آفاق الإنسانية
العناية الإلهية وتاريخ الإنسان
روح الهند
نشأة غاندي
عقيدته
صلاته
ما هي «الاهمسا»؟ «الاهمسا» من الوجهة العلمية
ثقافة غاندي
غاندي والجيل الجديد ... والمرأة
سياسته
مفتاح شخصيته
تقديره ونقده
مصرعه
هذا هو الإنسان
آفاق الإنسانية
العناية الإلهية وتاريخ الإنسان
روح الهند
نشأة غاندي
عقيدته
صلاته
ما هي «الاهمسا»؟ «الاهمسا» من الوجهة العلمية
ثقافة غاندي
غاندي والجيل الجديد ... والمرأة
سياسته
مفتاح شخصيته
تقديره ونقده
مصرعه
هذا هو الإنسان
روح عظيم المهاتما غاندي
روح عظيم المهاتما غاندي
تأليف
عباس محمود العقاد
زاهد الهند نعى الدنيا وصام
أنا أنعاها، ولكن لا أصوم
طامع الغرب رعى الدنيا وهام
أنا أرعاها، ولكن لا أهيم
بين هذين لنا حد قوام
وليلم من كل حزب من يلوم •••
يعبد الأقوام ما يخشونه
وأنا أعبد ما لست أخاف
ليس ينسى الله من ينسونه
فعلام البحث فيه والخلاف؟
إن وصلتم أو وقفتم دونه
لم يقف دون مقام أو مطاف •••
شرعك الحسن فما لا يحسن
فهو لا يحلو، وإن حل الحرام
ليس في الحق آثام بين
غير مسخ الحسن أو نقص التمام
ما عدا هذين مما يمكن
فاستبحه، وعلى الدنيا السلام
عباس محمود العقاد
آفاق الإنسانية
آفاق الإنسانية واسعة، وأغوارها عميقة، ومداها من الزمن بعيد.
وحق على كل إنسان أن يذرع هذه الآفاق، وأن يسبر هذه الأغوار، وأن يبسط الرجاء على هذا المدى البعيد.
لا لأنه يعلم سيرة هذا الإنسان وحسب، ولا لأنه يحيط بتاريخ هذه الأمة وكفى، ولكن لأنه يحقق معناه ويبلغ به كماله، كلما عرف غاية من الغايات التي تنتهي إليها طاقة الإنسان.
وليس أعون له على ذلك من سير العظماء؛ لأنهم يتماثلون ويتناقضون، ويعرضون لنا ألوانا من القدرة، وأنماطا من الفطرة، وكلهم بعد ذلك على خلق عظيم.
وليس أجدر من عظمة «غاندي» بالمقابلة بينها وبين غيرها من ضروب العظمة الإنسانية؛ لأنك تقابله بألف عظيم من الأقدمين والمحدثين، كلهم يخالفه في كثير أو قليل أو يناقضه في كل صفة من الصفات، وهو بعد ذلك عظيم، وكلهم بعد ذلك عظماء.
والإنسانية العظيمة تطويهم في رحابهم أجمعين.
هذه صفحات تنزع إلى هذه الغاية ولا تنزع إلى غاية غيرها، ليست هي بسجل حوادث ولا تقويم أيام، ولكنها مرآة صغيرة يبدو فيها مناط العظمة من «مهاتما الهند» ... وهو الروح العظيم.
العناية الإلهية وتاريخ الإنسان
هل للتاريخ الإنساني وجهة معينة نستطيع أن نتبينها من جملة الحوادث الماضية؟
هذا سؤال يتوقف جوابه على سؤال آخر وهو: ماذا عسى أن تكون وجهة التاريخ المعقولة إذا تخيلنا له اتجاها يتوخاه على نهج مرسوم؟
شيء يتعلق بالإنسان الفرد.
وشيء يتعلق بالناس كافة، أو بالإنسانية جمعاء.
فالشيء الذي يتعلق باتجاه الإنسان الفرد هو ازدياد نصيبه من الحرية والتبعة.
والشيء الذي يتعلق بالإنسانية جمعاء هو ازدياد نصيبها من التعاون والاتصال.
وزيادة نصيب الفرد من الحرية والتبعة هو المطلب الشامل الذي تنطوي فيه جميع المطالب، فهو أشمل من القول بازدياد العلم أو ازدياد القوة أو ازدياد الفضائل والملكات؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في زيادة استعداده لحق الحرية وزيادة قدرته على احتمال التبعة.
وكذلك يقال عن التعاون بين عناصر الإنسانية برمتها، فهو أشمل من القول بارتقاء النظم السياسية، وارتقاء المعاملات التجارية، وارتقاء الأخلاق الاجتماعية؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في التقارب بين الأمم والتعاون بينها على وسائل الوحدة والاتصال.
هذا وذاك هما الوجهة المعقولة التي نتخيلها للفرد وحده، وللناس كافة إذا كان للتاريخ وجهة معقولة تدل عليها الحوادث الماضية.
وهذا وذاك هما في الواقع سبيل الاتجاه الوحيد الذي يطرد في حوادث التاريخ.
فكان الإنسان الفرد قبل نشأة القبيلة هملا مستباحا، لا يحفظ له حق، ولا يفرض عليه واجب، ولا ينال من الحرية إلا ما يغفل عنه المعتدون عليه.
ثم نشأت القبيلة فنشأ معها للفرد نوع من الضمان، ولكنه ضمان شائع لا يستقل فيه بحرية ولا بتبعة، فيؤخذ بذنب غيره في الثأر والمغرم، ويقاسمه غيره فيما يغنمه ويستولي عليه، فهو رقم متكرر وليس بكم مستقل في الحساب.
ثم نشأت الأمم فازداد نصيبه من الحرية كما ازداد نصيبه من التبعة، وأصبح المقياس الوحيد لارتقاء الأمة هو مقدار حظ الفرد فيها من الحريات والتبعات.
فليس لارتقاء الأمة علامة أصدق من هذه العلامة: وهي حريات الفرد وتباعته، بل ليس للارتقاء عامة علامة غيرها يطرد بها القياس في جميع الأمور، أو كما قلنا في كتابنا «هتلر في الميزان» إن: «مقاييس التقدم كثيرة يقع فيها الاختلاف والاختلال، فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تتاح السعادة للحقير ويحرمها العظيم، وإذا قسناه بالغنى فقد يغنى الجاهل ويفتقر العالم، وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشامخة وتجهل الأمم الوثيقة الفتية، إلا مقياسا واحدا لا يقع فيه الاختلاف والاختلال: وهو مقياس المسئولية واحتمال التبعة، فإنك لا تضاهي بين رجلين أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل منهما هو صاحب النصيب الأوفى من المسئولية، وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بتبعاته، والاضطلاع بحقوقه وواجباته، ولا اختلاف في هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر والرجل الرشيد، أو بين الهمجي والمدني، أو بين المجنون والعاقل، أو بين الجاهل والعالم، أو بين العبد والسيد، أو بين العاجز والقادر، أو بين كل مفضول وكل فاضل على اختلاف أوجه التفضيل ...»
تلك هي وجهة التاريخ المطردة في حالة الإنسان الفرد حيث كان.
أما وجهته في حالة الإنسانية كلها فالاتجاه إلى التقارب بينها مطرد متعاقب في كل مرحلة من مراحل التاريخ.
ونحن الآن في عصر يلمسنا هذا التقارب في كل علاقة من علاقات العالم المعمور: في المواصلات، وفي المعاملات، وفي الروابط السياسية، وفي نقل المعلومات وإذاعة الأخبار، وفي هذا التضامن التام الذي يجعل الأزمة في ناحية من الأرض أزمة قريبة يحس بها أبعد الأمم من تلك الناحية، أو يجعل القوي مهتما بموقف الضعيف منه مهما يكن من اعتزازه بالسطوة والثراء.
ولم تكن الحروب ولا المطامع حائلا دون هذا الاتجاه، بل لعلها كانت من دوافعه ودواعيه، فأسفرت كل حرب من حروب الرومان والفرس والعرب والصليبيين والعثمانيين عن تشابك بين ناحية وناحية من الكرة الأرضية، ومن جراء هذه الحروب تشابكت آسيا وأوروبة وأفريقية، وانفتح الطريق إلى القارات المجهولة.
وإذا نظرنا إلى أثر الحروب في المخترعات وتسخير قوى الطبيعة جاز لنا أن نقول: إن وسائل المواصلات قبل غيرها مدينة للحروب بالشيء الكثير، فماذا يكون الطيران والرادار ومحركات القوى جميعا، لولا ضرورات الحروب واشتراك غريزة الدفاع عن النفس في سباق هذا المضمار؟
بل نحن نتعلم من التاريخ أن الدولة الفاتحة لا تدوم إلا بمقدار ما يكون لدوامها من رسالة عالمية.
فدولة الرومان دامت حين كانت لازمة للعالم، وأخذت في الانحلال حين بطلت رسالتها العالمية، واستلزم التحول في أطوار الأمم واتساع مجالها رسالة عالمية أخرى على غير ذلك النظام. •••
ولنبحث عن دلائل هذا الاتجاه في تاريخ الإقليم الذي نتكلم في هذا الكتاب عن بطل من أبطاله: وهو الإقليم الهندي، أو الأقاليم الهندية على التعبير الصحيح.
فقد كانت حروب الاستعمار الأوروبي محنة طامة على الشرق بأسره، نقم منها الشرق لما أصابه من بلواها، ورغب فيها الغرب لأمر أراده وأرادت الحوادث غيره، ولم يخطر للشرق ولا للغرب على بال.
لم تكن الهند قط وطنا واحدا في عصر من العصور.
لأنها كانت تتألف من شتى العناصر وشتى المذاهب، وشتى اللغات، وشتى المصالح، وشتى المواقع الجغرافية.
فلم تدافع قط دفاعا واحدا، ولم تشترك قط في هجوم واحد، ولم تجمع قط على مطلب واحد بينها وبين أبنائها، ولا بينها وبين الغرباء عنها والمغيرين عليها.
فلما ابتليت باستعمار واحد طغى عليها من أقصاها إلى أقصاها، وجد فيها «وطن واحد»، يواجه ذلك الاستعمار بمطلب واحد، وهو مطلب الخلاص منه، كيفما تعددت وسائله بين طلابه.
وولدت الهند مولدا جديدا في التاريخ.
وزال الاستعمار أو كاد، وبقيت الهند الجديدة، وبقيت معها علاقات يشتبك فيها الشرق والغرب، وتنتظم في الوحدة الإنسانية على نحو لم تعهده ولم تحلم به قبل محنة الاستعمار. •••
إذا كان اتجاه التاريخ المعقول هو الاتجاه الذي تنتهي إليه الحوادث في حياة الفرد وحياة الإنسانية عامة.
وكان هذا الاتجاه مما تلتقي عليه عوامل الوفاق وعوامل الشقاق، ويتوافى عنده ما يراد وما لا يراد.
فمن عمل المؤرخ الباحث، لا من عمل المتدين المؤمن فحسب، أن يفهم للتاريخ معنى غير معنى المصادفة العمياء، وأن يرى للعالم مصيرا مقدورا يمضي إلى غاية هذا الاتجاه حيث تهديه عناية الله.
روح الهند
ونعني بروح الهند ما يقابل «السيكولوجية القومية» التي تميز أمة من أمة في الخصائص النفسية.
وليس من اليسير أن نتكلم عن سكان الهند كأنهم أبناء قومية واحدة؛ لأنهم لم تتفق لهم قومية في العنصر، ولا في اللغة، ولا في العقيدة، ولا في الدولة، ولا في المعالم الجغرافية.
فلم يشعروا قط في تاريخهم القديم بشعور أبناء الدولة الواحدة، ولم يجمعهم قط فخار وطني واحد، أو عصبية قومية واحدة.
فليس من اليسير أن نتكلم عن روح الأمة حين لا تكون هناك أمة، ولكن هذه الخاصة السلبية هي في الوقت نفسه جامعة الهند الكبرى؛ لأن خلو النفس الهندية من دواعي العصبية القومية قد فسح الطريق لشعور آخر يشغل تلك النفس ويستغرقها في مكان العصبية القومية، وهو الحاسة الدينية أو الحاسة الروحانية.
فاتجهت النفس الهندية إلى هذا الشعور بقوة واحدة إذ كانت الأمم الأخرى تشغل جانبا من روحها بالنخوة الوطنية وجانبا منه بالحياة الروحية، فكانت العقيدة للهندي ملاذ جسد وملاذ روح، وعوضا من فخر الدول وعصبية الأقوام.
قال «تاجور» في محاضراته التي ألقاها على الأمريكيين عن القومية في العالم: «إنه لما كانت مشكلاتنا في الهند داخلية أصبح تاريخنا تاريخ معالجة أخلاقية دائمة ولم يكن تاريخ قوة منظمة للدفاع أو الهجوم. وما كانت العالمية الغامضة التي لا لون لها، ولا الوثنية العارمة التي تتراءى في عبادة الأمة لنفسها لتكون هي الغاية القصوى التي يسعى إليها تاريخ بني الإنسان».
وكأنما أراد الشاعر الكبير بكلامه هذا أن الهند بدأت حيث تنتهي أمم أخرى؛ لأن كفاح القوميات سينتهي لا محالة إلى تعميم الآداب الإنسانية، أو إلى حل المشكلات الأخلاقية، وهي المشكلات التي فرضت على الهند بحكم حالتها الخاصة منذ بداية تاريخها.
أما الأمة - كما عرفها الغرب - وعرفتها أقوام أخرى، فهي كما يقول تاجور: «وحدة سياسية اقتصادية ليس لها غرض خارجي - أو غرض إنساني عام - لأنها هي غرض لنفسها إنها تعبير لدني للإنسان باعتباره كائنا اجتماعيا ولها غاية سياسية، ولكنها تتجه إلى غرض اجتماعي هو حفظ الذات ... إنه جانب القوة وليس بجانب المثل الإنسانية العليا.»
ولا بد في رأي الشاعر من تقارب الرأي بين الوجهتين؛ لأن الغرب ضروري للشرق ضرورة الشرق للغرب، وإنما هذا الاختلاف في وجهات النظر إلى الحياة هو الكفيل بأن يعطي الإنسان صورا مختلفة للحق والأخلاق.
وكلام الشاعر عن الفارق بين الوجهتين صحيح في جملة حدوده، فإذا عمل صاحب القومية للجماعة التي هو واحد منها، فصاحب العقيدة الروحانية يعمل «لروح الإنسان» أو يعمل لغاية إنسانية تتجاوز الفرد كما تتجاوز الجماعة، إذ هي ليست غاية إنسان بعينه، وإنما هي غاية «الإنسان» حيث كان.
وغاندي - نبي الهند - يفهم وطنه كما يفهمه تاجور شاعر الهند، ويشعر به على هذا النحو من الشعور، فكان يقارن بين السواراج أو الاستقلال، وبين «الاهمسا» أو ضبط النفس، ومقاومة العنف بالحسنى، فيقول: إن الاهمسا مقدمة على السواراج؛ لأنها هي الاستقلال الصحيح. ويريد بذلك أن غاية الاستقلال هي خلاص البلاد من الحكومة الأجنبية، ولكن الإنسان قد يحكم بلده ولا يحكم نفسه، ولا يفلت من طغيان شهواته وأهوائه، وإنما كان حكم النفس هو الاستقلال جد الاستقلال.
غاندي وطاغور.
وقد يكون الهندي مسلما لا يدين بالبرهمية ولا بالنحل التي تفرعت عليها، ولكنه يظل هنديا في هذه الخاصة الهندية: وهي أنه ينوط وجوده باعتقاده ولا ينوطه بموضع ميلاده، ومن هنا كانت دولة الخلافة أهم في نظر المسلم الهندي من القضية الوطنية في داخل بلاده. وكان موقف الدولة البريطانية من الخلافة العثمانية هو الذي يعين موقف الهنود المسلمين من تلك الدولة، ويجنح بهم تارة إلى موالاتها وتارة إلى الثورة عليها.
بل قد يكون الهندي عالما من أفذاذ علماء الطبيعة، كما كان جاقاديس بوز
Jagadis Bose
نابغة العلوم الطبيعية والنباتية في زمانه (1858-1937). ولكنه لا ينسى هذه الروحانية في بحوثه وتجارب معمله، فكان يؤلف الكتب في جهاز النبات العصبي، وفي استجابة الأحياء وغير الأحياء للمؤثرات الطبيعية ، ويخلص من ذلك إلى القول: بوجود روح للنبات وشيوع الحس الروحاني في سائر الموجودات، كأنه يخلص إلى القول: «بوحدة الوجود» من طريق العلم وتجارب «الفيزية» والكهرباء.
ولا نحسب أن الخلو من الدولة وحده هو الذي نزع بالنفس الهندية هذا المنزع الذي تفردت به أو كادت بين النفسيات القومية، فإن الهند قد اجتمع لها من مظاهر الطبيعة وأنواع الأحياء ما لم يجتمع لإقليم آخر، فكانت خليقة أن تنظر إلى هذه المظاهر وهذه الأحياء نظرة شاملة لكل ما في الحياة، وأن تجعل حقيقة الوجود ماثلة في كل صورة من صورها، وكل نموذج من نماذجها، ولا تفصل بين بعض منها وبعض في معالم الوجود، كما يحدث أحيانا في كل وطن يستأثر به نوع من المظاهر أو نوع من الأحياء.
هذه الروحانية هي سمة الهند الكبرى، وهي التي تفسر لنا كثيرا من غوامضها، وغوامض أبطالها، ومنهم - بل في طليعتهم - غاندي، موضوع هذا الكتاب.
وقد يحسن بنا أن نقول: إن الحاسة الروحية تراد هنا بمعناها الذي تقابله الحاسة الوطنية أو الحاسة القومية، وليس من الضروري أن تقابل الحاسة الجسدية، فقد يكون الهندي منغمسا في شهوات الجسد ومطامع المال والسطوة كما يكون أبناء الأمم الأخرى، ولكنه يخالفهم في إحساسه بمعنى الوطن ومعنى الدين، ويخالفهم في إيمانه بالغاية القصوى من الحياة الوطنية.
وهذا هو الفارق المهم في هذا الموضوع.
نشأة غاندي
من العظماء من يستطيع المؤرخ أن يهمل تاريخ أسرته ولا خسارة عليه ولا على العظيم الذي يكتب تاريخه؛ لأن فهم ترجمته لا يردنا إلى تراجم آبائه وأجداده، ولا يزداد وضوحا بالرجوع إليها.
ومنهم من ترتبط ترجمته وترجمة أسرته كما يرتبط الفصلان في قصة واحدة، فلا تفصله سيرته عن سيرهم إلا عرض لها بعض النقص، أو بعض الحاجة إلى التساؤل والتفسير.
ذلك هو العظيم الذي تعرف أخباره وأخبار قومه فلا تزال تقول: نعم هذا هو جده الصالح، هذا هو الأب الذي ينجله، هذه هي الأم التي تغذوه بلبانها وتنشئه في حجرها وتلقنه حروفه الأولى.
وغاندي من هؤلاء العظماء، بل من أندر الأمثلة على الصلة بين حياة الأبناء وحياة الآباء.
كانت أسرته أصلح أسرة يخرج منها قديس مثله، وكانت أمه على الخصوص هي الأم التي لا نستغرب خلقا من أخلاقه ولا عملا من أعماله، إذا عرفنا سيرتها وعرفنا ما تلقاه من كيانها وما تلقاه من قلبها ولسانها.
كان جده «أوتاغاندي» رئيسا للوزراء في «بور بندر» أو البلدة البيضاء، وكان مع اشتغاله بالسياسة رجلا لا ينسى عهده ولا ينقض وده.
ألجأته صراحته إلى ترك وظيفته والهجرة من بلده واللياذ بأمير إقليم «جوتاجاد»، فلما لقي الأمير سلم عليه بيده اليسرى إيذانا من اللحظة الأولى ببقائه على عهد أميره الأول، وقال: إن يدي اليمنى هي اليد التي عاهدت بها أمير «بوربندر»، فلا أعاهد بها مرتين!
وكان أبوه كرمشاند غاندي - أو كابا غاندي، كما عرف بين أهله - هو الولد الخامس لجده، والولد الأول من زوجته الثانية - وقد كان وزيرا في «راجكوت»، ثم وزيرا في «فانكانار»، ومات وهو يتقاضى معاشا من حكومة راجكوت ...
وفقد كابا غاندي زوجتين قبل أن يتزوج بأم غاندي «بوتلباي» ثالثة زوجاته، ورزق منها بنتا وثلاثة أبناء: أصغرهم هو «المهاتما» ... الذي سمي موهانداس.
وليس «كابا غاندي» قديسا ولا «مهاتما» كولده الصغير، أو ولده الروح العظيم. ولكن ليس في خلائقه ما يمنعه أن يكون أبا لقديس أو مهاتما؛ لأنه كان رجلا صادقا أمينا مستقيم الطوية لا يؤخذ عليه، إلا أنه كان غضوبا في صراحته، إذا كان في الصراحة وفاء بواجب: تطاول بعض كبار الساسة على أميره في غيبته فحفظ الوزير الأمين غيبة أميره ورد على السياسي الكبير سوء المقالة بمثلها، فحبس ليعتذر، فلم يعتذر، فأطلقوه.
وقد يؤخذ عليه أنه بنى بزوجته الرابعة وهو فوق الأربعين، ولكنه لم ينقض بذلك عرفا ولا خرج على عقيدة، وإنما هي النزعة الجسدية التي ورثها منه ابنه، وغالبها فغلبها حين نذر نفسه للقداسة والجهاد.
أما أمه «بتولباي» فلك أن تقول: إنها قديسة غير ذات رسالة، كانت تكتفي في اليوم بوجبة واحدة من الطعام، وكانت تصوم في معظم الأيام، وكانت على غيرتها الدينية متصرفة في عقيدتها. فقد قيل: إنها نشأت من الطائفة الفشنافية الهندوكية، فتحولت إلى العقيدة «الجينية»؛ لأنها وجدتها أقرب إلى النسك وأقرب إلى الكمال.
منها تلقى الوليد الصغير إيمانه بالصيام، فكان عادة له في حياته الخاصة، وكان عادة له في حياته العامة، بل كان أكثر من عادة في هذه الحياة التي حفلت بأحداث السياسة ... كان حصنا يلوذ به لينتصر فيه أو ليموت، فنذر الصيام خمس عشرة مرة، آخرها صيامه الذي نذره قبيل وفاته لكف عدوان الهندوكيين عن المسلمين، وطال خمسة أيام، وقد طال صيامه خمسة وعشرين يوما في إحدى هذه المرات.
ومن أمه، أخذ ما كان أفعل في تاريخه وتاريخ الهند كلها من الصيام، وهو الإيمان بعقيدة الجينية في «الاهمسا»، أو الكف عن العدوان.
فلا تنفصل عن «الاهمسا» حركة من حركات غاندي، ولا دعوة من دعواته، ولا علة من علل نجاحه، ولا خليقة من الخلائق التي راض عليها عقله وطباعه، ولا تفهم رسالة لغاندي في السياسة أو السلوك أو آداب الضمير، بمعزل عن هذه «الاهمسا» التي كان أصدق رسول لها منذ ارتفعت بها دعوة في البلاد الهندية؛ لأنه رضعها من ثدي أمه قبل أن يتعلمها من مرشد إلى أدب، أو مبشر بدين. •••
ولد موهانداس في اليوم الثاني من شهر أكتوبر سنة 1869، في بلدة «پوربندر» كما تقدم، وهي بلدة من إقليم يقع بين السند وبومباي يسمى الكوجرات، وينفرد بلغته وبعض عادات أهله بين الأقاليم الهندية.
وقد روى لنا غاندي في سيرة حياته أو في اعترافاته شيئا من المحن التي عرضت له في صباه.
قال: إنه كان جبانا وكان يستمع إلى الأحاديث عن اللصوص والأشباح والثعابين فيفزع منها ولا يجرؤ على الخروج من بيته في الظلام، ولا ينام في حجرته إلا على نور، وظل كذلك حتى تزوج - وقد تزوج في الثالثة عشرة من عمره على عادة أهل الهند جميعا من الزواج الباكر - فكان يخجله أن يرى زوجته الصغيرة أقدر منه على مواجهة الظلام.
ونحن ننصف الرجل من تواضعه إنصافا للحقيقة فيما نراه. فقد يسمى ما وصفه جبنا، إذا كان الرجل قد عرف في جميع أيام حياته بحادث واحد يشف عن خوف من المخاطر المادية أو ما هو أرهب منها وأهول على الضمير: وهي المخاطر النفسية. وليس من المعقول أن يؤدي الإحساس بالجبن إلى انقلاب في طبيعة الإنسان يجعله من أشجع الناس وأقدرهم على مواجهة الخطوب التي يتقيها أشجع الشجعان، وإنما نسمي «الجبن» هذا بوصف آخر هو الوصف الذي اشتهر به الرجل طول حياته: وهو ملكة التصديق والإيمان، فلا فرق عند صبي مطبوع على ملكة التصديق والإيمان بين شيء يصدقه وشيء يمسه ويراه. وقد كان حديث المردة والشطار والثعابين حديثا مشاعا بين أطفال الهند يسمعونه كلما أصغوا إلى أقاصيص العجائز في بيوتهم، فكان يؤمن بوجودهم حيث توهمهم كأنه يلمسهم ويراهم. ونحن لا نصف بالجبن إنسانا يتقي مكامن اللصوص وجحور الحيات في الظلام، ولكننا نصفه بالحيطة الواجبة على الرجل العاقل، ونلومه إذا استطاع أن يقهر المخاوف فأحجم عن قهرها، ولكننا لا نطلب منه أن يتصدى لقهرها في ليله ونهاره بغير داع يدعوه إلى منازلتها، وهو قادر على اجتنابها.
