فقطعت سيدة الملك كلامها قائلة: «لا تقولي شيئا عن عماد الدين، إنه عندي فوق الخلفاء والسلاطين، صدقت إن الحب يفعل كثيرا ... والآن أين ذلك الرسول؟ دعيه يدخل.»
فخرجت ياقوتة وعادت بعد قليل ومعها شاب في زي أهل بيت المقدس الذي يلبسونه في الأسفار، حول رأسه الكوفية كالخمار وقد ارتدى السروال القصير وحول خصره منطقة عريضة من الجلد غرس في مقدمتها خنجرا صغيرا، ولف حول ساقيه لفافة من النسيج تسهل عليه المشي السريع.
فلما دخل وقف متهيبا متأدبا، فأرسلت سيدة الملك خمارها ورحبت به قائلة: «ما اسمك يا غلام؟» قال: «اسمي جرجس.» قالت: «أنت مسيحي إذن؟» قال: «نعم يا سيدتي.» قالت: «من أين أنت آت؟» قال: «جئت من بيت المقدس برسالة إلى السلطان صلاح الدين وقد أديتها بالأمس، ولكن صاحب تلك الرسالة أسر إلي أمرا خاصا كلفني به يتعلق بسيدة الملك.»
قالت: «وما هو ذلك الأمر؟ أنت بين يدي سيدة الملك الآن؟»
فأطرق احتراما وقال: «أيتكما هي؟»
فتقدمت ياقوتة وقالت وهي تشير إلى سيدتها: «هذه مولاتنا سيدة الملك، قل ما عندك. وأرجو أن تكون صادقا فيما تقول.»
قال: «وما الذي يحملني على الوقوف بين يديها إن لم أكن صادقا في مهمتي، خصوصا أن الأمر الذي جئت به سر لم يطلع عليه أحد سواي.»
قالت ياقوتة: «صدقت يا شاب، بارك الله فيك.» ورأت أن تتولى هي السؤال عن عماد الدين فقالت: «كيف فارقت عماد الدين؟» قال: «لم يبق اسمه عماد الدين يا سيدتي، بل هو يسمى عبد الجبار.» قالت: «ونعم الاسم. كيف عرفته؟ ومن عهد إليك في هذه المهمة؟»
قال: «عرفته في أحرج المواقف، وما لبثت أن تعشقت أخلاقه وصرت أفديه بروحي، إنه شاب نادر المثال بالمروءة والحمية.»
ولما سمعت سيدة الملك إطراءه أشرق وجهها وخفق قلبها وتطاولت لتسمع بقية الحديث. أما ياقوتة فأجابته وهي تظهر السذاجة قائلة: «أمر غريب يظهر أنك عاشق له، قل كيف وقع ذلك، وما هي المهمة التي جئت بها؟» فقال: «كان عماد الدين مارا ببيت المقدس في طريقه إلى نواحي حلب في أمر لا أعلمه، فقبض عليه الإفرنج خداعا وسجنوه. وكنت أنا مسجونا مثله فتعارفنا في السجن، فرأيت فيه أخلاق الملوك، وتجاذب قلبانا فأحببته وأخلص لي وتكاشفنا في أمور كثيرة، فلم يذكر لي شيئا يتعلق بسيدة الملك، ثم أتيح لي الخروج من السجن وتقربت من صاحب بيت المقدس الإفرنجي، وأصبح همي إنقاذ صديقي من السجن، فلم يسعدني الحظ بعد. لكنني كنت أتردد عليه دائما وأتفقده بما يخفف عنه. وسمعنا في أثناء ذلك بما حدث هنا من موت الإمام - رحمه الله - وتغيير الأحوال وإنزال أهل الخليفة في هذا القصر بالإكرام، وكنت أقص عليه كل ما أعلمه وفي جملة ذلك المؤامرة التي تعلمينها، وقد بعثني صاحب بيت المقدس دليلا للوفد الذي جاء لتقديم الهدايا، وجئت لوداع صديقي فكلفني بإيصال كتاب إلى السلطان صلاح الدين. ثم أسر إلي أن أبحث عن سيدة الملك وأطمئنه على حالها، وها إني بين يديها.»
Bilinmeyen sayfa