح: نم هنيئا يا ولدي فقد أخذ أبوك بثأرك!
يدخل المعتمد بحاشيته قصر قرطبة، ويقبل عليه الناس والشعراء يهنئونه، ويبتهج أهل قرطبة جميعا بالمعتمد، بعد أن طال عليهم حكم بني ذي النون؛ لأن القرطبيين قوم ذوو ملل، لا يصبرون على حكم وال طويلا، وحينما وقف النحلي الشاعر، قال له المعتمد مازحا: يا نحلي، أينا ينشد أولا؟
فقال النحلي: الملك الشاعر يا مولاي أولى بالتقدم.
فأنشد المعتمد:
من للمملوك بشأو الأصيد البطل
هيهات جاءتكم مهدية الدول
خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت
من جاء يخطبها - بالبيض والأسل
وكم غدت عاطلا حتى عرضت لها
فأصبحت في سرى الحلى والحلل
فراقبوا عن قريب لا أبا لكم
هجوم لبث بدرع البأس مشتمل
فالتفت الشعراء بعضهم إلى بعض، وقال النحلي - وكان أعرقهم في الملق وطرق الاستجداء: «والله لن يستطيع شاعر أن يقول شعرا بعد هذا، أكسدت علينا بضاعتنا يا مولاي، وتشبث الشعراء برأي النحلي، بعد أن وثق كلا منهم من الجائزة، ففرق عليهم المعتمد الجوائز في إغداق وإسراف، وأمر أن تنصب الموائد وتمد الأسمطة لأهل قرطبة ثلاثة أيام.
ثم اجتمع المعتمد بابن عمار والهوزني وقال: إن دولة بني ذي النون ضعفت بموت المأمون، والفرصة اليوم سانحة للإغارة على بلاده، وضمها إلى ملكنا. فقال الهوزني: نعم يا مولاي. إن القادر بن المأمون حدث غر، ليس فيه شيء من صفات الملوك، غير أن الأذفونش (ألفونسو) يحالفه ويناصره، ويذود عنه، حتى ليقال: إن المأمون قبل موته، أوصى الأذفونش بحماية ابنه. فقال المعتمد: الأذفونش صديقنا، ونحن نمنحه مالا وهدايا في كل عام. فقال ابن عمار: الأذفونش تاجر، يتجر بقوته وجنوده وهو يمنحهما من يعطيه أغلى ثمن، وقال الهوزني: ثم إن مولاي وقد أصبح أقوى ملك بالأندلس، يحسن به ألا يقتصر على فتح بلاد بني ذي النون؛ بل أرى أن تتوجه همة مولاي إلى بني الأفطس ببطليوس، وبني صمادح بألمرية. فقال ابن عمار: هذه الأماني لا تتحقق إلا بوسيلتين: كثرة عدد الجيوش المقاتلة، وعدد مقاتلينا لا يكفي، ثم باتقاء شر الأذفونش واجتذابه إلى جانبنا. فقال الهوزني: هذا سهل هين ... نعقد معه معاهدة على أن يمدنا بجنود من قشتالة وعلى ألا يساعد علينا عدوا، ولو كان ابن صديقه المأمون. فقال ابن عمار: إن الأذفونش سيغالي في الثمن. فقال المعتمد: ليغال ما يشاء ... لابد أن أملك الأندلس كلها. فقال الهوزني: هذا يوم يا مولاي سيكون أغر محجلا في التاريخ، وأود أن أعيش لأسمع ما يقول شعراؤنا فيه، وأنت جالس على عرشك تحكم الشرق والغرب. ثم قال المعتمد: قم أبا بكر واذهب إلى الأذفونش، واستعمل معه أساليب مكرك ومحالك، ولا ترجع إلا والمعاهدة في يدك. فقال ابن عمار: على أن تكون بلنسية في يدي الأخرى.
ورحل المعتمد مع الهوزني إلى إشبيلية، بعد أن ترك ابنه المأمون أميرا على قرطبة، وبعد أن ودع ابن عمار ورجا له التوفيق في سفارته. جد ابن عمار في السير إلى مدينة قورية بعد أن علم أن ألفونسو مقيم بها، حتى إذا وصل إلى القصر، رأى ملك الإسبان في بهوه الملكي، ورأى زوجته أجنيس بنت دوق جويانة، جالسة بجانبه، وكانت رائعة الطلعة فائقة الجمال، وكان العرب يلقبون زوجة ملك الإسبان بالقمجيطة، فسلم عليهما ابن عمار، ثم أخذ مجلسه بعد أن أحسن ألفونسو تحيته، وقال: أي ريح سعيدة بعثت بك إلينا؟! - دعني أولا يا سيدي أملأ عيني من جمال القمجيطة، فقد بهرني حسنها، وأذهل عقلي، وأضاع تفكيري ... هكذا تكون زوجات عظماء الملوك!!
فقالت أجنيس: ماذا يقول العربي؟؟ - يقول: إنه فتن بحسنك وسحر بجمالك، حتى فقد عقله.
فضحكت في سرور وإدلال، وقالت: قل له: أليس عند ابن عباد من هن في جمالي؟ فلما نقل ألفونسو سؤالها إليه قال: في قصر ابن عباد أمثالها؟، ... ولا في جنة الخلد.
ثم التفت إلى صورة للعذراء معلقة بالحائط، وقال: في هذه الصورة الجميلة شبه قليل منها.
سر ألفونسو لإطراء زوجته، وترجم لها ما قاله ابن عمار، فقالت لزوجها: سله أي شيء في وجهي كان أكثر تأثيرا في نفسه، فترجم له ألفونسو فقال: لقد أوقعتني هذه الدرة الإسبانية المتلألئة في حيرة أخرى ... عيناها أجمل ما في وجهها ... إنهما مغناطيستان تجتذبان العقول ... لا. بل خداها ثم ثغرها الفاتن وهو عقيق يغطي عقدين من لآلئ الجنة، نظمتها يد الرحمن ... لا يا سيدي، قل لها: إن كل شيء فيها حسن، وإنها فتنة للناظرين.
فلما بلغها ألفونسو ما قاله، زادت زهوا ودلالا، وقالت: سله أهو شاعر؟؟
فقال ابن عمار: قل لها يا سيدي: إن محاسنها لا تحتاج إلى شعر شاعر، إنها وحدها قصيدة نظمها الزمان، لتكون آية الزمان.
اهتزت أجنيس طربا وقالت: يا ألفونسو، هذا عربي لطيف عذب الكلام، فبحقي عليك إلا أحسنت مجاملته وسهلت له حاجته.
ثم تركت المجلس. فقال ألفونسو: نعود إلى سؤالك عن سبب زيارتنا.
