كان نزار بن حمزة الخزاعي فتى مكتمل الشباب، قوي الأسر، مشرق الوجه، عربي السمات والشمائل، وكان يعتز بصفات البطولة والإقدام، وحب المخاطرة، واقتحام الخطوب، وكان أبوه واليا على خراسان من قبل الرشيد، وقد شغف الفتى بحفصة، وفتن بجمالها، وهزه ما تتحلى به من أخلاق وشيم؛ فتقرب إليها بما يتقرب به العاشق المعمود من وسائل، فقابلته في منتصف الطريق ابتسامة مغرية دفعته إلى أن يسرع إلى أمها فيخطبها إليها، وتمت الخطبة، وقرت عين الحب بعاشقين سعيدين.
جلس الحبيبان في المشرف يتناجيان، ويتطلعان إلى ما ينتظرهما من سعادة وهناءة، ورفاهة عيش، ويرسمان أو ترسم لهما الآمال جنة صغيرة في هذه الأرض يأكلان من شجرتها ما يشاءان، وبينما هما يسبحان في هذه الأحلام إذ لمحت حفصة فيما حول قصرها من الطرق والميادين هرجا بين الناس، ورأت طوائف إثر طوائف تزدحم فوق جسر دجلة آتية من الكرخ في عجلة وإسراع؛ فحارت في تعليل ما رأت، وسألت نزار: هل من حدث جديد في المدينة؟ - لا يا حبيبتي، ولكن هؤلاء البرامكة المناكيد الذين أسلم الرشيد إليهم زمام ملكه، والذين لا ينسون للعرب ما أوقعوا بدولتهم القادسية، والذين لا ينسون للعباسيين دم كبيرهم أبي مسلم الخراساني، برعوا في خلق الدسائس، والنفخ في نار الفتنة، فهم يغرون في كل يوم طائفة بطائفة، لا يريدون من وراء ذلك إلا إضعاف شوكة العرب، وتفريق كلمتهم، ولعلنا نسمع غدا أن خارجيا خرج على الدولة، ثم نفهم بعد غد ما وراء هذا الخارجي من نزعة فارسية خبيثة لا تريد إلا زلزلة أركان الدولة. - لا يا نزار، إن صخرة الملك العباسي أقوى من أن تحركها هذه الأيدي الهزيلة، والرشيد أرهف ذهنا من أن تخفى عليه هذه الأخاديع، إنه قد يغضي وقد يتغافل، ولكنه كالذئب الذي ينام بإحدى مقلتيه، ويتقي بأخرى المنايا، فهو يقظان نائم، ثم طلبت إلى عبدها رماح أن يذهب ليستجلي حقيقة الأمر، ولم يغب رماح إلا قليلا حتى عاد يقول: إن البريد قدم من الرقة يحمل كتابا من عاملها ينبئ بأن (ريني) ملكة الروم خرجت في مائة ألف مقاتل، فأغارت على بلاد المسلمين، واستولت على حصونهم، ودخلت زبطرة، ونكلت بأهلها، والناس الآن يتوافدون على ميدان دار الخلافة في غضب وحماسة، وفي زحام لم يترك فيه موضعا لقدم، وقد هال الخليفة الخبر، فجمع قواده، وأمر بأن يسرع الجيش بالرحيل.
