قضى بضعة أيام مختبئا في بعض المنازل حتى علم ما كان من عاقبة رفاقه المتآمرين وكيف قضي عليهم بالصلب، فيئس من مصر ورجالها. ولكن مطامعه ما زالت تريه المحال ممكنا - والمرء إذا رغب في شيء وإن كان بعيدا فإن رغبته فيه تريه إياه قريبا - فأعمل فكرته في سبيل آخر يسعى فيه للانتقام من سيدة الملك. وقد علم في أثناء تربصه أنها هي التي استعانت بخادمه جوهر على كشف أمرهم، فازداد حنقا عليها، وخطر له بعد التفكير أن يستعين بالسلطان نور الدين صاحب الشام. يحمل إليه أسرارا هو مطلع عليها تتعلق برغبة صلاح الدين في الاستقلال بمصر وما صرح به ضد نور الدين. فيشي به إلى نور الدين لكي يحمله على محاربته وإخراجه من مصر عنوة. وأن يشهد هو ذلك الفتح فيجعل غنيمته منه سيدة الملك، واستسهل كل صعب في هذا السبيل ورآه قريب المنال.
فلما اقتنع بصحة رأيه احتال في الفرار من مصر طالبا دمشق الشام، وواصل المسير وجد فيه، فوصل إلى دمشق متنكرا بثوب تاجر مصري، ونزل في أحد خاناتها على مقربة من القلعة وهي يومئذ مقر السلطان نور الدين. ودمشق زاهية بذلك السلطان العظيم وأهلها فرحون بما ناله من الانتصارات المتوالية على الإفرنج في مواضع مختلفة من بلاد الشام. لكنه لم يكد يستقر به الجلوس في الخان حتى سمع لغط القوم بانحراف صحة السلطان منذ أيام وقلق الناس على حياته؛ لأنه أصيب بالخوانيق. فأخذ أبو الحسن يفكر في وسيلة يتصل بها إلى مجالسته والمداولة معه في أمر مصر .
وسأل عن طبيبه الخاص فعلم أنه الرحبي وهو من حذاق الأطباء وكانت له به معرفة. فسار إليه فوجده في منزله فاستقبله الطبيب أحسن استقبال، وكان قد لقيه بمصر وعرف منزلته من الخليفة العاضد، فسأله أبو الحسن عن حال السلطان فقال: «إنه مصاب بالخوانيق، وقد اشتد عليه المرض لأنه أبى الفصد.» فأظهر أسفه وقال: «ألا يتيسر لي ملاقاته لعلي أقنعه بالفصد. ولي معه حديث إذا أطلعته عليه سري عنه.»
فرأى الطبيب أن يستعين به على ذلك، وهو مطلع على قلق السلطان نور الدين من جهة مصر، فظنه يرغب في استقبال أبي الحسن لعله يستطلع منه أمرا جديدا فيأذن في مقابلته ولو كان مريضا، فاستمهله الطبيب إلى صباح اليوم التالي.
وجاء الرحبي في الصباح فقال له: «إن مولانا السلطان أحسن حالا الآن وقد ذكرتك له فأحب أن يراك.»
ففرح أبو الحسن بذلك، وركب مع الطبيب إلى القلعة. وكان السلطان مقيما في غرفة من غرفها أصابه المرض وهو فيها فبقي هناك. فدخل الطبيب أولا واستأذن لأبي الحسن، فأذن له، ودخل وهو يتلطف في التحية والاحترام. وكان قد عرف السلطان من قبل واجتمع به غير مرة، وعهده به قوي البنية مشرق الوجه، فرآه قد تغيرت حاله. وكان السلطان نور الدين أسمر طويل القامة ليس له لحية إلا تحت فمه، وكان واسع الجبهة حسن الصورة حلو العينين، ولكن المرض ذهب بلمعانهما، وقد امتقع لونه، فلما رأى أبا الحسن داخلا ابتسم على عادته في المجاملة. فأكب أبو الحسن على يده كأنه يريد تقبيلها، فامتنع نور الدين عن ذلك وأشار إليه أن يقعد. ولم يكن في تلك الغرفة شيء من الرياش؛ لأنها ليست القاعة التي يقابل الناس فيها وإنما اتفق وجوده هناك عند الإصابة.
جلس أبو الحسن على وسادة وقال: «كيف مولانا اليوم؟ أرجو أن يكون في صحة لأن سلامته سلامة الدولة، وفي شفائه شفاء الإسلام. وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليه بقدومي.»
فقال نور الدين وصوته ضعيف من الخوانيق: «الحمد لله على كل حال، وأما قدومك فقد سرني لعلمي أنك قادم من مصر، وفيها حبيبنا ووزيرنا الملك الناصر كيف فارقته؟»
فلما سمعه يلقب صلاح الدين بالحبيب تشاءم، لكنه عزم على المراوغة فقال: «هو في خير بظل مولانا السلطان الملك العادل.»
قال: «كيف فارقت مصر؟» قال: «فارقتها وأهلها يتشوقون إلى طلعة مولانا السلطان - أعزه الله - ويتمنون أنه لو شرفهم بالزيارة ليرى مملكته الجديدة.»
Bilinmeyen sayfa