إلا أن اعتقاد غاندي الجبن في نفسه خطأ له شأن يذكر في تاريخ نشأته؛ لأنه دفع به إلى تجارب نفسية كان لها أثر بليغ في تكوين خلقه واعتقاده.
ففي صباه كان صبيان الهند جميعا يتهمون أنفسهم بالجبن ويحسون بالنقص كلما عقدوا المقارنة بينهم وبين شبان الإنجليز، وكانت تسري بينهم أبيات من الشعر نظموها بالإنجليزية نترجمها في هذه الأبيات:
أنظر إلى ابن انجلترا
منتصرا مظفرا
يسطو على الهندي وال
هندي يشكو القصرا
لأكله اللحوم طا
ل واستطال وازدرى
ووقر في أنفسهم أنهم يكسبون الشجاعة وقوة الخلق إذا نبذوا معيشتهم، وأكلوا وشربوا ودخنوا وقصفوا ولعبوا كما يفعل الشبان الإنجليز.
ووسوس بهذا إلى غاندي زميل من زملاء المدرسة، فسرق غاندي دريهمات من خادمه ليصبح بطلا تعتز به الهند في وجه الدولة البريطانية ... وأكل اللحم المحرم، وهم باستباحة غيره من المحرمات. وجرأته السرقة الأولى على سرقة أخرى، فعاد إلى السرقة في المرة الثانية؛ لأنه رأى دائنا يلح على قريبه في طلب دين عليه، فاختلس من يد ذلك القريب قطعة ذهبية ليؤدي عنه دينه الذي يمطل به غريمه.
وعز على غاندي وصاحبه أن يختلسا القوة هكذا، وألا يجسر أحدهما على مكاشفة أهله بما يفعل فساورهما الأسف وحز في نفسيهما الكبت والروغان، وفكرا في «الانتحار» واشتريا السم فعلا وأكلا منه، ولكن دون المقدار الذي يميت.
وخيل إلى غاندي فترة من الزمن أنه ينكر كل عقيدة ويلحد في الله، إلا أنها كلها محنة عارضة لا مفر منها لقديس صغير، فإن القديس الصغير لا يولد وهو قديس كبير، فغشيته الصدمة الأولى كما لا بد أن تغشاه، وكانت غاشية غريبة عن طبيعته ومزاجه وتربيته، فلم يلبث طويلا حتى ثاب إلى إيمانه وتقاليد قومه. فاجتنب اللحم وعافه حتى بات يتقزز من رؤيته ويفزع من الحلم بمنظره، وكان بره بوالديه - ولا سيما والدته - من أكبر أسباب توبته ورجوعه إلى سالف اعتقاده؛ لأنه أشفق أن يعلما باستباحته أكل اللحم، وهي فظاعة عندهم كفظاعة أكل الخنزير عند المسلم، وأنف أن يكذب عليهما ويلقاهما بالرياء والخداع، ولم يكن من طبعه نهما ولا مسترسلا مع الإباحة والإنكار، فعاد بعد هذه الغاشية إلى إيمان أثبت من إيمان الطفولة وأقوى.
وتزوج غاندي - كما تقدم - على عادة قومه وهو في الصبا الباكر، فخطبت له الصبية «كسترباي» من عشيرته وهو في الثامنة، وبنى بها وهو في الثالثة عشرة، ولم يبلغ العشرين حتى صار أبا لأربعة أطفال، أكبرهم «هيرالال» الذي مات بعد مقتله ببضعة أشهر، وكانت وراثته «الغاندية» قلقا دينيا خامره منذ صباه، فلم تعجبه الجينية ولا البرهمية، وانتحل الإسلام والمسيحية، واعتزل أهله منذ فارق نحلة الأسرة إلى أن مات (يونيو 1948).
ولا يذكر غاندي بالرضى زواجه في هذه السن الباكرة. فكتب في ترجمة حياته أن أهله أصروا على تزويجه وتزويج أخيه، وأحد أبناء أعمامه في يوم واحد «ولم ينظروا إلى مصالحنا ولا عنوا بسؤالنا، كأنما كل ما في الأمر أنهم راضون وأنهم قادرون على تكاليف الزفاف، وليس الزواج عند الهندوكيين بالأمر الهين، فقد يجر الخراب على أسرتين، وفيه ما فيه من تضييع المال والوقت وقضاء أشهر في إعداد الملابس والحلي وأدوات الزينة وإقامة المآدب، ومباراة كل من الأسرتين للأخرى في النفقة؛ لتبذها في السرف ومظاهر الوجاهة.»
وأصاب غاندي في امتعاضه من هذه العادة التي لا خير فيها؛ لأن نفقات هذا الزفاف الضخم قد نالت من ثروة أبيه وهي ليست بالثروة الطائلة. فقد كان الرجل أعف من أن يستخدم منصبه لابتزاز المال، ولعل امتعاض غاندي من تزويجه في هذه السن على غير موافقة منه قد ظل عالقا بنفسه إلى أن تولى زعامة قومه، فأنحى على هذه العادة أشد إنحاء، واستهدف من جراء ذلك لغضب الكثيرين من المحافظين.
ويمكن أن يقال: إن الصبي القديس كان يقبل على الشيء أن ينفر منه بمقدار نصيبه من اختياره، فنفر في صباه من المسيحية؛ لأن المبشرين بها كانوا يفرضون بشارتها فرضا على الصغار والكبار، ونفر من الألعاب الرياضية؛ لأنها كانت «مادة إجبارية» في المدرسة، وكان إصغاؤه إلى أحاديث المسلمين عن دينهم أيسر وأسمح؛ لأنهم كانوا لا يقحمونها على مستمعيها.
أما تعليم الصبي فقد اتبع فيه أهله ما يتبع في تعليم الأطفال من أبناء أمثالهم، وكان أبوه في راجكوت حين بلغ موهانداس الصغير سن السابعة أو سن الدراسة الابتدائية، فألحقه بمدرستها وانتظم في المدرسة الثانوية وهو في الثانية عشرة، وقال عن نفسه: إنه كان في طفولته فج الذاكرة فلم يحفظ جدول الضرب إلى بشق الأنفس، ولم يكن من التلاميذ اللامعين، ولكنه كان يقبل على دروسه ولا يتوانى في استذكارها.
ولم يتعلم في المدرسة كثيرا من الدروس الدينية، ولكنه كان يتلقاها في البيت والمعبد ويعي منها كل ما يلقى إليه.
ومات أبوه وهو في السابعة عشرة من عمره، فكفله أخوه الأكبر، وكان أيضا أخا جديرا بقديس ... فإنه توسم النجابة في أخيه الصغير فنسي أثرته ورشح هذا الأخ الصغير للقيام على رئاسة الأسرة، والترقي إلى مركز في الوزارات الإقليمية كمركز أبيه، ولا يهيئه لهذا المركز في عصره إلا تعليم كتعليم الجامعات في الهند والأقطار الأجنبية، فأشار على كبراء الأسرة بإعداد موهانداس لهذا التعليم.
وكان أمامه جامعتان: إحداهما جامعة بافنجار والأخرى جامعة بومباي، وهي أكبر نفقة مما يطيق، فاختار كلية ساملداس في الجامعة الأولى. وقال: إنه غرق في علومها فنقل إلى بيته بعد نهاية السنة الأولى، فنصحه برهمي صديق للأسرة بالسفر إلى البلاد الإنجليزية لدرس القانون، ومال هو إلى الطب ... فذكره أخوه أن أباهما كان يمقت تشريح الجثث، وأن وظيفة الطبيب لا ترشحه لولاية الوزارة، فجنح إلى الدراسة القانونية إكراما لذكرى أبيه.
وهنا قامت في وجهه العقبة الكبرى؛ لأن إيغال فتى مثله فيما وراء البحار مستنكر في شريعة الجينيين، ولم يكن في الهند كلها سيدة أشد تحرجا من مخالفة عقيدتها من السيدة «بوتلباي» والدة غاندي، فضلا عن تحرج أهله وسائر أقربائه.
إلا أن غاندي الذي شب في صباه وديعا مطواعا قد شب كذلك قوي العزيمة لا ينثني عن رأي عقد النية عليه، فلم تنفع حيلة من حيل آله في إقناعه، واستطاع كاهن الأسرة أن يجد للأمر مخرجا يرضي الأم ويرضي فتاها، فقال لهم: إن النذر باجتناب المحرمات في بلاد الغربة كاف إذا وثقت الأسرة من رعاية الفتى لنذره. وكانت الأم تعرف وليدها وتطمئن إلى صدقه في وعده، فأقسم بين أيديهم لا يقاربن امرأة ولا يذوقن خمرا ولا يأكلن لحما أو طعاما محرما ... ومع هذا لم يسلم الفتى من غضب المتشددين من كهان عشيرته، فاستدعاه رئيسهم في بومباي وهو يهم بركوب الباخرة إلى البلاد الإنجليزية، ونبهه إلى الخطر على عقيدته من معاشرة الأوروبيين في بيوتهم؛ لأنهم يشربون الخمر ويأكلون اللحوم، ولا يتورعون عن مقاربة النساء. فلم يحفل غاندي بتنبيهه، وأصر على السفر في حينه، فأعلن الكاهن عقوقه وحظر على أبناء العشيرة أن يذهبوا لتوديعه.
ويمتحن مهاتما المستقبل في هذه الرحلة بالفتنة الكبرى.
فالنزعة المادية طاغية، والإباحة الخلقية فاشية، وفلسفة العصر في أواخر القرن التاسع عشر - بين الجيل الجديد خاصة - أن اللهو حق له بل فريضة عليه. وقد أوشك غاندي أن يطلب هذا الحق ويدين بهذه الفريضة، فتدرب على الرقص وتعلم العزف على بعض الآلات الموسيقية، وصحب رفاقه إلى السهرات وراض نفسه على أدب المغازلة، ثم أحس أنه يتكلف ولا يخف بطبعه إلى استجابة هذه الفتنة. وشاءت المصادفة أن تقترن فلسفة العصر بفلسفة أخرى في البيئات التي تعنيه، وتستحوذ على هواه إذ كانت نهاية القرن التاسع عشر أيضا فترة الاستشراق، والتوفر على دراسة أطوار الشرق القديم والشرق الحديث: فكثر بين علماء الغرب من يدرس اللغة الهندية ومأثورات البرهمية والبوذية، إما استجابة لدواعي الاستعمار، أو استجابة لنوازع الروح وامتعاضا من غواية المادة ولجاجة الإلحاد التي أفسدت على بعض العقول معنى الحياة. وكانت هذه الشواغل القليلة أقرب إلى سليقة غاندي وأقمن منه بالتلبية والإصغاء، فاتصل بالأندية الصوفية، واطلع في اللغة الإنجليزية على آداب قومه التي فاته أن يطلع عليها في اللغة السنسكريتية، وعاد من طريق أوروبة الحديثة إلى تاريخ وطنه القديم.
ونال إجازة الحقوق بعد ثلاث سنوات، فرجع إلى وطنه وهو أطيب ما يكون قلبا بلقاء أمه ووفاء نذره، ولكنه سمع - أول ما سمع - بنعي تلك الأم التي ماتت في غيبته، وكتموا نبأ موتها عنه إشفاقا عليه من صدمته وسوء وقعه في طمأنينة نفسه وانتظام دراسته، فاستفاد يقينه من هذه الصدمة المفاجئة فائدة لم يطلبها ولم تقع في حسابه؛ لأن وفاءه لذكراها قد ضاعف حفاظه على نذرها، واجتمعت الأمومتان: أمومة الجسد، وأمومة الوطن في أمومة واحدة، وهي أمومة العقيدة الروحية.
وزاول غاندي صناعة المحاماة زهاء سنتين في وطنه، فكانت أول تجربة له فيها إخفاقا تاما؛ لأنه حصر عن الكلام، ولم ينجح فيها بعد تكرار التجربة ولا رضي عن عمله في هذه الصناعة؛ لأنه أخذ نفسه بالصدق في قبول دعاواه، وأنف من اقتناص أصحاب القضايا بالحيلة ومعونة السماسرة. فما هو إلا أن دعي إلى أفريقية الجنوبية حتى بادر إلى قبول الدعوة ووصل إلى بريتوريا في سنة 1893، وهو لا يعلم بما يضمره له الغيب في هذه الرحلة المفاجئة فقد كانت مفرق الطريق في حياته وفي حياة بلاده على الإجمال.
سافر غاندي إلى أفريقية الجنوبية بدعوة من بعض الشركات الإسلامية التي كانت تتجر على شواطئ المحيط الهندي من أقصاه إلى أقصاه، ولم يدع للمحاماة، بل لمساعدة المحامين الكبار من الإنجليز؛ لأن المحامي الإنجليزي هو الوكيل القضائي الذي يسمع له صوت في محاكم أفريقية الجنوبية.
ولكنه ذهب في الواقع إلى تلك البلاد لأمر آخر مطوي عنه وعن موكليه في عالم الغيب المجهول.
ذهب ليتلقى رسالته في حياته.
فتلقى رسالته وعرف قضيته ووضع قدمه على فاتحة الطريق التي انتهت به إلى زعامة الهند كلها، بعد جهاد طويل دام نحو عشرين سنة، ووضع هناك (سنة 1908) دستور الهند في جهادها السياسي والأخلاقي، فكان هو الدستور الذي قاد به الهند إلى استقلالها.
في أفريقية الجنوبية ضرب غاندي وأهين؛ لأنه اجترأ على النزول في الفنادق الأوروبية والركوب في السكك الحديدية مع الأوروبيين، وكاد أن يحرق حيا في النزل الذي أوى إليه بعد العودة من زيارة قضاها في بلاده؛ لأن «البيض» قد حسبوا أنه مهد السبيل في هذه الزيارة لإغراق أفريقية الجنوبية بالعمال الملونين.
وهناك عرف القوانين التي كانت تفرض الحيف فرضا على الأسيويين والأفريقيين من الشعوب التي يسمونها بالشعوب الملونة، ولا سيما طوائف الزراع والصناع.
وهناك ألغى أعماله كلها ليعيش عيشة الفاقة والضنك مع أولئك البائسين، ويشاطرهم الظلم الذي يخضعون له ويريد أن ينقذهم منه. فأنشأ لهم مزرعة يعملون فيها كما يعمل ويعيشون فيها عيشة الكفاف؛ ليحطموا قوانين الحكومة الظالمة بالصبر والمقاومة السلبية، وسماها مزرعة تولستوي.
ونزل الفتى النظري الروحاني في معركته السياسية الأولى إلى ميدان كله عمل ومادة؛ لأنه عالم السلاح والمال، ولكنه - عند النظر إلى الوسائل والنتائج - قد كان في ميدانه هذا عمليا أنجح من العمليين، وقد بلي منه العمليون بخصم جديد لم يعهدوا مثله قط فيما عهدوه.
غاندي في الجامعة.
لقد عهدوا من معارضيهم حملات الصحافة، ولم يهمل غاندي هذه الحملات؛ لأنه تولى تحرير صحيفة سماها (الرأي الهندي) تصدر بالإنجليزية وثلاث لغات هندية، ولكنها لم تكن قصاراه من الكفاح.
ولقد عهدوا من معارضيهم حملات المنابر، ولم يهمل غاندي هذه الحملات؛ لأنه كان يخطب ويقنع، ويخاطب المتعلم والجاهل بما يفهمان، ولكنها كذلك لم تكن قصاراه من الكفاح.
إنما السلاح الجديد الذي جاءهم به هو سلاح لم يخافوه قط ولم يحسبوا يوما أنه يخيف لو أنهم عرفوه، وذاك هو سلاح المقاومة في غير عنف، أو سلاح المقاومة السلبية كما عرفه ولاة الأمر في حكومات الجنوب.
كان بعض الهنود ينقادون لغاندي في حملات المقاومة السلبية؛ لأنهم يؤمنون مثله باجتناب العنف والتورع من إزهاق كل حياة.
لكن عمال الجنوب فيهم صينيون وأندونسيون، وفيهم هنود غير مؤمنين بالنحلة التي يؤمن بها الزعيم، وفيهم زنوج ووثنيون لا يعرفون من الأديان غير أديان الهمجية الأولى.
وكانوا مع ذلك يطيعونه جميعا ويعملون بما أرادهم عليه؛ لأنهم مطمئنون إلى إخلاصه الذي لا تشوبه شائبة ولا ترتقي إليه مظنة.
هذا الإخلاص النزيه هو العنصر الذي جهله ولاة الأمر، واستخفوا بالمقاومة السلبية لجهلهم بفعله في هذه الحركة، وفي كل حركة سياسية.
فلما التقاهم به الفتى القديس وجدوا منه ما لم يجدوه من قبل في خصومات الساسة، ومشاغبات الدعاة.
ترك غاندي كل عمل فيه ربح مالي، ووقف ما عنده من المال على معونة المعوزين من المظلومين، وسكن من حيث كانوا يسكنون، وأكل مما كانوا يأكلون، ونزل بالسجن مرات حيث ينزلون، وهجر الحضارة وزينتها في الملبس والشارة، وعرض نفسه لكل مهانة يتعرض لها أضعف الضعفاء وأفقر الفقراء.
فأغمضوا العيون وفتحوا البصائر واتبعوه.
وهكذا يصنع الأتباع مع كل متبوع لو وجدوه، ولكنهم لا يجدونه واحدا فردا بين عشرات ومئات.
وأوصاهم إذا كفوا عن أعمالهم أن يكفوا عن إكراه من يعمل على ترك عمله، وأن يكفوا عن مقاومة الجند الذين يسوقونهم سوقا إلى المصانع والمزارع؛ لأن الجند لن يحركوا أيدي العمال بالفئوس والآلات إذا شاءوا أن ينبذوها ولا يحركوها، أما إذا ضربهم الجند أو جرحوهم أو قتلوهم فليصبروا وليصبروا، وليطيلوا الصبر بغير سأم ... إن المعتدي خليق أن يسأم عدوانه قبل أن يسأموا الصبر على ذلك العدوان. وقد جعلهم يتحدون أوامر الحظر في الأماكن الممنوعة فذهبوا إليها بالألوف وحيروا الحكومات والمحاكم؛ لأنهم لا يبالون السجن ولا تتسع السجون كلها لهذا العدد الكثير من السجناء.
وكان يجمع من المال ما وسعه أن يجمع لتموين العمال المضربين، ويمضي في تنظيم المزارع النموذجية ليستخرج لهم منها بعض القوت الكفاف، وهو أكثرهم في العمل وأقلهم في نصيبه من الغذاء، وليست وسائله هذه بالوسائل التي تغني في انتظام معيشة يعتمد عليها الألوف من العمال المضربين إلى أجل طويل، ولكنها كافية لتعجيز المصانع والشركات عن الانتظام، أو تعجيزها عن مقاومة الإضراب وذلك هو المقصود.
وطال صبر الفتى القديس عشرين سنة، ولم يطل صبر المصانع والشركات، ولا صبر الجند وولاة الأمور، فانتصر وانكسروا وأفلحت هذه المقاومة العجيبة في تحطيم سلاح القوة وتحطيم سلاح القانون. واضطرت حكومات الجنوب إلى نسخ كثير من القوانين التي تحجر على حرية العمال الملونين في الإقامة، أو تقتر عليهم في الأجور، أو تسومهم الطاعة لما لا يطاق من الغبن والإجحاف.
غاندي في أفريقية الجنوبية.
وكأنما كان غاندي يحس في أيام أفريقية الجنوبية أنه قد نوى الصمود على جهاد لا تجدي فيه أنصاف القوى، فلا غنى له عن عدته الروحية الكاملة، أو لا عدة له على الإطلاق.
ففي أفريقية الجنوبية - وهو يناهز السادسة والثلاثين - نذر النسك والتبتل، أو نذر ما يسميه الهنود «بالبرهماشاريا» أي: الإعراض عن الجسد والسلوك إلى الله، واتفق وزوجه على هذا النذر، فأصبح يدعوها بعد ذلك «با» أو يا أماه.
وللروح - إن صح التعبير - عضلاتها كما للجسم عضلاته، وللصراع في إبرام تلك العضلات أثر كأثره في إبرام هذه العضلات. فلما عاد غاندي إلى الهند بعد صراعه الطويل في أفريقية الجنوبية، عاد بروح قد عرف كيف يلوي الحديد.
عاد إلى الهند بعد نيف وعشرين سنة (1915)، فإذا بسمعته تسبقه إلى كل بقعة من بقاعها: سمعة القديس بل سمعة المخلص الموعود أو «الأفاتارا»
Avatara
الذي تنتظره الهند أبدا في أزمة الضيق والأمل .
وكان أمل الهند في الخلاص قد تجدد في أوائل القرن العشرين. لأن أبناءها الذين خيل إليهم زمنا أن الاستعباد ضربة لازب عليهم وعلى أمثالهم من الأسيويين، قد أفاقوا يوما فإذا بدولة أسيوية لا تبلغ عدتها خمس عدتهم قد سخرت الجيوش والأساطيل على أحدث نظام، فقهرت بها دولة من أكبر الدول شهرة بالقوة والبأس بين الهنود والأسيويين على التعميم. كانت غلبة اليابان على روسيا مبعث رجاء جديد في جميع الأقطار الأسيوية التي منيت ببلاء الاستعمار، وجاءت الحرب العالمية الأولى بعد ذلك بأقل من عشر سنوات، فكشفت لأبناء الهند عن حاجة الدولة الأوروبية الأولى - الدولة التي تسيطر عليهم - إلى معونة منهم لمقاومة خصومها أو لإنقاذ كيانها.
فعلموا أن رضاهم شيء يؤبه له، أو شيء له ثمن يؤديه القوي المسيطر عليهم، وهو راض أو كاره.
وفي هذه الآونة عاد غاندي إلى بلاده، فلا جرم يحسبونه قد هبط عليهم من السماء في ساعة الضيق وساعة الرجاء.
ولم ينغمس غاندي بادئ الأمر في لجة السياسة الهندية التي كانت تضطرب بالخصومات الحزبية والطائفية في تلك الآونة، لعله أخذ في ذلك بوصية الزعيم جوكهيل
Gokhale
الذي نصح له بمراقبة الحالة سنة كاملة ريثما يستجمع فكره على رأي يستخلصه من تجاربه ومشاهداته، أو لعله آثر بطبعه إصلاح الأخلاق وتقويم المجتمع ومساعدة العمال والزراع على طريقته التي جرى عليها في أفريقية الجنوبية. فسعى في إنصاف العمال والزراع بالحسنى أو بالمقاومة السلبية، وطفق يجول في الريف ويتنقل على قدميه من قرية إلى قرية؛ ليرفع من شأن الطبقة الفقيرة في القرى بما استطاع. وبدأ منذ هذه الرحلات القصيرة في مقاطعة الآلة الحديثة كلما أمكنه أن يقاطعها، فلم يركب السيارة ولا القطار، إلا حيث كان الركوب ألزم للرحلة من المسير على الأقدام.
ولم يلبث أن طارت شهرته بالقداسة، بل بالكرامة والخارقة المعجزة، فأخذ الناس من ثم يروون عنه الخوارق التي كان هو أول المكذبين لها، ومن تلك الآونة تعود القديس أن يرى في طريقه أمهات يلمسنه بأطفالهن الصغار طلبا للبركة والهداية، وعجائز ضريرات يعز عليهن أن يعبرن طريقهن دون أن يعرج عليهن، فيترصدن في مجاز السيارة ليلمسنها ولو على خطر الموت، إن فاتهن أن يسعدن بمصافحة القديس العابر في الطريق، وتعاظمت هذه الشهرة في الاستفاضة والرسوخ حتى جاء يوم من الأيام، بعد فترة من الزمن، آمن فيه عامة أهل الهند بأن الزلزال الذي أصاب «بيهار» إنما كان عقوبة إلهية أرسلها الله على القوم؛ لأنهم لم يستمعوا إلى عظات غاندي في معاملة المنبوذين.
ولم يكن هذا إيمان العامة وحدهم، بل كان من راجات الهند وخاصتها من يرفع صورة غاندي في قصره تيمنا بقداسته، وإن خرج بذلك على مقتضى التقية في مسلك الأمراء والعظماء.
كانت هذه الشهرة المقدسة تتجمع حول غاندي يوم جذبته السياسة إليها جذبا على غير اختياره.
