بعد أن انتهيت من ذلك التفكير ابتسمت مرة أخرى ابتسامة مملوءة بالثقة والأمل من عطف الله وعونه، ثم مسكت معطفي الصغير ولففت به وجهي حتى أقي نفسي من حرارة الشمس ومن أنظار المراقبين، ثم بقيت منتظرا ما يقدره لي ربي وأنا على ثقة تامة في الخير. بعد مرور الظهر بقليل سمعت صوتا خفيفا، فرفعت رأسي ونظرت من خلال الأحجار المترامية فصدق ظني؛ حيث عرفت أن القادم هو حامد الذي أقبل إلي بابتسامة الصديق المخلص قائلا لي: «اسعد حالا وأبشر؛ فقد وجدنا الأصدقاء المعنيين لمرافقتك.» فطرت فرحا عندما سمعت هذا القول، وتيقنت أن نجم سعدي قد تجلى في الأفق مرة أخرى.
عندما أقبل حامد جلس خارج الكومة الحجرية، ثم قال: «تستطيع أن تفرج عن نفسك الآن وتخرج من مغارتك الضيقة هذه؛ لأني عينت لك مراقبين في الجهات المجاورة ينقلون إلينا كل ما يحدث حولنا، فلا تخش شيئا لأن صاحبنا زكي وجد الرفاق الجدد الثلاثة، وقد حضر الآن واحد منهم إلينا ليعرف مكان إقامتنا، وهم جميعا على استعداد وسيحضرون إلينا ماء، ولكني أحذرك أشد الحذر وأنصح لك بالابتعاد عن كل ما يريب؛ لأن هروبك من أم درمان أصبح معروفا في المنطقة التي نحن فيها، فتعال معي الآن أو انتظر حتى يحين الليل. وعلى أي حال فأنا ذاهب الآن، فهل تستطيع معرفة الطريق بمفردك؟ وهل ترغب في عودتي إليك لآخذك معي؟»
فأجبته: «لا داعي إلى عودتك مرة أخرى لأني أعرف الطريق، وسألتقي بك في المساء.»
عندما غربت الشمس حملت بندقيتي وقربة الماء على ظهري، وتركت البقعة التي مرت بمخيلتي فيها تذكارات مؤلمة وآمال كبار. وعندما وصلت إلى الرفاق الجدد وجدت اثنين منهم فرأيتهما غريبين عني رغم بقائي السنين الطوال في السودان بين أبنائها.
حياني ذانك الرجلان وقالا لي: «قد أرسلنا إليك صديقك أحمد واد عبد الله، ونحن من قبيلة جهيماب، وسنسير إلى النهر حيث يصل إلينا أحمد واد عبد الله نفسه لمساعدتك في اجتياز النهر، وستكون الجمال على انتظارنا في الشاطئ الثاني من النهر لتعبر بنا النهر، والآن فلتودع صديقيك القديمين لأن مهمتهما قد انتهت.» سلمت بعد ذلك على صديقي المخلصين الحميمين حامد وزكي، وشكرت لهما إخلاصهما بكلمات خارجة من أعماق القلب، ثم قلت لهما: «أودعكما وكلي ثقة في الالتقاء بكما في وقت سعيد؛ هو وقت السلم والأمن.»
أخذنا (أنا والرفيقان الجديدان) جملين وتركنا الثالث للصديقين القديمين، فارتقيت إلى ظهر الجمل وركب خلفي أحد الصديقين الجديدين.
سألت هذا الجديد: «ما اسمك؟» فأجابني قائلا: «يدعوني الناس باسم محمد، وأما اسم صديقي فإسحاق.» سألته بعدئذ: «هل تجتاز معي الصحراء يا محمد؟» فأجابني بقوله: «لا يا سيدي؛ فهناك من كلفوا بتلك المهمة. وعلى أية حال، فالخير في أن يسير الجمل سيرا بطيئا، ويحسن بك أن تغطي وجهك على الرغم من الظلام الشديد؛ فقد وردت أوامر من بربر من ثلاثة أيام بمراقبة الطرق مراقبة دقيقة، ووضعت الطرقات المائية تحت مراقبة شديدة أخرى. ومهما يكن الأمر، فلا خوف عليك من بلدنا.»
بعد أن سرنا بجملينا ما يقرب من ساعتين في طريق شرقية شمالية بانحدار شرقي، وصلنا إلى النهر، وتمكنا قبل نزول النهر من سماع أصوات الآلات المائية وكلام وضحك العبيد وزوجاتهم.
عندما وصلنا إلى كومة صغيرة من أوراق الأشجار همس محمد في أذني: «ادع الجمل للبروك ببطء ورفق حتى لا يصدر منه صوت يلفت الأنظار.»
برك الجملان على الأرض ولم يصدر منهما صوت على الإطلاق، وقد تركني الاثنان على أن يعودا مع أحمد، فبقيت منفردا في الظلام الحالك واستمررت على ذلك نحوا من ساعة، وأخيرا رأيت أربعة رجال قادمين، فأسرع أطولهم نحوي وضمني إلى صدره وعانقني طويلا قائلا لي في صوت خافت: «أنا أخوك أحمد عبد الله من قبيلة جهيماب، وأول ما أطلبه منك هو أن تصدق قولي، وهو أنك بحمد الله ناج من كل خطر، وأما أنتما يا محمد ويا إسحاق فأخليا السرجين عن ظهري الجملين في رفق وتؤدة، ولا تسمعا أحدا من الناس صوتا، ثم انفخا القربتين الفارغتين واربطاهما حول رقبتي الجملين، ثم اعبرا النهر من شاطئه في نقط ومواضع مختلفة، ثم انتظرا أوامري غدا على مقربة من دار «مقاتلة الثيران».»
Bilinmeyen sayfa