فقال: جئت يا سيدي من قبل المعتمد، وهو يرجو أن يكون لك صديقا ثابت الود، دائم الإخلاص. فما قولك؟؟ - هذا حسن، لولا أن مطامع ابن عباد دائما تتعارض مع مطامعي، وتقف في طريقها، ثم إني لا أحب فيه تلك النزعة الجشعة، التي تدفعه إلى الرغبة في امتلاك الأندلس، واغتصاب صغار الولاة بلادهم. - الأذفونش ملك عظيم، فلم لا يحب أن يكون حليفا وصديقا لملك عظيم؟ - نحن الملوك لا نحالف إلا من نخاف شره، وأنا لا أخاف ابن عباد. - إنك تشكو منه الآن؛ لأن مطامعه تصطدم بمطامعك، فلم لا تحالفه إذا حتى يسير كل منكما في طريقه من غير اصطدام ... يترك لك ما تريد، وتترك له ما يريد. - لا يا ابن عمار، إن الذي يترك الأسد طليقا يغتاله الأسد. - إننا سنفرض يا سيدي أسدين قويين، وهما فوق ذلك صديقان. - لا يا عربي. إنك ربما تعرف ما في نفسي، وتحاول أن تخدعني. - هلم إلى المصارحة إذا. أنت تخشى أنك إذا حالفته قويت ملكا مسلما، وأنتم لا تريدون أن تعيدوا في الجزيرة أيام عبد الرحمن الناصر، أو أيام المنصور بن أبي عامر. - ليس كذلك تماما. - هو كذلك تماما ... دعني أخبرك أن تلك الأيام لن تعود، وأنك إذا حالفت المعتمد كنت الرابح من غير أن يعود عليك خطر. - أنا حليف القادر بن المأمون. - ولكننا سندفع ثمنا أغلى.
ثم انتقل إلى المساومة والمماسكة، واتفقا على معاهدة من نصوصها: أن يتعهد ملك قشتالة بمعاونة المعتمد بالجند في حروبه مع جميع أعدائه المسلمين؛ وأن يتعهد المعتمد بمضاعفة الإتاوة التي يؤديها إلى ملك قشتالة في كل سنة، وألا يعترض خطته في افتتاح طليطلة، وهي معاهدة مشئومة، ضحى فيها المعتمد بإسبانيا كلها؛ لكي يبسط سيادته على بضع إمارات.
عاد ابن عمار إلى إشبيلية، وأطلع المعتمد على المعاهدة، فسر بها، وبدأ إنفاذها بإرسال ابن عمار على جيش لأخذ مرسية وبلنسية، على أن يكون أميرا لبلنسية.
وبعد سبع سنوات من هذه المعاهدة، سقطت طليطلة قاعدة القوط القدية ومعقل النصرانية في يد ألفونسو، بعد أن حكمها المسلمون اثنين وسبعين وثلاثمائة عام، فشمل الحزن عليها جميع بلاد الإسلام، وذعر ملوك الولايات وأحسوا بالخطر الداهم، وبغي ألفونسو وتكبر، ولقب نفسه بالإمبراطور حامي الملتين، ثم أقسم ألا يبقي أحدا من ملوك الأندلس فوق عرشه، إلا إذا خضع لسلطانه، وعد نفسه من عماله، ووصل الخبر إلى إشبيلية في ليلة سوداء، فهاج الشعب وهدد بثورة جامحة، واجتمع الناس في الخانات وعند أفواه الطرق، يتحدثون في حزن وسخط على ملوكهم الذي أدى بهم تخاذلهم وإسرافهم، والانهماك في شهواتهم إلى هذه الفاجعة، التي تهدد بزوال ملك العرب من الجزيرة.
وجلس المعتمد في قصره حزينا، تتناهبه الأفكار، وتتقاذفه الأوهام، ودخل عليه الهوزني، فسأله المعتمد في ذهول وشتات فكر: كيف الحال؟؟ فقال الهوزني: الحال حسنة يا مولاي، لولا فضول أهل إشبيلية، فإن المصيبة فيهم أنهم يزجون أنفسهم فيما لا شأن لهم به من سياسة الملك وشئون الدولة.
لقد مررت في الطريق وأنا قادم، بسوق القصابين، وكان أحد الجنود يشتري لحما، فابتدره القصاب قائلا: حرام أن تأكلوا وتشربوا أيها الجنود المترفون.
وكاد الشر يتافقم، لولا تدخل الناس. - إن استيلاء الأذفونش على طليطلة له ما بعده. - وقد بلغني يا مولاي أنه فتك بأهل المدينة، وسامهم كل أصناف العذاب ... تعسا لهذه المعاهدة الظالمة، فإنها الجذوة التي طارت منها كل هذه الشرور. فأطرق المعتمد وقال: حقا يا أبا القاسم، لقد فارق التوفيق ابن عمار عند عقدها. - إن ابن عمار يا مولاي رجل لا يوثق به، وهو أول من يبيع نفسه وذمته لمن يلوح له بالذهب النضار، فقد سمعت أن الأذفونش أهدى إليه خاتمين من نفيس الجواهر، وأنه خدعه بصنوف من الإطراء، حتى لقد دعاه أذكى رجل بالأندلس، وأنه خلق ملكا، وأظهر له أسفه أنه لم يكن في مكان ابن عباد. - وظن الخائن المفلوك ذلك صحيحا؟! - إنه أول من يخدع، على الرغم مما يظهر من الحصافة والذكاء، ثم لقد بلغني أن زوجة الأذفونش - وهي من يعلم مولاي قوة سحر جمالها - فتنتة وأطمعته، حتى وقع في الشرك فوقع المعاهدة. - ويل للأبله المخدوع!! - إنه رجل كبير الآمال ... وقد وصل إلى علمي أنه أظهر العصيان ببلنسية، بعد النعم التي واليتها عليه، ثم إن كارثة الكوارث، أنه أرسل شعرا في هجاء مولاي وزوجه اعتماد، يردده أهل الأندلس جميعها، يقول فيه:
تخيرتها من بنات الهجان
رميكية لا تساوي عقالا
فجاءت بكل قصير العذار
لئيم النجارين عما وخالا
فالتهب المعتمد غضبا، وصاح بعبد الجليل بن وهبون، وأمره أن يكتب إلى أحمد بن عبد العزيز، وزيره ببلنسية: أن يرسل إليه ابن عمار مصفودا، وبعد أيام وصل ابن عمار، ولم يبق وسيلة من وسائل الاستعطاف إلا بذلها، ولكن الغضب لم يترك في نفس المعتمد مكانا لرحمة، فوثب عليه وقتله بيده، وخرج الهوزني وهو يقول في نفسه: هذه بداية الخاتمة، ومر ابن وهبون بجثة ابن عمار فقال:
عجبا لمن أرثيه ملء مدامعي
وأقول: لا شلت يمين القاتل!