سمع نزار الخبر فشخصت عيناه في غضب، وظهر على وجهه ما يظهر على وجه الأسد يتحفز للفريسة، ثم حيا حفصة في عجل وقال: لا بد لي من الذهاب الآن يا حبيبتي؛ فقد يرحل الجيش غدا. فذعرت حفصة، وفر الدم من وجهها، وارتعدت أوصالها، وقالت ولسانها يتعثر بكلماتها: لن أصدك عن المسير إلى القتال يا حبيبي؛ لأنك بطل خلقت للكفاح، وخلقت للذود عن حياض الدولة، ولأنك شجاع خلقت للقاء الموت في سبيل دينك وقومك، ويعلم الله أن بين جنبي نفسا تطمح إلى أن تكون مثلك، وتصبو إلى خطيرات الأمور، واقتحام الأهوال كما تصبو، ولكن ماذا أصنع وضعف الأنوثة يقعدها عن مطالبها، ويحول بينها وبين ما تتمنى؟ لو كان لي يا نزار زند مثل زندك، وقبضة من الحديد مثل قبضتك لكانت اليوم كتفي إلى كتفك في ميدان الجهاد. كل هذا حسن وجميل يا نزار، وهو كلام ينطق به لساني، وتوحي به نفسي العربية التي طبعت على الإقدام، والتسابق إلى المجد، ولكن قلبي يقول: لا، قلبي يريد أن أضمك بين ذراعي كما تضم الأم الرءوم وحيدها، وأن أفر بك بعيدا عن كل ما يحوم حولنا من خطر، قلبي يقول: خذيه يا حفصة؛ إنه لك، واحذري عليه من مر النسيم، ومن قطرات الغمام، إن الحب يا حفصة أرفع شأنا مما يطلب الناس من شرف ومجد وبطولة، فاحرصي عليه، وضعيه بين طيات قلبك في حرز حصين، لا تدعيه يخرج للقتال؛ فإن السيف أغرى بالبطل المقدام منه بالرعديد الجبان، ثم بكت وتعلقت بعنقه تقبله وتقول: قلبي يقول هذا يا نزار، ولكني لن أطيعه؛ فإن ابن حمزة الخزاعي يأنف من أن تكون له زوج لا تسبقه إلى مراتب الشرف، اذهب يا حبيبي إلى دار الخلافة، ولكن يجب أن تعود إلي. لا ترحل يا نزار قبل أن أراك. ثم اتجهت نحو السماء متضرعة تقول: يا رب، إنه قطعة من روحي، وريحانة حياتي، وزهرة آمالي، إنني لا أستطيع الصبر على فراقه ساعة، فظلله اللهم بجناح حمايتك، ورده إلي جميلا كما هو قويا، وكما هو بطلا تزهى به الجحافل. فمد إليها نزار ذراعيه في تدله واستهامة، وطواها إليه مجهشا وهو يقول: أنت كبيرة النفس يا حفصة، رقيقة القلب، فثقي بالله، وانتظري إيابي، إن حبنا يا فتاتي حب يقهر الموت، ويخلد على الزمن، فلا تيأسي، وأقسم أن ما بي منك فوق ما بك مني، ولكن هكذا وضع الله غايات المجد دائما في طريق من الشوك والقتاد، ثم ابتسم ابتسامة حزينة تلتها زفرة طويلة، واستمر يقول: روي عن الأصمعي أن عبد الملك بن مروان حينما تجهز لقتال مصعب بن الزبير، وهم بتوديع زوجه عاتكة بنت يزيد تشبثت به، وبكت، فبكت معها جواريها، فقال عبد الملك: قاتل الله كثير عزة؛ كأنه شاهد هذا حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه
حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه
بكت فبكي مما شجاها قطينها
ثم انسل من بين ذراعيها كالطائر المذعور، فنظرت حفصة فلم تجده كأنها كانت في حلم، أو في نشوة خيال. •••
ذهب نزار لتوه إلى دار الخلافة، فرأى الجيش على أهبة المسير، فتقدم إلى قائده عبد الملك بن صالح سائلا: أعزمتم على الرحيل الليلة ؟ - نعم يا نزار، وقد طلبناك في الصباح فلم نعثر على مكانك. - علمت الساعة أن البريد قدم اليوم بأخبار الروم، فهز عبد الملك رأسه وقال: صحيح، ولكن الأخبار تواترت إلينا منذ أربعة أيام استكملنا فيها كل عدتنا، وأمر الخليفة أن يسير الجيش الليلة، وهذا جواد خالد بن أسامة، وعليه كل عدته، وشكته، فاركب يا نزار. ثم أمر الجنود في صوت جهير بالركوب، فمس نزار ذراعه في استعطاف يقول: ولكني يا سيدي القائد في حاجة إلى ساعة واحدة أقضي فيها بعض شئوني. - لقد أعددنا العدة لكل مجاهد، فلن تحتاج إلى شيء يا نزار. - أريد أن أودع بعض أهلي.
فضحك عبد الملك ثم همس قائلا: حفصة؟! - نعم حفصة، لقد وعدتها أن أعود إليها، فإذا لم أفعل فإنني أخشى أن يقتلها الحزن، أو تعبث بها الهواجس السود. - اركب يا نزار، فإن للوداع آلاما عرفتها في شبابي، فاصدف عنه ما استطعت، وادخر كل ما في فؤادك من حب وشغف إلى ساعة اللقاء، فإن غيبتنا بأرض الروم لن تطول، اركب يا نزار، اركب.
Bilinmeyen sayfa