وكان أهل الهند يومئذ في سياستهم الوطنية على مذاهب شتى: فريق يجنح إلى الثورة الدموية، وفريق يجنح إلى التعاون مع الإنجليز تمهيدا لبلوغ المزيد من الحقوق الدستورية، أو حقوق الحكومة الذاتية، وفريق يجنح إلى عدم التعاون استعجالا لبلوغ هذه الغاية.
وليس في هذه الأحزاب كلها حزب يحجم عن عمل من أعمال العنف، أو أعمال الغيلة والفتك، إذا أحرجته الضرورة إليه.
وكان على زعامتهم جميعا في أوائل القرن العشرين رجل من أعظم نوابغ الهند في الزمن الحديث، وهو «لوكمانيا بال جانجدبار طيلاق».
ولقد كان طيلاق عالما واسع المعرفة بالعلوم الرياضية والثقافة الهندية والغربية، قويم الخلق، عالي النفس، قوي الشكيمة، صعب المراس، يقول فيه غاندي: إنه لو ظهر في الزمن القديم لكان من مؤسسي الدول والعروش.
وأكبر الظن أنه لو عاش طيلاق وطال به العمر، لوقعت النبوة بينه وبين غاندي في برنامج السياسة الوطنية؛ لأنهما مزاجان متباينان، ولكنه قضى زمنا في السجن ثم قضى نحبه في سنة 1920، قبل أن تنعقد الزعامة الإجماعية لغاندي، فظلا مدى الحياة على الوفاق. •••
وكأنما كانت الهند تروز مكان الزعامة منها حتى وجدت زعامتها التي تلائمها، بعد هذا التمهيد من تطور غاندي وتطور الحياة الشعبية في بلاده، فلما تولى غاندي زعامتها تولاها زعامة هندية وروحانية توائم الهند كل المواءمة، وتصلح لها حيث لا تصلح الزعامات على منهاج الشعوب الأوروبية.
ويبدو لنا أن صفات غاندي كلها قد رشحته لهذه الزعامة الروحانية، حتى عيوبه الظاهرة، فإن القماءة والضآلة والانكسار نقص في الزعيم، ولكنها في الداعية الروحاني كمال أو توفيق حسن بين دعوته ومرآه، وقد اقترنت صفاته جميعا بالإخلاص الذي يعلو على الشبهات، فكانت شهادة له عند الخصوم كما كانت شهادة له عند الأصدقاء.
قلنا حين كتبنا عنه قبل نيف وعشرين سنة: «لم يظهر بعد طيلاق الزعيم الهندي الذي مات في الأعوام الأخيرة زعيم كان أجل خطرا وأبعد صيتا، وأكثر أتباعا من غاندي، هذا الذي لقبه قومه بالنبي أو القديس. وقد اعتاد غاندي أن يقول عن سلفه الراحل: إنه لو ظهر في القرون الغابرة لأنشأ له دولة وعرشا، وهو إنما قال فيه هذا القول لما عرفه من شدة مراس طيلاق وقوة شكيمته وبعد أمله واعتداده بنفسه وبروز شخصيته. ولا نظنه إلا كان شاعرا بالتفاوت بينه وبين صاحبه في هذه الخصال حين التفت إليها ونوه بها أكثر من مرة، فإن الاختلاف في الخلق من هذه الناحية هو أوضح مواضع التباين بين الرجلين: صاحب العرش الذي تأخر به الزمن عن عرشه، والنبي الذي لم يتأخر به الزمن عن شرف النبوة! «والعهد بالأغلب الأعم من أبطال النهضات، وقادة الحركات الاجتماعية والسياسية أن يكونوا صعاب الطبائع ضخام الأنانية، أولي طمع وكبرياء، وأنهم إلى أخلاق الغزاة الفاتحين أقرب منهم إلى أخلاق الأنبياء والنساك. ولو قدر للهند ألا يتولى الزعامة فيها أحد من غير ذلك الطراز الذي نبغ منه طيلاق لما سمعنا باسم غاندي قط، ولما كان له دور يؤبه له في رواية الهند الحديثة ... نعم فليس غاندي بذلك الرجل الجبار بشخصيته، الغلاب بحيلته، ولا هو بالمزاول المداور، القوي العارضة، الخلاب الفصاحة، ولا هو بالرجل الذي تروعك هيئته، وتستحوذ على إعجابك هيبته، لا بل خلاف ذلك يراه واصفوه من أتباعه وغير أتباعه يقولون: إنهم يبصرونه في ضواه، ونحافة جسمه، ورخامة صوته، ووداعة نظراته ، فكأنما يبصرون طفلا صغيرا لا بطلا مسموعا يقود الملايين وينهض لمناوأة أكبر دولة في الأرض. وقد رأيت له عدة صور مطابقة لهذا الوصف، وقرأت أخباره مع حكومة الهند، وأساليبه الغريبة في مصاولتها، فلم أشك في أن رؤساء الحكومة هناك كانت تمر بهم لحظات لا يتمالكون فيها من الابتسام لهذا القدر الذي امتحنهم بكفاح هذا النبي السياسي، فأصبحوا أمام حملاته التي كان يصبها عليهم صبا لا يدرون في أي باب يسلكونها: أفي باب اللدد في الخصومة، أم في باب عناد الطفولة الطاهرة البريئة؟ ولا يكادون يعلمون هل يجد هذا الخصم العنيد، أو هو يداعب حكومة الهند برهة، ثم هو تاركها وشأنها حين يلهمه هواه.
إلى هذا الحد يتصور الفكر غاندي غير مطبوع على إثارة البغضاء، وهي خصلة أفادته أجل فائدة في مهمته التي قيضته الظروف لها، وما كانت لتقيض لها رجلا هو أخلق بها منه ... إنها كانت مهمة صاحبها في غنى عما يتصف به الزعماء الجبابرة من خلق غضوب يستنفرون به في جانبهم وجانب خصومهم أقصى ما عند الفريقين من نعرة الجنسية وعداوة العصبية، فهي مهمة جهاد سلمي، سلاحها الرفق والصبر، وأصلح الناس لقيادتها ذلك الرجل المسالم بطبعه، الوديع بحكم تكوينه، الذي يحذر أتباعه أشد الحذر من مقارفة العدوان والعنف، ويقول لهم: إذا كان لا بد من العدوان فكونوا أنتم ضحاياه ولا تكونوا أنتم جناته، ويعظهم أن يعلوا بأنفسهم عن غضب السباع وشراسة الحيوانية، وهي كذلك مهمة تأليف بين عنصرين فرقتهما ترات تاريخية كانت إلى عهد قريب تسيل الدماء، وتذكي ضرام البغضاء، وتبعث الأنفة والاعتزاز بالآباء، فكلما كان القائم بها سهل العريكة، بعيدا عن الكبرياء الشخصية والخنزوانة الدينية، كان ذلك أعون له على الإصلاح والتوفيق ومسح الترات، ولم الصفوف، وهي مع هذا وذاك مهمة قناعة وإعراض عن لذات المدنية وغواياتها، ومن لها غير غاندي المتواضع المتقشف، القانع باليسير من الغذاء والرخيص من الكساء؟ لو أنه كان من رجال المطامع، وعشاق الدنيا المفتونين بجاهها وزينتها ولذاتها وملاهيها - أتراه كان يخطر له أن يتخذ نفسه قدوة لاتباع دعوته، فيغدو ويروح في ثياب من أرخص ما تنسج الهند، أو يعيش على الفاكهة والأرز المسلوق؟ لقد صار للدين ومكارم الأخلاق كل ما عمله غاندي ونطق به، حتى الدعوة إلى نبذ مظاهر المدنية الغربية قد وجد لها حجة من مكارم الأخلاق تحث عليها، فكان يقول لجماعته: «إنني لأستحيي أن أخاصم رجلا يمن علي بنسج ملابسي ...» وما هو بهازل ولا متكلف فيما يقول.
ويخيل إلي أن ضمور الشخصية أفاد غاندي أكثر مما أضر بنفوذه، وأكسبه من الأنصار أكثر ممن أبعد عنه، إذ كانت الشخصية الضامرة هي التي ساعدته على بلوغ تلك المنزلة الدينية الرفيعة، التي مهدت له سبيل التمكن من أقوى جوانب النفس الهندية - وهو جانب الشعور الديني - فإنه ما زال من سمات النساك والروحانيين بساطة المظهر وخشوع النفس والجسم، والبعد عن صور السطوة والوجاهة الدنيوية، بذلك يتسم النساك الصادقون، وكذلك يتراءى للناس النساك المتصنعون، فصاحبنا غاندي في بنيته النحيلة وقده الصغير، أصدق عنوان للزهد والورع وأقرب صورة إلى الصلاح والتقوى. ويمكن أن يقال على سبيل المجاز: إن الطبيعة تورعت في تركيبه فلم تعمد إلى البذخ والروعة، فكان الرجل متقشفا في الحياة، وكانت الحياة متقشفة فيه.
وكثيرا ما رأينا الكبراء، من ذوي الصلف والنفوذ يقبلون الطاعة لأمثال غاندي ممن لا سلطان لهم في ذواتهم، ولكنهم مظهر من مظاهر سلطان الله، الذي لا يتعالى على سلطانه عظيم ولا حقير: يقبلون الطاعة له، ولا يقبلونها لمن يتقدم إليهم بمزايا من جنس مزاياهم؛ لأن الأول يترك لهم الدنيا التي هي موضع تفاخرهم وتناحرهم، ومثار التنافس والحسد بينهم، فيخرجونه من ميدان المنافسة، ولا يرون في أنفسهم غضاضة من تقديمه عليهم جميعا، والثاني يتقدم إليهم بحظه من تلك المزايا لينافسوه أو ليستكبروه عن منافستهم، فيسلمون له عند العجز مجبرين أو مختارين كمجبرين. وللضعيف الهيئة في بعض الأحيان أن يغتبط بضعفه الظاهر، ويحمد عواقبه لأن الناس لا يكلفونه ما يكلفون القوي ولا يقيسون أعماله بمقياس ذوي القدرة والخطر ... يستكثرون منه القليل إذ يستقلون من غيره الكثير، ويعجبون منه بما ليس يعجبهم من سواه، مثله في ذلك كمثل الطفل الصغير يرفع اللبنة فتسير بحديثه الأمثال، وليس هذا ولا أضعافه مما يذكر للرجل الكبير. ... إن غاندي كما رأينا مما تقدم صاحب زعامة خاصة بموقفه ومهمته، أي: إنه لم يخلق ليكون زعيما على كل حال، ولا نقول ذلك بخسا لشمائل الرجل ولا تنقصا من قدرته، فإنه فضلا عن فصاحته وسهولة اجتذابه للسامعين حاصل، كما نعتقد، على صفتين من ألزم صفات الزعامة على الناس، بل هما ألزم صفاتها قاطبة ولولاهما لما أفلح داع قط، ولا استحق الكرامة زعيم، وهاتان الصفتان هما: الإخلاص والإيمان.
فإخلاص غاندي فوق كل شبهة، وإيمان غاندي قد صفته المحن ومحضه النسك، وتنزه عن الشكوك الهادمة والوساوس القاتمة ... عرف له إخلاصه وإيمانه أبناء قومه فعظموه وأكرموه ورفعوه بينهم مكانا لا مطمع فوقه لطامع، وما أدراك ما مكانه عندهم؟ إنهم يلقبونه: النبي أو الروح العظيم (ماه-آتما) وهي منزلة ليس بعدها ولا أرفع منها في دين البراهمة إلا منزلة واحدة ... هي الروح الكلية (بارام-آتما) وهي روح برهما: روح الله.
ولم ينفرد بتنزيه غاندي عن التهم أبناء وطنه من البراهمة والمسلمين، فقد شهد بنزاهته كذلك كل من رآه من الأوروبيين، حتى أنصار الاستعمار من الإنجليز، بل شهد له قاضيه الذي أمضى الحكم بالسجن عليه. ورأينا بين كتاب الإنجليز من يقول في مجلة «نيشن» غير متلعثم ولا محترس: إنه ليس من التجديف أن يقارن بين غاندي والمسيح، وهي كلمة كبيرة من إنجليزي مسيحي في العصر الحديث، ولم يستطع السير فالنتين شيرول أن يلقي عليه الغبار الأسود الذي لا يعييه إلقاؤه على مخلوق يناهض الاستعمار البريطاني، فقال: إنه في الحركة الهندية «بلا فأس يشحذها لنفسه ...» وهذه الفأس عندهم هي كناية عن المصلحة الشخصية والأغراض المريبة، وكم من فأس خلقها شيرول وشحذها على حسابه لأناس لا يحملون الفئوس!» •••
خلصت الزعامة لغاندي على هذا النحو الذي يعد أعجب ما حدث من نوعه في تاريخ الزعامات السياسية؛ لأنك تستطيع أن تقول: إنه بلغ الزعامة بغير مجهود، كما تستطيع أن تقول: إنه بلغ الزعامة بأكبر مجهود يدخل في طاقة إنسان.
فغاندي لم يزاحم أحدا على زعامة وطنه، ولم يزاحمه أحد عليها، فهي زعامة من ثم بغير مجهود.
ولكن غاندي قد استحق الزعامة باعتراف موافقيه في الخطة ومخالفيه، واعتراف المستعمرين أنفسهم؛ لأنه انتصر في أصعب المعارك على المجاهدين: وهي معركة الشهوات والمطامع، وراض نفسه على ترك كل ما يصعب تركه واحتمال كل ما يصعب احتماله، فدانت له النفوس سهلة القياد بعد أن دانت له نفسه حيث لا تدين النفوس، وكانت أكبر شهادة له بين أبناء وطنه من أكبرهم وأولاهم أن ينفس عليه، وهو الشاعر تاجور، فقال عنه من كلام كثير: «إنه أعظم شخصية إنسانية رآها».
ولما خلصت له زعامة وطنه على هذا النحو مضى بها على سنته التي لا يحيد عنها، وهي سنة الحب الشامل والاحتراس من كل نزعة من نزعات الكراهية والعداء، وإن أصابه شر ما يصاب به المرء من أذى الكراهية والعداء.
ولا تخالجن أحدا ذرة من الشك في صدق غاندي حين يقول: إنه يحارب الاستعمار ولا يكره المستعمرين. فهكذا كان في كل صغيرة وكبيرة من حركاته ودعواته منذ بدأ جهاده في أفريقية الجنوبية: كان يحارب الأوروبيين والإنجليز ولا يعاديهم، وكان يرى لهم عليه حقوق الإنسانية كما يراها لأبناء وطنه وللمظلومين من أبناء الشعوب الملونة. فجند فرقة للصليب الأحمر في أيام حرب البوير، وأنشأ مستشفى في جوهانسبرج لعلاج جميع المرضى بالطاعون حين فشا في جوانبها، وهادن الحكومة في أوقات الحرج حتى جلب على نفسه سوء الظن من أبناء وطنه أنفسهم، فضربوه (في سنة 1907) ضربا مبرحا ليقتلوه، ولم يتركوه إلا وهم يحسبون أنه قد مات.
وهكذا كان يصنع في خصومة الحكومة الهندية على اختلاف موقفه منها، فكان يدعو أحيانا إلى التعاون وأحيانا إلى المقاطعة، واشتد في حركة المقاطعة (سنة 1920) حتى أمر أتباعه بالاستقالة من وظائف الحكومة ورد الرتب والألقاب الإنجليزية والإضراب عن أداء الضرائب، وعن المساهمة في القروض الحكومية، وحرم عليهم كل سلعة أجنبية، ونقض جميع القوانين التي تحتكر بها الحكومة سلعة من السلع، وتجاوز هذه القوانين إلى غيرها إذا وجب تحدي جميع القوانين لشل حركة الحكومة.
ولكنه كان في كل هذه المواقف معاونا أو مقاطعا، يوصي ويكرر الوصية باجتناب العنف واحتماله عن رضى وطواعية، واستخدام السلاح الوحيد الذي كان يرى أنه سلاح النصر في حالتي النجاح والإخفاق، وهو سلاح المحبة والمسالمة. وكان يقول لأتباعه: حاربوهم بالسلاح الذي يخافونه لا بالسلاح الذي تخافونه أنتم، وبينوا لهم أن سلاحهم لا يخيفكم فتفلوا ذلك السلاح في أيديهم، أما السلاح الذي كان غاندي يرى أنه يخيف المستعمرين فهو سلاح المحبة؛ لأنه سلاح جديد لم يتعودوه.
ومن اعتزازه بهذا السلاح أنه وصفه لهتلر ... نعم وصفه لهتلر كما يصنع أصحاب مصانع الأسلحة إذ يصفون مخترعاتهم الماضية لمن يحتاجون إليها. فكتب إلى هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية يقول له بعد مقدمة يذكر فيها تردده قبل الكتابة إليه: «... وظاهر جدا أنك اليوم الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يمنع حربا قد تهبط ببني الإنسان إلى درك الهمجية، فهل من اللازم أن تبذل هذا الثمن لأي غرض من الأغراض بالغا ما بلغ من الرجاحة في نظرك؟ أتراك تصغي إلى توسل رجل تعمد عن روية طويلة أن يتجنب وسائل القتال فلم يفته نصيب غير قليل من النجاح؟ غفرانك على أية حال إن كنت قد أخطأت في الكتابة إليك ...»
وهذا الخطاب يدل على أساليبه السياسية، كما يدل على اعتزازه بسلاحه. فإن غاندي صارح الإنجليز بوجوب الجلاء عن الهند بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، وقال: إنه لا يبغي بذلك إعناتهم في وقت المحنة، وإنما يعجل بالطلب؛ لأنه لا يرى ما يوجب تأخير الجلاء إلى ما بعد وقوف القتال في الميادين الأوروبية أو الأسيوية، ولكنه مع هذا لم ينظر إلى الحرب العالمية كأنها فرصة مواتية يترقبها لمصارحة الإنجليز بطلب الجلاء، وحاول بما في ميسوره أن يثني عنها من يخشى منهم الإقدام عليها.
غاندي الزعيم.
وتهتاج الخواطر ما تهتاج وتتبيغ الدماء ما تتبيغ، ويفلت زمام العقول والأعصاب من قبضة العلية والدهماء على السواء، وغاندي على عهده في صدق الخصومة سرا وعلانية، وفي صدق الإيمان بسلاحه وصدق النفور من كل سلاح غيره، ولم يبح قط لنفسه أو لأحد من أعوانه أن ينسى المحبة في حركة واحدة يقابلون بها المعتدين عليهم، أو ينسى الصدق في كلمة واحدة يذكرونها عنهم. وأدهش البريطانيين بشدة حرصه على صدق الكلمة الواحدة في حادث - على الخصوص - كان أخلق الحوادث أن يطلق الألسنة بالاتهام في غير تمحيص وإحجام، وهو حادث امرتزار المشهور.
في الثالث عشر من شهر أبريل سنة 1919، وقعت أكبر وصمة في تاريخ الاستعمار البريطاني للهند، وهي مذبحة امرتزار وكانت هذه المذبحة أضخم خطأ تجمعت فيه أخطاء الإدارة والسلطة العسكرية في حساب السياسة، وحساب المبادئ الإنسانية، وحساب العرف والنظام.
كانت الهند كلها تشتعل بالسخط والغضب، وكان الهندوسيون والمسلمون على السواء على أشد النقمة من الحكومة البريطانية؛ لأنها أخلفت وعودها لهم، وناصبت الخلافة الإسلامية عداء صريحا في تأييدها هجوم اليونان على أرض الأناضول، بعد أن حارب المسلمون في صفوفها معتمدين على وعد قاطع منها ألا تمس الخلافة الإسلامية بعد هزيمة الجيوش التركية.
وخرج غاندي في رحلة سلمية يهدئ أبناء وطنه ويجمع الهندوسيين والمسلمين على خطته في اجتناب العنف وإهراق الدماء، فقبضت عليه الحكومة وأعادته إلى بومباي. وسرى الخبر في أرجاء الهند فوقعت بعض حوادث العدوان هنا وهناك وكانت «امرتزار» من المدن التي وقعت فيا هذه الحوادث ونهب فيها بعض الدور والدكاكين.
فوصل الجنرال «سير ميشل داير» إلى المدينة يسبقه إعلان - لم يعلم به أحد - بمنع الاجتماعات، وكان اليوم الثالث عشر من شهر أبريل موعد اجتماع ديني في ميدان محصور يسمى «جلنوالا باغ» فاعتقد الجنرال أن المجتمعين يتحدونه ويعصون أمره، فأمرهم مرة أخرى بالتفرق، فلم يستطيعوا أن يتفرقوا على عجل لأن المكان محصور، فأطلق عليهم مدافعه الرشاشة حتى نفذت ذخيرته، وقتل في هذا اليوم عدد عظيم من المجتمعين والمجتمعات يقدرهم بعضهم بأربعماية، ويبلغ به بعضهم أربعة أضعاف هذا العدد. ولم يكتف الجنرال بإهراق الدماء حتى أضاف إليه إذلال النفوس، فأمر ألا يعبر الهنود طرقا معينة إلا زحفا على الركب؛ لأنها الطرق التي أهينت فيها بعض السيدات خلال الحوادث التي وقعت قبل وصوله إلى المدينة.
إن الجريمة أفظع من أن يلتزم فيها أقل حيطة في الاتهام.
ولكن غاندي أبى - مع فظاعة الجريمة التي تغري بكل تهمة - أن يثبت في محضر التحقيق حرفا واحدا لا تقوم البينة القاطعة على ثبوته، فلما اجتمعت لجنة التحقيق الوطنية لكتابة تقريرها عن الحادث، ووردت فيه بعض الأقوال التي يؤخذ منها أن الجنرال «داير» تعمد أن يستدرج المجتمعين إلى الأماكن المغلقة التي ينالهم فيها الرصاص، أصر على حذف هذه الأقوال لأنها في رأيه «لا تعقل» ولم يقم عليها من الأدلة ما ينفي الشبهة عنها. ثم أصر في مؤتمر «امرتزار» الذي عقد عند نهاية السنة على استصدار قرار من المؤتمر كله باستنكار أعمال العنف التي وقعت من جمهرة الهنود في البنجاب والكوجرات، فصدر القرار على الرغم من معارضة كثير من أقوى الأعضاء لاقتراح غاندي، وعلى رأسهم «داس» ومؤيدوه.
ويشبه هذا الحادث في صدق الكلمة وأمانة العقيدة إعلانه وقف العصيان المدني على تبعته وحده بعد الهياج الذي انفجر في المدن الهندية لمناسبة زيارة ولي العهد الإنجليزي لمدينة بومباي (1921).
ففي ذلك الوقت كان رؤساء المؤتمر جميعا معتقلين أو مسجونين، وكان الطلقاء منهم على خطر من الاعتقال أو السجن، وكان غاندي يتولى رئاسة صحيفة «الهند الفتاة» التي كانت بمثابة صحيفة المؤتمر الرسمية، فقرر المؤتمر إسناد السلطة التنفيذية إليه في خلال هذه المحنة، واتفق الرأي على إعلان العصيان المدني فحدث على أثر إعلانه أن الدهماء ثاروا في «شورى شورا» وقتلوا في هذه الفتنة اثنين وعشرين من رجال الشرطة. فلم ينتظر غاندي حتى يجمع المؤتمر ويعرض عليه إعادة النظر في قراره، بل أعلن باسمه وحده وقف حركة العصيان المدني إلى أن يتهيأ سواد الشعب لفهم هذه الحركة وتنفيذها على وجهها المقصود: وهو المسالمة واجتناب كل عمل فيه عدوان على أحد من الحاكمين أو المحكومين، واشتدت الثورة عليه في المؤتمر من جراء هذا الإعلان الجريء، واقترح أحد الأعضاء توجيه اللوم إليه وناصره أعضاء آخرون، ولكنه عند أخذ الرأي لم يظفر بكثرة الأصوات.
ومن الجائز أن هذه المواقف المستغربة التي كان «المهاتما» يقفها من قومه في أحرج الأوقات وأشدها جماحا بالنفوس، كانت تمتحن قداسته في نظرهم أعسر امتحان تمر به زعامة سياسية، ولكنه كان هو الناجح أبدا في كل امتحان من هذا القبيل، وكان أبناء قومه يخرجون من كل محنة وقد انقلبت في نظرهم إلى امتحان عسير لهم، يمتحنهم في قدرتهم على مجاراة القداسة وحاجتهم إلى رياضة النفس على طاعتها والائتمار بأمرها، فيخرج غاندي من كل محنة من هذه المحن وهو أعلى مكانا وأقدر على قيادة الخاصة والعامة في أوقات الفتنة والضيق.
أما الإنجليز فقد كانت مخالفة غاندي لهم ومخالفته لنزعات قومه تواجهانهم معا بظاهرة إنسانية عجيبة لا نظير لها في حضارتهم الغربية: ظاهرة يعرفون منها ما يعرفون ويجهلون منها ما يجهلون، ويحيط بها كل ما يحيط بالمجهول من الهيبة والاستغراب، ولكنه استغراب لم يخل قط من عطف وتقدير.