ثورة
كان القاضي عبد الله بن أدهم من أشد الساخطين على المعتمد؛ لتهاونه بشئون الدين والملك معا، ولانغماسه في اللهو، وتحالفه مع الإسبان.
وكان عبد الله شيخا جليل القدر، وقور السمت، له نفوذ روحي قوي التأثير في العامة، فكان يوجههم بإشارة من يده كيف شاء، ومتى شاء، وقد سمع من القادمين من بر العدوة ما عليه ابن تاشفين، ملك مراكش، من الزهد والصراحة في الحق، والتمسك بالدين، والتأدب بآداب الصحابة، والميل إلى الغزو في سبيل الله، فكان يود لو أن زمام الأندلس أسلم إلى يده بعد أن كبا بها الزمان، واصطلحت عليها النوائب؛ ليملأها عدلا بعد أن ملئت جورا، وليعيد إليها ما كان لها من العز الشامخ والملك العظيم.
كان عبد الله جالسا في دارة مطرقا مفكرا، وإذا أبو القاسم الهوزني يطرق بابه، ويسلم في أدب ويجلس، فيلتفت إليه ابن أدهم ويقول: كيف حال المعتمد اليوم؟ ألا يزال سادرا في لذاته، أم أيقظه قرع الحوادث؟؟ - لا يزال سادرا في لذاته، وهو الآن أشبه بالقنديل في آخر الليل، تخفق ذبالته حتى إذا لم تجد زيتا انطفأت. - ليته كان ينطفئ وحده! إنه ليس قنديلا أبا القاسم. إنه راع ترك شياهه للسباع ... إن الأمة لا تصلح إلا بابن خطاب جديد. - وأين نجد عمر بن الخطاب الآن؟؟ - هو على مرمى سهم منك ... هو في بر العدوة ... هو في مراكش ... هو يوسف بن تاشفين. - فهمت. هذا حسن، وهو خير من يعيد إلى الأندلس مجدها. - ولكن كيف الوصول إليه؟؟ ... إن وفدا من رجال الأندلس لا يكفي لدعوته؛ لأنه قد يرتاب في أن البلد ممهد لدخوله، فيخشى أن يقع بين شقي رحا، وأن تطبق عليه جيوش المسلمين وجيوش الإسبان. - دع هذا الأمر لي يا سيدي، ويكفيك أنك أوحيت بالفكرة ... إني سأحتال حتى يدعوه المعتمد نفسه.
ثم ينطلق إلى القصر فيلتقي بأحمد العامري صاحب الخزائن، فيقول له: عم صباحا أبا محمد، من مثلك اليوم يمشي في إعجاب وزهو، كمشية بنت المستكفي التي تقول:
أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها - ولا عجب، فإنك حارس خزائن الملك، تعطي من تشاء وتمنع من تشاء. - لا تمزح أبا القاسم فإن الوقت وقت جد، إن النفقات الكثيرة تكاد تلتهم ما في الخزائن: جوائز للشعراء لا تنتهي عند حد في كل يوم، وجواهر وحلي وملابس للجواري، ولأرماندا، ولسيدتي الرميكية - تزيد أثمانها على ما يتوهمه العقل، ثم نفقات قصر الملك، ثم ما ينفق على القصور الأخرى: وهي الزهراء، والمبارك، والوحيد، والزاهي، والمؤيد. ثم ما يدفع من الإتاوات للأذفونش. ماذا يبقى يا أبا القاسم؟؟ - يبقى ما يدفع للجيش. - أنت لا تزال تمزح. عم صباحا.
وتركه الهوزني، فرأى المعتمد جالسا بين حاشيته، ووجهه مربد، وهو يتكلف الكلام والابتسام، حتى إذا أخذ مجلسه، جاء سيف الخادم وقال بصوت مرتعد: إن ابن شاليب اليهودي قدم يا مولاي، وقد ترك بربض إشبيلية نحو ثلاثمائة جندي، قدموا معه. فالتفت المعتمد إلى من حوله وقال. ليدخل.
ودخل ابن شاليب، وكان رجلا في الستين، أشيب اللحية، كبير الأنف، يسيل ماء عينيه لرمد ملازم، فهو لا يفتأ يمسح دموعهما بيده بحركة عصبية؛ وكان وسخ الوجه واليدين، له خصلتان طويلتان تتدليان على عارضيه، يلبس فوق صداره وسراويله جبة طويلة ممزقة الذيل وسخة.
سلم ابن شاليب وقال: إن مولاي الأذفونش يصدر إليكم أمرين: الأول: أن تقيم زوجه كونستانس بمدينة الزهراء حتى تلد، وأن تلد بالجانب الغربي من جامع قرطبة، وهو مكان الكنيسة القديمة، والثاني: أن تضاعف الإتاوة هذا العام.
فقال المعتمد: اسمع يا رجل. نحن لا نتلقى من أحد أمرا، وولادة القمجيطة بجامع قرطبة أبعد من المحال، وهو طلب نرده في وجه مولاك بأنفة وازدراء؛ وأما المال فخذوه إن كان يسد ذلك جشع الأذفونش. ثم أمر أحمد العامري بإعطائه الإتاوة.
وبعد ساعة عاد ابن شاليب وهو يصيح في غضب: لا آخذ هذه الدنانير ... إنها زائفة ... إنها مغشوشة ... إن الأذفونش سئم هذه الألاعيب، وإننا في العام القابل لن نأخذ دنانير بل نأخذ مدنا وحصونا.
فقال الهوزني: أطبق فمك يا فاجر، إنك أمام الأمير.
فقال ابن شاليب: إن أراد الأمير أن يحترم نفسه فلينقدني الدنانير صحيحة غير زائفة، وقد كان الغضب قد أطبق على المعتمد فلم يستطع صبرا، وكانت أمامه دواة ضخمة، فقبض على رقبة ابن شاليب، ودق رأسه بالدواة حتى تناثر مخه، ثم أمر سيفا خادمه - وعيناه تكادان تثبان من محجريهما - أن يرسل جنودا في جنح الليل على فرسان الأذفونش ليقتلوهم.
طار خبر مقتل اليهودي في إشبيلية، وتنقل من لسان إلى لسان، وكان الناس قد سئموا حكم المعتمد، ولكنهم كانوا يكتمون غيظا تغلي في نفوسهم مراجله، وأسرع من نجا من فرسان الأذفونش إليه، يقصون عليه ما كان من المعتمد ويزيدون ويهولون، فأذهله وقع الخبر، وأقسم برأس أبيه أن يرسل عليه جيوشا لا قبل له بها، وألا يقل عددها عن شعر رأسه، وقد أنجز وعيده فأرسل جيشا لهاما لا يبلغ الطرف مدى آخره، وكان يقوده بنفسه، حتى وصل إلى شاطئ النهر الكبير، فعسكر قبالة قصر المعتمد بإشبيلية، وربض متنمرا كالليث الغاضب.
