وإن جل شكر فالنوال جسيم
لئن عرضت للفائز الطهر نقلة
فأنت أمير المؤمنين مقيم
وإن سلبتنا جنة الخلد قربه
فقربك منا جنة ونعيم
ثم عدد مآثر الفاطمية والفاطميين، فأجاد وحلق.
وبعد أيام ذهب عمارة للقاء سيدة القصور، فرآها في حزن مقعد مقيم، فأخذ يعزيها في الفائز، ويهدئ من ثورة حزنها، فقالت: والله ما على الفائز أبكي يا عمارة، وإنما أبكي على دولتنا؛ لأنني منذ تولية العاضد وأنا أشعر شعورا غريبا لا أعرف كنهه بأنه سيكون آخر خلفائنا، وقد كنت أبيت أن ألقبه بالعاضد، ولكن هذا الأرمني ابن رزيك أبى إلا هذا اللقب ... أتدري أنني لشدة ضيقي بهذا الأمر، ولخفاء سببه علي ذهبت إلى خزانة الكتب بالقصر؛ لأبحث في الأوراق القديمة الخاصة بدولتنا، فعثرت على ورقة كان طلب جدي المعز من قاضي مصر إذ ذاك - أبي طاهر محمد بن أحمد - أن يكتب له فيها ألقابا يلقب من يأتي بعده من الخلفاء، فكتب القاضي له ألقابا كثيرة، وكان لقب العاضد آخر هذه الألقاب؟! فحزنت حينما رأيت الورقة، وعلمت السر في تطيري ... إن روح الإنسان يا عمارة تلتقط الغيب أحيانا، وكثيرا ما يسر الإنسان بغير سبب ظاهر، فتفد عليه أسباب السرور، وكثيرا ما يحزن كذلك، فيلتقي بما يحزنه في الطريق ... قاتل الله هذا الإنسان! ... لقد وضعه الله في برزخ من الآلام: فلا هو من البهائم؛ فيعيش في ظلام الجهل هانئا، ولا هو من الملائكة؛ فيعيش في صفاء من النور سعيدا. - هذه أوهام يا مولاتي، وإن الخلافة بك وبالمخلصين من أنصارك في حصن حصين. - أرجو أن يكون الأمر كما تقول!! آه!! ليتني كنت رجلا!! ... إن القدر أحيانا يضع نفوسا في غير أجسامها، ويهب السيف لغير حامله ... علمت أن ابن رزيك في هذه الأيام يتبجح بالعظمة، ويكثر من الأعوان، ويلوي لحيته إلى أنفه ليشم رائحة الخلافة، وخير له أن يرعوي ويزدجر، فإن دمالج سيدة القصور أقوى من رماحه وسيوفه، وإن سيدة القصور لا تحارب بالرجال، وإنما تحارب بجيش من الآراء، يأخذ أعداءها بغتة وهم لا يشعرون ... آه!! أريد أن أكون رجلا؛ لأبرز لهؤلاء القوم من وراء الستار ... ثم تضحك وتقول: ما هذا الجنون الذي أصابني؟! وهل أجد رجلا كابن رزيك بين رجال دولتي؟! إنه الملك الصالح!! ... إنه أبو الغارات!! ... إنه ناصر الفاطمية بيده ولسانه وجنده!! ... حقا إن النساء ناقصات عقل ناقصات دين، ولأمر ما حرمت المرأة النبوة والإمامة والقضاء.
أما عمارة: فإنه يتحير في أسباب اضطرابها وتناقضها، وتلويحها باسم ابن رزيك مرة بالسخط، ومرة بالرضا، فيستأذن وينصرف.
ثم يأتي شهر رمضان سنة ست وخمسين وخمسمائة، فتحتفل القاهرة باستقباله، وتظهر المدينة بالليل كأنها شعلة من نور؛ لكثرة ما يسرج فيها من المصابيح التي تعلق فوق المآذن والدور والحوانيت، وفي كل مكان، ونشاهد في القصر حركة غريبة، ونجد سيدة القصور في شغل شاغل، ونرى اجتماعات كثيرة تقام في سراديب القصر، تحضرها الأميرة، ومؤتمن الخلافة، وابن قوام الدولة صاحب الباب، والأستاذ المحنك عنبر الربعي، وفي أحد هذه الاجتماعات أخذت الأميرة تعدد سيئات ابن رزيك، وتذكر مطامعه في الدولة، وتهول فيما أصاب الخلافة من الضعف في أيامه، وأنه يضعفها قصدا ليلتهمها، فقال مؤتمن الخلافة: إن الخلافة ضاعت هيبتها منذ أن سيطر عليها بدر الجمالي الأرمني في أيام المستنصر، وقد زاد ضعفها بهذا الأرمني الجديد المتبجح، الذي يلقب نفسه بالملك الصالح. وقال ابن قوام الدولة: إن مظالمه عمت مصر جميعها، حتى أصبح المصريون يتمنون موته. فقالت سيدة القصور: وكيف نستريح من شره؟؟ - إنه يزور القصر في كل ليلة بعد العشاء الآخرة، وهو يدخل من باب العبيد إلى الدهليز الموصل إلى قاعة الفضة، حيث يجلس الخليفة في رمضان، وإني سأخلي الدهليز ليلة غد من المارة قرب وصوله، ثم إن بالدهليز خزانة يمكن الأجناد أن يختفوا بها مع رئيسهم ابن الراعي، فإذا مر ابن رزيك شغلته ببعض الحديث، وأصابتني نوبة سعال يسمعها الجند في الخزانة، فينقضون عليه بسيوفهم.
فقال عنبر الربعي: هذا حسن ... ولكن أترون أن أتباعه وجنوده لا يثورون إذا علموا بقتله؟!
Bilinmeyen sayfa