أكبره قومه، وأكبره خصومه، وكانت القوة الروحانية التي استحقت هذا الإكبار هي الجيش الزاخر الذي يحارب به في ميدانه، ويختار ميدانه حيث شاء كما يشاء؛ لأنه لا ينهزم في ميدان اختاره ولا يؤمن بأنه ينهزم، ولا يبالي الهزيمة إذا جاءت بوادرها بغير ما يروم. •••
كان الإنجليز يحارون في هذه القوة كيف يلقونها وكيف يعالجونها إلا شيئا واحدا لا يحارون فيه، ولا يحار فيه غيرهم وهو جدارتها بكل احترام.
وتجلى هذا الاحترام في تلك المحاكمة الفريدة التي لم يشهد لها مثيل في تاريخ القضاء كله، وهي محاكمة «المهاتما» المشهورة التي بدأت في الثامن عشر من شهر مارس سنة 1922 أمام محكمة أحمد أباد.
دخل المتهم الهزيل إلى ساحة المحكمة، فوقفت المحكمة إجلالا له حتى استوى في مكانه.
وسئل عن التهمة - وهي تعريض الحكومة للكراهية وتصعيب مهمتها في حكم الهند - فأجاب بأنه «مذنب» على حسب القانون القائم، ثم وجه خطابه إلى القاضي «برومفيلد » قائلا: «إنك لا معدى لك في مقامك هذا من أحد أمرين: إما أن تعتزل منصبك وتنفض يدك من السوء، وإما أن تصدر حكمك بأقسى العقوبة إذا اعتقدت أن هذا النظام وهذا القانون الذي تطبقه فيهما الخير لأبناء هذه البلاد، وأن عملي من ثم ضار بمصالحهم.»
فمضى القاضي في تلخيص التهمة، وكان في تلخيصه كأنما يستعطف المتهم ويعتذر للحكومة؛ لأنها اضطرت إلى تقييد حريته وكفه عن الاسترسال في دعوة تحول بين الحكومة - كحكومة - وبين القيام بعمل من الأعمال التي تتولاها الحكومات.ثم وجه الخطاب إلى «المتهم» فقال: «إنك رجل يرى فيك الناس - حتى مخالفيك - إنسانا من ذوي المثل العليا والحياة النبيلة بل المقدسة»، ثم نطق بالحكم فإذا هو يقضي عليه بالحبس البسيط ست سنوات. وعقب على ذلك قائلا: «إنه لن يكون أحد أسعد منه إذا استخدمت الحكومة حقها فقصرت هذه المدة أو أطلقت سبيله»، وعاد يسأل غاندي مهونا لوقع هذا الحكم: ألم يحكم بمثله من قبل على طيلاق؟!
فكان مسلك القاضي في القضية كلها مسلك من ينفض الإدانة عن نفسه، ويحاول أن يبرئ نفسه أمام العالم وأمام التاريخ من اتهام يخشى أن يقترن باسمه، ولم يكن مسلك رجل يعاقب ويدين.
لم يكن غاندي «يمثل» في إدانة نفسه، ولم يكن القاضي «يمثل» في تبرئة نفسه، ولكنه كان يعتذر للقانون ويعتذر للسياسة في حضرة قوة أكبر من القانون وأكبر من السياسة، وهي القوة التي لا تجهل ولا يجهل لها أثر، وكان أثرها المحقق أنها قد غلبت قانون الحاكم الأجنبي كما غلبت جيوشه وأساطيله، وانتصرت بالسلاح الذي اختاره صاحبها، وقال غير مرة: إنه يحارب به لأن السلاح الماضي هو السلاح الذي يخافه الخصم لا السلاح الذي يخافه حاملوه.
ولقد أسف أناس من فضلاء الهند ومن عباقرتها النابهين وفي طليعتهم تاجور؛ لأن غاندي سخر هذه القوة الروحانية المثلى في خدمة السياسة.
ولكن الذين عاشوا منهم بعده أو عاشوا إلى أخريات أيامه، قد علموا أنه كان على صواب فيما صنع؛ لأنه لم يفسد روحانيته، بل نقل الروحانية إلى السياسة فأصلحها، وجعلها في نظر الأنصار والخصوم حرفة جديرة بقديسين. •••
لقد كانت هذه القوة الخارقة عنصرا فعالا في تاريخ أربعمائة مليون من الآدميين، وستظل عنصرا فعالا في تاريخ البشر جميعا إلى زمن بعيد.
بم نقيسها إذا أردنا أن نذرع آمادها وندرك أغوارها وآفاقها؟
أبحماية البقرة أو عبادتها؟ أبالصيام إلى أجل أو بالصيام حتى الموت؟ أبالتقشف والزهادة؟ أباجتناب مطلق لكل ضرب من ضروب العنف بغير قيد ولا شرط، ومع جميع الناس، وفي جميع الأحوال؟
كلا، إنما هذه كلها صور وعناوين، وإنما القوة الصحيحة من وراء هذه الصور والعناوين، وكل قوة صحيحة في نفس الإنسان فهي القوة التي تعدو به طوره المحدود، وتخرجه من أثرته الضيقة وتقيمه إنسانا يعلو على صغائر الساعة، ويدين بالإنسانية الشاملة في عمرها الخالد المديد. وما العبرة في القياس الأصيل إلا بهذه القوة الصحيحة، دون ما تتسمى به من الصور والعناوين.
وليس هذا القياس بدعا في القوى الروحانية وحدها، فقد نجد له مثيلا في القوة الجسدية وفي هذه الملموسات المادية التي نحسبها مرجع الصحة والصدق والفهم العملي الذي لا تشوبه المغالطة والخداع.
فهل من «مادية جسدية» أدخل في باب المادة والتجسد من غذاء الأبدان؟
إنه المادة من صميم المادة في عرف الواقعيين والمثاليين والخياليين، ومع هذا نحن نحسه على نحو، وننتفع به في أجسادنا على نحو آخر.
نحن ننتفع بالغذاء لأنه فحم وجير وحديد وملح وفسفور إلى غير ذلك من المعادن المحدودة التي تدخل في بنية الأحياء، فمن الذي يأكل طعامه لأنه فحم أو جير أو حديد أو ملح أو فسفور؟ إن الطبيعة لم تخدع الناس حين جعلتهم يأكلون ويشربون؛ لأنهم يطلبون طعما حلوا، أو طعما حامضا، أو طعما مزا، أو طعما يجلب الشهية ويلذ في المذاق؟
إن الطبيعة لم تخدعهم بهذه العناوين التي اتخذتها أذواقهم ولم تدخلها في تحليل المعامل، ولا أدخلتها في مناقشة الأفكار، ولا هي مثلت لهم الحاجة البدنية بمصطلحات الكيمياء، ولكنها ترجمت لهم نفع الغذاء بهذه الطعوم التي تسيغها الأذواق، ولولا هذه الطعوم لما كان الغذاء.
وهي لم تخدعهم كذلك؛ لأنها ساقتهم إلى حفظ نوعهم بلذة جسدية أو بعاطفة من عواطف الشوق والحنان، ولكنها تتكلم أكثر من لغة واحدة حين تعبر عن حقائقها، وكلها بعد ذلك صدق حاصل على اختلاف العبارات.
فالروحانيون لا يضللون العقول، والماديون لا يعرفون معنى التضليل إذا كانوا يعبرون عن حقائق الحياة بلغة واحدة لا تقبل التنويع، فمادتهم التي يجمعون فيها الصدق كله أشد تضليلا للأحياء من كل دعوة روحانية، إذا جعلنا اختلاف التعبير عن قوى الحياة من قبيل التضليل، أو جعلنا اختلاف الشيء في الحس، وفي وظائف البنية الحية، آية على التناقض والبطلان.
هكذا تعبر الطبيعة عن غذاء الأبدان.
فلماذا نكذبها إذا هي عبرت بمثل هذا التعبير عن غذاء الأرواح؟
إننا إذن لا نصدق مع الروحانيين ولا نصدق مع الماديين!
ولك أن تكون ماديا، أو واقعيا، أو حسيا، في مناقشة الألفاظ التي قالها غاندي والآراء التي بشر بها كما تشاء، ولكنك لن تكون ماديا، ولا واقعيا ولا حسيا إذا أنكرت الواقع المحسوس.
والواقع المحسوس أن غاندي قد حفز روحانية الهند إلى عمل من أعظم أعمالها في تاريخها الطويل، وأنه قد أتى بخارقة لم يأت نظراؤه بأعظم منها في جميع أطوار التاريخ.
عقيدته
يسبق إلى الظن - حين يذكر غاندي زعيم الهند - أنه يدين بالبرهمية: ديانة الهند الكبرى، وأقدم عقائدها المعروفة.
ولكن الحقيقة أنه لا يدين بالبرهمية ولا بالبوذية، التي هي أشهر المذاهب في خارج الهند بعد الديانة البرهمية.
وإنما يدين - كما أسلفنا في الكلام على نشأته - بنحلة خاصة من نحل تلك الديانة القديمة، وهي النحلة الجينية، ولا يزيد عدد أتباعها في الهند اليوم على مليون ونصف مليون.
ولا غنى في الكلام على عبقرية غاندي عن تقرير هذه الحقيقة الهامة؛ لأنها توضح لنا تلك العبقرية من جانبين خطيرين: أحدهما أن الجينية - مع كونها نحلة دينية - هي في الواقع ثورة قومية على سلطان الغزاة الآريين، بل هي أقدم ثورة قومية روحية في الهند على ذلك السلطان؛ لأنها أنكرت نظام الطبقات الذي سجل به الغزاة سيادتهم على الشعوب الهندية الأصيلة، وأخذت في كتابة أسفارها المقدسة باللغة الشعبية المعروفة بالبراكريتية، وهي مشتقة من السنسكريتية القديمة لغة الغزاة الآريين، مع تحريف وزيادة طرأت عليها من اختلاط الغرباء بأبناء البلاد الأصلاء.
فالمهاتما إذن قد ورث دواعي الثورة على - السيادة الغالبة - من عقيدة الجينية، ولم يكن في حاجة إلى جهد كبير ليتجه بفكره وطبعه إلى مقاومة الغزاة الجدد في القرن العشرين ...
وقد ورثت كذلك دواعي الإصلاح الاجتماعي من تلك العقيدة القومية الروحية، فلم يكن في حاجة إلى مشقة كبرى للتفكير في إنصاف الضعفاء، والتسوية بين الطبقات.
أما الجانب الآخر الذي توضحه لنا تلك العقيدة من عبقرية غاندي، فهو مصدر آدابه الروحية التي كثر الكلام عليها بين الكتاب من الغربيين.
فقد سمعنا كثيرا أنه مدين بآداب السلام والمحبة لهذا الكاتب أو ذاك من الحكماء الأوروبيين، وذكروا اسم «تولستوي» الحكيم الروسي على الخصوص؛ لأنه كان أوفر الأعلام العالميين نصيبا من أحاديث الناس وتعليقاتهم، حين نشأ غاندي وأخذ في الاطلاع على الثقافة الأجنبية؛ ولأن غاندي نفسه قد خاطبه مرة خطاب التلميذ للأستاذ، وأشار إليه غير مرة في أحاديثه ومقالاته، وجاءت دعوته بعد دعوة تولستوي في البلاد الروسية، على مبادئ السلام والمحبة واجتناب العنف والانتقام.
إلا أن الواقع الذي لا مراء فيه أن مبادئ غاندي جميعا مستمدة من العقيدة الجينية، وأنه لم يدع إلى خطة واحدة في الإصلاح الاجتماعي أو السياسي لا ترد بجملتها وتفصيلها إلى تلك العقيدة، وكل ما استحدثه فيها من الخطط العصرية فهو من تصرفه ووحي عبقريته، ونزعة مزاجه وتفكيره، على حسب الحوادث والمناسبات.
فعبقرية غاندي لا تفهم على حقيقتها بمعزل عن العقيدة الجينية، وهي أحوج النحل الهندية في خارج الهند إلى شيء من البيان والتوضيح.
تنسب هذه العقيدة إلى «الجينا» بمعنى الظافر أو الغلاب، ويراد بالغلبة هنا غلبة الإنسان على شهواته وغوايات طبعه، ويلقب «بالجينا» عندهم كل إمام من أئمة الهداية يظهر في أوانه المقدور، وهم يظهرون على التوالي في كل دورة من دورات الدهر الطويلة، وهي عندهم دورات أبدية بغير نهاية ولا بداية، تعود كلما انتهت دواليك من أزل الآزال إلى الأبد الأبيد.
ويظهر في كل دورة من الدورات أربعة وعشرون إماما متلاحقين على حسب الحاجة التي تدعو إليهم، ثم يفارقون عالم الجسد إلى غير عودة؛ لأنهم يخلصون من الجسد أرواحا مصفاة، لا تبقى فيها بقية من شوائب المادة تردهم إلى حياة التجسيد.
والإمام الذي يدين به غاندي هو آخر هؤلاء الأئمة في هذه الدورة الدهرية، ظهر في القرن السادس قبل الميلاد، وكانت دعوته معاصرة للدعوة البوذية، ولعلها قد سبقتها بجيل أو نحو جيل ... أما إذا أخذنا بكلام أتباعها فهي أقدم من ذلك بعدة أجيال، بل بعدة دورات من آماد الأزل القديم.
ويسمى هذا الإمام «ترثنكارا ماهاڨيرا
Tirthankara Mahavira » وهو اسم مركب من عدة أسماء، معناها: البطل العظيم صانع المعبر أو القنطرة، كناية عن العبور باتباعه في طريق النجاة.
فكلمة «ترثا» معناها المعبر أو القنطرة، وكلمة «كارا» معناها الذي يصنع، وكلمة «ڨيرا» معناها البطل أو الظافر، وكلمة «ماها» معناها العظيم، ومنها كلمة «المهاتما» التي لقب بها غاندي بمعنى الروح العظيم.
والظفر الأعظم الذي يستحق به الإمام لقب الغلاب أو «الجينا» من كلمة «جي» - أي: النصر - هو الظفر على الشهوات الكبرى، وهي الغضب والكبرياء والجشع والخداع، ومن الشهوات التي يتغلب عليها ما هو دون ذلك في القوة وصعوبة المراس، وهي الهم والخوف والاشمئزاز ولذة الجنس، وما إليها من اللذات.
وخلاصة الدين عندهم اجتناب الإضرار بجميع الأحياء.
ويلخصون هذه الخلاصة في كلمة واحدة هي كلمة «أهمسا» ... وهي كلمة مركبة من كلمتين: همزة النفي عندهم، وهمسا: بمعنى الإضرار.
وهم لأجل ذلك نباتيون لا يبيحون أكل الحيوان على اختلافه، فيحرمون لحوم جميع الأحياء من الأنعام والماشية والسمك والطير، ولا يأكلون البيض والشهد، ويستثنون اللبن لأنه مما يرضعه الإنسان في مهده، فلا تحرم عليه «الألبان»؛ لأن الرضاعة مقترنة بالرحمة والحنان.
ومن عجائب اعتقادهم أنهم آمنوا بوجود ألوف الألوف من الجسيمات الحية التي لا تراها العين قبل أن يعرفها العلم الحديث، فحرموا الخمرة والجعة ؛ لأن الاختمار يقضي على تلك الأحياء، وحرم غلاتهم كل نبات ينمو تحت الأرض - كالبطاطس والفجل والجزر - لاعتقادهم أنها تحمل من باطن الأرض ألوفا لا عداد لها من تلك الأحياء الصغار.
وليست مسألة الأوامر والنواهي عندهم مسألة تحليل وتحريم، كما هو شأنها في جميع الديانات. ولكنهم يعملون الشيء أو يجتنبونه؛ لأن العمل به أو اجتنابه يناسبان طبيعة الروح.
فالسمو إلى عالم الروح هو غاية الغايات من ترقي الإنسان في معارج الحياة.
وعلامة الاقتراب من عالم الروح أن المرء لا يقتل ولا يغضب ولا يسيء إلى أحد من الأحياء؛ لأن شواغل الجسد هي التي تسول له العدوان وتثير فيه البغضاء، فمن غلبته هذه الشواغل بقي في عالم الجسد وعاد إليه، ومن غلبها فآية الغلبة التي يسمو بها إلى عالم الروح هي «المحبة» والسلام، إذ كانت الروح لا تشتمل في طبيعتها على داعية من دواعي النفور والنزاع، وإنما تأتي هذه الدواعي جميعا من شواغل المادة، أو من «الكارما» كما يسمون هذه الشواغل، ويطلقونها على كل عمل من الأعمال الجسدية التي تحول بين الإنسان وبين الصفاء والنجاة.
وللأحياء عندهم خمس درجات يعلو بعضها فوق بعض على حسب نصيبها من الإحساس: أول هذه الدرجات درجة الأحياء ذات اللمس، وتليها درجة الأحياء ذات اللمس والذوق، وتليها درجة الأحياء ذات اللمس والذوق والشم، وتليها درجة الأحياء ذات اللمس والذوق والشم والسمع والنظر، وتليها درجة الأحياء ذات العقل أو الروح «ماناس»
Manas
وهي نوع الإنسان.
وفي الإنسان وحدة تتجلى الروحانية العليا في الوجود، ومنهم من يعتقد أن الروح الإلهي لم يصعد إلى الروحانية الإلهية من غير هذا الطريق.
ولا بد من الولادة مرة بعد مرة للخلاص من أوهاق الجسد ونقائص المادة وحجب الشهوات، فإذا مات الإنسان ترك في الأرض جسده وذهبت روحه بجسدين متلابسين أحدهما أرق من الآخر وأصفى، ولن يخلص من محنة التجسيد حتى ينسلخ عن جميع هذه الأجساد، ولولا ذلك لاستطاع الإنسان أن ينجو إلى عالم الروح بقتل نفسه بيديه، وهو عندهم غير جائز له ، كما لا يجوز له قتل سائر الأحياء، ومن هنا لا يقولون: بقتل المرأة نفسها بإحراقها مع زوجها، كما تقول الكثرة من البرهميين. •••
وليس الزواج محرما في النحلة الجينية بطبيعة الحال، ولكن الإمام الذي يرتفع إلى درجة الهداية في دورة من الزمن لا ينجو من العودة إلى الولادة ولا يبلغ «الموكشا» أي: الخلاص إلا إذا عصم نفسه من كل علاقة جنسية ومنها الزواج، فهو يولد من جديد ما دام يلد أو ينقاد لغريزة التناسل، ولو لم يكن له أبناء.
ولا ينحصر الزواج بين الجينيين في أبناء طبقة واحدة؛ لأن الجينية لا تدين بتفاوت الطبقات ولا تجعلها أصلا من أصول الدين، فعمل الإنسان هو الذي يرتفع به أو ينحدر في طبقات الخليقة، وتنص كتبهم نصا صريحا على أن الإنسان بعمله وحده يصبح من البرهمان أو الكشترية أو الفيشا أو السدرا وهم المنبوذون. ومن الرذائل التي تحول عندهم بين الإنسان والخلاص الروحاني أن ينظر إلى أحد نظرة استعلاء ولو كان من المجرمين، فالحب
Daya
هو ملاك جميع الأخلاق والفضائل وآية الحب أن تحسن، ولا تنتظر الجزاء، وأن تفرح لفرح غيرك وتحزن لحزنه، وتبتئس لسوء حظ المسيء الذي حرم نعمة الإحسان.
وعلى كل جيني أن يروض نفسه على الشظف والقناعة والصبر وضبط الشعور، وأن يعطي دائما ولا يأخذ من أحد شيئا بغير رضاه. •••
وتعتبر الجينية فلسفة كونية كما تعتبر من ديانات التعبد والسلوك.
فالكون عندهم عناصر أربعة هي: الزمان، والمكان، والروح، والمادة، ويضاف إليها عنصران آخران يربطان بينها، وهما: الحركة، والسكون.
والمادة عندهم مركبة من أجزاء دقيقة لا تتجزأ، كالجوهر الفرد في تعريف فلاسفة اليونان.
ولا تسبق الروح الجسد في تركيب الإنسان، بل تنشأ الحياة الجسدية قبل الحياة الروحية، ثم تترقى الروح إلى مرتبة الصفاء بما تحاوله من مغالبة النوازع الجسدية واستخلاص حريتها من القيود المادية. ولها في ذلك ثلاث مراحل: أولاها سابقة لتطور قواها، وثانيتها في خلال هذا التطور، ونهايتها تأتي بعد انتهاء التطور وبلوغ مرتبة الخلاص والصفاء.
وعلامة التطور الناجح ثلاث: عقيدة الحق ، ومعرفة الحق ، وعمل الحق، ولا سبيل إلى هزيمة الروح في صراعها مع الجسد إذا تناسقت فيها هذه الصفات.
وهم يقولون بالروح الذاتية لكل حي من الأحياء، ولا يقولون بفنائها في روح أكبر منها، ويخالفون بذلك عقيدة البراهمة الأولين في وصف الله وتجريده من الذات، وقد يصفون الله بصفات الخلق والتكوين، ويتجهون إليه بالصلاة طلبا للهداية والتعليم والمعونة على فتن الشهوات.
فالجينية تدين بالذات الإلهية، ولا تعتبر الإله «معنى» خلوا من الوحدة الذاتية، ولكنها تستلهمه الصواب كما يستلهم التلميذ معلمه، وتسترشد به كما يسترشد الساري بدليله في ظلمات المجهول، وتقول لأتباعها: إن الله لا يعين أحدا ما لم يكن منه عون لنفسه، فلا مناص من عمل الإنسان واجتهاده قبل كل خلاص واهتداء.
وفي جملة هذه الفلسفة الكونية ما يرجح الظن برجوع الفيلسوف الألماني «هيجل» إليها، في تفصيل مذهبه الذي يسمى بالمثالية الثنائية
Dialectic Idealism .
فالجينيون يقولون: بأن الوجود الصحيح جوهر
dravya .
والجوهر عندهم لا بد أن يحتوي فيه ثلاث حالات: حالة النشوء، وحالة النقض، وحالة الدوام. «فلا يظهر شيء في الوجود بغير نقض، ولا يكون نقض بغير نشوء، ولا سبيل إلى نشوء ونقض في غير دوام.»
وخلاصة مذهب «هيجل» أن كل شيء ينشئ نقيضه، ثم يجتمع الشيء ونقيضه في موجود أكمل من الموجود الأول، ثم يعود هذا الموجود الأكمل فينشئ نقيضه كرة أخرى، حتى تستوفي الحقائق وجودها من جملة وجوه، ولا تنحصر في وجه واحد.
وهذا التطور في مذهب «هيجل» ينتهي إلى ظهور «العقل الواعي» في الكون حتى يظهر فيه الإنسان ... وقد أسلفنا أن الجينيين يقولون: إن تطور الإنسان هو المظهر الذي تتجلى به الروح في هذا الوجود. •••
وتشتمل الكتب الجينية على وصايا كثيرة تدل على أنهم يقينيون في عقيدتهم الدينية، وليسوا من الشكوكيين «اللاأدريين»، كما تدل على أنهم يقينيون جازمون في مسائل الأخلاق.
وهذه أمثلة من تلك الوصايا مقتبسة من كتبهم الكثيرة:
الإحسان بغير عقيدة، لن يكون وسيلة للخلاص.
على المرء أن يعامل الخلائق جميعا، كما يجب أن تعامله.
إن تأملات الشكوكيين لا تنتهي إلى معرفة. فهم بأنفسهم لا يصلون إلى الحق ولن يصلوا بغيرهم إليه.
الرعاة الصالحون «الكهان» يرحمون جميع الكائنات، ويجتنبون الخبائث، ولا يمدون أيديهم إلى طعام يصنع لهم خاصة، ولا يقدمون على شر أو إساءة.
غلبة النفس عسيرة، ولكنها إذا تيسرت فكل شيء مغلوب.
لا معرفة للحق بغير عقيدة في الحق، ولا سلوك على الحق بغير معرفة للحق، ولا خلاص بغير سلوك ولا كمال بغير خلاص.
ينتصر الإنسان على ألوف من الأعداء الشجعان، ولكنه أعظم من ذاك انتصارا إذا لم ينتصر على غير إنسان واحد: هو نفسه.
من جمع حياته في روحه لم يرهبه الموت إلا كما يرهب المرء من تبديل كساء بكساء.
الأعداء والأقرباء، والنعيم والبأساء، وحفنة من التراب وقبضة من الذهب سواء عند الناسك المنقطع للروح
Shramana .
أجهد نفسك واحكمها.
قد يمسخ الروح كلبا، وقد يصعد الكلب إلى عليين.
وسائل ثلاث لا تسيء بها إلى أحد: كلمات، وأفكار، وأعمال.
شر من الكافر، من يضع شريعة القتل.
لا شقاء لمن لا وهم له، ولا وهم لمن لا شهوة له، ولا شهوة لمن لا مطمع له، ولا مطمع لمن ليس في يده شيء.
كل ما حققته والفكر هادئ، والحس مغلوب، فذلك هو الروح المطلق.
للإجرام وسائل ثلاث: عمل الجريمة، والإغراء بها، والثناء عليها.
الحكمة تعترف بحق الشريعة.