فلما وقعت الواقعة، ذهب الهوزني إلى دار عبد الله بن أدهم وقال له: لقد نضجت الثمرة اليوم يا سيدي، وأصبح قدوم ابن تاشفين قريبا، بعد أن نزل الأذفونش بطريانة. - كيف ذلك؟ - لقد أرسلا في هذا الصباح حمادا المريني ليخطب في العامة، ويثير كوامن غيظهم على المعتمد، وهو شاب ذرب اللسان، يعرف كيف يلهب النفوس، ويلعب بالعقول. - ماذا نفيد من هذه الثورة؟ إنها قد تقوي الأذفونش. - إن الأذفونش ستطول إقامته بطريانة قبل أن يهجم؛ لأنه سينظر جيشا آخر قادما من طليطلة لم يغادرها بعد، ثم إن هذه الثورة ستدفع المعتمد إلى الاستعانة بابن تاشفين على الرغم منه؛ لأنه سيصبح بغيضا إلى العامة فلا يتقدمون لنصرته. - وما كاد يفرغ الهوزني من كلامه، حتى دخل حماد المريني وآثار الإجهاد والتعب بادية عليه، فقال: إن إشبيلية الآن ثائرة كلها، يستوي فيها الرجل والمرأة، والطفل والشيخ.
فقال الهوزني: كيف ذلك؟ فقال المريني: لقد خطبت في الميدان الكبير وكان الجمع حاشدا يموج كالبحر الزاخر، وما فرغت من خطبتي حتى وقف الناس يخبطون، وصار كل واحد منهم حمادا المريني. - ماذا قلت لهم؟ - عددت مثالب ابن عباد: فذكرت إسرافه في اللهو والمجون، وجنونه بحب النساء والجواري الإسبانيات، وفتنته بأرماندا وبزوجه الرميكية التي كانت نكبة على الأندلس جميعها، ثم تبديده أموال الدولة على المتعطلين من الشعراء والمضحكين والمجان، ومعاقرته الخمر حتى لا يكاد يفيق من سكر، وتبذيره في بناء القصور، ثم تحقيره الفقهاء والعلماء، وإهمال شهود الجمع ومعاهدته مع الأذفونش التي جرت الخراب على البلاد، ثم ترك الجيش حتى فقد قوته، والأسطول حتى تعطن في الماء ، ثم طرح شئون الدولة وراء ظهره، وترك زمامها في يد ابنه الغر الجاهل الذي سماه بالرشيد. - مرحى مرحى أبا هاشم!!
ثم ودعهما الهوزني وانصرف إلى القصر، فرأى من فيه يموج بعضهم في بعض، ورأى المعتمد جالسا مع ابنه الرشيد، ومعهما أبو بكر بن زيدون، فقال له المعتمد: اجلس أبا القاسم ... إنما تعرف الرجال في الشدة ... هل لك في هذه النازلة رأي؟
فقال الهوزني: يا مولاي. رأيي أننا نحتاج إلى حليف قوي في هذه الشدة.
وقال ابن زيدون: يجب أن نكتب إلى جميع ملوك الطوائف؛ ليشاركونا بجيوشهم في دفع هذا البلاء فإن خطره يشملنا ويشملهم.
عندئذ قال الهوزني: إن ملوك الطوائف جميعا أضعف من الثمام، وهم يخافون الأذفونش ويتقون غضبه، حتى لقد بلغني أنهم أرسلوا إليه التهنئات والهدايا حينما ملكت جيوشه طليطلة ... إن ملوك الطوائف لا يصلحون.
فقال المعتمد: من يصلح إذا؟ فقال الهوزني: سمعت أن يوسف بن تاشفين رجل ليس له أطماع ألبتة، وأنه مجنون بشيء يسميه الغزو في سبيل الله، فإذا خدعناه بهذه الفكرة، جاء بجيش من البربر، فتمتع بالغزو الذي يحبه وتتوق إليه نفسه، ثم عاد من حيث أتى، وأعتقد أن ملوك الطوائف إذا وثقوا من انتصاره على الأذفونش - وهو أمر محقق - تدفقوا على مولاي ملحين في أن تشترك جيوشهم في الجهاد.
ثم إني واثق أن العامة إذا عرفوا أن مولاي يبذل أقصى جهد في استئصال شأفة الأذفونش - تقدموا لنصرته ملبين.
فظهر الاقتناع على وجه المعتمد، وحينئذ خرج الرشيد من صمته وقال: يا مولاي: إن هؤلاء البربر قوم جياع، جاءوا من الصحراء وفيهم الجشع والوحشية، وأخشى أنهم إذا نزلوا بلادنا، ورأوا ما فيها من أسباب الحضارة والنعيم، صعب عليهم مبارحتها؛ فنكون كمن يفر من الذئب، فيقع بين أنياب الأسد.
وأرى أن نصانع الأذفونش، وأن نبذل له من الأموال فوق ما يتخيل، حتى يعدل عن عزمه، ويذهب إلى طليطلة، ثم نتخذ من هذه الحادثة عبرة، فنفرغ لتقوية جيوشنا، وننفق كل درهم من أموال الدولة فيما يقوي أركانها، ويصد عنها أعداءها.
فغضب المعتمد وقال: والله لن أصانع هذا الأذفونش بعد أن أهان أرضي، وأهانني رجاله الأدنياء، والله لن يقول قائل بعدي: إن ابن عباد أضاع ملك الأندلس ... ولأن أرعى الجمال عند ابن تاشفين خير من أن أرعى الخنازير عند الأذفونش.
ثم إني من أمري على حالين: حال شك، وحال يقين، ولا بد من إحداهما ... لأنني إذا استندت إلى ابن تاشفين، أو إلى الأذفونش، فمن الجائز أن يفي لي كل منهما بعهده، ومن الجائز ألا يفي ... فهذه حالة شك.
ولكني إذا استندت إلى ابن تاشفين، أرضيت الله، وإذا استندت إلى الأذفونش، أسخطت الله، فهذه حالة يقين.
ولأن يغدر بي ابن تاشفين مع رضا الله، خير من أن يفي لي الأذفونش مع سخطه. أتعلم أبا القاسم أن الطاغية أرسل إلي بالأمس رسالة كلها تهكم وسخرية وصلف: أرسل يقول: إنه طال مقامه بشاطئ النهر، فاشتد عليه الحر وكثر الذباب، وطلب الصفيق مراوح تطرد الذباب عنه وعن جنده؟!
