137

Series of Lanterns of Guidance

سلسلة مصابيح الهدى

Türler

عائشة وقصة الإفك إن أعظم منقبة وأجل فضيلة لـ عائشة ﵂ هي تلك الشهادة الربانية التي لا تمحوها الأيام والأعوام، وكيف تمحى أو تنسى وقد جعلها الله قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة؟! إنها الشهادة ببراءتها وطهرها وعفتها ونقائها من الله جل وعلا، بعد هذه الفتنة القاسية والمحنة المزلزلة التي تعرضت لها عائشة مع رسول الله ﷺ! أيها الأحبة! أعيروني القلوب والأسماع لنستمع إلى عائشة ﵂ وهي تقص علينا هذه المأساة المروعة، وهذه الفتنة القاسية المدمرة، ففي الصحيحين من حديث عائشة ﵂ قالت: كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين نسائه -أي: أجرى القرعة بين النساء- فأيتهن خرج سهمها خرجت مع رسول الله ﷺ، فأقرع بيننا النبي ﷺ في غزوة من الغزوات -وهي غزوة بني المصطلق- فوقع السهم علي، فخرجت مع النبي الله ﷺ بعدما أنزلت آية الحجاب، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه. والهودج: هو المحمل الذي يوضع على ظهر البعير لتركب فيه النساء ليكون أستر لهن، فكانت تحمل في الهودج، ويرفع الهودج وهي فيه، وينزل الهودج وهي فيه على ظهر البعير. تقول: فلما انتهى النبي ﵊ من الغزو وقفل راجعًا إلى المدينة، ودنونا منها، آذن الرسول ﷺ ليلةً بالرحيل، وتخلفت عائشة ﵂ خلف الجيش لقضاء شأنها. أي: لقضاء حاجتها، ولما تأخرت عائشة ﵂ جاء الرهط الذين كانوا يحملون الهودج ويقودون لها بعيرها، فحملوا الهودج ووضعوه على ظهر البعير، وهم لا يعلمون أنها ليست بداخله، فجاءت عائشة ﵂ إلى المكان فلم تجد فيه مجيبًا ولا داعٍ. تقول: فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني وسيرجعون إليّ في مكاني الذي كنت فيه، تقول: فغلبتني عيني فنمت -نامنت في مكانها- وكان صفوان بن المعطل السلمي ﵁ قد أمره النبي ﷺ أن يتأخر خلف الجيش ليأتي بسقط الجيش في مسيره. تقول: فلما رآني صفوان رأى سواد إنسان نائم. أقبل إليها، فعرفها، وكان يراها قبل نزول آية الحجاب. تقول: فاستيقظت من نومي باسترجاعه -أي: انتبهت من نومي على صوته وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون- عندما عرف أنها زوج نبيه ﷺ. تقول: فخمرت وجهي بجلبابي -خمرت، أي: غطيته- فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما كلمني كلمة، وما سمعت غير استرجاعه -أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فأناخ لي صفوان الراحلة، فركبت عليها، وانطلق يقود بي الراحلة حتى أدركنا الجيش، وقد نزلوا معرسين في نحر الظهيرة -أي: في وقت حر الظهيرة الشديد- فلما رآها رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول قال: من هذه؟ قالوا: إنها عائشة، فقال رأس النفاق: زوج نبيكم باتت مع رجل حتى الصباح وجاء يقودها؟ والله ما نجت منه ولا نجا منها. قولة عفنة، خبيثة! إنها القلوب المريضة التي تريد أن تلوث صورة الإسلام المتمثلة في أطهر قدوة وأعظم مثال، في محمد ﷺ، وآل بيته الطيبين الطاهرين. وطار المنافقون بهذه الفرية العظيمة، وهذه القولة الخبيثة الخطيرة، وتلقفتها القلوب المنافقة، والألسنة المريضة، وبدأت تموج وتزداد وتنتشر، وماجت المدينة بعد وصول الجيش إليها شهرًا كاملًا بهذه الفرية العظيمة خاضت في شرف الحبيب المصطفى وفي عرض ابن عبد الله ﷺ، والمسكينة عائشة لا تعلم عن الأمر شيئًا. الله أكبر! رسول الله يتهم في عرضه، وشرفه، وفي عائشة التي أحبها من كل قلبه! رسول الله يتهم في طهارة بيته، وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على جميع العالمين! رسول الله يتهم في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته! يتهم الحبيب ﷺ في شرفه وعرضه، بل وفي رسالته، يوم يرمى في عائشة ﵂! وها هي المسكينة الطاهرة العفيفة النقية التقية التي تربت في بيت الصدق والطهر والعفاف، في بيت صديق الأمة الأكبر، ها هي عائشة الزهرة التي تفتحت في حقل الإسلام، وسقيت بماء الوحي على يد رسول الله تتهم في عرضها تتهم في شرفها! وها هو أبوها ذلكم التقي النقي الأواب الخاشع الرقيق يعصر قلبه الألم، ويحطم ضلوعه الحزن! ما هذا؟ إنه خبر يهدهد الجبال، ويحطم الصخور الصماء، ويفتت الحجارة الصلبة! ابنة أبي بكر تتهم في شرفها وعرضها؟ ومن هي ابنته؟ إنها زوج حبيبه، وزوج رسوله، وزوج نبيه وأستاذه ﷺ. يتألم الصديق ويتعالى على أحزانه المدمرة، ويقول بمنتهى الحسرة والمرارة: (والله ما رمينا بهذا في الجاهلية، أفنرمى به في الإسلام) . وها هو الصحابي الجليل العلم صفوان بن المعطل يتهم في دينه حينما يتهم بخيانة نبيه ورسوله ﷺ! أيُّ ابتلاء هذا؟ وأيُّ محنة وأيُّ مصيبة هذه؟ وأيُّ فتنة هذه التي ابتلي بها رسول الله وعائشة ﵂ وأرضاها؟!! ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت:٢-٣] . ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة:٢١٤] . تقول عائشة ﵂: فلما قدمنا المدينة مرضت شهرًا كاملًا، وأنا لا أسمع من حديث الإفك شيئًا، حتى خرجت يومًا لقضاء حاجتي مع أم مسطح، وكانوا لا يتخذون الكنف -أي: بيوت الخلاء- في البيوت ولا قريبًا من البيوت، فأخبرتها أم مسطح بن أثاثة التي سقط في هذه الهاوية مع أهل الإفك بما يتحدث به الناس، فصدمت عائشة ﵂ وقالت: أوتحدث الناس بهذا؟! تقول: وكنت لا يريبني شيئًا من هذا إلا أنني لا أرى الرسول ﷺ يعاملني بلطفه الذي كنت أراه منه حينما أشتكي، وكان يدخل عليّ فيسلم ثم يقول: كيف تيكم فقط، ولا يتكلم ولا يلاطفني ولا يلاعبني. فدخلت عائشة ﵂، فلما دخل عليها النبي مسلمًا وهو يقول: كيف تيكم؟ نظرت إليه والبكاء يفتت كبدها، وقالت: يا رسول الله! أتأذن لي في أن أذهب إلى أبواي. تقول: وما طلبت ذلك إلا لأني أريد أن أتيقن الخبر، هل تحدث الناس بذلك؟! تقول: فذهبت إلى بيت أبواي فقلت: يا أماه! ماذا يتحدث الناس؟ فقالت أمها تخفف عليها: هوني عليك يا ابنتي، فوالله ما كانت امرأة وطيئة قط ولها ضرائر إلا وأكثرن في حقها، فبكت عائشة ﵂ وعلمت أن الأمر حق، وأن الأمر واقع، وأن الناس يتكلمون في شرفها وعرضها، وهي من؟ زوج من؟ بنت من؟ أخت من؟ إنها بنت أبي بكر، وزوج رسول الله ﷺ. تقول: فبكيت بكاء زاد مرضي، وصدع قلبي، وكاد كبدي أن يتفتت من البكاء، وجلس عندي أبواي، وكادت فتنة خطيرة أن تحدث بين الأوس والخزرج بسبب هذا الحديث الخطير، وهذا الإفك المرير. تقول: وبينما أنا جالسة عند أبواي وهما يعلمان أن البكاء فالق كبدي، إذ استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فدخلت وجلست معي تبكي، وبكيت معها، تقول: وبينما نحن كذلك دخل علينا رسول الله ﷺ، فجلس عندي وكانت أول مرة يجلس فيها عندي بعد حادثة الإفك، فجلس النبي ﵊، فحمد الله ﷿ وأثنى على الله، وتشهد شهادة الحق ثم قال: يا عائشة! إنه بلغني عنك كذا وكذا، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله ﷿، وإن ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا ألم بذنب وتاب إلى الله تاب الله عليه، بأبي هو وأمي ﷺ هذه بشرية الحبيب أيها الأحباب! تقول: فلما انتهى النبي ﷺ من مقالته قلص دمعي فلا أجد دمعة واحدة في عيني. ونظرت إلى أبيها إلى أبي بكر ﵂ وهي تقول: يا أبت! أجب رسول الله عن مقالته، فيقول الصديق الرقيق الذي يعصر قلبه الألم، يقول لها: والله يا بنية ما أدري ماذا أقول لرسول الله، فتنظر هذه الطاهرة البريئة العفيفة إلى أمها وتقول: يا أماه! أجيبي رسول الله عن مقالته، فتقول أمها: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله ﷺ، فنظرت الصديقة الطاهرة إليهم جميعًا وقالت: والله إني لبريئة، ولو قلت لكم ذلك لم تصدقوني، ولو قلت لكم غير ذلك ستصدقونني، ووالله لا أجد لي ولكم مثلًا إلا ما قاله أبو يوسف: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف:١٨] . لك الله يا عائشة، ورحماك رحماك يا ألله! رحماك رحماك يا ألله! رحماك رحماك يا ألله! تقول: ثم وليت بوجهي واضطجعت على فراشي، والبكاء يفتت كبدي، والألم يعصر قلبي، ووالله إني لأعلم أني لبريئة، وأن الله مبرئي ببراءة، ولكني ما كنت أظن أن الله تعالى سينزل وحيًا يتلى في حقي، فلشأني في نفسي كان أحقر من أن ينزل الله فيّ قرآنًا يتلى. تقول: ولكني كنت أرجو الله أن يري النبي ﷺ رؤيا يبرئني الله جل وعلا فيها، تقول: ووالله لم يبرح أحد مكانه، ولم يتحرك رسول الله من مجلسه، وإذ به يتنزل عليه الوحي، وتأخذه الشدة، حتى أن جبينه ليتحدر عليه العرق مثل الجمان -أ

12 / 5