Saad Zaghloul Lideri Devrim
سعد زغلول زعيم الثورة
Türler
على أن الثورة لم تكن فورة غضب بغير معنى، كما أراد أعداؤها والناقمون منها أن يتخيلوها، فلو كانت كذلك لما ظهر فيها ما قد ظهر من نفحات النخوة القومية والأريحية الإنسانية التي ترتفع إليها الشعوب كما يرتفع إليها الأفراد في ساعات السمو والإشراق والفداء. فإن هذه النفحات لا تظهر في سورات الغضب الحيواني حين ينطلق على غير هدى وفي غير مطلب، ولكنها تظهر حين تكون الثورة إعرابا عن شعور مكتوم ونزعة مشبوبة إلى الكمال، وقد كانت الثورة المصرية كذلك، فغلب فيها الروح القومي على كل عصبية وكل علاقة وكل فارق، مشى فيها علماء الأزهر يحملون بساط الرحمة في تشييع جنازات الشهداء، ويرفعون الأعلام وعليها شارة الهلال والصليب، وقام القساوسة في المساجد يخطبون المسلمين، ويؤدون ما يؤدى لها من الشعائر الدينية، وخرج العقائل والأوانس من الخدور يسابقن الرجال والشبان إلى المهالك والأخطار ويستهدفن لجند مسلحين متأهبين كأنهم في ميدان قتال، وغلبت فرائض الحمية الوطنية على كل فريضة وكل تقليد؛ فكان الضباط يسيرون إلى جانب القضاة والمحامين، وطلاب المدرسة الحربية يسيرون إلى جانب الطلاب في كل مدرسة، وكانوا جميعا ينادون باسم مصر، ولا يذكرون إلا أنهم مصريون.
وتجلت بسالة التضحية على مثال رائع نبيل كأنبل ما سطرت تواريخ الجهاد والفداء في وثبات الأمم. فمات أناس يحملون العلم أنفا من الفرار أمام نيران المدافع وهم عزل من السلاح، ويرى إخوانهم مصرعهم، فيبادرون إلى رفع العلم ليستقبلوا مصرعا كمصرعهم طائعين متنافسين، في لحظة يطيقون فيها رؤية الجثث المطروحة لقى ولا يطيقون رؤية العلم ملقى على التراب.
وقد أحاطت بالمصريين في تلك الأيام موغرات كثيرة من فتك وإرهاب وخشونة واستفزاز، وفي بعضها ما يشفع للناس لو طغت بهم مرارة النقمة وجمحت بهم لواعج الضغينة، لكنهم مع هذا لم يقترفوا سقطة واحدة تشين صاحبها في غضبه أو رضاه، ولم ينسوا أدب المروءة في أشد أوقات الهياج والاضطراب؛ فلم يعتد أحد قط على طفل أو على شيخ عاجز أو على امرأة، وشهد اللورد اللنبي للثورة المصرية بهذا الأدب في الكتاب الأبيض حيث قال بعد ثلاث سنوات: «كانت سيدة إنجليزية مستقلة مركبة مفتوحة، فهاجمها الرعاع وقذفوها بالحجارة يوم الجمعة في حي بولاق، وقد نجت من الأذى البليغ بأن اتخذت من مظلتها مخبأ فمزقت الأحجار المظلة، وهي أول مرة اعتدي فيها على امرأة في كل السنوات الثلاثة الماضية.» ولو ثبتت هذه الحادثة كل الثبوت لما كانت شيئا يذكر؛ لأنها لن تكون إلا الندرة التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها، ولكن التحقيق لم يثبت بوجه من الوجوه أن السيدة كانت مقصودة بالاعتداء والإساءة ... وإلا فما الذي كان يحمي سيدة منفردة لا تحمل معها إلا المظلة من عدوان العشرات والمئات الذين يقصدونها بالإيذاء؟! إن انفراد هذا الحادث في جميع سنوات الثورة لحقيق وحده بالجزم بنفيه لا بمجرد التشكيك فيه، وقد سبقته الحوادث الكثيرة المشهورة في أعنف أيام الهياج، فكان الثائرون يتورعون فيها جميعا عن المساس بالسيدات والأطفال، ومنها حادثة «بهيج» المشهورة على الحدود الغربية، التي شهدت فيها صحف الاستعمار بترفع الثوار المصريين على هذه السقطات ثائرة على المستعمرين، وفي وسعها أن تلفق عليها التهم وتزور عليها العيوب.