فقال الهوزني: يا للداهية!! بم أجبته يا مولاي؟؟ - أجبته بأني سأرسل إليه مراوح من نوع جديد ... مراوح من الدرق اللمطية تروح منه، ولا تروح عليه.
ثم هب واقفا وقال: أنا ذاهب الآن إلى ابن تاشفين. يا ابن زيدون ... اكتب إلى ملوك الولايات ليكونوا على استعداد.
ركب المعتمد سفينته، وكان لا يصحبه إلا خادمه سيف، حتى وصل إلى مراكش فطرقها ليلا، وذهب إلى قصر أمير المسلمين ابن تاشفين وطلب مقابلته، فذعر ابن تاشفين وخاف أن يكون قادما بجيشه، وقد بسط إليه المعتمد - ودموعه تتناثر فوق خديه - حال الأندلس، وما أصاب الإسلام، وأن الأمر يدعو إلى الجهاد وبذل النفوس في سبيل الله، وأن الله الذي نصر أمير المسلمين في جميع غزواته، قد أعد له في الأندلس النصر المبين، واختاره لحفظ دينه، وإعلاء كلمته.
وافق ابن تاشفين على إرسال جيس للأندلس، وعاد المعتمد إلى إشبيلية فرحا مسرورا، فاستبشر الناس وهنأ بعضهم بعضا، وهمس الهوزني في أذن عبد الله بن أدهم: ألم أنبئك أني سأعمل على أن يدعو المعتمد ابن تاشفين لدخول الأندلس؟؟ - إن لك سحرا لا تنفع فيه الرقى!! ولكن ابن تاشفين وعد أن يعود إلى بلاده بعد أن يقهر الأذفونش. - إن وعود السياسة كوعود الحسان ... قاتل الله المتنبي حين يقول:
ومن يجعل الضرغام بازا لصيده
تصيده الضرغام فيما تصيدا
الزلاقة
رفرف على شاطئ الأندلس عند الجزيرة الخضراء، مائة شراع يعبث بها النسيم، وتتخايل فوقها الرايات.
وكانت السفن تعج بالمجاهدين من البربر، وعرب زناته، وتزخر بالخيل والجمال، ومعدات القتال: فكان الصهيل فيها يختلط بالهدير، وأصوات المقاتلين تمتزج بصليل السيوف وقعقعة الرماح، والركاب فوقها في حركة دائبة، وضوضاء صاخبة.
وأبناء الصحراء من البربر يطلون على شاطئ الأندلس في ذهول وإعجاب، وقد طرزت حواشيه الرياض والمروج، وانتثرت فيه الكروم وأشجار التوت والزيتون والتين.
لقد كانوا في السعير فأقبلوا إلى النعيم، وكانوا في الجدب المحرق، فأشرفوا على الخصب والعيش الرخيم.
وحينئذ التفت سير بن أبي بكر - أكبر قواد ابن تاشفين - إلى القائد داود ابن عائشة قائلا: يا داود. إن هذه البلاد هي الجنة التي كنتم توعدون، وأعجب من فاتح يضع فيها قدمه ثم يستطيع أن يفارقها. - إن الجنة تحف دائما بالمكاره، ولا تخلو من وسوسة الشياطين. ثم إن ما في هذه البلاد من الرفه واللهو والجمال، يستلب من الفاتح كل صفات الرجولة والحمية، ويفقده صفات البداوة، حتى يعود أضعف من ذات خمار، ونحن العرب، خلقت أخلاقنا من صخور الصحراء، فلا نعيش إلا في الصحراء، فإذا خرجنا منها فسدنا، كما يفسد السمك إذا خرج من الماء ... أمامك تاريخ العرب كله، فاقرأه ثم انظر إلى ما هو أمامك من أمر ملوك الأندلس، وتأمل لماذا قدمنا اليوم إلى هنا. - أنت رجل عميق الغور، ولكني أخشى أن تكون مخطئا ... أتظن أن فاتحا عظيما يعزف عن هذا الملك العظيم، وهو في قبضة يده، لهذه الأوهام والأباطيل؟! - ليست أوهاما، وليست أباطيل، وإنما هي الحق ... خير لنا أن نقيم بصحرائنا أقوياء أشداء، من أن ننغمس في مدينة كاذبة قصيرة الأمد، تقضي على كل ما فينا من شجاعة ونخوة. - أتفضل خبز الشعير على الفطائر المغموسة في الزبد والعسل؟! - أفضله على الفطائر المسمومة.
وهنا صاح الجند: أمير المسلمين ينزل إلى الشاطئ.
وأقبل ابن تاشفين تحيط به الجنود: وهو رجل في الثمانين من عمره، ربعة، أميل إلى القصر، نحيف الجسم، أسمر اللون، في وجهه عينان كعيني النسر، وله لحية خفيفة جللها الشيب.
نزل ابن تاشفين إلى الشاطئ فصلى بجميع جيشه، ثم أقبل عليه الرشيد بن المعتمد نائبا عن أبيه، فقبل يده، ورحب بمقدمه، وقدم له الهدايا وصنوف المئونة ما يليق بكرم ابن عباد، وفرح أهل الجزيرة الخضراء، واستبشروا بقدومه، ورفعوا الرايات، وقدموا للجند من الطعام والتحف ما يستطيعون.
وبعد أيام قدم المعتمد إلى الجزيرة الخضراء في ثلة من عسكره، فلما قابل ابن تاشفين تعانقا عناق الحبيب للحبيب، وامتزجت دموع السرور منهما بدموع الحب والإشفاق.
وفي هذه الأثناء كانت جيوش ملوك الطوائف تفد على إشبيلية براياتها وقوادها كأنها الأمواج تلتقي على شاطئ المحيط.
ثم تحركت جيوش ابن تاشفين إلى إشبيلية، وأقامت بها قليلا، ووصل خبر قدوم جيش ابن تاشفين إلى ألفونسو وهو بطليطلة فنادى بالحشد العظيم، وجمع جموعا كثيفة العدد من الجلالقة والفرنجة، وعزم على أن يقودها بنفسه.
ولما نظر فرأى جيوشه تسد الأفق، التفت إلى أكبر قواده الكونت الڤيرفانز، وتسميه العرب «البرهانس» وقال: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء.
