وأخذ قراقوش يتفرس في الحضور ليعرفهم عند الحاجة. وإذا هو بأبي الحسن أشار بيده يطلب الإصغاء فأنصتوا فقال: «أبشركم أيها الأمراء أن أعمالنا تكللت بالنجاح، وجاء وفد الإفرنج في هذا الصباح يحمل الهدايا إلى ذلك الكردي، وقد فرح بالهدية وفاته ما وراءها، وجاءتنا كتب أصحابنا في ساحل الشام بأنهم على أهبة الرحيل عند أول إشارة، فأبشروا بنيل المراد.»
فتصدى عمارة اليمني وهو شاعر مشهور ووجه نظره إلى القاضي العويرس وداعي الدعاة وهما من أصحاب المناصب الرفيعة في الدولة وقال: «إن مولانا الشريف أبا الحسن أهل لما بايعناه من الخلافة لنسبه الشريف؛ ولأن مولانا الإمام المرحوم قد أوصى له بولاية العهد كما سمعتم ذلك من الجليس الشريف قبل الآن. فيجب أن نخلص له الطاعة لنعيد بناء هذه الدولة ورونقها، وكانت قد فسدت بمن دخل في أمورها من الأعاجم بسوء رأي المحيطين بالخليفة السابق، وهم الذين أشاروا عليه باستنجاد نور الدين صاحب الشام، فكان ذلك سببا في صيرورة الأمر إلى يوسف هذا (صلاح الدين)، ولكننا متى تم لنا ما دبرناه وقبضنا على أزمة الأمور صرنا نتجنب هذا الخطأ في المستقبل. ولا نولي المناصب إلا الذين نثق بإخلاصهم وتفانيهم في الدعوة العلوية من العرب، إننا عرب والقرآن عربي، فلا ينبغي أن نشرك في أمرنا غير العرب كما فعل غيرنا.»
فقال عبد الصمد الكاتب: «بارك الله فيك يا أخا اليمن، قد مضى زمن الضعف والحمد لله. إن خليفتنا هذا (وأشار إلى أبي الحسن) جمع بين الحزم والدهاء، ووزيرنا هذا (وأشار إلى العويرس) لا مثيل له في أصالة الرأي و...»
فقطع كلامه رجل كان جالسا منذ ساعة لا يتكلم كأنه يفكر في أمر مهم لا يلتفت إلى ما يدور بينهم، فلما سمع كلام عبد الصمد بشأن الوزارة رفع رأسه وقال: «إن الوزارة لم يتم الاتفاق عليها بعد. وأنا مع احترامي للقاضي الأجل لا أرى له حقا في الوزارة، وإنما هي لسلالة الوزراء آل رزيك، فإنهم تولوها في عهد الأئمة السالفين ولهم عليها فضل، فلا يليق نقلها إلى سواهم.»
فتصدى رجل آخر كان نهض في أثناء ذلك وأخذ يهمس في أذن أبي الحسن وأبو الحسن يهز رأسه له هزة الرضا والاستحسان، فقطع كلام الرجل قائلا: «مهلا لا تتنازعوا على منصب هو حق لنا وكان في قبضتنا بالأمس.»
فضحك صاحب وزارة بني رزيك وقال: «تريد أن ترجع الوزارة لبني شاور؟ ألم تكن هذه المصائب كلها من وزارته؟ ألم يكن هو الذي أحرق هذه المدينة بسوء تدبيره؟ إن الوزارة لا تكون لغير آل رزيك ونحن أصحابها الأولون.»
فتكلم أبو الحسن وهو يبش ويتلطف وقال: «خففوا من غضبكم وارجعوا إلى صوابكم، لسنا الآن في معرض التنازع على المناصب، إنما نحن في الاتحاد على إخراج هذا العدو من بلادنا، ومتى أخرجناه نعمل ما يتفق عليه الرأي.»
فقال صاحب وزارة آل رزيك: «طبعا إن أبا الحسن لا يهمه البحث في المناصب الآن؛ لأنه ضمن لنفسه الخلافة بسبب نسبه في العبيديين ... ولم ينازعه أحد في صحة نسبه لأن الجليس الشريف شده بصحته بناء على ما سمعه من الإمام المرحوم.» وضحك ضحكة استخفاف. •••
وكان قراقوش مصغيا لما دار وقد شاهد كل حركة، وجوهر واقف بين يديه يتطاول ليرى ما يراه، فاكتفى قراقوش بما سمعه وشاهده والتفت إلى جوهر وقال بالإشارة: «أين المصباح؟ إلي به.»
فنزل جوهر على السقيفة وأتى بالمصباح، فتناوله قراقوش وصعد إلى مرتفع وأداره بيده بحركة رحوية كما اتفق مع رجال الفرقة. ثم نزل وأخفى المصباح وعاد إلى الكوة والقوم يتحاجون ويناقشون. وإذا بالضوضاء قد تعاظمت ولم تمض دقائق قليلة حتى صار رجال قراقوش داخل القاعة وأخذوا في القبض على من فيها. وليس فيهم من يستطيع دفاعا؛ لأنهم لم يكونوا قد أعدوا من وسائل الدفاع غير ألسنتهم وأصواتهم.
Bilinmeyen sayfa