Saad Zaghloul Lideri Devrim
سعد زغلول زعيم الثورة
Türler
ثم وقعت الأزمة الوزارية التي لا بد من وقوعها، فألقت على الزعماء تبعتها، وألقى الزعماء التبعة عليها، ولم يكن رد الزعماء من قبيل التراشق بالتهم والمجاوبة على الادعاء بمثله، ولكنه كان هو الحقيقة بعينها في نظر المنصفين الواقفين على الحيدة لا في نظر الوفد المصري وحده؛ فالمسئول عن الأزمة الوزارية وعن صعوبة تأليف الوزارة المصرية هو السياسة الاستعمارية، أو هو كما قال الوفد: «أولئك الذين وضعوا من هم أهل للوزارة في مركز حرج أمام ضمائرهم وأمام مواطنيهم.»
وإلا فماذا يقول الوزير المصري لأبناء وطنه، إذا فرضنا أنه أراد فعلا أن يخدم السياسة الاستعمارية ولا يحفل بمصير وطنه؟ أيقول لهم: إني خائن لا أبالي بغير الوصول إلى المنصب؟! أم يقول لهم: إنني أتولى المنصب لأحول بينكم وبين المطالبة بالاستقلال أو السفر إلى حيث تشتركون في تقرير مصيركم؟! وهل يستطيع أن يقول لهم ذلك في الوقت الذي ينادي فيه ساسة الإنجليز أنهم لا يمنعون أمة متقدمة أو متخلفة أن تشترك في تقرير مصيرها؟!
فإحجام الساسة المصريين عن قبول الوزارة حتى لا حيلة لأحد فيه؛ إذ ليس يوجد في مصر ولا في غير مصر مرشح للوزارة يشتري المنصب بهذه الخيانة الصريحة ولو كان مدخول الضمير؛ لأنها خيانة سمجة مبتذلة لا تستر فيها ولا مغالطة ولا عذر لمن يشاء أن ينتحل الأعذار، ما دامت الأمة تطلب حقها والوزارة التي أذعنت للحماية قد تحركت للبحث فيها، والعالم كله ينادي بحقوق الشعوب وتقرير المصير ... ففي هذا العمل لو أقدم عليه المرشح للوزارة قضاء حياته السياسية إن لم يكن فيه قضاء على الحياة.
لكن القيادة العسكرية شاءت مع هذا أن تلقي التبعة على الوفد في هذا الموقف الذي لا حيلة فيه للوفد ولا لأحد من المصريين؛ فأخطأت خطأها الغاشم، واعتقلت رؤساءه جزاء على السيئة التي أساءتها هي ولم يسيئوها. ثم أخطأت بعد هذه السلسلة من الأخطاء في بطشها الدموي بمن غضبوا لذلك العسف المبين عزلا من السلاح، ومن نادوا بما كان ينادي به أقطاب الحلفاء في مؤتمر السلام، ولعلها لو فسحت لهم جو بلادهم ينادون فيه بما يشاءون، لما خرجت الثورة من طور الدعوة إلى طور التخريب والتحطيم.
وأكبر أخطاء السياسة الاستعمارية جميعا، بل هو الخطأ الذي يطوي فيه جميع الأخطاء؛ أنها أساءت تقدير الشعور الذي كان يسور ويثور في نفوس المصريين قاطبة على تفاوت الطبقات والمشارب، فليس في وسع إنسان سياسي أو غير سياسي أن يجهل هذه الأمور كلها كما يجهلها نائب المندوب البريطاني - السير ميلن شيتهام - قبل الثورة بأقل من ثلاثة أسابيع؛ فإنه كتب إلى حكومته في الرابع والعشرين من فبراير يقول: «إن الوزيرين رشدي وعدلي فقدا الشهرة الموقوتة التي عادت عليهما من الاستقالة، وإن زغلولا لا يثق به أحد، وإن هناك قلقا يسيرا بين أفراد الطبقة العليا الذين يطمعون في تعظيم مكانتهم ببلوغ مرتبة من مراتب الحكومة الذاتية، ولكن الحالة لا تختلف في لبابها عن الحالة التي طرأت في سنة 1914 عندما رفض الأمير حسين وكبار الوزراء طويلا أن يقبلوا الحماية ما لم تكن مشفوعة ببعض المنح التي لم نكن على استعداد لإعطائها، وإن الحركة الحاضرة على كل حال ليست بالتي تضارع حركة مصطفى كامل، أو بالتي يصح أن تؤثر في قرارات الحكومة البريطانية فيما يتعلق بالمسائل الدستورية والوضع الذي توضع فيه الحماية.»