وفي صباح اليوم، هب ألفونسو من نومه قلقا؛ لأنه رأى رؤيا عجيبة لم يستطع لها تأويلا، فجمع القساوسة النصارى وأحبار اليهود وقال: رأيت فيما يرى النائم: أني أركب فيلا - والفيل ليس في بلادنا، ولم يخطر ببالي ذكر له قبل نومي - وأن أمامي رجلا يدق طبلا. فتحيروا في تعبير هذه الرؤيا، وقالوا: رأيت خيرا أيها الملك، إن هذه الرؤيا دليل النصر، ولكن ألفونسو لم يثق بهم، وهز رأسه قلقا مضطربا، وتسرب أحد اليهود حتى أتى مسجد طليطلة، فقابل الشيخ أبا عبد الله المغامي وقص عليه الرؤيا، ونسبها لنفسه، فقال له الشيخ: كذبت، ما هذه الرؤيا لك، ولن أعبرها إلا إذا صدقتني.
فقال: إنها رؤيا الأذفونش . فقال الشيخ: الآن صدقت فلن يرى هذه الرؤيا غيره ... اذهب بي إليه؟
فذهبا إلى ألفونسو، فقال له الشيخ: أيها الأذفونش! إن هذه الرؤيا تدل على بلاء عظيم، ومصيبة فادحة تقع عليك وعلى عسكرك، وتفسير الفيل في قوله تعالى:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل ، وتفسير الطبل من قوله تعالى:
فإذا نقر في الناقور * فذلك يومئذ يوم عسي * على الكافرين غير يسير .
فهاج غضب ألفونسو وقال: والله لئن ظهر كذبك يا شيخ لأقطعن جسمك لكلاب الصيد. فابتسم المغامي وقال: وإن صدقت فلن تنالني يدك! ثم تحركت جيوش ألفونسو، وتحركت جيوش ابن تاشفين حتى وصلت إلى مكان بالقرب من بطليوس يعرف بالزلاقة، وأقام بعسكره بعيدا عن عسكر ابن عباد، وهنا أرسل ابن تاشفين - على عادة الغزاة - كتابا إلى ألفونسو يدعوه فيه إلى إحدى سبل ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو القتال. فسخر ألفونسو من الكتاب، وبعث يقول لابن تاشفين: إن اليوم الخميس، وغدا الجمعة وهو عيد المسلمين، وبعده السبت وهو عيد اليهود، ثم الأحد وهو عيد النصارى، وأرى أن نلتقي يوم الاثنين.
فقال المعتمد: إنها دسيسة من الطاغية، وأرسل عيونه إلى معسكر ألفونسو، فرأوا إسراعا في الاستعداد والأهبة، وسمعوا همس الإسبان بأن الهجوم سيتجه أولا إلى جيش ابن عباد.
وفي هذه الليلة، قام الوعاظ في الفريقين من المسلمين والقساوسة، يعظون الجنود ويحثونهم على الجهاد والصبر، والاستماتة في نصرة الحق، وكان ابن عباد يمر بين جيوشه ويقول:
لابد من فرج قريب
يأتيك بالعجب العجيب
غزو عليك مبارك
سيعود بالفتح القريب
لابد من يوم يكو
ن له أخا يوم القليب
وفي صبيحة الجمعة، العاشر من رجب سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، لم يشعر جيش ابن عباد إلا وجموع ألفونسو المائجة تطبق عليه، فجالد المسلمون وصبروا عند الصدمة الأولى، ولكن قوة الإسبانيين وكثرة عددهم، كانت فوق طاقة الأندلسيين، ففر كثير من جند ابن عباد، ولكنه كان يقدم إقدام المستبسل المستميت، حتى لقد جرح صدره ويداه، وشدخ رأسه، وعقر تحته ثلاثة أفراس وهو لا يفتأ كارا واثبا حتى انكشفت بعض أصحابه وفيهم ابنه عبد الله. ثم تحركت فيه عاطفة الأبوة في هذا المأزق الذي يخب الموت فيه ويضع، فذكر ابنا له صغيرا، وتركه عليلا بإشبيلية، وكان به مغرما، فقال:
أيا هاشم هشمتني الشفار
فلله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج
فلم تثنني ذكره للفرار
وبينما كان ابن عباد يقاتل جيوش الإسبان، أرسل ابن تاشفين جنودا إلى معسكر ألفونسو، وأمرهم بإحراق كل ما فيه من مئونة وعدة، فملأ لهيبه الجو.
ثم جاءت اللحظة الأخيرة التي وصل فيها ابن عباد إلى اليأس وكاد يلقي السلاح مستسلما، ولكنه ما كاد يهم بإغماد سيفه، حتى رأى جيوش داود ابن عائشة أحد قواد ابن تاشفين مقبلة عليه، فعاد إليه الأمل، وانضم ببقية من معه إليها.
وأقبل ابن تاشفين، بخيله ورجله، وعاد الفارون حينما لمعت لهم بوارق الانتصار، وصدق المسلمون الحملة، فشتتوا جيوش الإسبان.
وانكشف ألفونسو، ووثب عليه غلام بربري يدعى بلاطس، بخنجر، فضربه فقد درعه وأصاب فخذه، ففر بنحو خمسمائة من رجاله إلى تل بعيد عن المعركة، بعد أن فنى جيشه، وقتلت أبطاله، ثم رحل إلى طليطلة يجر ذيول الخذلان.
وسجد ابن عباد لله شكرا، وأرسل لابنه الرشيد بأنباء النصر على جناح طائر: وحز المنتصرون رءوس القتلى، وعملوا من رءوسهم مآذن ينادون من فوقها للصلاة، وقضوا الوقت في تهليل وتكبير.
ورأى ابن تاشفين جرح ابن عباد فاشتد أسفه، فقال المعتمد:
وقالوا: كفه جرحت. فقلنا:
أغادية تسيل بها الجراح؟!
وما أثر الجراحة ما رأيتم
فتوهنها المناصل والرماح
ولكن فاض سيل البأس منها
ففيها من مجاريه انسياح
أما ألفونسو: فأمضه الحزن، وعضه عار الهزيمة، فلم يمكث بعد الموقعة أياما حتى مات.
ضيافة
عف ابن تاشفين هو وجيشه عن اقتسام الغنائم، وفاء بعهده للمعتمد، وظهورا بأنه إنما حارب للجهاد والمثوبة، وأنه لا يريد عرض الحياة الدنيا. ثم دعاه المعتمد إلى الضيافة بإشبيلية، فقبل الدعوة، ورحلا وأعلام النصر تخفق فوق رأسيهما، وكلما مرا ببلدة أو مدينة، هرع إليهما الناس يحيون فيهما البطولة، والعزيمة الصادقة، والصبر عند اليأس، حتى إذا بلغا إشبيلية أقبل المهنئون والشعراء وكان ابن وهبون قد أعد للموقف قصيدة طويلة، فلما هم بإلقائها سمع قارئا في صدر المجلس يقرأ:
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، فلما سمع الآية قال: بعدا لي ولشعري! والله ما أبقت لي هذه الآية شيئا.
