فقال مؤتمن الخلافة: دع هذا لي، فإن عندي من جنود السودان عددا يحيل نهار القاهرة ليلا.
وقالت سيدة القصور: إن من السهل أن ندعي أننا لا نعرف من قتله، ويجب لأجل ذلك ألا يكون الجنود من السود، كما يجب أن يغيروا أزياءهم، وأن يلبسوا ثياب عامة المصريين.
فقالوا جميعا: نعم الرأي يا مولاتي، وسيطهر أديم مصر من ابن رزيك غدا، ثم نهضوا للقيام، وكررت الأميرة وصيتها بالكتمان والتدبر، وإحكام المؤامرة.
وفي الليلة الخامسة من رمضان جاء طلائع على عادته يصحبه ابنه مجد الإسلام، ودخل من باب القصر، ونفذت المؤامرة كما صورها ابن قوام الدولة، لم يخرم منها حرف، وهجم جندي على مجد الإسلام بسيفه فشطر عضده، ثم وثب ابن الراعي على طلائع فطعنه في نحره، ولما وصل الخبر إلى سيدة القصور أمرت الجواري والغلمان بالولولة والصياح والاستغاثة، وأمرت الجنود بإظهار الألم، وبالجري هنا وهناك للقبض على المجرمين، وبثت أعوانها السريين بالقاهرة، يشيعون أن جماعة نقبوا سور القصر واغتالوا ابن رزيك، ثم إنها أرسلت إلى مجد الإسلام ابنه، فجاء إلى القصر، وقابلها في حشد من الأستاذين، فلاقته باكية نادبة، وأشارت من بعيد بأن شاور بن مجير والي قوص، وأكبر منافس للملك الصالح هو مدبر هذه الجريمة. ودخل عمارة وقد أذهله الحادث، وأبكته المصيبة، فأنشد قصيدة طويلة في رثائه، وكانت الأميرة تبكي بعد كل بيت بكاء الثاكل، وتتلوى من الحزن، حتى اضطر الأستاذون إلى إسكات عمارة، وانفض المجلس. وبعد أيام اختلت الأميرة ببعض الأعوان السريين، فأخبروها أن جنود ابن رزيك وأنصاره يتأهبون لثورة جامحة، فدعت رجالها لمشاورتهم في الأمر، ورأت لدرء الفتنة أن يتولى مجد الإسلام رزيك مكان أبيه، ثم نظرت إلى مؤتمن الخلافة وقالت: أشغل دائما عدوك عنك بمحاباته، حتى يدع لك وقتا تستأصل فيه شأفته، وليس بالثمن الغالي أن يحكم رزيك شهورا، لكيلا يبقى رزيكي بأرض مصر، ولكي يستقل العاضد بأمور الخلافة غير مزاحم ولا معارض، إن الأمر يتطلب زمنا طويلا للتفكير، وشر الرأي الفطير.
الفصل التاسع
خرجت «باسمة» من القصر مطرودة مجلودة، فحملها بعض الجند إلى مسكن زوجها، فمكثت به أياما وزوجها محزون حنق، يأنف من النظر إليها أو القرب منها، حتى إذا نقهت أرسل إلى ابن دخان، فلما حضر قال له مجاهد: أنت أيها الشيطان سبب إغواء هذه المرأة وإفسادها، فاحمل خطيئتك على كتفيك، فليس لي بها من حاجة، خذها لا بارك الله لك فيها، فإنها طالق، وإن الكريم لا يشرب من إناء ولغت فيه الكلاب؛ فزأرت «باسمة» كما تزأر اللبؤة الهائجة، وقالت: لقد رميتني بالإفك ... وإنني والله ما فرحت بزواجك، ولقد سرني طلاقك، ولو كان الطلاق من حق المرأة لكنت البادئة به منذ حين ... عجبا للرجل منكم!! يلوي رأسه للمرأة كبرا ويقول: أنت طالق، ولو كشف عنه الغطاء لعلم أن المرأة طلقته قبل ذلك ألف مرة ... إن الطلاق نعمة من نعم الله إذا تزوجت امرأة بمثلك، أما أن يأخذني ابن دخان أو لا يأخذني فذلك ما لا شأن لك فيه، ولن أريد أن أكشف لك عن طهارتي مع ابن دخان، فإنك عندي دون من تبسط له حجة، أو يقدم إليه اعتذار ... هلم يا ابن دخان خذني إلى حيث شئت.