لقد حدث أن أفرادا من الأرمن أطلقوا الرصاص على المتظاهرين من نوافذ المنازل فلم يكن جزاء الثائرين لهم إلا بمقدار ما يقتضيه دفع العدوان ومنع تكراره، وحدث أن الغوغاء في أثناء المظاهرات قذفوا زجاج الدكاكين بالحجارة، فحسب بعض الأجانب أنهم مقصودون بالسخط والعداوة، والحقيقة أن إلقاء الحجارة على تلك الدكاكين لم يكن عن شعور العصبية أو العداوة للأمم الأجنبية، وإنما كان استنكارا لفتحها في أيام الإضراب، وإحساسا من الغوغاء بأن أصحابها يجبهون شعور الأمة ويستخفون بمطالبها ويترفعون عن مجاملتها. فأصابوا دكاكين المصريين التي اتفق فتحها في تلك الآونة كما أصابوا دكاكين الأجانب، ورجحت كفة الأجانب في الخسارة؛ لأن متاجرهم أكثر عددا في الأحياء الإفرنجية التي تطوف فيها المظاهرات، ومع هذا لم ينس الطلبة أن يعتذروا إلى «الضيوف» من عمل الغوغاء في بيان نشروه في الصحف العربية والإفرنجية، وعلقوه على وجهات الدكاكين ووعدوا باتقاء تكراره في المستقبل.
ولم يجد المستعمرون في الواقع حادثا يستغلونه للتشهير والتشويه غير حادث ديروط أو ديرمواس الذي قتل فيه ثلاثة من الضباط وخمسة من صف الضباط الإنجليز، وهو حادث على جسامته لا يذكر إلى جانب الفظائع التي نزلت بالمصريين أثناء حملات التأديب والتفتيش ... ومنها فظائع العزيزية والبدرشين والشبانات التي نترك تفصيلها إلى غير هذا المقام، وسنضرب عنها صفحا في هذا الكتاب، ولا نذكر من فظائع قمع الثورة إلا مثلا صغيرا يغني بالدلالة عن الشرح والإسهاب، وهذه خلاصته بعد التجاوز والتلطيف.
في أول سبتمبر سنة 1934 نقلت إلينا الأنباء البرقية من لندن أن جنديا إنجليزيا سيق إلى المحكمة لاتهامه بمقتل عشيقته، فكان من المحاسن التي تشفع بها إلى المحكمة واعتقد أنه يستحق بها العفو والرحمة أن قال بغير سؤال ولا مناسبة إنه كان صولا بالجيش البريطاني بمصر سنة الثورة فقتل ثلاثة من المصريين، وإنه بعد بضعة أسابيع كاد صديق له أن يقتل فقتل هو مصريا آخر، ثم عمل في شركة للسيارات رئيسا للمهندسين، وعمل في خدمة أمير مصري أربع سنوات، وقد لخص القاضي الدعوى فقال: «إنه مهما يكن ما فعل تافني - اسم الرجل - فإن رؤساءه يومئذ لم يعدوا ما فعله جريمة.»
فهذا جندي من قامعي الثورة يفاخر بما جنى بعد الثورة بخمس عشرة سنة! وبعد أن أكل خبزه من خير أمير مصري أربع سنوات! وهو واحد من عشرات الألوف لا يسألون عمن قتلوا، ولا يحتاجون إذا سئلوا إلى عذر أكثر من ادعاء الخطر والدفاع عن الحياة، وكل من لديه ذرة من التصور وذرة من الإنصاف ليعلم بعد ذلك أن الفظائع التي نزلت بالمصريين أثناء ثورتهم أكبر وأهول بما لا يقاس من فظيعة الاعتداء على فئة من الضباط والجنود كلهم مسلحون، ولا يتكاثر عليهم الجمهور الأعزل من السلاح.
وندع فظائع الثورة جانبا ونسأل: لم كل هذا؟ أكانت هذه الزوبعة الدامية ضرورة لا محيد عنها؟ أكانت حادثا لا يمكن اتقاؤه؟ كلا! لم تكن ضرورة ولا مصلحة. وكان ميسورا أن تجتنب اجتنابا وأن يحقن كل ما سال فيها من دماء، ويصان كل ما خرب فيها من عمار وضاع فيها من أموال، لولا الأخطاء المتلاحقة التي ارتطمت فيها السياسة الاستعمارية لقلة اكتراثها للعواقب، وإلقاء اعتمادها كله على العدد الحربية، وأنها تضمن لها قمع الأمم الضعاف إذا ضاقت الصدور عن الاحتمال.
فهي أخطأت في البداءة بإعلان الحماية واغتصاب أرزاق المصريين وأدوات معيشتهم في إبان الحرب العظمى. وكان في مقدورها أن تتقي كل ذلك بأن ترد إلى المصريين استقلالهم، وتكل إليهم أن يدبروا بأنفسهم ما يعنيهم من أمر المعاونة في الحرب بما يطيقون. فإن لم يوافقها ذلك فماذا كان يمنعها أن تعلن الاستقلال، وترجئ النظر في تفصيل قواعده إلى ما بعد الفراغ من القتال؟!
ثم أخطأت بحرمان زعماء المصريين إبداء مطالبهم والبحث في مستقبلهم، مع أنهم لم يقصروا في المجاملة ولم يبدر منهم - وهم يخاطبون رجالها هنا أو في إنجلترا - أثر من التحدي والإعنات.
Bilinmeyen sayfa