أقسم على خمس: لا تقتل، لا تكذب، لا تسرق، لا تستسلم للشهوة، لا تتعلق بعروض الحياة.
في كل ما يعرض للروح من أحوال بعد أحوال، هي وحدها مسئولة عن كل حال.
هذه خلاصة كافية في هذا المقام للعقيدة الجينية - عقيدة غاندي - وهي أهم شيء في كيان غاندي وسيرته وعمله؛ لأن العقيدة عنده مقدمة على السياسة وعلى الوطنية، وهي مرجعه فيما يأخذ وفيما يدع من وجوه الإصلاح ووجهته في دعوة الحرية ومبادئ الأخلاق، وهي باعثة الثورة فيه على القوة الغالبة، ومعدن السلاح الذي استعد به لتلك الثورة: سلاح الحب ومقابلة العدوان بالصفح والغفران.
وقد أشرنا في فصل آخر إلى تعليقات لغاندي على ديانته وعلى الديانات عامة، ونشير هنا إلى العقائد التي يستغرب من مثل غاندي - في استنارته وجرأته على إنكار ما لا يسوغ في ذهنه - أن يدين بها من هذه النحل البرهمية، وفي مقدمتها عبادة البقرة أو حمايتها كما يؤثر هو أن يسميها في تعبيره عن هذه العقيدة، فإن شعائر دينه تنقسم عنده إلى نوعين: أحدهما يقبله عقله كتناسخ الأرواح ورجعة الإنسان إلى الحياة الدنيا عدة مرات، والآخر يفسره على وجه خاص ليقبله كما يقبل العقائد السائغة في تفكيره، ومن ذلك عبادة البقرة التي لا يجوز عنده أن تعبد على التأليه والتقديس؛ وإنما تعبد لأن عبادتها أو حمايتها رمز للصلة بين الأحياء الناطقة والأحياء العجماء، أو رمز لشمول الحياة في العالم لكل كائن تدب فيه حياة، وعنده أن حماية البقرة أصل جوهري من أصول الديانة البرهمية على هذا الاعتبار، وأنها أعجب ظاهرة في تطور الإنسان، إذ كانت البقرة على الاعتبار المتقدم رمز ما دون الحياة الإنسانية من ضروب الحياة التي تناولها التطور والارتقاء، وهي أصلح تلك الأحياء لإبراز هذا الرمز الشامل في أطيب مظاهره، فليست هي بحيوان مفترس، وليست هي بحيوان مؤذ، وليست هي بالحيوان البعيد من معيشة الإنسان منذ أقدم عهوده، وقد كتب عنها يقول: «إن أمنا البقرة أبر في كثير من الأمور من الأم التي تلدنا، فإن الأم التي تلدنا تعطينا اللبن نحو سنتين وتنتظر منا أن نخدمها طويلا متى بلغنا أشدنا، أما أمنا البقرة فلا تنتظر منا شيئا غير الحب والعشب.»
وقد كان يذكر أحيانا كلمة السيد المسيح: «أحبب جارك كنفسك» ثم يضيف إليها: «وكل كائن حي للإنسان جار.»
ولا يفوتنا أن نستعيد دائما في هذا الصدد كلمته التي يقولها عن هوى كل إنسان لديانته وإن لم تسلم من عيب، فقد كان يقول: «إن المرء يحب ديانته كما يحب امرأته، وهو يحب امرأته وإن لم تكن أجمل أنثى في نظره؛ لأنها هي امرأته؛ لا لأنها أفضل النساء.»
وما نحسب أن غاندي كانت تفوته الفطنة لغرائب ديانته، ولكنه كان يأخذها على العلات؛ لأن الإيمان مع التجوز في بعض رموزه خير عنده من ترك الإيمان.
صلاته
عقيدة غاندي هي أهم شيء في بنيان شخصيته.
وصلاة غاندي هي أهم شيء في بنيان عقيدته.
فنحن لهذا نقترب من فهمه كلما اقتربنا من فهم صلاته؛ لأن الصلاة عنده لا تنبعث عن طلب أو استغاثة أو ابتهال، ولكنها تنبعث إلى حس فوق الحس، وفوق التفكير، وفوق الطلب والابتهال.
وهي عنده - كما هي عند الجينيين عامة - أعلى مراتب الوعي الذي يتاح للكائن الموجود.
فالروح الإلهي في اعتقادهم سار في جميع هذه الموجودات، مبثوث في جميع الأجسام والأجساد، ولا يزال الإنسان محصورا في أوهاق الجسد أو في أوهاق المادة على العموم، ما دام معتمدا على الحواس، أو على العواطف أو على التفكير في إدراك ما حوله، ولكنه يرتقي إلى مرتبة من الوعي أعلى من مراتب التفكير، عندما يدرك الروح خالصا منزها من هذه الأوهاق.
فهو لا يصل بالحس إلى شيء أرفع من المادة أو المحسوسات المادية.
وقد يرتقي بالتفكير إلى شيء أرفع مما يدركه الحس، ولكنه لا يتجاوز به حدود المحسوسات.
وهناك مرتبة من التفكير أعلى من مرتبة «التعقل المنطقي» وهي مرتبة «التأمل» والانقطاع بالوجدان عن كل ما يحيط بالإنسان.
ففي هذه المرتبة يستطيع الإنسان أن يسيطر على جسده ويسيطر على الطبيعة، ويرتقي إلى الحالة التي يقهر بها المادة ويصنع الخوارق، ويخالف العادات، وهي تسمى عندهم حالة «السديهي
Siddhis » أو الصديقية إذا كان للفظ صلة باللغات السامية. ولكن هذه الحالة لا تزال دون حالة الخلاص المطلق بكثير، وهي التي يسمونها كيڨاليا
Kaivalya
أو التجلي الأعظم، بل ربما خيف على صانع الخوارق أن يفسد كل ما صنع إذا أعجبته قدرته على تسخير الطبيعة فاغتر بها واسترسل فيها؛ لأنه لا يزال محصورا في «أنانيته» الباطلة، كلما أعجبته السيطرة وأحب المزيد منها، وإنما ينفعه صنع الخوارق لسبب واحد، وهو تثبيت يقينه بالسير على الهدى في طريق الخلاص، وأنه قد بلغ إلى مرتبة ينتقل منها إلى المرتبة التي تليها، وهي غاية الغايات التي تسمو إليها قداسة الإنسان.
ومتى ترقى القديس إلى مرتبة الخلاص فهنالك يلتقي بالروح الإلهي خالصا مجردا من علاقات كل مادة وكل محسوس، ويلمح الحقيقة المجردة التي تضل عنها الحواس والعقول، وينتقل إلى سماء من السعادة المطلقة لا توصف، ولا تقبل الوصف بالكلمات ولا بالأفكار؛ لأن الكلام مقيد بالفكر، والفكر لا ينطلق من جميع القيود، ويطيب للقديس أن يستعيد هذه اللحظات كلما استطاع، وهو لا يستطيعها في كل حين.
وقد كان غاندي يصلي ليستعيد هذه السعادة، ولا ينتظر شيئا غيرها من الصلاة، ولم يعنه قط أن يصنع الخوارق أو يسيطر على قوانين الطبيعة؛ لأن الخوارق لا تقصد لذاتها، ولا تراد إلا على سبيل البرهان، ولا حاجة بالمتثبت إلى برهان.
وكان يود لو ينقطع للصلاة مدى حياته، ولكنه كان يعلم أن لقاء الروح الإلهي مدى الحياة أمر يفوق الطاقة الإنسانية، فكان يتزود منها بغاية ما يطيق، ويؤثر هذا الزاد على كل زاد فيه غذاء للجسد، أو غذاء للعقل، أو غذاء للروح.
قال في محاضرة له عن الصلاة: «إن من يختبر سحر الصلاة قد يستغني عن الطعام أياما، ولا يستغني عن الصلاة لحظة واحدة، إذ لا سلام في داخل الضمير بغير صلاة.»
وقال لسامعيه من الطلاب في تلك المحاضرة: «إن في صدر الإنسان لصراعا أبديا ثائرا بين قوى الظلام وقوى النور، ومن لم يكن له مرفأ أمين من الصلاة يلوذ به، فهو خليق أن يقع فريسة لقوى الظلام.»
ثم قال: «إن الصلاة هي صميم قلب الحياة الإنسانية، وهي الجوهر الحيوي في كل ديانة، وقد تكون توسلا أو اتصالا من باطن الروح، ولكن الغاية التي تنتهي إليها واحدة، فإنها حين تكون توسلا ينبغي أن يكون التوسل التماسا لتطهير الروح وتنظيفها من الأدران، وانتشالها من أطباق الجهل والظلام التي تطبق عليها، فكل من تطلع إلى إيقاظ الجانب الإلهي في نفسه فلا مناص له من اللياذ بالصلاة. إلا أن الصلاة ليست تمرينا في الكلمات أو التراتيل، وليست مجرد تكرار للصيغ والعبارات، فما من تكرار لتراتيل «الرماناما» إلا وهو عقيم إن لم تصحبه يقظة في الروح، وخير في الصلاة قلب بغير كلمات من كلمات بغير قلب ...»
وهذه هي الصلاة كما يصفها للمتعلمين، وقد كان يخاطبهم حين يكلمهم عنها باللغة التي يخاطبونه بها، وهي لغة العلوم التجريبية، فكان يقول لهم: «إن نفع الصلاة قد ثبت للمصلين بالتجربة من قديم الزمن، فلا يجوز لهم إنكارها إلا بعد تجربتها، ولن يجربوها حتى يجدوا في التجربة ولا يتخذوها عبثا أو سخرية.» وكتب له أحد الطلبة يقول: «إنه لا يصلي لأنه لا يعلم ما جدوى الصلاة.» فقال له: «ألا يتعلم التلاميذ برامجهم إلا بعد أن يعرفوا تلك البرامج ويعلموا جدواها؟» وقال في هذا الصدد: «إن العقل شيء عظيم، ولكنه يصبح غولا كريها إذا ادعى لنفسه أنه قادر على كل شيء محيط بكل شيء، وأن نسبة هذه القدرة إليه لهي نمط رديء من الوثنية. فالعقل عند هؤلاء العقليين وثن يعبدونه كما يعبد الوثني حجرا أو نصبا، ويعتقد فيه أنه إله.»
وأشار إلى التجربة في حالة الإنكار فقال: «إن الذين انقطعت الصلة بينهم وبين الله وامتنعت عليهم وسيلة الاتصال به بوحي الغريزة أو المعرفة أو التقليد، قد شعروا - على الأقل - بسوء الحالة وجربوا أنها حالة محزنة موحشة في أعماق الطوية، ومنهم برادلو
Bradlaugh
الفيلسوف الملحد المشهور ... فالتجربة في الحالتين تدل على قيمة الصلاة.»
وغاندي يذكر التجربة للذين يناقشونه في الصلاة بأساليب العلوم التجريبية، ولكن الصلاة في حياته ليست تجربة ولا استطلاعا ولا وسيلة إلى غاية، إنما هي غاية الغايات؛ لأنها هي التقاؤه بالروح الإلهي في أفق أعلى من أفق الحس والتفكير والمراجعة، وليس للإنسان غاية أسمى من هذا اللقاء.
فإذا شعر بأنه قد صلى وأن صلاته قد استولت عليه، ونقلته من شواغل ذاته إلى أفق الروح الإلهية، خرج من صلاته ماضيا فيما آمن به واتجه إليه، ولم يبال ما يعرض له من النقائض والمجادلات عند التطبيق أو المناقشة؛ لأن المناقشات والمجادلات والنقائض من أحابيل الفكر التي يصطاد بها صغائر الأمور، ولكنه لا يبلغ بها أن يحدق بعظائم الأمور .
وإيمان غاندي بالصلاة على هذا المعنى مفتاح من مفاتيح هذا العقل الذي كان يتناقض في وصاياه وأعماله، ولم يكن من الجهل بحيث يخفى عليه هذا التناقض في لغة الفكر والتعبير، ولكنه كان يحتكم بالنقائض والمناقشات إلى مرجع عنده فوق مرجع الفكر ومرجع البرهان، وهو النفاذ إلى مصدر الفكر ومصدر البرهان من الروح الإلهي المحيط بكل هذا الوجود، وبكل ما فيه من الأجزاء والفوارق والمفارقات.
لقد تقدم أن رسول «الاهمسا» قد بلغ من ثقته بسلاحه أنه وصفه لهتلر قبيل الحرب العالمية الثانية، وقد حاول أن يقنعه بمضاء هذا السلاح في كل مشكلة، وأنه لأمضى من كل ما أعد من عدة، وكل ما جند من جنود.
ولكن رسول «الاهمسا» قد عاش حتى شهد التجربة الأولى لأمضى سلاح من أسلحة الحروب عرفه المقاتلون: سلاح أمضى من كل ما أعده هتلر وأعده محاربوه في فاتحة الحرب العالمية الثانية: وهو سلاح القذيفة الذرية.
وظنت الصحيفة الأمريكية «مارجريت بورك هوايت» أنها تفحمه بسؤاله عما أعده لمقاومة القذيفة الذرية، فلم يصف لها عدة للمقاومة غير عدته المعهودة التي تفل عنده كل سلاح: وهي اجتناب العنف والصلاة.
قال: «أقاومها بالصلاة العاملة ... أخرج إلى العراء، وأدع ربان الطائرة يرى أنني لا أواجهه بوجه عدو، إنه لا يرى وجهي على ذلك العلو الشاهق، ولكن الصلاة القلبية التي لا تكن له ضررا ولا تنطوي على بغضاء، تبلغه في سمائه فتفتح عينيه. إن الذين أماتتهم القذيفة الذرية في هيروشيما لو أنهم ماتوا وهم في صلاة عاملة، واستقبلوا الموت والصلاة في قلوبهم دون أن تنفرج شفاههم بأنة ألم أو صيحة خوف، لما انتهت الحرب كما انتهت بتلك النهاية المخزية.»
ونعترف بأنه جواب غير مقنع، ولكننا نعترف أيضا بأنه ما من جواب يجيب به ناظر إلى خير الإنسانية كلها، هو أدنى من هذا الجواب إلى الإقناع.
ما هي «الاهمسا»؟
ما هي هذه «الاهمسا» التي صيرت غاندي قديسا، وطوعت له تلك القوة التي صنع بها ما لم يصنعه زعيم من زعماء بلاده؟
إننا إذا فهمنا منها مجرد حب السلامة من طريق المسالمة كانت أسهل مذهب من مذاهب الحياة يدعى إليه ويستجاب.
لأن حب السلامة غريزة في جميع الأحياء.
ولكننا إذا فهمنا «الاهمسا» هذا الفهم كان أخطأ الخطأ في عرفانها على حقيقتها؛ لأنها ليست أسهل مذهب يدعى إليه ويجاب، بل هي في الواقع أصعب المذاهب في الدعوة، وأصعبها في الاستجابة، وأعسرها على التنفيذ والمراعاة.
فهي أصعب من الدعوة إلى القتال؛ لأن الدعوة إلى القتال لم تعدم مجيبا في وقت من الأوقات. وهي أصعب من الدعوة إلى الشجاعة؛ لأن الشجاعة قد تكون مطاوعة لدواعي الفطرة، أو دواعي الحماسة الاجتماعية، فلا تعدم الدعوة إليها مجيبين في كل حين.
هي أصعب من هذه الدعوات وأمثالها؛ لأنها تتطلب مغالبة للنفس لا تتطلبها دعوة أخرى، وقد تتطلب هذه المغالبة بغير فخر لصاحبها وبغير صدى من الإعجاب في نفوس أبناء قومه، ولعلها على نقيض ذلك تعرضه للخزي والازدراء.
وقد تنحصر الشجاعة في ضبط النفس واستجماع قوتها في وجه الخطر، ولكن «الاهمسا» تكلف العامل بها أن يضبط نفسه، ويستجمع قوته في وجه الخطر، وفي وجه الإغراء وفي وجه السمعة السيئة فلا يهمه أن يوصف بالجبن إذا كان هو على يقين أنه ليس بجبان وأنه لا يخاف.
وإذا قلت: «لا خوف» فقد حصرت الشجاعة من جميع أطرافها، سواء أردت الشجاعة في المسائل الجسدية أو أردت الشجاعة في المسائل الأدبية.
ولكنك لا تحصر «الاهمسا» بهاتين الكلمتين؛ لأنها تنفي الخوف وتنفي معه الكراهية، فلا خوف ولا كراهية، بل شجاعة ومحبة، وهاتان الخصلتان هما «الاهمسا» في اللباب.
وقد قال غاندي غير مرة: إنه يفضل العنف على الجبن والفرار من الخطر، قال ذلك في إبان الفتنة الهندية سنة 1920. وقال يومئذ: إنه يفضل العنف ألف مرة على مسخ النوع برذيلة الجبن والفرار، ومن كان لا يبالي أن يقتل ويقتل فهو خير ممن يفر من النزال؛ لأنه يخاف القتل في مشتجر القتال. وقد كان يعلم الآثمين أنفسهم أن الفرار من الرذيلة أحجى بهم من الفرار من الموت: جاءه متهم مرة في جريمة سرقة واعترف له بالجريمة، فقال: عجبا! إنك كنت تعلم أنك تسرق وكنت تعلم العقاب على السرقة فلماذا فعلتها؟ قال الرجل مقتنعا: لأنني لا بد أن أعيش ... فأعاد غاندي كلمته مقتنعا أيضا: لا بد أن تعيش! لماذا؟ يريد أن يقول: إن العيش مع الرذيلة خير منه الموت.
ف «الاهمسا» هي ترك العنف شعورا بالقوة والقدرة النفسية، وليست هي ترك العنف شعورا بالضعف وعجزا عن المقاومة.
وقد كانت دعوة «الاهمسا» أصعب الدعوات في الهند خاصة، حين تصدى غاندي للتبشير بها وإحيائها في الآداب الهندية؛ لأن دعوته قد صادفت الثورة الوطنية في إبانها، وصادفت كفرانا من أبناء الهند بعقيدتهم القديمة في السماحة والمسالمة، إذ كانت فيهم من يعلل سطوة الإنجليز وخنوع الهنود بأن الإنجليز يأكلون اللحوم، وأن الهنود يحرمون أكلها ويعيشون على غذاء النبات، وشاعت بينهم أغنية بهذا المعنى يرددونها في المدارس والمحافل، فكانت دعوة غاندي يومئذ تقاوم تيار الشعور في الهند نفسها، وإن كانت من أعرق الدعوات في البلاد.
ولم يكن غاندي نفسه يجهل ما في غذاء اللحوم من الفائدة الجسدية. فقد كان يرى من علاج الجرحى أن آكلي اللحوم يقاومون النزف، وتندمل جراحهم قبل اندمال الجراح في آكلي النبات، وكان يرى أن القوة البدنية أعم وأظهر في آكلي اللحوم، ولكنه كان يقول: إن القوة الإنسانية لا تأتي من قوة العضلات بل من قوة الإرادة، وإن غلبة الروح على البنية أليق بالإنسانية من غلبة البنية على الروح.
وكل دين عرضة لأسئلة التعجيز أو التنطع من طلاب الفتاوى المتمحلين، فلم يعدم غاندي عشرات الأسئلة من هذا القبيل، إما تعجيزا له أو رغبة في استيفاء العمل بنصيحته، فمنهم من كان يسأله: هل يجوز لي أن أقتل الثعبان، أو يجب علي أن أتركه يمضي لسبيله؟ ومنهم من كان يسأله: هل تنفق الهند على جيش مسلح أو لا تنفق عليه؟
فكان يجيب على كل سؤال من هذه الأسئلة بما يناسبه ويحصره في حدوده. كان يقول لسائله عن الثعابين: إنك لا تقتل ثعابين الغضب والجشع التي في صدرك ، ثم تبحث عن الثعابين التي قد تصادفها في طريقك. إن هذه الثعابين ليست بمشكلة خلقية، وإنما المشكلة الخلقية أن تقتلع جذور الكراهية والاندفاع مع الشهوة والهوى من صميم نفسك، وأنت في حل بعد ذلك من كل صنيع تدفع به الأذى في غير عداوة ولا انتقام.
وكان يقول لسائليه عن الجيش: إن مسألة الجيش مسألة سياسية يحلها السياسيون، ولكن «الاهمسا» مسألة خلقية يحلها كل إنسان لنفسه ليضبط عنانه في يمينه، وهو المرجع في كل فتوى تعرض له متى اطمأن من وسواس الجبن والكراهية والكبرياء.
هذه هي خلاصة «الاهمسا» كما كان غاندي يبشر بها أبناء أمته، وأبناء كل أمة تصل إليهم دعوته.
وهي ولا شك دعوة لا تقبل كلها ولا ترفض كلها، ولكنها خليقة ألا تبخس حقها بسوء التصور أو سوء التطبيق.
وقد تتوقف كلها على فهم المراد بالعدوان أو سبب العدوان، فربما كان العدوان الأكبر في ترك المعتدي يفعل ما يشاء، وهو في أمان من سوء عقباه.
وقد صدق غاندي حين قال: إن العقل الذي كشف عن «الاهمسا» عبقرية أعظم من نيوتن وأشجع من ولنجتون، ولكنه قد يكون كذلك، ولا يلزم ضرورة أن تكون هذه العبقرية في عصمة من الخطأ والإسراف.
«الاهمسا» من الوجهة العلمية
في الوقت الذي قام فيه غاندي بالدعوة إلى السلام واجتناب المقاومة العنيفة، كانت أوروبة تضطرب بدعوة أخرى تناقضها تمام المناقضة، وهي دعوة القوة والقسوة، أو دين القوة كما سماه أتباعه ومروجوه.
وكانت الدعوة إلى دين القوة تنبعث من جانب الفلاسفة والمفكرين، كما تنبعث من جانب الساسة وقادة الجماهير.
فانتشرت النازية والفاشية في أوروبة الوسطى وأوروبة الجنوبية، وقام لها أنصار في البلاد التي تزعزعت فيها مبادئ الديمقراطية، أو عجزت فيها الديمقراطية عن حل مشكلاتها وتعزيز الرجاء في تحقيق مثلها العليا.
وكانت الشيوعية تحارب النازية والفاشية، ولكنها لا تخالفها في الإيمان بالقوة والاعتماد عليها وحدها في إتمام الانقلاب الذي يقضي على نظام رأس المال، ويقيم النظام الشيوعي في مكانه.
وكان من الطبيعي أن تثير هذه الدعوة المطبقة مخاوف أنصار السلام، ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى التي ابتلي فيها الأوروبيون من شرور الحرب بما بغضها إليهم، وضاعف مساعيهم في منع الحروب وتقرير مبادئ الوساطة والتحكيم. فنشأت جماعات الأمم وكثر دعاة السلم والمسالمة، وتصدى للكتابة في هذا الغرض نخبة من أقطاب المفكرين وحملة الأقلام وتحول الأمر إلى عقيدة شعورية لفرط النفور من الحرب، وشدة الحاجة إلى إيمان يقابل إيمان المبشرين بدين القوة وشريعة العنف والقسوة.
وانتقل صدى «الاهمسا» إلى أوروبة فوصل إليها في أوانه، ودان بها بعض كتابها على طريقة الغربيين في كل دعوة، وهي عرضها على العقل من جانب البحث والعلم، غير مكتفين بالبشارة الروحية أو المواعظ الدينية على طريقة دعاة «الاهمسا» من الهنود.
ومن خيرة الكتاب في هذا الغرض - على هذا النحو - «ريتشارد جريج
Gregg » صاحب كتاب «قوة اللاعنف أو المسالمة»
The Power .
فإنه قد حشد لتعزيز هذا المذهب كل ما يمكن أن يحشد له من تقريرات العلوم الحديثة، وفي مقدمتها علم الحياة وعلم النفس، واستشهد بتجارب التاريخ كما استشهد بكل تجربة نافعة من تجارب الزمن الأخير.
ومن أمثلة آرائه التي تدل على منحى تفكيره، قوله في تعليل الخوف والغضب: «إن لهما - من الوجهة الفزيولوجية - وظيفة نافعة وهي إعداد البنية للعمل عند الحاجة إلى الهرب أو القتال، ويشتمل هذا الإعداد على استنهاض قوى البنية وحفزها بجملتها: دماغا وأعصابا مسيطرة على العضلات الخاضعة للإرادة، أو أعصابا مسيطرة على العضلات التي تعمل من تلقائها، أو جهازا للتنفس، أو نظاما للدورة الدموية، أو إفرازا من بعض الغدد التي تدخل فيها الغدة الدرقية والغدة الكظرية والكبد؛ لتقذف في مجرى الدم من المواد ما يصلح لتوليد الطاقة والحركة. وإذا كانت الأفكار على الأغلب الأعم في طبيعتها من قبيل الخطط التي ترسم وسائل العمل الممكنة، كان من شأن الخوف والغضب أن يعملا في العقل كذلك، بحيث يمكن أن يقال: إن الخوف والغضب يعتبران حالة انتقال من نشاط أقل إلى نشاط أوفر وأقوى.»
