ولذا امتعض توري من زيارة ألبير هذا البيت، وحسب حسابا من مزاحمته في مستقبل الأيام؛ لأن ألبير كان من أولئك الذين لم يخلقوا إلا لمطارحة الهوى ومغازلة النساء، لأنه كان ذا سطوة ونفوذ في قلوبهن، وأعظم شاهد على هذا هو أن مدام فارز لم تكن تعامل أحدا قط بتلك الملاطفة التي عاملت بها ألبير في ذلك اليوم؛ فإن الابتسام كان يبرق بين شفتيها كيفما نظرت وحيثما التفتت، وتنبعث من كلماتها حلاوة شديدة العذوبة والرقة بنوع لم يكن مألوفا منها بالزمن السابق. لله ما أعظم الهشاشة والبشاشة اللتين كانت تظهرهما له!
وعندما انتهت أودت من عزف الموسيقى، نهض توري وقبل يد مدام فارز معتذرا، راغبا في الذهاب إلى ملهى التمثيل، فلم تلح عليه بالبقاء عندها، لأنها فكرت في نفسها بأنها تتكلم بحرية أكثر مع مدام بلواي وألبير.
قد طال الحديث واتسع نطاق الكلام في ذلك المساء، ولم ينفرط عقد اجتماعهم إلا عند منتصف الليل وهم يدعون لمدام فارز بالعمر المديد والعيش الرغيد.
الفصل التاسع عشر
نعم، إن مرغريت تألمت جدا من رفض روجر طلبها، وعدم تتميمه مشتهاها وغاية متمناها، وقد طالما اجتهدت في أن تنسى بلانش، تلك المرأة التي صبت سما زعافا في كأس حياتها الصافي، وتنزع من مخيلتها صورة ذينك الازدراء والتعجرف اللذين هما من أقل صفات بلانش، وقد صممت النية وعزمت العزم الثابت على أن تجعل نصب عينيها وموضوع أفكارها آناء الليل وأطراف النهار ولدها مكسيم وزوجها روجر الحنون الذي كل كلمة منه، بل وكل نظرة، بل وغضبه ذاته، كل ذلك كان شاهدا بينا وبرهانا قاطعا وحجة دامغة على شديد حبه لها وولوعه بها.
وكان يثلج صدرها ويخفف تأثرها من قلق أفكارها عندما تتذكر أنه على جانب عظيم من معرفة هواجسها وما يدور في خلدها، لكن لدى ذكر ألبير الحلو وتمثل صورته في فضاء ذهنها كانت تشعر بألم سري يخرق أحشاءها، ويمتد إلى سائر أعضاء جسدها ممتزجا بدمها؛ إذ تتمثل صورته تشاهد عينيه حيث يجول ماء الحنان الدائم، وفي محياه علامات الألم الذي لا يشفى، وتنظر شفتيه الباسمتين، وقامته الممتازة، وتسمع نغمة صوته الحزين، فيذوب إذ ذاك قلبها حنانا وتسيل مهجتها شوقا وهياما، وتحاول أن تقصي هذا المشهد من أمام عينيها فيذهب اجتهادها عبثا.
تاقت نفس مرغريت إلى العودة لبيتها، وهي تظن متيقنة أن قلقها سيذهب أدراج الرياح؛ إذ ليس لديها بعد الرجوع أوقات طويلة فارغة لتتمثل المخيلة بعض الصور والتذكرات المهيجة، وهذا ما كان يحلم به روجر أيضا، حيث كان له تمام الثقة بها، متأكدا أنها لا تأتي أبدا بما يؤلمه ويجرح إحساساته، وكان قد شرح لها كل عواطفه بأرق عبارات، نقلها عن صفحات قلبه ورددها على مسامعها مرارا، وراجعها بأوقات متباينة تكرارا، في أنه لا يبتغي سوى سعادتها. أوليس هو القائل لها: أريد أن تكوني سعيدة فلا أحلم إلا بهذا، ولا طمع لي بسواه، فإن لم تكوني كذلك فإني أحسب ذاتي أتعس الناس. - إني سعيدة يا روجر. - هكذا أتأمل بل أوصيك ألا تسمحي لبعض الصور أن تجول بأفكارك؛ لأنها تضع سما ناقعا في كأس سعادتك، والسموم أجناس، وقطرة واحدة من بعضها كاف لإماتة شاربها. قاومي قلبك وتصورات مخيلتك، وضعي في عقلك أن لا عضد لك غيري، اقصديني دائما في إبان همومك وأحزانك؛ فإن حبي لن يتخلى عنك أبدا.
