ولاحت من صلاح الدين التفاتة إلى الكهل المتقدم ذكره فرأى في وجهه اهتماما وقد أبرقت عيناه وكادتا تتقدان من التفكير فشغله أمره لحظة، وأدرك الخليفة اشتغاله بذلك وأراد تحويل الأذهان عن هديته فوجه خطابه إلى صلاح الدين وقال وهو يشير بيده إلى ذلك الجليس: «أظنك لا تعرف الشريف أبا الحسن، إنه من أعمامنا. كان في سفر وقد جاءنا من عهد قريب.» والتفت إلى أبي الحسن وقال: «لا أظنك تحتاج إلى التعريف بوزيرنا الباسل أبي المظفر صلاح الدين.»
فأشار أبو الحسن بعينه ورأسه ويديه أنه شاكر لهذا التعريف، وانحنى كأنه يهم بالقيام، فقال صلاح الدين: «سررت كثيرا بمعرفة هذا الشريف ويكفي أنه متصل النسب بمقام الخلافة.»
وكان نجم الدين في أثناء ذلك ينظر إلى أبي الحسن نظر المتفرس ولم يعجبه ما في سحنته من الدهاء وما في عينيه من المكر. لكنه تجاهل وتوجه إلى الخليفة يبدي شكره على هذا التعريف.
ثم وضع العاضد قضيب الخلافة من يده على الوسادة ففهم القوم أنه قد آن الذهاب، فاستأذن نجم الدين بالانصراف وهم بوداع الخليفة. ثم تقدم صلاح الدين وودع الخليفة وأظهر أنه يهم بتقبيل يده. فاجتذب الخليفة يده تلطفا.
خرج نجم الدين وابنه من مجلس الخليفة ورجالهما ينتظرونهما خارج القصر بالأفراس والسلاح، وفيهم الشاب عماد الدين الذي كان راكبا بجانب صلاح الدين في الموكب ، يختصه بالالتفاف لما يراه فيه من البسالة. وهو شاب في مقتبل العمر قلما يفارق ركاب صلاح الدين إلا لأمر مهم. ولم يكن يراه أحد إلا أحبه لجماله وبسالته مع ذكاء وفصاحة. فلما خرج صلاح الدين صاح: «أين عماد الدين؟» فتقدم الشاب وعيناه تتكلمان قبل لسانه، وقد لبس ثوبا من أثواب الحرس الخاص بصلاح الدين وهو مؤلف من سروال قصير، وحول الخصر منطقة من جلد فيها عروة مذهبة، وفوقها دراعة مطرزة بالقصب. وعلى رأسه عمامة صغيرة كالطاقية مزركشة بالقصب، وقد علق بمنطقته سيفا قصيرا وغرس فيه خنجرا. فلما وقف بين يدي صلاح الدين قال له: «هلم بنا إلى منظرة اللؤلؤة، فقد أمر الخليفة أن ينزل والدي هناك وأنا أنزل معه الآن.»
فقام عماد الدين بإرشاد الركاب إلى المنظرة على خليج القاهرة. فقطعوا الميدان بين القصرين ومروا بجانب القصر الغربي إلى البستان الكافوري وانتهوا منه إلى المنظرة على ضفة الخليج اليمنى؛ أي من جهة قصور الخلفاء المتقدم ذكرها. وهي تشرف على الخليج من الغرب، ووراء الخليج غربا بركة كان يقال لها بطن البقرة ووراءها أرض الطبالة وبستان المقسي (الفجالة وباب الشعرية وما يليهما الآن) ووراءها بركة الأزبكية إلى مجرى النيل.
وكانت المنظرة المذكورة من أجمل متنزهات القاهرة، لها حديقة تتصل بالخليج فيها الأشجار والرياحين والأزهار. وفيها القاعات والمقصورات في أجمل ما يكون من الفرش الثمين الذي يشبه ما كان للخلفاء في قصورهم، من ستائر الديباج المطرز بالذهب، والبسط المحوكة بالذهب؛ وسائر الآنية من العاج وخشب الصندل، وفيها الأرائك والوسائد. وقد سرح في البستان مئات من الطيور الداجنة على اختلاف أنواعها وألحانها بعضها في الأقفاص والبعض الآخر مطلق. وعلى ضفة الخليج مجالس من الخشب كالشرفات قد فرشت بالسجاد، عليها المساند المزركشة وفوقها مظلات من الخشب تعرش على النبات، وكل ما في المنظرة ثمين يستوقف النظر، وناهيك بأنها كانت متنزها للخلفاء الفاطميين في إبان دولتهم.
وصل نجم الدين وابنه ومن في ركابهما من الحاشية، فتلقاهم غلمان المنظرة بالأطياب والبخور، فدخلوا إلى قاعة كبيرة للاستراحة ومعهم بعض الخاصة من رجالهم. جلسوا ساعة لم يدر فيها من الحديث غير العام المتعلق بالأسفار وما قد يراه المسافر في طريقه من التعب أو الراحة. وتخلل الحديث طبعا ذكر الإفرنج (الصليبيين) الذين كانوا يومئذ أصحاب السيادة في نواحي سوريا وفلسطين وكثير من مدنها.
ثم مالت الشمس إلى المغيب وقد أعدت مائدة العشاء، فتناوله معهما طائفة من الخاصة وفيهم شمس الدين. فلما فرغوا من الطعام انصرف الخاصة كل منهم إلى فراشه في المنظرة وتركوا نجم الدين وابنه على حدة؛ لعلمهم أن نجم الدين لم يأت مصر إلا لأمر مهم يريد أن يسره إلى صلاح الدين.
اختلى نجم الدين بابنه في غرفة أنيرت بالشموع الضخمة وفيها ما تزن عدة أرطال. وقد رأى نجم الدين في قصور القاهرة ما لم ير مثله في دمشق الشام. وما كاد يخلو بصلاح الدين حتى اتكأ على وسادة وأشار إليه أن يقعد بين يديه وقد تخففا بلباس الرقاد. وفي يد نجم الدين أنبوبة حرص عليها منذ بدل ثيابه.
Bilinmeyen sayfa