قالت: «وهل كان النفوذ إليك قبله؟ ألم يكن الوزراء هم أصحاب النفوذ، وكلهم من الأجانب الأرمن أو الأتراك. وهذا كردي، وما الفرق بينهم؟»
فقال: «لكنه استبدل وغير وبدل و...»
فأحست أنها فازت عليه بالبرهان، فلم تصبر حتى يتم كلامه فقالت: «إذا كان قد استبد فإنما استبد في رفع الظلم عن الناس. كانت المكوس لا تحتمل فرفعها أو خففها. ألأجل ذلك تدس الدسائس عليه وتكيد المكايد لقتله؟ إن الساعين في ذلك هم طلاب السلطة. وهم يحسدون الرجل على مكانته، ولذلك يثيرون غضب أمير المؤمنين عليه. وإذا شاء أخي أن يعرف حقيقة منزلة هذا الكردي فليتذكر الطريقة التي استنجدنا بها سلطانه نور الدين. ألم ترسل شعورنا مع كتاب نور الدين تقول فيه: «هذه شعور نسائي في قصري يستعن بك لتنقذهن من الصليبيين؟» فالرجل لبى الطلب وأنجدك بأسد الدين وابن أخيه هذا يوسف صلاح الدين. هل يستنجد قائد بطريقة أذل من هذه؟ إن شعري لا يزال ينقص تلك الخصلة التي قطعتها منه.» قالت ذلك وجست ضفائرها كأنها تتحقق من ذلك. ثم عادت إلى الحديث فقالت: «ومع ذلك فقد اشترطنا لنور الدين أن نعطيه ثلث البلاد إقطاعا غير إقطاع رجاله. ولما أتوا وأنقذونا من الإفرنج نسينا جميلهم وصار وزيرك شاور يدافعهم ويماطلهم فقتلوه. ويشهد الله أن صلاح الدين أحسن قلبا وأشد إخلاصا لك من شاور هذا. لكننا لم نستفد من هذا الحادث فشجعنا الخصي مؤتمن الخلافة قيم هذه الدار على مناهضة صلاح الدين ورجاله حسدا منه. ألا يعلم مولاي وأخي ماذا فعل مؤتمن الخلافة؟ إنه اتفق مع جماعة من المصريين على مكاتبة الصليبيين ليتحد معهم على قتل صلاح الدين. فهل فعل ذلك غيرة عليك أو على الدولة؟ وبلغ خبره إلى صلاح الدين فقتله، فغضب خصيان القصر لمقتله لأنهم سود من جنسه فاجتمع منهم خمسون ألفا وناهضوا رجال صلاح الدين، والتقى الجيشان أمام هذا القصر ونحن فيه. لا أنسى هول ذلك اليوم ولا أنسى أمير المؤمنين يومئذ وقد جلس في المنظرة يشرف على المعركة، ويشجع العبيد. فاشتدت عزائمهم وخاف صلاح الدين أن تعود العائدة عليه وعلى رجاله، فأمر النفاطين أن يرموا قوارير النفط المشتعل على المنظرة وعلى القصر و...»
فقطع الخليفة كلامها قائلا: «ولكنني شجعت رجال صلاح الدين فأرسلت زعيم الخلافة يقول: «دونكم والكلاب العبيد أخرجوهم من بلادكم.» فامتنعوا عن إرسال النفط.»
قالت: «ولكنك لم تقل ذلك إلا خوفا على المنظرة من الحريق.» وكانت سيدة الملك تتكلم بحماسة وكل جوارحها تتكلم معها وقد توردت وجنتاها وأبرقت عيناها. فلما وصلت إلى ذكرى الحريق امتقع لونها وتغيرت ملامحها كأنها فوجئت بذكرى محزنة فتوقفت عن الكلام. فاستغرب أخوها تغيرها فجأة والتفت إلى الجليس فرآه ينظر إليها أيضا.
أما هي فتجلدت وعادت إلى الكلام قائلة: «ولم يكن كلامك وحده الذي أوقفهم.»
قال: «وكيف ذلك؟»
قالت: «دعنا من هذا الموضوع الآن؛ لأن في تذكره ما يؤلمني ويؤلمك، وأنت أحوج إلى الراحة والسكينة.» وتشاغلت بإصلاح نقابها على رأسها، فجس العاضد يده وقال: «إني في خير ولا بأس بي وقد زالت الحمى والحمد لله. قولي ما هو السبب الآخر.» فمدت يدها إلى جيبها واستخرجت خصلة من الشعر ذهبية من لون شعرها ودفعتها إليه وهي تقول: «هل تعرف هذا الشعر؟»
فأجفل وقال: «هو شعرك. هذه هي الخصلة التي قطعتها من شعرك وأرسلتها في جملة شعور نسائي إلى صاحب دمشق. من أين أتتك؟ وكيف وصلت إليك؟» قالت: «وصلت إلي في ذلك اليوم الذي نشبت فيه الحرب بين عبيدنا ورجال صلاح الدين!» قال: «وكيف ذلك؟» قالت: «قد ذكرت أنت الآن أن صلاح الدين منع رجاله من إرسال قوارير النفط قبل أن ينطلق منها شيء على القصر. قد يكون هذا الواقع، لكنني أعلم أننا ونحن في هذا القصر وقلوبنا ترتجف هلعا والسهام تترامى علينا من رجال صلاح الدين رأيت قارورة مشتعلة وقعت في الدار قرب حجرتي هذه لا أدري من أين أتت، فذعرت وصحت بالخدم أن يتلافوا خطرها فلم يسمعني أحد لاشتغال الرجال برمي النشاب بعيدا عني. وبينما أنا في ذلك وأهل القصر كل منهم في شاغل من نفسه، إذ رأيت رجلا متنكرا بثوب الخصيان قد غطى وجهه باللثام وثب من داخل الدار لا أدري كيف دخلها. فذعرت ولكنني ظننته أسرع إلى نجدتي فما عتمت أن رأيته أمسك بيدي وجذبني إليه كأنه يريد أن أتبعه، فتخلصت منه، فعاد وأمسكني ثانية وجذبني إليه كأنه يريد أن يحملني ويطير بي. ولم يكن في هذه الغرفة أحد يراني فصحت واستغثت فلم يسمع صوتي؛ لأن الضوضاء كانت قد ملأت هذا الفضاء، ثم جاء رجل آخر أعان الأول على اجتذابي وهما يشيران إلي أن أتبعهما، وهددني أحدهما بخنجر استله من منطقته فأثر في ذلك المنظر وخارت قواي. وكدت أغلب على أمري وقد ذهب نقابي وانحل شعري. وإني لفي ذلك إذ رأيت شابا وثب نحوي يظهر من لباسه أنه من رجال صلاح الدين فأيقنت أنه سيعين ذينك الرجلين علي، وإذا به صاح بهما صيحة الجبارين وخنجره مسلول في يده وأوشك أن يقتلهما، فلما رأياه خافا وتركاني وعمدا إلى الفرار. وظل هو واقفا كالأسد ونظر إلي بلطف وقال: «من هم أولئك الأنذال؟».»
قلت: «لا أعلم. ومن أنت وما تريد مني؟»
Bilinmeyen sayfa