وعرض للناحية النفسية فاستشهد بقول العالم النفساني شاند
Shand : إن الدهشة تجب شعور النفور والاشمئزاز والاحتقار بما هو موضوع للدهشة، فإذا اعتدى إنسان على إنسان فقاومه المعتدى عليه عنفا بعنف وقسوة بقسوة، فماذا يكون من أثر ذلك في نفس المعتدي؟ إنه يزداد إيمانا بصحة الوسيلة التي استخدمها واعتبارها مرجعا صالحا لتسوية النزاع بينه وبين خصمه، فلا يتزلزل اعتقاده بحقه فيما عمل، بل يتأكد عنده هذا الاعتقاد وينشط للمضي في عدوانه. ولكنه إذا اعتدى فلم يلق من المعتدى عليه مقاومة من طبيعة اعتدائه، فقد يقع في روعه لأول وهلة أنه جبن ومهانة وضعف من ذلك المعتدى عليه، ولكنه لا يلبث أن يعلم من مظهره ومخبره أنه ليس بالجبان ولا بالمهين في نظر نفسه حتى تأخذه الدهشة، فيكف عن الاحتقار والترفع، ويرجع إلى نفسه فيحاسبها على اعتدائه، ويستطيع أن يدرك في هذه الحالة أن الاعتداء مخجل لصاحبه، وليس بالمرجع المعترف به في معاملة غيره.
ولا نزاع عندنا في صواب هذه التقريرات من الوجهة الفزيولوجية أو الوجهة النفسانية، ولكنها فيما نرى محل نزاع كثير في تسويغ «الاهمسا» على إطلاقها، أو في القول: بأن المقاومة من جنس العمل أمر لا تدعو إليه الحاجة في حياة الفرد أو حياة الجماعة.
فقد تكون عوارض البنية التي تنفع الإنسان في حالة الغضب أو الهرب تدبيرا فيزيولوجيا لا تدعو الحاجة إليه الآن كما كانت تدعو إليه أيام الهمجية الأولى، أو قبل هذا الطور من أطوار الحضارة، وهو طور لا ينتفع فيه الإنسان بالغضب والخوف على ذلك المنوال، ولا يحتاج إلى الهرب ولا إلى النزال كلما غضب أو خاف.
لكن الواقع أن الأخلاق جميعا تقترن بحالات جسدية من هذا القبيل، وأن الدواعي الجسدية قد تزول ويبقى الخلق لازما بعد بطلان الأسباب التي أوجبت دواعيه الجسدية.
ومثال ذلك خلق «الأنفة» وهو كما يدل عليه اسمه، خلق كان في نشأته مقترنا بحركة تلاحظ على الأنف خاصة.
فإن الإنسان إذا أنف في عصر الحضارة من بعض ما يسمع به أو يراه، شمخ بأنفه أو قبض منخريه أو أشاح بهما إلى هذا الجانب أو ذاك ، كأنما يتقي رائحة كريهة يعافها ويود الابتعاد عنها.
وكان أصل هذه الحركة الجسدية فعلا هو اتقاء الروائح الكريهة التي لا يحب الإنسان أن تسري إلى صدره، ثم أصبحت هذه الحركة الجسدية ملازمة للأنفة من الأشياء التي لا رائحة لها ولا علاقة لها بالمنخرين أو بالنفس الذي يدخل إلى الرئتين.
كذلك يبصق الإنسان أحيانا علامة على الامتعاض والاستهجان، وما هي في الأصل إلا حركة جسدية تعليلها هياج غدد اللعاب عند مقابلة النظر أو الشم لشيء لا يقبله الجوف، ثم انتقلت من المحسوسات إلى الأشياء التي لا يقبلها العقل أو الضمير.
ويتطاول الإنسان إذا وقف في مواقف الصولة والكبرياء، وكان ذلك مما ينفعه أمام خصمه ليروعه بامتداد أعضائه وقوة جسده. ولكنه الآن يتطاول كلما اعتز بقوة نفسية أو جسدية، وقد تكون القوة نفسية محضا لا تقع عليها العين.
ويشير الإنسان بظهر يده في غير جهد ولا اكتراث إذا استخف بأمر من الأمور، وكأنه يدفع شيئا بلغ من خفته وهوانه، أنه يدفع بأيسر حركة من أصابع اليد الواحدة.
وهو إذا استخف عقله، أو استخفت نفسه بذلك الأمر، لا يدفع شيئا يدفع باليدين على أية حال.
فالحركات النفسية قد تقترن بحركات جسدية بطلت حكمتها أو بطلت موجباتها «الفزيولوجية»، ولكن بطلان تلك الموجبات لا يدل على بطلان الحركات النفسية التي تلازمها، ولا يفيد أن الغضب والخوف مثلا لا ينفعان اليوم لأن العوارض الجسدية التي لازمتهما زمنا طويلا كانت نافعة من الوجهة الفزيولوجية، ثم بطل نفعها في عصر الحضارة من هذه الوجهة.
فإن الغضب والخوف قد ينفعان اليوم من الوجهة النفسية، وإن لم تستفد بنية الإنسان من هياج الغدد أو تيقظ الأعصاب وتنبه الدماغ.
أما أن المعتدي يخجل من اعتدائه إذا رأى السماحة من المعتدى عليه في غير جبن ولا استكانة، فذلك صحيح في كثير من المعتدين، وله ولا شك أثره في تأنيب الضمير وتعويده الكف عن العدوان، وقلة الاعتزاز به والالتجاء إليه.
ولكننا، سواء حدث هذا أو لم يحدث، لا يصح أن نفهم منه أن الخير قوة «سلبية » لا عمل لها إلا أن تترك الشر يعمل ثم تقابله بالسماحة والإغضاء.
فهل قصارى الخير أنه لا يقاوم الشر؟ وهل من حق الشر وحده أن يبدأ بالعمل ويتمادى فيه، وأن نترك له أن يخجل أو لا يخجل من عاقبة عمله؟
ألا يوجد ثمة نوع من الكبح والزجر يعيد المعتدي إلى ضميره فيشعر بتأنيبه ويرجع عن عدوانه؟
ألا يلزم أن يشعر المعتدي بعجزه عن الاعتداء في كثير من الأحيان؟
أليس هناك فرق بين من تأصلت فيه ضراوة العدوان وبين من يستسهله لأمان عقباه، وهو على استعداد للرجوع عنه إذا لقي المقاومة من أول اعتداء ...؟
ألا يكون الخير خيرا إلا إذا ضربه الشر فصفح عنه؟
ألا يجب على الخير أحيانا أن يضرب الشر وهو خير لا يزال؟ •••
فإذا قصرنا الخير على المسامحة، أو جعلناه فضيلة سلبية أو فضيلة مجاوبة، فقد يصح على احتمال من الاحتمالات أن الكف عن مقاومة الشرير تصلحه في حالات، ولا تصلحه في حالات.
وينبغي أن تهدينا دهشة الشرير من الكف عن مقاومته إلى حقيقة نفسانية أخرى جديرة بالاعتبار في معاملة الأشرار، وهي أن هذه الدهشة تدل على إيمان متأصل في النفس الإنسانية بأن رد العدوان إليها جزاء معقول يصيبها بالحق. فهو من ثم لا يضريها بالشر ولا يملي لها فيه، كلما اعتدت فقوبلت بمقاومة الاعتداء، وبخاصة حين تجيء المقاومة من المجتمعات التي تتولى صيانة نفسها بأحكام القوانين، لانتفاء «البواعث الشخصية» هنا وصدور الحكم ممن ليست له فيه مصلحة أو دافع انتقام.
أما إذا اعتبرنا الخير قوة عاملة أو قوة إيجابية، فمن الواجب إذن أن تعمل وأن تزيل الموانع من طريقها، وكثيرا ما تكون إزالة الشر وإزالة الشرير شيئين متلازمين.
وأيا كان الأثر في نفس الشرير فمما لا شك فيه أن إزالة شرير من العالم أربح للعالم من إزالة خير انتظارا لإصلاح شرير؛ لأن بقاء الخير المضمون أربح للعالم من الرجاء في خير فقط، قد يكون وقد لا يكون. •••
لكن العبرة في مذهب «الاهمسا» بعد هذا كله، هي أن المذاهب الإنسانية تتوازن وتتقابل، وينطلق أحدها إلى أقصى الشدة فينطلق الآخر إلى أقصى اللين.
ف «الاهمسا» معقولة إذا كان في العالم مذهب ينادي بأن القسوة دين مقدس، وأن القوة الغاشمة مقطع الحق كله، وأن البطش بالضعفاء حق مطلق للأقوياء، وأن العلاقة بين القوي والقوي لا تكون إلا علاقة نزاع وغلاب.
هذا الغلو في العنف يقابله ذلك الغلو في اللين.
ولا بد من قوام بين الطرفين النقيضين، وهو قوام الأمر الذي أخذت به العقيدة الإسلامية، فلا اعتداء ولا قبول للاعتداء، وإذا صفحت فذلك حق لك، ولكنه ليس بحق عليك في كل حال.
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .
ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .
إن الله يأمر بالعدل والإحسان .
فمن تصدق به فهو كفارة له .
وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم .
وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم .
في هذا القوام بين طرف العنف وطرف اللين صلاح الأخيار والأشرار، فالعدوان ممنوع ورد العدوان حق، والصفح عنه جائز لمن يطيقه أو لمن يراه.
وبهذا يخرج الخلق من «الآلية» إلى مجال التصرف الإنساني الذي يليق بذوي النفوس والعقول، فلا عدوان في كل حال، ولا مسالمة في كل حال؛ لأن هذا وذاك عمل آلات لا تفرق بين موضع العنف وموضع اللين، وإنما يكون الخلق خلقا حين يتعالى عن صنيع الآلات.
والإنسانية بحمد الله لا تأخذ كل ما يقوله الدعاة ولا تنبذ كل ما يقولون، بل هي لا تأخذ ما تظن أنها أخذته، ولا تنبذ ما تظن أنها نبذته، وإنما يخلص لها ما تعرفه وما لا تعرفه من تلك الدعوات.
وفي ذلك آية شاهدة على أنهم جميعا مسوقون لما يراد بهم لا لما يريدونه، أو هي آية شاهدة على عناية من فوق إرادة الإنسان.
وإذا ألقى هذا الصيدلي في بوتقة الدواء عقارا غير صالح، وألقى ذلك الصيدلي فيها عقارا آخر غير صالح، ثم خرج من هذه العقاقير كلها دواء فيه صلاح، فذلك دليل على الطب ودليل على الطبيب.
ثقافة غاندي
كتب غاندي في صحيفته مرة عن الطالب والمطالعة، فقال عن الأدب المكشوف: «لقد كان رينولد - أحد الكتاب المشهورين بوصف المناظر المكشوفة - صاحب حظ بين الطلاب في أيام تلمذتي، فلم أنج من قراءته إلا لأنني كنت أبعد شيء عن أن أوصف بالطالب الألمعي، ولم أعن قط بالخروج من نطاق الكتب المدرسية، ولكنني ذهبت إلى إنجلترا فوجدت مع هذا أن أمثال هذه القصص منفية من كل بيئة متحشمة، وأنني لم أخسر شيئا إذ لم أطلع على واحدة منها ...»
ونحن نفهم هذه الكلمة فهما صحيحا إذا فهمنا منها أن «المهاتما» لم يكن متبحرا في المطالعة، ولم يكن قط من أولئك الذين يوصفون بين الغربيين بأنهم ديدان كتب أو أحلاس مكتبات.
ولكننا نخطئ فهمها إذا خطر لنا أن نصيب الرجل من الثقافة كان نصيبا نزرا بين أمثاله، أو أنه عاش في عزلة عن ثقافة الأمم الأخرى، وبخاصة ثقافة عصره، ونعني بها ثقافة القرن التاسع عشر على التخصيص.
فالواقع أن غاندي لم يكن منزور الحظ من الاطلاع، ولم يكن مقصورا في قراءته - أثناء التلمذة في أوروبة - على الدروس التي كان متخصصا لها بحكم هذه التلمذة، وهي دروس التشريع والعلوم السياسية.
فقد اطلع على أفلاطون وترجم منه «دفاع سقراط» إلى اللهجة الجوجراتية، وهي لهجته الوطنية.
واطلع على كارل ماركس، وجون ستيوارت ميل.
وأعجب بتولستوى الروسي، وماتسيني الإيطالي.
وتتبع آثار «رسكن» وترجم له كتابه «حتى هذا المصير»
Unto this last
إلى اللهجة الجوجراتية.
وكان يقرأ «ماكولي» ويستطيب أسلوبه وبراعته في تعبيره.
وكان يستحسن «ثورو» الأمريكي، ويعجب بمعيشته وآرائه.
ودرس اللاتينية فاستطاع أن يتذوق فيها عيون الأدب القديم في بلاغته الأصيلة.
وقليل من المصلحين الشرقيين في زمانه من أخذ بنصيب من الثقافة العامة أوفى من هذا النصيب. •••
غير أننا نخطئ مرة أخرى إذا فهمنا من هذا أنه تتلمذ لواحد من هؤلاء وتوجه معه إلى وجهته الفكرية أو الروحية، وإنما كان يتجه إلى الكاتب أول الفيلسوف حين يجده في اتجاهه الذي نشأ عليه بين أبيه وأمه؛ فيختاره لأنه نهج من قبله في طريقه المرسوم.
وخير ما يقال في علة اغتباطه بهؤلاء الكتاب والمفكرين أنه شبيه باغتباط الإنسان حين يحل في بلد غريب، فيعثر فيه على أناس يتكلمون بلسانه، ويعرفون بلده، ويذكرونه بوطنه الأصيل.
فلم يعجب بأحد من كتاب أوروبة في زمانه كما أعجب بتولستوي ... قرأ قصصه الكبيرة والصغيرة، وكتب إليه، واعتز بجوابه، وأطلق اسمه على مزرعته التي أنشأها في أفريقية الجنوبية للرياضة الجسدية والروحية، وكان يستشهد به في عظاته ومقالاته. فلم يجد مثلا يذكره عند الكلام على تحريم التدخين غير مثل السكران الذي قال تولستوي في بعض أقاصيصه: إنه تردد عن الجرم وهو سكران، ثم أقدم عليه بعد تدخين سيجارته، وهو مستريح إليه.
ولكنه أحب تولستوي لتبشيره بالمقاومة السلبية، واجتناب العنف والثورة الدموية، ولم تكن هذه المقاومة إلا شعبة واحدة من شعب العقيدة التي شب عليها غاندي، وهي عقيدة «الاهمسا» التي تقدمت الإشارة إليها.
كذلك أحب «ثورو»؛ لأنه كان يوصي بالعصيان المدني
Civil-disobedience
ويتنسك بين أحضان الطبيعة.
ولم يستحق «رسكن» إعجابه بما كتبه عن نقد الفنون، وشرح مذاهب التصوير، ولكنه استحق منه هذا الإعجاب بنزعته «النباتية» وإنحائه على الصناعات الكبرى؛ لأنها تمسخ الإنسان وترده إلى عداد الآلات في تفكيره وعمله.
وكانت حقوق الإنسان وحقوق الأمم، هي أهم ما استهواه في ماتسيني زعيم النهضة الإيطالية.
وكان الإنحاء على «رأس المال» شفيع كارل ماركس لديه ولم يوافقه في شيء غير هذا من دعوته إلى الثورة والانقلاب.
وكان يدرس «جون ستيوارت ميل»؛ لأنه كان نبي الحرية بين فلاسفة العصر الحديث، ويقرأ «ماكولي» لأنه عاش في الهند، وتكلم عن تاريخها وعلق بعض التعليق على أدبها القديم.
ولم تعنه قط مدرسة فكرية في بلاد الإنجليز كما عني بمدرسة المتصوفين الروحانيين “Theosophists”
لأنهم هم أنفسهم يرجعون إلى كتب الهند ومراجع الشرق القديم.
ومن عجائب أطواره في التثقيف، أنه دان بكتب الهند الدينية ولم يطلع عليها في اللغة السنسكريتية، فلما وصل إلى إنجلترا قرأ سفر «البهاجفاد»
Bhagavad Gita
في ترجمته الإنجليزية التي ترجمها السير «إدوين أرنولد»، وسماها بالقصة السماوية
The Story Celestial .
فالرجل لم «يتكون» بمادة هذا الغذاء الذي أقبل عليه في أوروبة؛ ولكنه أقبل عليه لأنه صاحب «قابلية مكونة» تتغذى بما تشتهيه، وتختار لبنيتها ما يوافقها من الغذاء. •••
ويبدو لنا أن دروسه التي تخصص فيها لم تعطه من هذا الغذاء غير ما أراد أن يأخذ منها.
فقد تخصص للتشريع والعلوم السياسية، ولكنه أخذ من هذه الدروس ما يوافقه في منحاه ورسالة حياته، ولم يستفد منه شيئا في أعمال المعيشة أو خطط السياسة.
فقد تعلم ليكون محاميا في دور القضاء.
ولكنه لم يفلح في المحاماة، وما كان ليستطيع أن يفلح فيها.
لأنه أبى كل الإباء - حين عاد إلى وطنه - أن يستعين بسماسرة القضايا الذين كانوا عمدة المحامين الناشئين في ترويج شهرتهم، ولا يزالون كذلك إلى الآن.
وعز عليه في أول قضية قبل توكيلها أن يرهق المدعى عليه بالأسئلة المحرجة، فكان حرجه هو في المحكمة أشد من حرج المدعى عليه.
وحدث في أفريقية الجنوبية أن صاحب قضية خدعه عن حقيقة دعواه، فأخفى عنه بعض الحقيقة وصور له بعضها على غير صورتها، فلما اتضح له من مناقشة خصمه أمام القضاء أن المدعي مبطل وأن المدعى عليه مظلوم، نهض - في كثير من الخجل - معتذرا للمحكمة، طالبا منها رفض القضية؛ لأنه علم من حقيقتها في تلك الساعة ما لم يكن يعلمه حين قبل الوكالة فيها.
ولما سافر إلى أفريقية الجنوبية، كان سفره بدعوة من أبناء إقليمه الذين كانت لهم تجارة واسعة في عدة بلاد منها، وكان عمله أن يساعد كبار المحامين من الإنجليز في بعض قضاياهم الكبرى، فلم يسترح ضميره إلى هذه الخصومة التي ظهر له أنها في غير طائل وفي غير موجب، وأنها قابلة للصلح والتوفيق، وجعل همه الأول أن يسعى في الصلح بين الفريقين، ولو كان في ذلك اقتضاب لطريقه إلى الشهرة والانتفاع.
وأخذ على نفسه عهدا، لا يطالبن أحدا بحق له من طريق المحاماة، ولا يستخدمن هذه الصناعة لنفسه، ولا يستخدمنها لغيره إلا دفاعا عن مظلوم أو حق مهضوم.
وفحوى ذلك أن هذا الرجل الذي لقبوه وصدقوا في تلقيبه: بالروح العظيم، كان صاحب «روح» ناضج التكوين حين قرأ لثقافته، وقرأ لصناعته على السواء، فلم يأخذ من تفكير عصره ولا من دروس صناعته، إلا ما تطلبته «بنيته الروحية» وهي عالمة بما يصلح لها من غذاء، ومن وسيلة قوة ونماء. •••
وكأنما ختم غاندي مطالعاته الأدبية باختتام عهده في المطالعات المدرسية، فلم يرو عنه أنه توفر على قراءة قصة أو كتاب من كتب الأدب بعد عودته من البلاد الإنجليزية، وصرف اهتمامه كله إلى دراسة كتب الأديان والعقائد على اختلافها، فقرأ القرآن والأناجيل في ترجماتها الإنجليزية، وقرأ كتب الديانة الصينية والديانة المجوسية في تلك اللغة، وقرأ طرفا من علم المقابلة بين الأديان، وانتهى منها على أن الديانات العظمى جميعا موحاة من عند الله، وأنه لا خير في تحول المؤمن من دين إلى دين، وإنما تصلح البرهمي أو المسيحي أو المسلم بأن تجعله برهميا أحسن أو مسيحيا أحسن، أو مسلما أحسن وذلك ميسور له مع البقاء على دينه، ما دام في دينه ما يوصيه بالحق والخير والصلاح والمودة لجميع الناس.
وقد لوحظ على غاندي أنه أغفل جانب الفن في عمله وفي وصاياه، فلم يشغل باله بالصور والتماثيل والشعر والموسيقى وغيرها من الفنون الجميلة، واتفق مريدوه وناقدوه على هذه الملاحظة، وسأله غير واحد من المريدين عنها فأجابهم بما أقنع بعضهم ولم يقنع الآخرين.
من هؤلاء طالب اسمه راماشندران
Ramachandran
قدمه إليه صديقه الإنجليزي مستر «أندروز»، فلازمه أياما وجعل يناقشه ويستفسره في مضامين فلسفته واعتقاده، فكان جواب غاندي له حين سأله عن الجمال ما فحواه: إن الأشياء حقيقة وظاهر، وإنه لا يحفل بالظاهر ما لم تكن فيه دلالة على الحقيقة الباطنة.
قال الطالب: أليس في الفن تعبير عن قلق النفس وجيشانها بالحس في كلمات وألوان وأشكال؟
قال غاندي: ولكن أصحاب هذه الفنون لا يحفلون كثيرا بعمل الروح.
وسأله الطالب مثالا، فمثل له بفن أوسكار وايلد؛ لأن قضيته وكتبه كانت حديث الناس في أيام مقام غاندي بالبلاد الإنجليزية.
قال الطالب: لقد زعموا أنه أعظم فنان بين أدباء زمانه.
قال غاندي: نعم، «إنما كان وايلد يرى الفن الأعلى في الصورة الظاهرة؛ ولهذا نجح في تجميل الرذيلة، وكل فن حق فمن الواجب أن يعين الروح على تحقيق جوهرها الأصيل، وإنني فيما يخصني أرى أنني أستطيع أن أصرف النظر عن جميع المظاهر في تحقيقي لجوهر روحي، وأستطيع أن أدعي أن في حياتي ما يكفي من الفن، وإن كنت لا ترى حولي ما تسميه آيات فنية.»
قال الطالب: إنهم يجدون الحق في الجمال.
قال غاندي: بل أحرى أن نجد الجمال في الحق.
فسأله الطالب: ألا يمكن الفصل بين الاثنين؟
فأجابه غاندي سائلا: أترى كل امرأة وضاحة الملامح جميلة، ولو كانت تنطوي على نفس خبيثة؟
فقال الطالب: إن الفنان في هذه الحالة يودع بين طيات ملامحها ما ينم على خبث نفسها.
قال غاندي: إذن نرجع إلى الباطن في تحقيق معنى الجمال، أو نرجع إلى أن الملامح الظاهر ليست هي الجمال.
وعاد الطالب يسأله: كيف نفهم إذن أن كثيرا من الآيات الفنية الجميلة قد خلقها أناس لم يكونوا على خلق جميل.
فقال غاندي: كل ما يفهم من هذا أن الحق ونقيضه قد يتجاوران، وأنهما لا ينفصلان في جميع الأحوال.
وختم هذا الحوار قائلا: لا يكون شيء من الأشياء جميلا إلا بمقدار دلالته على خالقه، وإلا فكيف بغير ذلك يوصف بالجمال.
وبدا على الطالب أن المهاتما أقنعه برأيه، فتمنى لو أنه يكتب في نقد الفنون على هذا الأسلوب، فاعتذر «المهاتما» لأنه لا يحسب نفسه من ذوي الاختصاص في نقد أعمال الفنانين ...
وهذه ولا شك وجهة نظر ناسك، معرض عن فضول العيش وزخارف الأشياء، ولكنها مع هذا وجهة نظر يأخذ بها كثير من الكتاب الفلسفيين الذي يرفعون أعمال الفن إلى الذروة العليا بين شواغل الإنسان في كل زمان، ومنهم أروين إدمان
Irwin Edman
الذي يقول في كتابه مسألة الفلاسفة
: «إن هذه اليقظة للكون كله - لا للصورة والنغمة - هي غاية كل من يسمون إلى اليقظة الكاملة ولا بد لهم - إذا أرادوا أن يبلغوا هذه الغاية - من أن يذهبوا وراء الفنون ووراء الفلسفة، وإن ذهبوا إلى هذه الغاية من طريق الفلسفة نفسها، إلا أنهم لا ينبغي أن يقفوا عند خطوات النقاش والبحث والتفكير، بل عليهم أن يذهبوا وراء الكشف والرؤية؛ ليروا ثمة أن الكون كله يصبح أمامهم كأنه الصورة أو اللحن في نظر الناظر وسمع السامع المستغرق في الرؤية والسماع، هناك يبدو كل شيء واضحا في سره وعجبه، وينظر الشاب الذي راض روحه هذه الرياضة فإذا هو ناظر بكل ما فيه من قوى الروح التي استولى عليها هذا الشعور، وإذا هو في يقظته قد تخلص من نفسه مضحيا مفاديا ليمتزج بما وعاه.»
