Saad Zaghloul Lideri Devrim
سعد زغلول زعيم الثورة
Türler
ولقد كان محمد سعيد باشا رئيس هذه الوزارة رجلا داهيا يحب - بما استطاع من دهائه - أن يجمع بين قضاء أغراضه واستبقاء سمعة سياسية يلبس لها لبوسها في كل مجال وعند كل فرصة. وكانت العلاقة بينه وبين سعد باشا علاقة فتور وجفاء منذ كانا في الوزارة معا، ثم وقع بينهما ما وقع من الخلاف الشديد في الجمعية التشريعية، ولهذا حاول سعيد باشا أن يجمع وفدا ثانيا إلى جانب الوفد السعدي؛ لينازعه قيادة الأمة والدفاع عن القضية، معتمدا في أول الأمر على الأمير عمر طوسون وأفراد من بقايا الحزب الوطني، ثم أحس نفور الأمة من هذا المسعى وصدود الأمير عمر عن متابعته؛ فتراجع وظل يرقب الأحوال إلى أن عرضت عليه الوزارة فقبلها، واخترع صيغة الوزارة الإدارية، وحيلة تأجيل الوزارات السياسية إلى ما بعد عقد الصلح، وأبرم معاهداته مع الدول المحاربة ومع الدولة التركية على الخصوص؛ لأنه رأى في ذلك مخلصا من جميع الجوانب.
فهو - بهذه الحيلة - يريح نفسه من المطالب السياسية، ولا يصادم الأمة في أمل من آمالها، ثم هو يستبقي دعوة الحزب الوطني إلى وقت الحاجة؛ لأنه الحزب الذي يعتمد على حقوق السيادة التركية في دعوته الوطنية، ثم هو يدفع لجنة التحقيق البريطانية بهذه الحجة إلى أقصى أمد ميسور حتى إذا جاءت بعد اعتراف الدولة التركية بالحماية البريطانية - كما كان منظورا بين جميع العارفين - استطاع أن يسوس الأمر بغير مشقة مع أمة أشرفت على اليأس ونفضت يديها من جميع الدول، ووفد بدا فشله للأمة ... وحزب وطني لم يبق له ما يتعلل به من السيادة التركية، ولكن بقى له من المنافسة للوفد ما يحفزه لحربه، ويطمعه في الغلبة عليه، وقد ظهرت للأمة هزيمته وإخفاقه.
وأقبل سعيد - بمثل هذا الدهاء - على علاج المشكلات التي خلفتها الحماية والثورة لوزارته، فاجتهد في إقناع الإنجليز بتحويل قضايا الوطنيين من المحاكم العسكرية إلى المحاكم الأهلية؛ فاقتنعوا لأنهم يضمنون من صداقته لهم وإخلاصه في النصح أنه على الأقل عدو الوفد المصري ورئيسه.
وتشفع في تخفيف بعض الأحكام الصارمة فقبلت شفاعته، ورفع شيئا من الضغط على الصحافة والخطابة، واستمال إليه الموظفين بإغداق العلاوات عليهم، وزيادة مرتباتهم حتى بلغت مثيلها.
غير أن الناس كانوا يستريبون بنياته، وينظرون إلى هذه الأعمال كأنها مخدرات ترمي إلى تهدئة النفوس وإضعاف الحركة الوطنية؛ فأوغرت من صدور الناس عليه أكثر مما جذبتهم إليه، ونقم الغلاة منه قبول الوزارة وتهيئة الخواطر للرضى بالحالة القائمة، فثار بعضهم عليه ورماه أحدهم بقنبلة لم تصبه، وبلغ من كياسة الرجل أنه ذهب إلى المحكمة يؤدي شهادته، فطلب الرحمة بالمعتدي عليه؛ لأنه إنما اجترح فعلته بدافع من عقيدة خاطئة غلبته على صوابه.
واستمرت العلاقات بينه وبين المارشال اللنبي على وفاق إلى أن اختلفا على مسألة لجنة ملنر، ذلك الاختلاف النموذجي لكل اختلاف بين تفكير العسكري وتفكير الوزير المحنك من المدرسة التركية؛ فاللورد اللنبي يرى أن امتعاض المصريين من قدوم اللجنة إلى بلادهم سبب كاف لتعجيل قدومها! وأن إقناع المصريين بأن عواطفهم ومطالبهم لا حساب لها ولا اكتراث بها هو المقدمة الصالحة لمجيء اللجنة التي كانت مهمتها الأولى إرضاء تلك العواطف والبحث عن تلك المطالب! فإكراه الناس على قبول الأوامر هو المهم في السياسة العسكرية سواء نجحت اللجنة أو لم تنجح، وعلى اللجنة وعلى المصريين بعد ذلك العفاء.
ورئيس الوزارة يرى - كما علمنا مما سلف - ألا تحضر اللجنة قبل الفراغ من حل القضية المصرية بين الدولة العثمانية - صاحبة السيادة - والدولة البريطانية؛ وهو رأي له قيمته من الدهاء والحصافة، ولكن لا قيمة له إلى جانب الأوامر العسكرية! وقد اختلف القائد والوزير، فلا محيص إذن من أن يستقيل الوزير.
استقال سعيد باشا وخلفه يوسف وهبة باشا في الحادي والعشرين من نوفمبر، فجرى على «السنة الإدارية» التي استنها سلفه، والتزم الحيدة مع اللجنة المقبلة، فلم يتخذ له موقفا معها أو عليها. ولكنه لم يستطع أن يمنع بعض الرؤساء الإنجليز من تكوين حزب مصطنع من المنبوذين وطلاب المنافع الذين لا خلاق لهم، أسماه «الحزب المستقل الحر»، وأعده للقاء اللجنة ومداراة المقاطعة الإجماعية التي ستلقاها، ولم يفلح في هذه المحاولة على الرغم مما بذل فيها من المصروفات السرية والغوايات المختلفة.
أما اللجنة التي تفاقم حولها هذا الخلاف، فقد وصلت في السابع من ديسمبر وهي محوطة بسوء الطالع من كل مطلع. وكانت ممثلة لجميع الأحزاب الإنجليزية، ومؤلفة من رجال قديرين مشهود لهم بمعرفة الشئون المصرية والمسائل السياسية عامة، وهم: اللورد ملنر وزير المستعمرات، والسير رنل رود سفير إنجلترا السابق في روما، والقائد السير جون مكسويل الذي كان بمصر في أوائل الحرب العظمى، والسير أوين توماس الخبير بمسائل الري، والمستر سبندر الكاتب الصحفي المعروف، والسير سسل هرست الحجة في القانون الدولي، ومعظمهم ممن عرفوا مصر بالخبرة والاطلاع.
لكنهم حضروا والفشل يسبقهم، والصدور موغرة بما توالى على الناس من دواعي الكراهية والنفور، ووظيفة رئيسهم توحي إلى الناس أنه سيجعل مصر إحدى المستعمرات البريطانية.
Bilinmeyen sayfa