فركب نزار على كره منه، وتحرك الجيش مائجا زخارا كأنه قطعة من الليل، ومر بأثقاله وضوضائه بقصر حفصة، فأطلت من النافذة متشوقة متطلعة فلم تر لنزار أثرا، فصاحت في حزن يقطع القلوب: لم أر حبيبي! لم أر حبيبي! •••
بلغ الجيش أرض الروم بعد أن طوى الوهاد والنجود، وقاسى من طول السفر وبعد الشقة ما يهد عزائم الشجعان فلما جاوز طرسوس تصدى له جيش الروم بعدته وعديده، وجنوده الضخام، وبطارقته العظام، فوثب عليه العرب بإيمان أقوى من سواعدهم، وعزائم أمضى من سيوفهم، فهدوا أركانه، ومزقوا أوصاله، وتكلمت السيوف، وسكتت الألسنة. وكان نزار يقذف بنفسه في الغمرات، لا يبالي بالموت، ولا يأبه للحياة، ولا يرضى أن ينال سيفه إلا بطريقا أو قائدا، وتقهقر الروم، وتعقب العرب آثارهم في قتال عنيف، كثر فيه القتلى والأسرى، وتبع نزار فصيلة من الفارين فانقض عليه كمين، تكاثر عليه جنوده، فأطاروا حسامه من يده، وتواثبوا عليه فأسروه بعد أن أبلى أحسن البلاء، وكان أسره عند كبرائهم ظفرا مبينا، ولما ذهبوا به إلى ريني راعها ما رأت فيه من جمال وفتوة، بعد ما سمعت كثيرا من أحاديث بطولته، فنظرت إليه في شغف كأنها لم تر من قبل شابا عربيا وسيما، وأسرع قلبها ينبض نبضات كانت تعرف معناها في ميعة الشباب، فتنهدت وقالت: لقد قتلت صناديد رجالي أيها الفارس الجميل، ولولا أن الملوك لا يقتلون أسراهم لأمرت بقتلك. - لو عقل السيف ما قطع في كف الجبان. - هكذا أنتم أيها العرب، لا نرى فيكم إلا الكبرياء والعناد. - وبهما ملكنا الأرض. - كيف حالكم مع خليفتكم؟ - لو أمرنا بالصعود إلى السماء لتبعنا إشارته، لا نجادله في أمر، ولا نسأله عن سبب. - وكيف رأيت الروم؟ - رأيتهم أشداء تعوزهم قوة الإيمان. - إنى أريد أن أصطفيك لنفسي، فابق عندي أمنحك من مناصب الدولة ما يرفعك فوق منزلة البطارقة. فابتسم نزار وقال: إن الله رفعني بالجهاد فوق منزلتك أيتها الملكة، فدعي يا سيدتي ما عندك من جاه ومناصب، فإننا قوم اشترينا الجنة بنفوسنا. - لعلك تحن إلى بغداد، وإلى حبيب لك هناك، فطفرت دمعتان من عيني نزار، وقال: إن لي بشاطئ دجلة يا سيدتي زهرة لا أبيع بها زهرات الجنة. - إن زهرات الروم أنضر لونا، وأطيب ريحا. - تلك زهرات الدمن حسن منظر، وسوء منبت. - ها قد عدت إلى طبيعتك الجافية، وإلى جهلك بمخاطبة الملوك. - إنني أقول ما أعلم، وأعلم ما أقول. - لن أتركك يا فتى؛ فإن مثلك من تثنى عليه الخناصر، فإذا لم ترض أن تكون من رجال حاشيتي، وأحببت أن تبقى طليقا، فإني أقنع بأن تعيش بيننا حرا على أن تعاهدني ألا تحاول الفرار. - لا أعاهد أحدا.
فغضبت الملكة، وطلبت من رئيس قصرها أن يضعه بسجن القصر، وأقسمت ألا ترده إلى العرب، ولو طلبوا فيه رأسها.
وطال أمد القتال، واشتد مريره، وكتبت الهزيمة على الروم، فألقوا السلاح أذلاء مقهورين، وقدمت الملكة ريني إلى خيمة القائد عبد الملك بن صالح خاضعة تطلب الصلح في تضرع واستجداء، وأملى القائد العربي شروطه ، فكان منها: أن يغرم الروم مائة ألف دينار رومية عقابا لاعتدائهم على جيرانهم المسلمين، وأن يؤدوا جزية في كل عام مقدارها أربعة وستون ألف دينار رومية، وألفان وخمسمائة دينار عربية، ثم أن يتبادل الفريقان الأسرى.
ووقعت ريني وثيقة الصلح، والدموع تكاد تخفي عنها سطورها، وأرسل الروم أسرى العرب إلى القائد، فلما تفقدهم عبد الملك بن صالح صاح في وجه رسول الروم سائلا: أين نزار بن حمزة؟ فتباله الرجل وقال: هؤلاء يا سيدي هم كل الأسرى، مائة وثلاثة وخمسون رجلا، وهذا هو السجل الذي دونت فيه أسماؤهم، فارجع البصر يا سيدي القائد، فلعلك تراه بينهم، فقال عبد الملك في سخرية: إن نزار ليس ممن يجهل مكانه أيها الأبله، وهو لو كان في مائة ألف لبرز بينهم علما مفردا، اذهب فأحضره، وإلا هدمت المدينة عليكم وعلى ملكتكم.