ومهما يكن من حكم النقد الفني على هذه النظرة، فإن هذا النقد لا ينفي - ولا يستطيع أن ينفي - أن المرء قد ينظر هذه النظرة إلى الفنون ولا يحرم حظ المتعة بجانب من جوانب الجمال، وقد كان غاندي على التحقيق يستمتع من الجمال بكل طيب بسيط، فكان يطرب للأناشيد الروحية، ويبتهج برقص الأطفال، ويهش لرؤية الأزهار والمروج، وكان أسلوبه الكتابي نفسه أسلوبا رائقا صافيا لا يخلو من نغم وجمال وإن خلا من كل تنميق، وقد اعتبر الموسيقى عاملا من عوامل التربية القومية ولا سيما رياضة الجماهير ... لأن الجماهير تحتاج إلى النظام والأنغام نسق ينهي عن الفوضى. وأسف لأن الموسيقى في الهند نعمة مقصورة على الخاصة، وقال غير مرة: إنه يود لو استطاع أن يفرض تعليمها فرضا وأن يشترط في جميع المؤتمرات الكبرى أن يحضرها كبار الموسيقيين.
ولا خفاء بعد هذا كله في مكان الفنون عند غاندي بالنسبة إلى الصناعات، فإن نصيب الصناعات من عنايته كان أوفر جدا من نصيب الفنون.
ولكننا خلقاء أن نفرق هنا بين نوعين من الصناعات على حسب الآلات التي تستخدم فيها.
فالصناعات التي يسخر فيها الإنسان للآلة شر على ملكات الروح.
والصناعات التي تسخر فيها الآلة للإنسان خير لملكات الروح.
تلك تجعل الإنسان عبدا للآلة، وهذه تجعله سيدا للآلة وسيدا لنفسه، وهذه هي تربية الروح وتربية الجسم وسبيل الاستغناء.
وكل شر في العصر الحديث - على رأي غاندي - فهو راجع إلى تلك الآلات التي حولت الإنسان إلى آلة معلقة بها، وزادت حاجاته فزادت أعماله، وزادت - تبعا لذلك - هذه العبودية للصناعة والمصنوعات.
وكل خلاص من هذا الشر فإنما سبيله وضع الآلة في موضعها، وهي أن تصبح في يد الإنسان، فلا يعمل يومئذ أكثر مما يحتاج إليه.
لهذا قرر في برنامج تعليمه أن تكون الصناعة اليدوية درسا إلزاميا لكل تلميذ في كل مرحلة من مراحل الدراسة، وأخذت حكومة الهند الوطنية برأيه في برامجها الحديثة.
وهذه البرامج - في رأي غاندي - هي في وقت واحد تربية روحية وحل لمشكلة من أعصى مشكلات الاجتماع في الحضارة العصرية.
وليس هذا الرأي بخلو من الصواب.
لأن الحقيقة المتفق عليها أن حسن الإنسان وعقله قد استفادا من مرانته على الصناعات اليدوية. ويقول بعض علماء النفس المحدثين: إن نمو الخلايا الصفراء في الدماغ قد نشأ من استخدام الإنسان لأصابعه وإبهامه. وقد وافق غاندي على اعتقاده في شرور الصناعات الكبرى قائد عسكري من نقاد التاريخ: هو الجنرال فلر
Fuller
صاحب كتاب التسليح والتاريخ فقال في كتابه هذا: «إن الحرب وباء كامن في الحضارة الأوروبية؛ لأنها تدور في حلقة مفرغة من الحرب والصناعة ... فإن القوى الآلية تؤدي إلى البطالة، والبطالة تزيد في نزعة الخصومة، ونزعة الخصومة تتطلب عدوا تخاصمه، والسياسة تدبر لها ذلك العدو، فتأتي الحرب من ثم وتعالج مشكلة البطالة إلى حين.»
إلا أن الثقافة التي زاولها غاندي لا تقاس في جوهرها بمقياس الصواب والخطأ، ولا بمقياس العلم والجهل في عرف زمانه، ولكنها تقاس على حقيقتها بمقياس المبدأ الذي يغلبه على جميع المبادئ، والأصل الذي يقدمه على جميع الأصول عند نظره إلى صلاح الإنسان الذي يقاس بمقياس الدوام فوق عوارض الزمن وعوارض الدول والجماعات.
فقد كان هذا الرجل يعلم كل شيء يحتاج إليه في رسالته، ولم يكن يجهل شيئا يدخل في حسابه.
فإذا قاوم المخترعات الحديثة ، أو قاوم العلم الحديث، أو قاوم الطب الذي تشفى به الأجسام، فهو لا يفعل ذلك كما يفعله أصحاب الخرافة والجمود، إذ إنه يعلم ما يجهله الخرافيون الجامدون، ولا يصدر في رأيه عن جهل بما فاتهم أن يعلموه.
ولكنه يقاوم ما يقاومه وهو عارف بقيمته كما يعرفها معارضوه، إنما يعرف هذه القيمة ويعرف ما هو أعلى وأدوم منها في اعتقاده، وهي سلامة الروح، فما سلمت به الروح فهو معرفة كافية.
وما عطبت به الروح فهو جهل منكر، أو علم عارض لا ينكر نفعه ولا ينكر ضرره، وهو أكبر وأبقى، وإن سلمت به الأجسام.
غاندي والجيل الجديد
كثيرا ما تكون موازين الشعوب أصدق من موازين المؤرخين في تقرير مكان العظيم بين أبناء قومه، ولا سيما حين تطيع تلك البداهة في تعبيراتها الفطرية التي تجمع الكثير من المعاني في القليل من الكلمات.
وقد عرفت بداهة الهند أين تضع غاندي من أمته، فلم تضعه موضع الزعامة السياسية، ولا موضع القيادة الاجتماعية ولكنها وضعته موضع الأبوة المحبوبة الموقرة، التي يحق لها أن تطاع وينتظر منها أن تغتفر بعض العصيان، بدالة الأبناء على الآباء.
لم تنظر إليه نظرتها إلى الزعيم السياسي؛ لأن السياسة لم تكن له غاية ولم يكن لها المقام الأول في سعيه ورأيه.
ولم تنظر إليه نظرتها إلى القائد الاجتماعي؛ لأن القيادة الاجتماعية في أكثر الأحيان قيادة حركة أو إرشاد في مرحلة من مراحل التطور، ولم يكن غاندي قائد حركة، أو دليل مرحلة تنتهي إلى غرض محدود.
بل هي لم تنظر إليه كأنه داعية نهضة؛ لأن النهضة كثيرا ما تتعلق بجيل واحد هو الجيل الناشئ أو الجيل الناهض، وترمي إلى تبديل لا يلبث أن يتلوه تبديل.
إنما نظرت إليه كأنه «أبوها» المرموق بعين البر والإجلال، وكانت تدعوه بهذه الدعوة المستحبة: بابوجي، أي: يا أبتاه.
وقد كان كبار القوم وصغارهم ينادونه بهذا النداء، ومنهم من هو في سنه ومن هو أسن منه؛ لأنه تمثل لهم في صورة وطنهم الروحاني الخالد، أو في صورة الأبوة القومية
Fatherland
التي لا تقاس بأعمار الآحاد.
ولم تكن له من ثمة رسالة خاصة إلى الجيل الجديد؛ لأن أقدم الأجيال وأحدث الأجيال في رسالته الروحانية يستويان.
فكانت ناشئة الهند تحبه وتجله وتثق به وتستحيي من إغضابه، وكانت لقداسته مكانة خاصة بينهم؛ لأنه قديس صنع نفسه ولم تصنعه المسوح والمحاريب: تعلم كما تعلموا، وكان في وسعه أن يطمح إلى مظاهر الدنيا كما يطمحون إليها، فبينه وبينهم قرابة لا يشعرون بها فيما بينهم وبين أحبار الدين الذين سيقوا إلى القداسة بحكم الصناعة، وله عندهم مكانة العقيدة التي يعتقدونها ومزية النشأة العصرية التي نشأوا عليها وكرامة «الهندي» الذي جعلهم يفخرون بالهند بين الأمم، وجعل للروحانية محلا مرعيا بين مذاهب العصر الحديث، ولكنهم - على ما نظن - كانوا يحارون في أمره كما كان يحار فيه كل من سمعوا بدعوته، ولا يرون أنه يدعوهم إلى خطة يمكن العمل بها في مجال السياسة أو مجال العيش أو مجال الأخلاق.
ومنهم من كان يصارحه القول في هذا، ولا يمنعه الحب والتوقير أن يكتب إليه «أنه لا يحسبه يفهم ما يجول في خواطر الشباب».
وكانت وصاياه في مسألة النزعات الجنسية أعسر شيء على الشباب أن يستجيبوا إليه بطبيعة الحال، فلما أكثر من الكتابة في ضبط هذه النزعات وأوصى الأزواج من الشبان والشابات مرة بعد مرة أن يمتنعوا عن العلاقة الجنسية لغير النسل، كتب إليه أحدهم يقول: «إنني أقرأ ما تكتب فيخامرني الشك في فهمك للعقل الناشئ، فإن ما استطعته أنت ليس من الضروري أن يستطيعه جميع الشبان، وإنني لمتزوج وقادر على ضبط نفسي، ولكن زوجتي ليست مثلي، وهي كذلك لا تريد الآن أطفالا، وتريد أن تعطي نفسها حظها، فماذا ترى أن أصنع ... أليس من واجبي أن أرضيها؟»
والواقع أن العظماء من أبناء جيل قد يفوتهم أن يفهموا الجيل الذي ينشأ بعد زمانهم، ولكن المسألة هنا ليست مسألة جيل قديم وجيل جديد؛ لأن النزعات الجنسية غير مجهولة في جيل من الأجيال أو أمة من الأمم. ولو أن غاندي قال ما قاله عن النزعات الجنسية قبل ألف سنة لكان موقفه من أبناء ذلك الزمان كموقفه من أبناء زمانه، وهو يعلم ذلك ولا يجهله، وقد أجاب الطالب الذي وجه إليه ذلك الخطاب بما في هذا المعنى، ثم قال له: إن ضبط النفس لا يعني أن تكف عن العمل الجنسي وحده، وإنما يعني الكف عن الإغراء وعن التغذية المثيرة وعن الملامسات الذهنية والحسية، كما يعني القدرة على تحويل الغريزة إلى جهة غير وجهتها الجسدية بما يشغل النفس من شواغل العطف والفكر والمحاسن الروحانية. ولكنه إقناع لا يخفق مع سامعيه لضعف في الحجة أو نقص في البيان، بل لقوة في الغريزة ورغبة عن الاقتناع.
كذلك كانت وصايا غاندي بالمسالمة في وجه كل عدوان تجاوز طاقة الاحتمال. فإن الجيل الجديد كان يصغي إليها، وكان لا يكفر «بالاهمسا» التي تلقاها مع موروثاته من مئات السنين، بل ألوف السنين، ولكنه كان يتكلف عنتا حين يتكلف كظم الفتوة التي تغلي في دمه، وكان يستحيي أن يغضب «المهاتما» إذا نوى الصيام احتجاجا على أعمال العنف والمقاومة الدموية، فيمسك عن المقاومة إلى حين، وهو يعلم أن المهاتما يكلفه ما لا يطيق.
إلا أن غاندي مع هذا لم يهبط في نظرهم، بل ارتفع إلى مقام الآلهة والأنبياء، فجعلوا وصاياه من قبيل وصاياهم، وجعلوا عصيانهم لها مكرهين من قبيل عصيانهم للوصايا الإلهية حتى تقصر عنها طاقة البشر، وإن كانت عندهم أهلا للإيمان، وأهلا للاتباع.
ومن الأمور التي لها دلالتها في هذا الصدد أن غاندي مات بيد شاب جاوز الثلاثين، فكان هذا أعنف اصطدام بينه وبين مخالفيه، ولكنه لم يكن اصطداما بينه وبين شاب من أنصار التقدم أو أعداء القديم، بل كان اصطداما بينه وبين شاب يتعصب للقديم ولا يقبل التسامح فيه.
ومن هنا يبدو لنا محور المشكلة في دعوة غاندي أو محور الصعوبة في مجاراة هذه الدعوة، فليست هي مشكلة الصراع بين عقل قديم وعقل حديث، ولكنها هي المشكلة الأبدية التي لا تزال قائمة مع كل إصلاح، ونعني بها مشكلة التغلب على الطبيعة البشرية ، أيا كان تفكير المصلح أو تفكير المخالف ... وهي معركة باقية لا تتغير في العسر أو اليسر بين جيل وجيل.
... والمرأة
يقول الذين يعتقدون تناسخ الأرواح من الهنود: إن الذي يلد يولد، وإن الإنسان يعود إلى عالم الجسد ما دام يلد الأبناء ويخرجهم في عالم الجسد، وإنما ينفصل من المادة ويتصل بعالم الروح، ويفلت من سلسلة الولادة المتجددة، بعد انقطاعه عن كل صلة جنسية، وقيامه بفروض النسك والتبتل.
فولادة النسل عمل يجزى عليه الإنسان بالعودة إلى الولادة، ويستوي في هذا الجزاء الرجل والمرأة، فليس في الديانة الهندية لعنة خاصة بالمرأة في الإغراء على الخطيئة.
ولهذا يندبون الذكور والإناث إلى ضرب من الزواج تنقطع فيه العلاقة الجسدية بين الزوجين، وتقوم الصلة فيه بينهما على العلاقة الروحية دون غيرها.
فكانت هذه الروحانية أشد على المرأة الهندية من لعنة الخطيئة التي لاحقتها في الديانات الأخرى.
لأنها أنشأت في الهند زواج الأطفال، وأنشأت فيها عادة إحراق الأيامى مع أزواجهن، ثم منعت الحكومة الإنجليزية إحراق الأيامى فاستبدل به التأيم وتحريم زواج المرأة بعد موت زوجها الأول مدى الحياة.
ويتفق أن يموت الزوج وهو في العاشرة أو دون العاشرة؛ لأنهم قد يعقدون الزواج بين الطفل والطفلة في السنة الأولى من عمرهما، ولا يندر ذلك بالنسبة إلى زواج الكبار، فإن نسبة الأطفال الذين عقد زواجهم قبل تمام السنة الأولى من عمرهم قد بلغ ثمانية في المائة خلال سنة 1931، وبلغ عدد الأيامى في هذه السن أكثر من ألف وخمسمائة، وبلغ عدد الأيامى ممن تجاوزن الثالثة ولم يتجاوزن الرابعة أكثر من تسعة آلاف.
فتولد البنت ثم تتأيم قبل أن تبلغ مبلغ النساء، وتظل أيما إلى أن تموت، وهي حرام على غير زوجها الأول؛ لأن لها روحا واحدا، وهي بهذا الروح لا تنفك عن روح ذلك الزوج.
وكان غاندي مؤمنا بتناسخ الأرواح أقوى الإيمان، حتى لقد كتب مرة أن تناسخ الأرواح عنده أكثر من عقيدة؛ لأنه حقيقة واقعة كهذه الشمس الطالعة.
وكان كذلك يؤمن بوجوب الانقطاع عن علاقات الجسد لبلوغ «الموكشا » أو الخلاص.
ولكنه كان ينكر زواج الطفولة كما ينكر تأيم الأطفال، وكان له عمل مشكور في إصلاح الزواج وإبطال عادة التأيم، بل كان يوصي الشبان باختيار زوجاتهم من بين المتأيمات خاصة؛ لأنهن لا يحسبن متزوجات بأي حسبان صحيح.
وقد ثار عليه أنصار القديم أعنف ثورة حين تصدى لإبطال هذه العادة وأعلن نصيحته للشبان بالتزوج من البنات المتأيمات. كان هؤلاء الجامدون يطيقون أن يبطلوا هذه العادة عملا، ولكنهم لا يطيقون أن يقدح فيها زعيم من زعمائهم علانية وكأنها سخف لا يجوز اعتقاده ولا يجوز اتباعه، إلا أنه لم يحفل بثورتهم عليه؛ لأنه كان على ثقة من أن هذه العادة التي تصدى لإبطالها ليست من الدين وليست من العقل ولا من الخلائق الإنسانية.
كان ينكر أصلا أن إحراق الأرملة على جثة زوجها قد أمر به الدين البرهمي في كتاب من كتبه المعول عليها. وكان يقول: إنه لو صح أن إحراق الأرملة على جثة زوجها واجب لاتصال روحيهما، لوجب مثله إحراق الزوج على جثة امرأته المتوفاة، وإن إحراق إنسان حي لا يحيي أحدا بل يزيد في عداد الأموات.
وكان يقول: إن الرهبانية المقصودة هي رهبانية من يغالب غواية الجنس ويقوى على مغالبتها، فلا رهبانية للطفل ولا للطفلة قبل بلوغهما مبلغ الرجال والنساء.
أما الزواج عامة فهو فيه وسط بين المنع والإباحة، فلا ضير من العلاقة الزوجية ولا موجب للخجل منها، ولكن بمسوغ واحد: وهو طلب النسل لا طلب المتعة الجسدية. وقد سأله بعضهم عن المعقمات لمنع النسل في بعض الحالات التي يتقي فيها الوالدان كثرة البنين والبنات، فحرمها كل التحريم، وقال: إن اتصال الزوج بزوجه لمحض اللذة لا حجة له أقوى من حجة الشذوذ الجنسي البغيض، ولا مسوغ له أشرف من مسوغ المتعة الجنسية التي يجدها شواذ النساء وشواذ الرجال.
أما «الموكشا» أو انطلاق الروح من جميع الشهوات الجنسية فهو الكمال الذي يتوخاه من يطيقه، ولكنه لا يفرض على جميع الناس.
سأله الطالب رامشاندران - وهو من تلاميذ صديقه الإنجليزي مستر أندروز - لماذا يبشر بالموكشا؟
فقال: لأن الزواج في غنى عن التبشير، حسبه دافع الغريزة داعيا إليه.
قال الطالب: أليس في ذلك خطر من انقراض النوع الإنساني؟
قال: كلا، بل في ذلك تصفية النوع الإنساني وتهذيبه.
قال الطالب: أليس من واجب العبقري أن يعقب عبقريا مثله؟
قال: إن عبقريته تعقب له أبناء أكثر مما يستطيع أن يلد.
وسئل مرات عن الطلاق كما سئل مرات عن الزواج، فكان يأبى تيسير أسباب الطلاق، ويقول: إنه لا يحل مشكلة الزوجين، فإن المرأة التي لا تجد من زوجها حسن المعاملة لا تنتفع بالطلاق، ولعلها لا تجسر على طلبه، وإنما يأتي حسن المعاملة من معرفة المرأة بحقوقها وتعليمها الواجب لها والواجب عليها، وعندئذ تقل الحاجة إلى الطلاق أو تصبح الحالة في المجتمع خيرا من إكثار المطلقين والمطلقات فيه لجهل الزوجين بما بينهما من الحقوق والواجبات، وكأنه كان يرى - وكان على حق فيما يرى - أن الهند تنتقل في حياتها الاجتماعية نقلة طافرة لو تحولت من زواج أبدي ينتهي بإحراق الزوجين على كومة واحدة، إلى زواج يباح فيه الطلاق لأهون الأسباب.
ويطرد مع هذا الرأي أن يشجع غاندي كل حركة تساعد المرأة على الاستقلال والكرامة. وهكذا كان في مسألة «حق الملكية» ... فإنها كانت مثار خلاف بين الهنود عند البحث في تقرير حقوق النساء المدنية والسياسية، فكان الأكثرون منهم يتوجسون من إباحة حق الملكية للمرأة؛ لأنه يغريها بالنشوز وقلة الاكتراث لمرضاة زوجها عنها. وكان غاندي على خلاف هذا الرأي يبيح الملكية للمرأة كما يبيحها للرجل، ويسأل معارضيه: هل أفسد حق الملكية أخلاق الرجال وعلمهم قلة الاكتراث لمرضاة الزوجات؟ إذن ليكن شأن النساء كشأن الرجال، فلا قيمة للأخلاق التي تبنى على عجز إنسان من الناس عن الاستقلال برأيه ورزقه، وليست الأخلاق أخلاقا إلا إذا جاءت من محض الاختيار ووحي الضمير.
على أنه لم يكن يستحسن للمرأة أن تتعلم لتعمل في كسب المعيشة وتتمرس بأعباء التجارة ومغامرات السوق، ويؤثر لها العمل في البيت على كل عمل في معترك الحياة.
وكان يوجس شرا من الحرية التي تبيح العبث واللعب بالعاطفة. وكتب مرة يقول: أخشى أن يكون من هوى البنت العصرية أن تلعب لعبة جولييت مع ستة «روميهات» في وقت واحد، وذاك من فاقة النفس لا من حرية الإرادة واستقلال الشعور.
وقد واجهته مشكلة النسوة الشقيات اللواتي احترفن البغاء بمعضلة مضنية، فإنهن يتجاوزن على حسب تقديره خمسة ملايين امرأة في أرجاء الهند كلها، قياسا على عددهن في بلدين زارهن فيهما، وهما: كوكونادا وباريسال، فمنهن من أربت على الثلاثين ومنهن من لم تبلغ الثانية عشرة، وكلهن لا يطمعن في الزواج ولا يجدن من يقبلهن زوجات إذا طمعن فيه، فكان يواسي من يلقاهن منهن ويدعوهن بالأخوات، وكان يدبر لهن وسائل الاشتغال بصناعة النسيج، ويوصي القائمين بمقاطعة البضائع الإنجليزية بتفضيل منسوجاتهن لإغنائهن عن التبذل في سبيل كسب العيش، وإحياء كرامتهن بالمساهمة في هذه الحركة القومية، ورحض عار الدنس والمهانة عن نفوسهن.
وكان بوده أن يلقي العبء الأكبر في مهمة إصلاح هؤلاء البائسات على حرائر الهند ينشئن لهن الملاجئ ويهيئن لهن الخدمة الصالحة في البيوت، فحالت التقاليد بين حرائر النساء وبين النجاح في هذه المهمة. ورأى غاندي أن يجندهن لقضية من قضايا الهند الاجتماعية لا تقل عن قضية المرأة المنبوذة: وهي قضية الطائفة الكبيرة التي عرفت في الهند باسم المنبوذين أو الأنجاس، وهم أحق الناس أن ينتفعوا بعطف المرأة عليهم فيما ضرب عليهم من الذلة والشقاء.
قال في خطاب ألقاه على نخبة من السيدات والفتيات: «إنه لمن الفواجع أن الديانة في زماننا هذا أصبحت لا تعني شيئا غير الامتناع عن بعض الطعام والشراب، أو الترفع عن بعض الطبقات، ولن تكون هناك غباوة أغلظ من هذه الغباوة، فإن الموالد ومراسم التقاليد لن يناط بها رجحان للمرء أو نقصان، وإنما مناط ذلك كله الأخلاق، وما خلق الله الناس وعليهم علامة الرفعة والدناءة، وما من كتاب يدمغ إنسانا بالخسة أو النجاسة منذ مولده يستحق منا الرعاية والاحترام، إنه ليجحد الله ويجحد الحق الذي هو الله، وما كان الله وهو الحق والصدق والعدل ليرضى عن ديانة تنظر إلى خمس أبناء هذه البلاد كأنهم أنجاس لا يجوز مسهم ... وإني لأريد منكن أن تبرئن أنفسكن من هذه الشناعة البالغة فالنجاسة التي تأتي من العمل النجس موجودة، ولا بد أن تقترن بكل عمل نجس وتلحق بكل أحد منا ينغمس فيها، ثم تفارقنا حين نغسل أنفسنا من الضر والوضر فلا تلزمنا النجاسة، ولكنه ما من عمل أو مسلك يدمغ رجلا أو امرأة بالنجاسة أبد الآبدين.»
ومن ثقته بذخيرة العطف في نفس المرأة أنه كان يعول عليها في معركته الكبرى، وهي معركة «الاهمسا» أو مقاومة العنف بالصفح والإحسان.
كان يعول على نساء الهند في الهند وعلى نساء العالم كله في العالم كله؛ لأن المرأة في كل مكان هي رمز التضحية ومثال الغفران والاحتمال، وهي في معركة «الاهمسا» تصنع ما يصنعه الرجل وتزيد، ولكنها في معركة العنف لن تزال هي الجنس المغلوب.
فلما عرج على إيطاليا في طريق عودته من إنجلترا سألته السيدات الإيطاليات كلمة لهن فقال لهن - وإيطاليا يومئذ في ظل الحكومة الفاشية: «إنكن تستطعن ما لا يستطيعه الرجال من محاربة العسكرية، قلن لأنفسكن ماذا يصنع قادتكم وجنودكم إذا كان نساؤهم وأمهاتهم وبناتهم يأبين أن يشتركوا في الأعمال العسكرية!»
وقال للسيدات في لوزان حين سألنه أن يدلهن على درس يتعلمنه من المرأة الهندية: تعلمن منها الاهمسا ... فإن أوروبة إذا «شربت» هذا الدرس فإنما تتناوله من أيدي بناتها. •••
وجملة القول: إن علاقة هذا الرجل بالجنس الآخر لم تكن إلا علاقة قائد جيش يوجه فرقة منه إلى الحملة التي تقدر عليها في معركته الكبرى، وهي معركة السلام.
