أما قرابة هذه فعبارة عن نجد رملي التربة، مغطاة أرضه بحجارة سوداء تختلف في حجومها من القطعة المماثلة لقبضة الرجل إلى القطعة المماثلة لرأسه. ومما تمتاز به تلك الحجارة في الأرض المذكورة أنها قائمة في صفوف منتظمة، يخيل لمن يشاهدها أن أفرادا عنوا برصفها على ذلك النسق البديع. وإلى جانب الحجارة توجد صخور فردية، يبتعد كل منها عن الآخر مسافة تكاد تكون واحدة في جميع الصخور، ولا شك في أن الجمال تعجز عن السير بسرعة في مثل ذلك الخط الحجري الصخري؛ وذلك مما يساعدنا في خطتنا ومما نعده توفيقا جديدا لنا بعثه الله لتسهيل نجاتنا.
قبل أن تغرب الشمس ظهر لنا من بعيد ذلك النيل السعيد بمياهه العذبة، فكان موقعه بين الأراضي المتجاورة شبيها بالخط الفضي اللامع وسط البقعة المعدنية بما فيها من ألوان قائمة وخضراء ورملية.
تدرجنا من أعلى النجد في طريق ملتوية يزيدها وعورة ظلام الليل، وما زلنا في سيرنا البطيء على الجمال حتى وصلنا إلى واد قائم بين تلال حجرية. وبعد وصولنا توقفنا لإراحة جمالنا التي أنزلنا السرج عنها، وكنا راغبين في السير على الأقدام ما يقرب من ساعتين حتى نصل إلى شاطئ النهر.
جلس حامد وزكي على الأرض بعد إنزال السروج عن الجمال الثلاثة، وأخذا في عملية أكل البلح بذمة وأمانة، وبينما هما يأكلان قالا لي معا: «قربنا إلى الغاية التي سعينا إليها منذ فكرنا في الهروب، فانتظر هنا مع الجمال الثلاثة لأنا (حامد وزكي) سنذهب إلى بقعة مجاورة للنهر نعرفها جيدا، وفي تلك البقعة ستلتقي بأصدقائك الذين سيسهلون لك بقية رحلة النجاة.» تركني الصديقان وبقيت وحدي متأملا في المستقبل. وقد مرت أمام مخيلتي في تلك الأثناء صور أفراد أسرتي وصورة مجسمة لوطني العزيز، وبعد أن تعبت من التفكير انطرحت بجسمي المنهوك القوى على الأرض فنمت ولم أستيقظ إلا قبل نصف الليل، فلم أجد أحدا من الصديقين (حامد وزكي)، فداخلتني الوساوس وتأكدت أن عدم حضورهما سيحول دون عبوري النهر في الفرصة الملائمة ليلا. وعلى أي حال، صبرت حتى سمعت قبل الفجر بساعتين وقع أقدام، فتبينت القادم فعرفت أنه حامد.
سألت حامدا عن الأخبار في حالة فزع وقلق فأجابني بما جلب لي اليأس قائلا: «لا شيء مطلقا، فإنا لم نتمكن من العثور على أصدقائك في المكان المعين فرجعت إليك؛ لأنك لا تستطيع البقاء هنا بمفردك بعد بزوغ الفجر؛ لأنك قريب جدا من مساكن الآدميين، فليس بدعا أن تقع عليك أنظار الرقباء؛ ولذلك عدت بعد أن تركت صديقي زكي للبحث عن أصدقائك الجدد الذين سيسهلون لك مهمتك الجديدة النيلية، فاحمل القربة المائية وجراب البلح على كتفك؛ لأني من التعب بمكان لا أستطيع معه حمل شيء أكثر من جسمي الذي تحمله قدماي. واعلم أنه يتحتم علينا الرجوع إلى قرابة؛ حيث تظل هناك إلى انتصاف النهار مختفيا بين الأحجار والصخور.»