نزل ابن تاشفين في ضيافة المعتمد، فرأى من البذخ والترف والنعيم، ومن عظمة القصور وكثرة الحشم والجواري، وجمال الفراش والأثاث، والإسراف في الإنفاق - ما أذهله وذهب بلبه.
ثم نظر حول القصر، فرأى نهرا عظيما تتكسر أمواجه كأنها قطع البلور، والسفن مقبلة فيه مدبرة، تلعب الرياح بشرعها البيض كأنها الحمائم تحوم على مشرع، ورأى إلى ناحية الغرب شرف إشبيلية وقد كثرت فيه الضياع، وحجبت الكروم وأشجار التين والزيتون عن أرضه الشمس.
وكان سير ابن أبي بكر بجانبه، فالتفت إليه وقال: يا سير! أترى ما نحن فيه من النعيم؟! ... إن هذه البلاد قطعة من الفردوس، وهذا القصر الذي نحن فيه أحد قصور الجنة. يا سير ... إن هذه الأموال التي تبعثر بجنون على هذه القصور، وفي هذا الترف الذي تجاوز الحد، لابد أن تكون مأخوذة من الرعية قسرا واغتصابا. - إن ابن عباد يا مولاي لا يهتم إلا بنفسه وإشباع شهواته. - أتحبه رعيته يا ابن أبي بكر؟؟ - إن الرعية تبغضه، وتود لو تستريح من حكمه، وها هي ذي الفرصة سانحة يا مولاي، فمرني أنقض بجيشي على هذا الخليع؛ فلن يأخذ مني ثل عرشه المتداعي ساعة من نهار. - ليس الآن يا ابن أبي بكر ... إن ملوك الأندلس لا يزالون أقوياء بعد هذه النصرة، وبعد أن استرحوا من الأذفنوش، والأمور مرهونة بأوقاتها. - إنني قابلت بالأمس ابن أدهم، قاضي الجماعة بقرطبة، وأبا القاسم الهوزني وهما صديقان وفيان لمولاي أمير المسلمين. فأخذا يحثانني على الوثوب على ابن عباد، واستئصال ملكه. - نعم إنهما صديقان، ولكن الوقت لم يحن بعد، فاترك لي يا ابن أبي بكر. ثم غلبه النوم، فتركه سير يغط غطيطا.
وكان المعتمد في هذه اللحظة في قصره، بين وزرائه وقواده، والسرور يملأ جوانب نفسه، وليس له حديث إلا الفتح والنصر، وما أفاء الله على المسلمين من غنائم، وبينما هو في الحديث إذ استأذن عليه شيخ مجهول الاسم، رث الهيئة. فلما مثل بين يديه قال: أصلحك الله أيها الملك ... إن من واجب شكر النعمة لله، إسداء النصح لك: لقد وقع في أذني من بعض أصحاب ضيفك ابن تاشفين، خبر يدل على أنهم يرون أنفسهم ويرون ملكهم أحق بهذا الملك منك، أو قد بدا لي رأي، فإن آثرت الإصغاء إليه قتلته. فقال المعتمد: قله ولا تخف، فقال الشيخ: إن هذا الملك الذي أطلعته على سر دولتك، طماح مستأثر، وقد حطم ملوك زناته ببر العدوة واغتصب ملكهم، وهو فاعل بك ما فعل بهم، بعدما رأى من عظم الأندلس وخصبها، وبعد أن فتك بجيوش الأذفونش، فأعدمك بإضعافه أقوى ناصر لك عليه، فاتخذ الحزم فيما هو ممكن اليوم. - وما الذي هو ممكن اليوم؟؟ - أن تجمع أمرك على القبض على ابن تاشفين واعتقاله، ثم تصارحه بأنك لا تطلقه حتى يأمر كل من بالجزيرة من عسكره أن يرجع من حيث جاء. ثم تتعاهد مع ملوك الجزيرة على حراسة هذا البحر، والقضاء على كل سفينة له تجرى فيه، ثم تأخذ منه رهائن عزيزة على نفسه، وتستحلفه بأغلظ الإيمان ألا يضمر عودا إلى هذه الجزيرة ... حينئذ تنظر في ملكك بعين اليقظة والحزم، ويعظم قدرك وتهابك الملوك. فأطرق المعتمد طويلا وقد استسحسن رأي الرجل، وراق في نفسه، وحينئذ أسرع الهوزني وقال: يا شيخ، ما كان المعتمد على الله - وهو الكريم العنصر، والملك الذي اجتمعت فيه كل مكارم العرب ممن يغدر بضيفه. فقال الشيخ: الغدر أن تغتصب حقا ليس لك، لا أن تدفع عن نفسك ضرا وضيما.
فقال الهوزني: ضيم مع وفاء، خير من حزم مع جفاء.
ووافق المعتمد على هذه الحكمة الغريبة، التي تأنق الهوزني في سجعها، فخرج الهوزني وهو يقول:
إحدى لياليك فهيسي هيسي
لا تنعمي الليلة بالتعريس!
أفول
رحل ابن تاشفين إلى مراكش وترك بالأندلس جنوده وقواده، وعاد المعتمد إلى ما كان فيه من اللهو والعبث، وقضى أكثر من سنتين في بلهنية عيش وانغماس في النعيم.
وعادت أرماندا إلى ما كان لها من الحظوة، وعادت الرميكية إلى بذخها وإسرافها، وتمدد ذات صباح على كرسيه في حديقة قصره، وجاريته لونا (قمر) تحجب عنه الشمس، وهو يقرأ في شعر ابن أبي ربيعة، والمغنية تنشده من شعره:
قامت لتحجب قرص الشمس قامتها
عن ناظري - حجبت عن ناظر الغير
علما لعمرك منها أنها قمر
هل تحجب الشمس إلا غرة القمر؟!
ودخل الهوزني، فملأ الجو أنسا بحسن حديثه، والأمير مغرور بأساليب ملقه وكثرة إطرائه، وقبله في أثناء ذلك يتحرق سخطا على المعتمد، ويتلهب شوقا إلى زوال دولته.
ثم رأى عنقودا يتدلى من كرم، فذهب لقطفه، فلحقت به أرماندا لأخذه، متكلفة شدة الرغبة في اختطافه منه، فهمس في أذنها: ما هذا يا أرماندا؟ ماذا فعلت بابن عباد؟ فقالت: تركته كما تراه في حلم دائم من النعيم والنسيان، لا يستطيع أن يدفع عدوا، أو يصطنع صديقا. فقال الهوزني: كيف فعلت هذا؟ قالت: لا أدري غير أنهم يقولون في قشتالة: إن المرأة شرك الشيطان.