خرجت تتعثر هي وابن دخان، فقال لها وهما في الطريق: أنا لا أريد أن أبدأ الحديث يا باسمة؛ فإني أخشى أن أزل، فأنا رجل صناعته جمع الأرقام لا تزويق الكلام، ولكني عبدك وطوع يمينك، أمد يدي إليك مد الخادم يده لسيدته، لا مد الآمل إلى أمنيته، وأين أنا منك يا باسمة؟! أنا كلب باسط ذراعيه بالوصيد ليحرس سرا سماويا وملك وملكا أرضيا!! فأرسلت «باسمة» ابتسامة خفيفة اقتحمت طريقها من بين شفتيها العابستين، وقالت: إن الكلاب تعض أحيانا. - أنا كلب أليف أمين يا أميرتي. - ولكني أكره نباح الكلاب كلما رأت شخصا غريبا. - كلبك تكفيه الغمزة والإشارة، فلو رأى الدنيا كلها حولك، وأشرت إليه بإصبع لربض راضيا مغتبطا. - أنت لطيف يا إبراهيم!! - أنا لطيف ... لطيف جدا ... وسعيد ... سعيد جدا ... لأنني لطيف، أعلمت أن مؤامرتنا على عمارة اليمني نجحت؟! - نجحت!! إن جسمي لا يزال يلتهب من السياط!! ... فكر كما يفكر الناس يا إبراهيم لا كما يفكر الكلاب. - إن كنت كاذبا فلا أبقى الله لي رأسا ولا ذنبا ... لقد نجحت المؤامرة، أليس من أكبر آثارها أني أتحدث الآن إليك، وأن آمالي التي طفقت أكتمها في صدري سنين طوالا أخذت تطل برؤوسها؟! هلم إلى منزلي لنفكر في شئون الزواج. - قبل أن تفكر في هذا يجب أن أتحدث معك طويلا ...
دخلا منزل ابن دخان، حتى إذا استقرا في حجرة مطلة على الخليج، التفتت «باسمة» إليه وقالت: أرأيت كيف كان جزاء خدمة هؤلاء الفاطميين؟! انظر كيف بعنا أنفسنا لهم، وكيف عادينا الناس لأجلهم، وكيف تجسسنا، وكيف وقفنا خلف الأبواب نسترق الأحاديث، وكيف عرضنا أنفسنا للسم والقتل من أعدائهم؟! ثم انظر ماذا كان الجزاء الأوفى على هذه الخدم؟! ... كان أن نطرد ونجلد!! سحقا لهم ولدولتهم!! والله لأنتقمن منهم. - أنا طوع أمرك، فانظري ماذا تأمرين. - ثم هذه الصلفة المنتفخة سيدة القصور، التي تدعي حكمة سليمان، ومكر هامان، وأن فيها أسرار المعز، وسطوة الحاكم، والتي لا تعيش إلا لنصب الأشراك، ودس الدسائس، هؤلاء الفاطميون قتلوني بغرورهم وجنونهم، كأن الله لم ينشئ الكون إلا لهم، ولم يخلق الفضائل إلا انتظارا لقدومهم ... احتفالات ومهرجانات، وأعياد، وطبل وزمر: هذه هي دولتهم، وهذه هي ألاعيبهم التي يلهون بها العامة، ويشغلونهم عما يحيق بهم من الظلم، والعسف، واغتصاب الأموال، وإلا فمن أين هذه الجواهر المكدسة في القصر، وهذه الكومات من الذهب والفضة؟؟ ... ولقد بالغوا في المظاهر إلى حد البله، حتى لقد كدت والله أفضح نفسي، وقد ملكني الضحك حين أخذنا نلبس الخليفة الفائز شعار الخلافة ... تصور غلاما في الخامسة يلبس عمامة أبيه، وجبته وطيلسانه!! ... لقد ملأنا العمامة قطنا، حتى إذا وضعناها على رأسه مال عنق المسكين، ولم يطق لها حملا، فحملها أستاذ لتنوب يده عن رأس سيده، أما الجبة: فقد غرق البائس فيها، واختفى بين حليها وذهبها. لا ... لا ... إن دولة الباطل ساعة، وأرجو أن تكون قد دنت نهاية هذه الساعة. - لقد صورت ما في نفسي يا باسمة، فقد أصابنا من الفاطمية ومن سيدة القصور - بعد طول الخدمة وإخلاص النصح - ما لم يصب أحدا، ولكن الوقت لم يحن بعد لتسديد السهم. - هل رأيت زين الدين بن نجا؟ - لم أره منذ حين، وأظنه فر من مصر بعد أن زين الدين بمؤامرته على عمارة.
ثم مضت فترة من الزمن بني فيها ابن دخان بباسمة، ومضت فترة أخرى مات فيها الفائز، وقتل طلائع بن رزيك، وتولى ابنه مجد الإسلام، وهنا تيقظ نائم الأحقاد بصدر «باسمة»، فقالت لزوجها: أصدقت تلك الأكذوبة التي تشيعها العامة؟؟ وهي أن أنصار شاور بن مجير نقبوا جدار القصر وقتلوا طلائع؟! - هذا كلام يقال لغيري وغيرك، على الرغم من بكاء سيدة القصور عليه وطول عويلها؛ لأنها كما تقول العامة: «تقتل القتيل وتمشي في جنازته». - هذا لا شك فيه، وما أظن أن رزيك بن طلائع صدقها، ولكنه جبان جشع، اكتفى بمكان أبيه من الوزارة ثمنا لرأسه، وسيبقى ألعوبة في يد سيدة القصور ورجال القصر؛ لأنه خائر العزم، ضعيف النفس، ليس فيه صفة من صفات أبيه، التي كبحت جماح الأميرة، وكسرت شوكتها، وألزمتها حدها، وستتركه سيدة القصور قليلا، حتى تحين الفرصة لاغتياله، واغتيال أهله وأنصاره، وحينئذ تستقل بالملك والخلافة، وتعيد - كما كررت على سمعي كثيرا - أيام الحاكم بأمر الله. - إني أنظر بعيني، فلا أرى بين كبار قوادنا من يستطيع أن يكون ندا لهذه المرأة الجبارة، فقد قتل طلائع بن رزيك جميع منافسيه ليخلو له الجو، وكأنما قتلهم ليخليه لها!! - نعم، قتلهم جميعا إلا واحدا، وهو شاور بن مجير والي قوص، وقد كنت صديقة له في القصر، أو كما كان يسميني وكيلته، أو كما كان يقول الناس جاسوسة له، وشاور رجل شجاع قاس، طماح كثير الأتباع والأنصار، فلماذا لا ندفعه إلى اهتبال الفرصة، والقدوم بجيشه إلى القاهرة لاستئصال أبناء رزيك، وقتل الخليفة وسيدة القصور، والجلوس على عرش الخلافة؟! - يا حبذا لو صحت الأحلام!! إذا سيكون لك ولي المقام الأول في القصر.
استمرت هذه الفكرة تدور في رأسيهما أياما، حتى إذا اختمرت غادرا دارهما بالقاهرة، وخرجا إلى الفسطاط مع بعض الخدم، واستأجرا سفينة إلى قوص.
Bilinmeyen sayfa