وذهب الرجل، وغاب ساعات، وعاد ينفض كفيه من اليأس ويقول: لقد بحثنا عنه في كل مكان ياسيدي فلم نقف له على أثر، وأغلب الظن أنه قتل بالمعركة، وهؤلاء أسراكم يشهدون بأنه لم يكن معهم، وأنهم لم يروه مدة أسرهم، وشهد الأسرى بما علموا، وأمر عبد الملك الجيش بالقفول حزينا يائسا كأن انتصاره المؤزر لم يكن شيئا بجانب فقد نزار. •••
عاد الجيش إلى بغداد، وذهبت حفصة تستقبله لتطفئ غليل شوقها بلقاء فتاها، ولكنها بعد أن تفرست كل وجه، وتطلعت إلى كل مقبل دب الذعر إلى فؤادها، وغلبها الشك القاتل، فأعادت النظرات، وكررت اللفتات، وكلما رأت فارسا فارع العود أسرعت إليه فخاب أملها، وكلما لمحت شابا يلوح بيديه حدقت فيه النظر فإذا هو غير فتاها، وكلما سمعت صوتا من بعيد يشبه صوت نزار أصغت إليه طويلا، وانتهت بعد طول الإصغاء إلى ضيعة الرجاء. كلت المسكينة، وتخاذلت قواها، وأبت أن تحملها ساقاها، ثم أسعفها البكاء والنواح، فأرسلت صيحات وأنات تقطع نياط القلوب، وأقبل إليها عبد الملك بن صالح والحزن يكاد يعقد لسانه، وهو يقول في رفق: ما هذا الجزع يا حفصة؟ لقد كنت أعرفك أقوى نفسا، وأشد جلدا مما أرى، إن نزار حي لا تزال تزهى به الحياة، ولكنه لم يعد معنا، ولا أعرف لذلك سببا، ولكنك يا فتاتي سترينه يوما، وسترينه قريبا، فتأوهت حفصة وقالت في يأس مخيف: نعم سأراه في الجنة، وسأراه قريبا! لماذا لا تقولون الحق الصراح أيها الرجال؟ لم لا تقولون: إنه استشهد؟ لماذا لا تقولون: إنه مضى في ميدان الجهاد؟ ثم اشتد عويلها، وقالت وهي تهرول كأن بها مسا من جنون: لقد مات نزار! لقد مات نزار!
مضت سنوات ست وحفصة في حزن أليم، وهم مقعد مقيم، مرة ينبعث في نفسها وميض من رجاء، فيعود وجهها إلى إشراقه، ويرتد إليها شيء من أنس الحياة، ومرة تغيم في عينيها سماء الشك، وتكاد تقتلها جفوة اليقين، فتطوي نفسها على اليأس، وتتمتع بلذة البكاء، وكم أرسلت الرسل إثر الرسل للسؤال عن نزار في كل مدينة، وقرية، ودسكرة، ولكنهم كانوا يرجعون صامتين واجمين، وكم توسلت إلى الخليفة أن يهدد ملكة الروم بالكتاب يتلو الكتاب، ولكن الجواب دائما: إنه غير موجود.
وعاش نزار في سجن القصر بهرقلة هذه السنوات حزين القلب، مروع الفؤاد، لا يعد من أهل الأرض، قضى هذه الأعوام بين جدران السجن وقضبانه، يهتف باسم حفصة كلما اشتد به الوجد وغلبه الحنين، وكانت الملكة ريني تزوره بين الحين والحين، وتغريه بأن يكون لها على أن تهب له ما دون التاج والصولجان، فيردها في عزة وكبرياء أبيا عزوفا.
وثار الروم على ملكتهم سنة مائة وسبعة وثمانين، وكان مشعل الثورة، ومتولي كبر أمرها نقفور رئيس البطارقة، ثار البطارقة ساخطين على ريني؛ لأنها قبلت شروط الرشيد المهينة المذلة التي جعلت من الروم عبيدا لخليفة العرب، يؤدون له الجزية في كل عام عن يد وهم صاغرون، وامتدت الثورة إلى الشعب؛ فأدخلوا عليه أن كرامته أهينت، وأن عزة دولته مرغت في التراب، فهب الجنود، وهب معهم العامة، وأنزل نقفور الملكة عن عرشها، وولاه البطارقة ملك الروم، وألبسه كبيرهم ميخائيل تاج قسطنطين، واشترطوا عليه أن يعيد لمملكتهم صولتها، وأن يبدأ بمحاربة العرب ، وأخذ نقفور يجمع أحشاد الجند، ويحصن مدينة هرقلة، ويأخذ الأهبة لقتال مر عنيف، ولما أعد عدته كتب للرشيد:
Bilinmeyen sayfa