أصغيت إلى أوامر حامد ونفذتها، فوصلت إلى النجد بعد مسير ساعة مع حامد. وبعد أن سرنا مسافة أخرى في الظلام، وقف حامد فجأة وقال لي: «قف هنا واصنع حلقة من الأحجار كتلك التي يصنعها رعاة الجمال في الشتاء لوقاية أنفسهم من البرد الشديد، وبعد الانتهاء من صنع تلك الحلقة نم في جوانبها الداخلية، وإني مسرور لأنك متين في صنعها الآن، حتى إنك تكاد تكون عربيا كأنك واحد منا نحن عرب السودان، وأؤكد أني سأحضر إليك في المساء لأرى الحال التي أنت عليها، وأما الآن فسأرجع إلى الجمال، فلا تخف ولا ترتب في أي شخص قد يراك؛ لأن رجال الناحية التي أنت فيها يعرفونني جيدا، فإذا سألني أحدهم أي سؤال أجبته بأني حضرت من شيفية لمشاهدة بعض المقيمين هنا، ومن حسن حظي وجود بعض أقارب لي في هذه الناحية.»
رجع حامد إلى الجمال وبقيت أنا وحدي في بقعة منعزلة مخيفة المنظر.
أقمت الدائرة الحجرية، وكان ارتفاعها نصف متر، ولم أجعل في الداخل مكانا لغير جسمي وقربتي وبندقيتي. فلم يكد يشتد وضح النهار حتى انسحبت إلى مغارتي الصغيرة، وحفرت في أرضها الرملية بقعة عميقة تمكنت فيها من إلقاء ظهري ومد جسمي بحيث لم يرني أحد، وفي ذلك الوقت تدفقت إلى رأسي ذكريات الماضي وآمال المستقبل، وفكرت بصفة خاصة في الماضي القريب؛ حيث غضب الخليفة عبد الله، ونقمته الشديدة علي بعد هروبي. ولم يخفف عني الفزع في ذلك التصور سوى مرور صور أحبائي وأقربائي بمخيلتي في الوقت نفسه. وما زلت أعلل النفس بالآمال والأماني رغم اشتداد العقبات وخطورة الموقف، ولكني بعد ذلك وجمت فساءلت نفسي عن التغيير الذي حدا بي إلى مظهر الخوف الجديد، وعن الداعي إلى عدم تمسكي بمبدأ الصبر. ومهما يكن الأمر، فإني كنت في أشد أوقات الخطر بعيدا عن الاستسلام الكلي للقنوط، كما كنت منذ غادرت أم درمان واثقا في حظي الحسن وتوفيق الله إياي، إلا أن ذلك لم يمنع شعوري اليوم شعورا خاصا بالخوف، وقد يرجع ذلك إلى الشبه القائم بين مغارتي الصغيرة هذه وبين القبر الذي قد يضمني في القريب العاجل. أعود فأقول: «إن القبر مصير كل حي، وإن الناس بالغين من أعمارهم ما بلغوا سيصلون إلى القبور التي ضمت آباءهم وأجدادهم من قبل، فسواء أطال عمر الإنسان أم قصر، فإنه لن يصل في النهاية إلى غير تلك الحفرة الضيقة؛ وإذن سأموت كما مات الناس ويموتون. ولكن الصعوبة في شيء واحد إذا مت هنا، وذلك موتي منبوذا مهجورا غير مودع أعزائي وأقربائي، فيا ساكن السماء ومسير الفلك الدوار لا تتخل عني، وكن رحيما بعبدك في ذلك القفر الموحش، فارحم اللهم عبدك الأثيم، ولا تعاقبني على ذنوبي؛ فقد طلبت الغفران من جلالك وأنت الواسع الغفران. اللهم ارحمني، والطف بي، واسمح لي بمشاهدة أصدقائي وأعزائي والرجوع إلى وطني العزيز مرة أخرى قبل موتي!»
بعد أن ناجيت الماضي وذكرت آمال المستقبل، التزمت الصمت مرة أخرى. وفي نهاية الأمر فكرت في الأمر - على الرغم من تأخير صاحبي - فانتهيت إلى أن الذي أنقذني في بداية رحلة النجاة قادر على إنقاذي في الختام.
مرت بمخيلتي الآمال، فذكرت أني سأعبر النهر هذه الليلة، ثم أجتاز الطريق وأصل إلى الصحراء غدا، وفي مدى يومين أو ثلاثة سأجتاز كل خطر، وأصبح في أمن كلي بحيث أستطيع الإسراع بملاقاة من تمنيت السنين الطوال أن أحظى بهم في خير.
Bilinmeyen sayfa