ولما بدت طلائع الثورة لم يجد هذا السياسي النادر ما يداري به غفلته وعجزه عن سبر غور الحرية الوطنية إلا أن يعزوها إلى أسباب أجنبية غير وطنية؛ فأبرق في التاسع من مارس يقول: «إن الحركة معادية لبريطانيا معادية للعرش معادية للأجانب، وفيها نزعات بلشفية نتيجة إلى تخريب الأسلاك والمواصلات، وهي منظمة مدبرة ولا بد أن تكون مأجورة.»
وأذاعت الحكومة البريطانية مذكرتها عن الثورة بعد ذلك بشهر فجاء فيها: «إن هناك شواهد تثبت أن الخطة مدبرة منظمة بإحكام ... ومما يستحق الملاحظة أن الخطة التي نفذت تشابه البرنامج الذي رسمه الألمان والترك للغارة على مصر في خريف سنة 1914، وهو البرنامج الذي أفضى به إلى السلطات المصرية الجاسوس الألماني مورس المقبوض عليه في الإسكندرية، وإذا حسبنا كل حساب للحالة العقلية أو لدواعي التذمر الناشئة بين الفلاحين المشار إليها آنفا، فكل هذا لا يكفي لتعليل هذا الانفجار الخطير المنظم الذي تلوح فيه إصبع تركيا الفتاة، كما قد تلوح فيه إصبع الألمان.»
إي والله! ثورة تشمل أربعة عشر مليونا يدبرها الترك والألمان في الخارج أو في الداخل، ولا تعثر فيها السلطات الإنجليزية بدليل واحد على هذا التدبير غير التنجيم والتخمين! وإن الإنسان لا يدري أيضحك أم يحزن من هذا التفكير العجيب الذي يعلل ثورة مصرية تنفجر في شهر مارس بأنها دسيسة أجنبية دبرتها حكومات منهارة مضى على هزيمة رؤسائها وتفرقهم في البلاد وانقطاع الصلة بينهم وبين أتباعهم عدة شهور ... وأدعى من هذا إلى الحيرة بين الحزن والسخر أن تكون الثورة من صنع الطبقات العليا ومن صنع البلشفية في وقت واحد!
ولا نظن أن الغفلة وحدها هي سر هذه التعديلات المضحكة المبكية التي تعلقت بها السياسة الاستعمارية في تلك الفترة، ولكنها رأت وكلاءها قد وقعوا في الجهل الذي لا رجعة فيه فاستغلت جهلهم أحسن استغلال في استطاعتها؛ لأنها وجدت لها فائدة من تشويه الحركة المصرية بنسبتها إلى جواسيس الترك والألمان، ووجدت أنها قد تحول بهذا التشويه بين الدعاة المصريين ومسامع الحلفاء والأمة الإنجليزية. فمزجت بين الغفلة والذكاء هذا المزيج الجدير بأساليب الاستعمار!
ولقد ظل القوم يتخبطون في فهم الحركة وسبر أغوارها حتى بعد عمومها وانتشارها، وطفقت الحوادث تتلقاهم مرة بعد مرة بتكذيب ظنونهم وتقديراتهم، فلا تنجاب الغشاوة عن أبصارهم. ومن ذاك اعتقادهم بعد شبوب الثورة في البلاد أنها ضرب من الشغب الذي يفرقون فيه بين طائفة من الأمة وطائفة أخرى، كما كانوا يصنعون في العهد السابق تارة بين الباشوات ولابسي الجلاليب الزرقاء، وتارة بين طلاب الوظائف وأصحاب المصالح الحقيقية، وتارة بين المسلمين والمسيحيين ... فألقى اللورد كرزون بعد انفجار الثورة بنحو أسبوعين بيانا يثني فيه على الموظفين المصريين؛ لأنهم ثابروا على أعمالهم في إبان الهياج الذي غمر البلاد، ويقول فيه: إنهم صفوة المتعلمين من المصريين «فمسلكهم هذا يدل على أن عقلاء الأمة لم يشتركوا في الحركة الأخيرة». فكان جواب هذا الثناء المزري أن أجمع الموظفون في الدواوين كلها على الإضراب ثلاثة أيام إعلانا للتآزر بينهم وبين طبقات الأمة في المطالب الوطنية، وكتبوا عرائضهم بهذا المعنى إلى صاحب العظمة السلطان، وأبلغوها الحكومة الإنجليزية.
Bilinmeyen sayfa