لدى سماع هذه الكلمات من فيه، انطرحت بين يدي هذا الرجل الرحب الصدر، الكريم الأخلاق، الشريف العواطف، فأنهضها قائلا : هأنذا لك ما حييت.
إن مدام موستل والدة مرغريت سرت سرورا لا مزيد عليه عندما رأت ابنتها في صحة تامة، فضلا عن اعتنائها واهتمامها بشؤون البيت، حينئذ حمدت الله وشكرته شكرا جزيلا. أما مرغريت فإنها كانت تتجنب الذهاب إلى البستان المعلوم حيث الملتقى بألبير، كما أنها أوصت المرضع بأن لا تذهب إليه البتة. وفي ذات يوم شرعت تقص على والدتها ما جرى لهما في أثناء السفر، وما شاهداه من المناظر الجميلة والوجوه الغريبة، وكيف ذهبا إلى مونتى كارلو، ذلك المكان المشهور بالمقامرة - دون أن تذكر بلانش - وما شاكل ذلك، قالت لها: نعم، لقد تنزهت يا ابنتي، وسرحت ناظريك في مناظر لم ترها عيناك قبلا، وهذا لعمري ما يتطلبه سنك، بل إن الإنسان لا يستطيع في كل طور من أطوار العمر أن يألف الوحدة والانفراد، وقد سمي أنسانا لأنه يتطلب ويستدعي من طبعه المؤانسة وألفة بني جنسه، فهو يعيش بينهم ويتعاطى معهم أشغاله وأعماله ويشاركهم في أفكاره، فتكون نتيجة هذا الاختلاط التفكه والتسلي، فضلا عن الإفادة والاستفادة. أما أنا فإني ألوم روجر كل اللوم؛ لأنه يبتعد عن معاشرة الناس، كما أني ألومك ولا أعذرك؛ لأنك لا تحرضينه على ذلك، وها إن زوجك أحسن الرجال لكن فيه هذه الشائبة فقط، فسبحان من تنزه عن النقصان! نعم، إن روجر هو مخطئ بهذا المعنى فقط. ولم لا تزورون بعض الأصحاب والمعارف ثم تستقبلونهم نظير سائر الناس؟ ترى ألا يوجد غير سلفتك وزوجها وأولادها على وجه البسيطة؟ فحبذا الزواج وآله إنما التفنن في المعيشة أمر جوهري ولا غنى لأحد عنه مطلقا، وخصوصا لمن كان مثلك.
بعد أن فاهت بهذه الكلمات رأت ابنتها أن كل ما قالته صوابي وواقع في محله، وقد تصورت أن كل ضجرها ناتج عن الانفراد والوحدة، ثم قالت بلطف: لقد صدقت بما نطقت يا أماه، بل هذا هو عين الحقيقة لكن ... في حالتي الحاضرة قد يعسر الخروج بتواتر! - وماذا تقولين يا مرغريت؟ إن كل أحوالك لا لوم بها، ولقد طويت أطوار حياتك حتى الآن بنوع لا يقبل الانتقاد، وأما زوجك فإنه رجل تفرد بالصدق والأمانة والاستقامة كما لا يخفى على كل من عرفه أو سمع به. - نعم، لكني مطلقة، وعلاوة على ذلك أن اتحادي بروجر ليس كنسيا. - أبعدي عنك هذا الفكر المبين يا ولدي. اتحادك بروجر ليس كنسيا! هذا حديث خرافة، تعلمين أني لست بكافرة، بل أحب الله وشريعته من كل قلبي، ليس اتحادك كنسيا ومع ذلك أراك أحسن بكثير من اللواتي تزوجن في الكنيسة، وأهلا لأن تحسدك النساء اللائي ليس لهن زوج كزوجك صاحب الأخلاق الكريمة والأدب الرائع، فشكرا لذوي الذوق السليم الذين سنوا شريعة الطلاق؛ إذ بها تتخلص المرأة الأمينة من رجلها الخائن، الحمد لله تعالى على انفصالك من ذلك الذي لا يليق بك، أما زوجك الحالي فهو - والحق يقال - كنز ثمين تحسدك عليه بنات جنسك.
Bilinmeyen sayfa