ووجه قراقوش التفاتة خصوصا إلى أبي الحسن فلم يجده بين المقبوض عليهم، فظنهم أخرجوه إلى خارج القاعة. ولما أيقن بفوز رجاله بالقبض على المتآمرين أشار إلى جوهر بالنزول للرجوع إلى القاهرة. فنزل بين يديه بالمصباح وقراقوش يتبعه ولم تطأ رجله السقيفة حتى سمع وقع أقدام مسرعة في أرض البيت فأجفل، وتفرس قراقوش على النور الضعيف فرأى شبحا بالعمامة والجبة فلم يعرفه، فقال له جوهر همسا: «هذا أبو الحسن هلم إليه.» فبادر إلى إطفاء المصباح حتى لا يعرف مكانه وأسرع في النزول ليقبض على أبي الحسن وهو يحسبه دخل هذا المنزل بتواطؤ سابق مع صاحبه لمثل هذه الساعة على أن يبيت ليلته ثم يفر في الصباح.
نزلا إلى أرض البيت وجوهر يقود قراقوش؛ لأنه يعرف مداخل المكان وأصاخا فلم يسمعا خطوا ولا صوتا كأن ذلك الشبح كان ظلا وزال، فأراد قراقوش أن ينير المصباح، فأشار إلى جوهر أن يفعل واستل خنجره وتهيأ للهجوم على من يظهر أمامه. ولم يكد جوهر يبدأ بالإشعال حتى سمعا باب الدار فركضا إليه فوجدا الباب مفتوحا وليس هناك أحد، فأضاء المصباح وأخذا في البحث عن أبي الحسن في كل مكان فلم يجداه، فتأكدا أنه نجا، وقال قراقوش: «هل أنت متأكد يا جوهر أنه أبو الحسن؟» قال: «يغلب على ظني يا سيدي أنه هو، ومع ذلك فقد يكون سواه، هلم بنا للبحث عنه في الأماكن المجاورة، فإذا لم نجده فلعله في جملة المقبوض عليهم، وإلا فإنه قد نجا، قبحه الله.»
فخرجا وركب قراقوش بغلته وأخذا في البحث عنه في تلك الدار وما يجاورها فلم يقفا له على أثر، فذهبا إلى القاهرة وبهاء الدين يخاف أن يكون أبو الحسن قد نجا وكان خوفه في محله.
أما سائر المقبوض عليهم من المتآمرين فحكم عليهم بالصلب وفي مقدمتهم عمارة اليمني المتقدم ذكره، فصلبوه في 2 رمضان سنة 569ه، وارتاح بال صلاح الدين من هؤلاء، لكنه ما زال يفكر في أبي الحسن سبب تلك الدسائس.
أما سيدة الملك فإنها في اليوم التالي للقبض على المتآمرين كلفت ياقوتة بالبحث عما تم. فلما أنبأتها بالقبض عليهم فرحت، لكن ساءها فرار أبي الحسن وهو مصدر متاعبها. وتعلم أنه لا يبالي ماذا يفعل في سبيل غرضه، لا يرعى ذمة ولا يتجنب حراما، فنظرت إلى ياقوتة قائلة: «إن صلاح الدين قد فاز بما يريد.»
فقالت ياقوتة: «إن نجاة ذلك الخائن كدرتني كثيرا، ولكن ما العمل؟ لا بد أن يرجع كيده في نحره لأن الله غريمه، ولم يعد يهمنا أمره ونحن في حياطة صلاح الدين. والآن جئتك بشيء يعزيك على هذه المصيبة.»
فبغتت سيدة الملك وقد أصبحت تبغت كل جديد تتوقعه لفرط قلقها على عماد الدين فقالت: «ما وراءك؟» فضحكت وقالت: «إني عاتبة عليك بالنيابة عن عماد الدين، كيف تعلمين بمجيء رسول من عنده رآه قبل سفره وخاطبه وعلمنا من كتابه أنه سجين ولا تسألين عن ذلك الرسول لكي تستزيديه إيضاحا أو تحمليه رسالة؟» فتنهدت سيدة الملك وقالت: «آه يا ياقوتة، قد أقلقتك بكثرة الأسئلة، هل تتوهمين أني غفلت عن هذا الفكر؟ إن رسول عماد الدين يؤنسني إذا رأيته، وكنت عازمة على استدعائه أين هو؟» قالت: «أخبرني بهاء الدين الآن أن ذلك الرسول يطلب أن يراك وأن عماد الدين كلفه بذلك.»
فتوردت وجنتاها وقد أخذها الفرح ولم تتمالك أن صاحت: «عماد الدين كلفه أن يراني؟! الحمد لله إنه يفكر في، هو إذن يحبني!»
ثم تراجعت وقد ندمت على تلك اللهفة وخجلت وأدارت وجهها إلى حائط عليه ستارة موشاة بالألوان الجميلة تشاغلت بالنظر إليها.
فقالت ياقوتة بصوت ضعيف: «يا لله من الحب! كيف يجعل سيدة الملك سلالة الخلفاء ونزيلة السلاطين يستخفها الفرج إذا سأل عنها شاب من ...»
Bilinmeyen sayfa