وعندئذ دخل على المعتمد أخوه ذخر الدولة، وهو مكفهر الوجه متشائم، فقال: يا مولاي. إني رأيت في منامي بالأمس: كأن رجلا صعد فوق منبر قرطبة، واستقبل الناس، وأخذ ينشدهم:
رب ركب قد أناخوا عيسهم
في ذرا مجدهم حين بسق
سكت الدهر زمانا عنهم
ثم أبكاهم دما حين نطق
فصاح الهوزني مقهقها: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
ثم استأذن وانصرف، فلقي في الطريق سير بن أبي بكر، فمال به إلى ناحية، وأخذ يلح عليه، ويحثه على الوثوب على المعتمد، ويذلل له كل صعب، ويسد عليه كل باب. فقال له سير: وماذا أصنع وأمير المسلمين ينصح بالانتظار؟ - اكتب إليه ما أمليه عليك. - اكتب أنت، فما أنا بكاتب.
فكتب الهوزني كتابا عن لسانه لابن تاشفين، يشكو منه من ملوك الأندلس جميعا، ويقول: إنهم منصرفون إلى لذاتهم، وقد تركوه يقاسي الشدائد هو وجنده من غير أن يمدوه بمال أو رجال، وإنه يخشى أن ينقلب هؤلاء الملوك عليهم بالاستعانة بالإسبان. بعث سير الرسالة إلى ابن تاشفين، فأمره ابن تاشفين أن يحارب ملوك الأندلس واحدا واحدا، وأن يجعل آخر غزوه لابن عباد.
فأسرع ابن أبي بكر إلى إنفاذ أمر سيده، واستولى على ولايات ملوك الطوائف. ثم حاصر إشبيلية، ووصل خبر حصارها إلى المعتمد وهو بين جواريه وندمائه فذعر من بالقصر، وولول النساء والجواري، وخرج المعتمد وعليه غلالة شفافة، فامتطى صهوة جواده، واستل سيفه في يده، وصاح في حرس قصره: اقتلوا البربر الغادرين.
وكان البربر قد دخلوا المدينة من باب الفرج، فصال فيهم بسيفه فتقهقروا، حتى إذا ذهبوا بعيدا عاد المعتمد، فرأى ابنه ملكا مقتولا عند باب الصباغين، فحمله بعض الحراس وهو ينتحب خلفه.
وكان الناس قد شملهم الذعر وخامرهم الجزع، فكانوا يثبون في النهر، ويقذفون بأنفسهم من شرفات الأسوار.
فلما كان العشرون من رجب، سنة أربع وثمانين وأربعمائة، اقتحم جند «سير» القصر، وقبضوا بالأيدي على المعتمد، فطلب الأمان لنفسه وأهله فأمن، وكان يبكي وينشد:
إن يسلب القوم العدا
ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه
لم تسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطبا
ع. أيلسب الشرف الرفيع؟
شيم الألى أنا منهم
والأصل تتبعه الفروع
ثم قيده أعداؤه بالأغلال، وأعدوا له ولأولاده وأهله السفن للرحيل إلى طنجة.
فاجتازت السفن شاطئ إشبيلية، والجموع المتراكمة عليه من الرجال والنساء والأطفال، تبكي وتنوح.
وكان في مكان بعيد من الشاطئ رجلان، ينظران إلى السفن في شماته وجذل، هما: عبد الله بن أدهم، وأبو القاسم الهوزني.
وكان أبو القاسم يردد:
أين ابن معن وعباد ومعتصم
وأين باديس، بل أين ابن ذي النون؟!
كانت لهم في هضاب العز أبنية
فأصبحوا بين مقبور ومسجون!!
أسر
سارت السفن بابن عباد وأسرته وهم في غم ونواح: ملك زال كأنه ضحوة من نهار، وعز طار كأنه حلم نائم، وسطوة وسلطان حل مكانهم الذل والإسار، فكان المعتمد دائما مطرقا مفكرا، وكان ينظر إلى قيده ويقول:
قيدي، أما تعلمني مسلما؟
أبيت أن تشفق أو ترحما!
يبصرني فيك أبو هاشم
فينثني القلب وقد هشما
ولما بلغت السفن طنجة، رأى المعتمد جماعة بالبادية يستسقون لقلة المطر، وشدة الجفاف، فقال:
خرجوا ليستسقوا فقلت لهم: خذوا
دمعي ينوب لكم عن الأنواء
قالوا: حقيق في دموعك مقنع
لكنها ممزوجة بدماء!
ثم نقل إلى أغمات، وأودع السجن فقال:
غريب بأرض المغربين أسير
سيبكي عليه منبر وسرير
وتندبه البيض الصوارم والقنا
وينهل دمع بينهن غزير
وكانت بناته يعشن في السجن من غزل أيديهن في فقر وكفاف عيش، فحل أول عيد له بالأسر، فدخلن عليه في أطمار بالية، وقد غيرهن البؤس، وأنحلهن السغب، فلما رآهن قال:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في «أغمات» مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس، لا يملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا!
ورأى من نافذة السجن، سربا من القطا، يطير حرا طليقا، فهاج وجده وأنشده:
بكيت إلى سرب القطا أن مررن بي
سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
هنيئا لها أن لم يفرق جمعها
ولا ذاق منها البعد عن أهلها أهل
ألا عصم الله القطا في فراخها
فإن فراخي خانها الماء والظل
وقتل المرابطون ابنه المأمون بقرطبة، وابنه الراضي برندة، فزاد جزعه واشتد حزنه، فقال:
يا غيم عيني أقوى منك تهتانا
أبكي لحزن وما حملت أحزانا
بكيت «فتحا» فإن ناديت سلوته
بدا «يزيد» فزاد القلب نيرانا
يا فلذتي كبد يأبى تقطعها
عن وجدها بكما ما عشت سلوانا
ولم يزل في أنين وحنين، يرسل الزفرات ويطوي صدره على اليأس، حتى أدركته منيته سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
ومن العجيب أن هذا الملك الذي سار في الخافقين ذكره، وهز أعطاف الزمان شعره، وكان اسمه على كل لسان، والثناء عليه يجلجل في كل مكان - ينادى للصلاة عليه بعد موته فيقال: الصلاة على الغريب!!
إن من الغريب أن يكون ابن عباد غريبا!!
وبعد أيام من موته، قدم إلى «أغمات» شاعره أبو بكر بن عبد الصمد، وكان اليوم يوم عيد، فوقف على قبره خاشعا باكيا.
وحشد الناس حول القبر يبكون وينتحبون، ثم سكن الجمع، وأخذ ابن عبد الصمد ينشد:
ملك الملوك أسماع فأنادي
أم قد عدتك عن السماع عوادي؟!
وقرأ قارئ بصوت ندي، شجي النبرات:
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير .
Bilinmeyen sayfa