ولم تعرف الدنيا له علاقة بالنساء عامة غير هذه العلاقة.
ولكن الدنيا كانت خليقة ألا تعرفه على الإطلاق من جراء المرأة، أو كانت خليقة أن تعرفه في صورة أخرى أبعد ما تكون عن صورة القداسة: صورة زير نساء، أو فتى من فتيان الأندية والسهرات.
فإن القديس لم يولد قديسا، وتلك مفخرة من مفاخره؛ لأن قداسته كلفته شيئا عسيرا من مغالبة نزعاته، ولم يجدها حين أرادها سهلة ميسرة على طرف الثمام.
كان للمرأة هوى شديد في نفسه.
وكان لا يطيق الابتعاد عن زوجه في السنين الأولى من اقترانه بها، فكان مرض أبيه - على إعزازه لأبيه - لا يحول بينه وبين الإسراع إلى مخدعها كلما سنحت له الفرصة من غفوة المريض أو استغنائه عن ملازمته، وخرج مرة من حجرة المريض على عادته، فجاءه النبأ بعد هنيهة بأن أباه قد مات.
وظل حياته كلها يقرع نفسه على هذا العقوق، أو هذا التهافت على الشهوات.
وهم أربع مرات أو خمسا بمقاربة نساء غير زوجه، ولكنه لم يسترسل في نزواته هذه لمصادفات عاقته، كما قال في ترجمة حياته، ولعله من تواضعه يحيل الأمر إلى المصادفة ولا يحيله إلى قوة العفة في طبعه.
وغاندي - ولا شك - مثل من أندر الأمثلة على قوة المناعة التي يكسبها الإنسان من التربية الدينية والنشأة المنزلية في مقاومة الشهوات الجنسية وغيرها.
وربما أعانته على ذلك طبيعة فيه عرف بها في جميع أطوار حياته من صباه إلى شيخوخته، فإنه خلق مطبوعا على الحب الشامل الذي لا يميز أحدا عن أحد، ولم يخلق لاختصاص أحد بحبه وهواه، من الرجال أو النساء، فلم يكن له صديق واحد منفرد بحبه وتمييزه، وكتب هو في ترجمة حياته فانتقد هذا النوع من الأثرة بالصداقة، وقال عنه: إنه لا يؤدي إلى خير.
ومع هذا كان في هذا الرجل فتنة خاصة لبعض النساء، فكن يهجرن الدنيا ليلتحقن به في صومعته ويعشن إلى جانبه عيشة الفاقة والشظف.
لا جرم أن الرجل القوي يظل فتنة للمرأة ولو كانت قوته في ترك المرأة.
ترى هل كانت امرأة من النساء تظفر بالمعجبات اللاتي يهجرن الحياة من أجلها لو نسكت مثل هذا النسك وتقشفت مثل هذا التقشف؟ إنهن إن أقبلن عليها أقبلن على كل حال مشتركات في مواساة واحدة، ولم يقبلن مقدسات ولا معجبات.
ومن النساء اللواتي كن يلذن به فتيات غير هنديات، منهن إنجليزيات وأمريكيات، جذبهن إليه شعور قلق نحو الحضارة الغربية، وإيمان صادق بأنه معطيهن من سلام الروح ما لا يأخذنه من تلك الحضارة التي أوشكت أن تفلس، فلا تقوى على إعطاء.
وكانت أعظم عبقرية نسائية أخرجتها الهند - وهي الشاعرة: نايدو - تؤمن به، وتخلص له، وتصمد إلى جانبه حين يتخلى عنه المعارضون لسياسته السلمية في أوقات السخط والهياج، ولم تخذله قط في وقت من الأوقات.
سياسته
إذا قلنا: إن غاندي لم يكن سياسيا فنحن لا نريد بذلك أنه كان دون السياسيين في ملكات عقله، ولا أنه كان مفتقرا إلى الدهاء الذي تقوم عليه السياسة، فإنه لم يكن خلوا من الدهاء، ولم يكن مقصرا عن الساسة في ملكات العقل والسليقة، ولكنه لم يكن سياسيا؛ لأنه كان يعمل في سياسة قومه بأسلوب غير أساليب الساسة، بل غير أساليب الدعاة الشعبيين في أكثر الأحيان.
كان يعمل في السياسة بأساليب القديسين.
وكانت «الاهمسا» أو المقاومة السلبية رأس ماله في كل خطة يواجه بها قومه، أو يواجه بها الدولة البريطانية، أو يواجه بها كائنا من كان ممن يخشى منهم خطرا على بلاده.
كان الخطر الياباني محدقا بالهند بعد جلاء الجيوش البريطانية عن سنغافورة وبرما وبلاد الملايو في إبان الحرب العالمية الثانية، وكان هو يعلن الإنجليز بوجوب الجلاء عن جميع البلاد الهندية قبل توقف القتال، فلما سأله مراسلو الصحف الأجنبية عن الخطر الياباني قال: إننا نواجه هذا الخطر بالمقاومة السلبية، كما واجهنا بها سلطان الدولة البريطانية. ولم يكن هذا رأي نهرو وزملائه من أصحاب الرأي في المؤتمر الهندي؛ لأنهم كانوا على استعداد لمواجهة الخطر الياباني بالمقاومة العسكرية، وكانوا على استعداد للموافقة على إبقاء فرق من جيوش الحلفاء في الهند للاشتراك في الدفاع عنها. ولم يرفض غاندي كل الرفض أن تبقى الجيوش لهذا الغرض دون غيره، ولكنه كان يؤمن بالمقاومة السلبية فوق إيمانه بالقوة العسكرية، وكان يقول لأبناء وطنه وللأجانب المتحدثين إليه: «إنني أؤمن - سواء صدق الناس أو لم يصدقوا - أنه كلما كان العمل عملا من أعمال ترك العنف أو المقاومة السلبية فالعامل الحاسم في هذا الموقف، هو الله.»
فإذا أغار اليابانيون على الهند فكل ما يطلب من أهلها لدفع خطرهم هو الكف عن مقابلة العنف بالعنف والكف عن التعاون معهم في حكم البلاد، وهذه - في رأي غاندي - مقاومة كافية لتحقيق الغرض منها، وهو فل سلاح العدوان وتعويق المعتدي عن بلوغ مقصده من عدوانه، فإن بقي بعد ذلك عمل لازم لكبح جماح المعتدي فما بقي بعد ذلك فهو من عمل الله.
ومتى كانت «الاهمسا» هي رائد السياسي في مقاومته، فلا عليه أن يحدث من جرائها ما عسى أن يحدث من شدة وضرر، فإنما الحرام هو إيقاع الضرر عمدا وإيقاعه من طريق العنف والسورة الغضبية، فإذا جاء الضرر من غير هذه الطريق فلا جناح عليه ولا حيلة له في منعه؛ لأنه لا يستطيع أن يمنعه لو شاء.
زار البلاد الإنجليزية للتشاور في القضية الهندية، فأخذوه إلى مساكن العمال المتعطلين وأشهدوه ما فيها من بؤس وفاقة، وأحبوا أن يقنعوه من حيث يقتنع إذ طرقوا فكره من باب الرحمة والتورع عن إيذاء الأبرياء فقالوا له: إن هذا البؤس الذي يراه أثر من آثار سياسته التي يدعو إليها، وهي مقاطعة البضائع الإنجليزية وتعويل أهل الهند على ما يصنعونه بأيديهم من الكساء ومطالب المعيشة.
فبدا عليه أسف شديد، ولكنه قال: إنه لا يستطيع أن يعدل عن دعوته، وإن في الهند من ألوان البؤس والفاقة ما هو أنكأ للنفس مما رآه.
نهرو رئيس الحكومة الهندية يصغي إلى غاندي.
ولم يكن هذا الإصرار عجيبا من قديس الرحمة والمحبة بين الناس، فإنما كان شأنه في هذا كشأن الطبيب الذي ينهى الناس عن التخمة والإفراط في المآكل فلا يلام إذا كان في اتباع الناس لنصيحته خسارة على المطاعم أو الصيدليات، ولا يطلب منه أن يسكت عن محاربة التخمة والإفراط؛ لأن أناسا يستفيدون إذا تخم الناس ويخسرون إذا أخذوا بالحمية والاعتدال. •••
وقد قيل له مرة: لماذا يفرغ جهده في المطالبة باستقلال الهند ولا يفرغ هذا الجهد فيما هو أعظم من ذلك وأكمل؛ وهو المطالبة بالإخاء العالمي أو بالوحدة العالمية؟
فكان جوابه غاية في الإقناع وغاية في الدهاء ، وقال لسائليه - وهم من الصحفيين الأمريكيين - إن الإخاء العالمي لا يصلح إلا لإخوة أحرار، وإنه إذا كان مقصورا على المنتصرين في الحرب، فغاية ما يرجى منه أن يمكن فريقا من فريق، وأن يقسم العالم إلى أعداء غالبين وأعداء مغلوبين، فإذا صدقت النية في التبشير بالإخاء بين بني الإنسان فليكن إخاء بين أحرار، وليدخل في زمرته المنهزمون في ميادين القتال، ولا يعامل أحد من هؤلاء المنهزمين معاملة التشفي والانتقام. •••
وغني عن القول: أن غاندي لم يكن ليحرم المقاومة العنيفة على أهل الهند ويبيحها لغيرهم من الأمم في سبيل غاية من الغايات، فمن شاء أن يقاوم عدوه بالسلاح فهو وشأنه فيما يشاء، وقد كان غاندي يكتب إلى «شيان كاي شيك» زعيم الصين فيحيي فيه جهاده في تحرير بلاده، ولكنه إذا سئل رأيه في أفضل الوسائل فليست لديه وسيلة أفضل من «الاهمسا» لدفع كل خطر وتبليغ كل مقصود، وبخاصة إذا كان المقصود هو تعميم الإخاء بين بني الإنسان وإقامة الوحدة العالمية بين جميع الشعوب، فما من بلاء يحول بين الناس وبين إقامة هذه الوحدة إلا كانت «الاهمسا» ترياقا له أنجح من كل ترياق، ولا استثناء في هذا لشيء قط حتى بلاء الفاشية أو بلاء النازية أو بلاء المذاهب المادية، فما على الناس إلا أن يكفوا عن مقاومة عنفها بمثله، وأن يكفوا عن معاونتها في مطامعها، وأن يقرنوا الكف بالكفاف والقناعة، فإذا بهذه الغاية الموموقة أدنى إلى هذه الوسيلة من كل وسيلة يعتمد عليها الساسة والدعاة. •••
ومن البديهي أن رجلا كهذا لا يضمر في طوية نفسه عداء لأحد من خصومه أو الساخطين عليه، وكثيرا ما كان يحرج أولئك الخصوم ويوقعهم في الحيرة والارتباك بجرائر عمله، كما كان يفعل حين يعلن المقاطعة أو عدم التعاون أو ينذر الصيام حتى الموت أو يتحدى القوة والقانون، ولكنه لا يبالي بحرج من يحرج وحيرة من يحار ما دام هو مستريح الضمير، وإنه لمستريح الضمير أبدا ما دام في حدود «الاهمسا» التي هي في شرعه رأس الحكمة وجماع الفروض والواجبات، أو ما دام مخلصا في اجتناب العدوان، مخلصا في منع الحرج لو استطاع. •••
وإذا كانت هذه أساليبه في معاملة الدولة البريطانية لا جرم يجري على هذه الأساليب نفسها في معاملة الطوائف الهندية من غير النحلة الدينية التي ينتمي إليها. فكان يعطف على طائفة المنبوذين ويطلب لهم حقوقا مساوية لسائر الحقوق ولا يبالي ما يلهبه من الغيظ في صدور المتعصبين من البراهمة بهذه الدعوة التي تخرق سنن الحياة الهندية من أقدم عصورها، وكان يأبى اضطهاد المسلمين ويثير عليه السخط من جراء هذه المجاملة التي أودت بحياته، وسئل مرة وهو يطالب الإنجليز بالجلاء عن الهند كلها: هل هو على استعداد لتسليم الحكومة الهندية إلى جماعة الرابطة الإسلامية إذا وجب قيام حكومة موقوتة في فترة الانتقال بين جلاء الإنجليز وقيام الحكومة الهندية الدائمة؟ سأله تاجر مسلم من بومباي هذا السؤال باسم القائد الإسلامي الأعظم محمد جنة، فكان جوابه: نعم بلا قيد ولا شرط ولا تحفظ، إنني أقبل في هذه الحالة تسليم الحكومة الهندية لجماعة الرابطة الإسلامية في أقاليمها وفي غير أقاليمها.
ومن أبناء الطوائف من يتهمه بالمكر والمداجاة في سياسته مع هذه الطوائف، وأنه يظهر لها الحسنى ويبطن التعصب لأبناء نحلته من ورائها. قالوا: ومن أدلة ذلك أنه نذر الصوم حين همت الحكومة البريطانية بتقسيم «دوائر انتخابية» للمنبوذين ينفردون بالانتخاب فيها؛ لأنه كان يخشى أن تتمزق أوصال البلاد وتنطلق فيها دواعي الفتنة بهذا التقسيم.
قالوا: ومن أدلة ذلك أيضا أنه كان على رأس قادة المؤتمر في مناقشة «الباكستان» وتبادل السكان.
وهذه ولا ريب تهم خليقة أن تقال في أمثال هذه الأحوال ولكن غاندي لم يزعم قط أنه منبوذ أو أنه مسلم، ولم يزعم قط أنه خارج عن نحلته واعتقاده، فلا يطلب منه أن يكون من أبناء هذه الطوائف في طويته وسعيه، ولا أن ينكر على طائفته كل ما تدعيه، وما لم يطلب منه هذا فالحقيقة التي لا تقبل المكابرة أن إنصافه للطوائف أكرم إنصاف ينتظر مع هذا الخلاف.
ومن السخف أن يقال : إن الرجل وقف حياته «للاهمسا»، ونفض عنه فتن الحياة وشهواتها ليروج السياسة الطائفية من وراء هذا الستار.
فهو مخلص في عقيدته وفي سياسته غاية ما يستطاع من إخلاص، وليس في طاقة الإنسان وراء هذا الإخلاص غاية لمستطيع.
وليست نظريات «الاهمسا» هي موضع البحث حين نبحث في قدرة غاندي السياسية أو في برامجه الوطنية.
فإن إنكار القوة العنيفة كل الإنكار خطأ لا شك فيه، وإن الإيمان بالقوة العنيفة كل الإيمان خطأ كذلك لا شك فيه.
وكل مذهب سياسي يمكن أن يقال في جملته ما يقال عن مذهب غاندي في معرض التخطئة والتصويب.
وإنما موضع البحث في هذه القدرة السياسية ما اقتدرت عليه، وما أنجزته على هوى غاندي وعلى غير هواه.
مثل غاندي في ذلك مثل من ينشئ قوة كهربائية لغرس الأزهار والرياحين، فتنشأ هذه القوة وتغرس بها الآجام والأدغال وكثير أو قليل من الأزهار والرياحين.
فلا نسأل في تقدير تلك القوة: ماذا أراد المهندس؟ ولكننا نسأل ماذا يجدي مراد الآخرين لو لم يعطهم المهندس تلك القوة؟ وقد كان غاندي مهندسا عظيما؛ لأنه أنشأ تلك القوة وإن ترك الانتفاع بتصريفها في أيدي المقادير.
مفتاح شخصيته
سيرة غاندي في معيشته من أبسط السير التي عرفناها لعظيم من عظماء العالم قديمه وحديثه، ولكن هذه السيرة على بساطتها قد اشتملت على جملة من النقائض، قلما عرفت عن حياة عظيم.
إن الرجل «عصري» بزمنه وتعليمه، تعلم في أحدث الجامعات، وعاش في أحدث البيئات الإنجليزية، وتثقف في بلاده وفي أوروبة على النمط الحديث، ولكنك تحسبه من عجائز القرون الوسطى إذ سمعت مثلا برأيه في الطب والعلاج.
فكان يأبى أن يدخل لقاح الجدري في جسمه؛ لأنه مأخوذ من جسم البقر، ويقول لمن حوله: إنهم في حل من التوقي بهذا اللقاح، أما هو فلا يستحله لنفسه وإن كان لا ينكر فعله في الوقاية.
ولم يقبل أن يعالج بالجراحة في السجن إلا حين رأى مدير السجن يضطرب بين يديه ويخشى العاقبة إذا مات وهو سجين عنده، لما يحدثه موته في السجن من سوء الأثر في سمعة الدولة البريطانية.
ومرض ابنه الثاني بذات الصدر فأصابه الهزال، واحتاج إلى غذاء أقوى من الأغذية النباتية والأغذية المباحة في الشريعة الجينية، وأشار الأطباء بإطعامه البيض وحساء الفراريج وغيرها من الأطعمة الحيوانية، فأبى غاندي أن يغذي جسما حيا بجسم حي، وإن كانت حياة ولده في خطر، وكانت هذه التغذية منقذة له في رأي الأطباء، وأبرأ ذمته بعرض الأمر على ولده، وقال له: إنه يرجو خيرا من استخدام العلاج المائي
Hydropathetic Treatment
لمداواة علته، فكان الولد سر أبيه حقا، وأبى الصبي أن يأكل البيض والفراريج، مكتفيا بعصير البرتقال وبعض الأغذية المباحة، معتمدا على وصفة الأطباء المائيين، فشاءت المقادير أن يتم له الشفاء.
ومن رأي غاندي في الأدوية عامة أن ضررها أكبر من نفعها؛ لأن البنية كفيلة بإصلاح نقصها، وغاية ما يستفيده المريض إذا أتخم معدته أو جار على قواه فاستشفى بالدواء، أن يغريه هذا الشفاء بالعودة إلى الخطأ والتمادي فيه، ولولا ذلك لقوم معيشته فاستقام.
على أن المهاتما يستعين بالنظارات وبالأسنان الصناعية، ولا يرى في استخدامها خروجا على سنة التقشف وترك الفضول.
إلا أن هذا الرجل الذي يتحرج هذا التحرج من المساس بحياة مخلوق لم يتحرج من قتل عجل ولا من الإشارة باستخدام المقلاع في طرد القردة التي تغير على الحقول، وهي أكثر من أن تطاق حيث كان يقيم في «أحمد أباد». ولكنه لم يقبل قتل العجل إلا بعد أن برحت به آلام المرض تبريحا لا يرجى شفاؤه منه، ولم يقبل تعريض القردة للموت برمية حجر هنا أو هناك؛ إلا لأنها كانت تعرض للموت والجوع حياة الآدميين. •••
وكان غاندي يعيش في عصر «الصور المتحركة» الذي غلبت فيه شهرة الممثلين والممثلات على شهرة الساسة والعلماء، وتسامع فيه الأميون بين القرى السحيقة بأسماء أبطالها وبطلاتها حيث لا يسمعون بما وراء قريتهم في سائر الشئون.
ولكنه مع هذا لم يعرف من هو «شارلي شابلن» حين زاره في العاصمة الإنجليزية وحمل إليه حاجبه بطاقة الممثل الكبير فسأل الحاجب: من يكون السيد صاحب البطاقة؟ وأغرب من هذا أنهما لما التقيا رأى الحاضرون في ذلك المجلس الطريف ما لم يخطر لهم على بال: رأوا أمير الجد والنسك هو الذي ناوش أمير الفكاهة واللهو ضاحكا مستغربا طوال فترة الحديث.
وكان غاندي يؤمن بأن «الموكشا» أو اعتزال العلاقات الجنسية هو سبيل الخلاص الأعظم ومعراج الروح إلى عالم الصفاء والخلود.
وكان يؤثر المذهب الكاثوليكي على المذهب البروتستانتي في الديانة المسيحية، ويقول: إن الرهبانية هي التي صانت للكنيسة الكاثوليكية نضرتها وحفظت عليها قداستها.
وقد أقسم وهو في نحو السابعة والثلاثين قسم التبتل المعروف عندهم بالبرهماشاريا
Brahmacharya
فاعتزل زوجته منذ ذلك الحين.
ولكنه لما عرضت له مشكلة الأيامى الصغيرات جرد نفسه للعناية بتزويجهن، وأوصى الشباب أن يقبلوا على التزوج من هؤلاء الفتيات المهجورات خلافا للعرف الذي قضى في الهند بتحريم الزواج عليهن مدى الحياة؛ لأنهن منذورات لأزواجهن في عالم الجسد وفي عالم الروح.
ولما سئل رأيه في المعقمات أنحى عليها أشد الإنحاء؛ لأنها تجعل العلاقة الجنسية بين الزوجين محض شهوة، وتسلبها المسوغ الوحيد لقيامها، وهو إنجاب الأبناء. •••
وكان غاندي صحفيا يصدر صحيفة دورية ويكتبها ويواظب على إصدارها وكتابتها.
ولكنه حذر من الصحافة وأسف لتهافت الناس عليها، فقال غير مرة بمختلف العبارات: «أقول لكم: إن الصحافة لن تعطيكم شيئا فيه لكم مصلحة دائمة، وإنها لن تعطيكم شيئا يساعدكم في تكوين أخلاقكم، ولا أجهل مع هذا ولع الناس بها في هذا الزمان فهو محزن ومخيف.» •••
نقائض كثيرة من هذا القبيل في أعماله وفي وصاياه.
فهل يقال من أجل ذلك: إنه لغز من الألغاز النفسانية التي تحيرنا في نقائض بعض العظماء.
لا نحسب أنه لغز غير مفهوم، وإن بلغت نقائضه أضعاف ما أشرنا إليه؛ لأن الشخصية الملغزة هي الشخصية التي تعمل ما لا تنتظره منها، أو الشخصية التي تفاجئك في كل تصرف من تصرفاتها بمصدر جديد تصدر عنه في أعمالها وأقوالها.
وليس غاندي كذلك على التحقيق.
لأننا إذا عرفناه لم ننتظر منه غير ما فعل وغير ما قال في جميع هذه الأحوال. •••
إننا لا نحاسب غاندي محاسبة الفيلسوف ولا محاسبة الحاكم، ولا محاسبة الفنان.
وإنما يوزن غاندي بميزانه الذي ليس له ميزان غيره، وهو ميزان الناسك المصلح الجاد في نسكه وإصلاحه: مطلبه الأول هو خلاص الروح قبل كل شيء وبعد كل شيء، وليس في الكون كله ما يعدل عنده هذا الخلاص؛ لأنه اتصال بالإله مصدر الخير والسعادة، وكل ما عداه فهو اتصال بما دون الإله.
قال في ترجمة حياته: «إن أعمالي في ميدان السياسة معروفة الآن في الهند، بل معروفة على نحو ما في العالم المتحضر بأسره، وهذا كله ليس بذي شأن كبير عندي، فإن ما أردت أن أبلغه في هذه السنين الثلاثين هو تحقيق روحي وتصحيحها؛ أو هو لقاء الله وجها لوجه، والوصول إلى - الموكشا - أو الخلاص.»
فالرجل كما أسلفنا ناسك جاد في نسكه قبل كل شيء وبعد كل شيء؛ عنايته الكبرى منصرفة إلى المسائل الأبدية التي تحسب بأعمار الأكوان ولا تحسب بأعمال الآحاد، ولكنه زعيم الهند وقائد أبنائها في طريق الحياة القومية، فلا مناص له من العناية بمسائل الحاضر وشواغل الساعة، ومن هنا يأتي التناقض لا محالة، كما لا بد أن يأتي في كل توفيق بين مسائل الأبد الباقي ومسائل الساعة العابرة.
قد يقال: وما للناسك الجاد في نسكه وللسياسة؟ إنه غريب عنها وهي غريبة عنه ... عليه أن يعتزلها مع الدنيا، وأن يدع للناس أمر دنياهم يدبرونه على هواهم، وينجو بروحه وضميره من هذا الزحام، إلى صومعة من صوامع الوحدة والقنوت.
وهذه حقيقة تقال وتسمع في سيرة غاندي وأمثاله.
ولكنها حقيقة ناقصة؛ لأنها حقيقة من جانب واحد، وهو الجانب الذي يملكه غاندي ويختاره، دون الجانب الذي يساق إليه على الرغم منه، وهو قيادة الهند بأجمعها في طريق الخلاص.
إن الهند لا تنفعها إلا زعامة واحدة: وهي الزعامة التي تخاطب روحها وتنفذ إلى صميم وجدانها.
إن زعامة الساسة الذين ينغمسون في الدنيا تضلها وتؤذيها وتثير فيها الريبة وسوء المظنة.
فلم تخلق لها زعامة أصلح من زعامة الرجل الذي لا يستراب في مقاصده ونياته، وهو الرجل الناسك المقبل على عالم الروح.
فالهند لا تترك غاندي إذا تركها.
وهو إذا تركها كان أقل من غاندي وأصغر؛ لأنه يؤثر خلاصه على خلاصها، وينظر فيما يريحه ولا ينظر فيما يريحها.
وإنما يكون ترك الزعامة «تضحية» عندما تكون الزعامة كسبا وجاها لصاحبها، فيقال: إنه ضحى بالكسب والجاه في سبيل العزلة الروحانية.
أما الرجل الذي يغنم من العزلة ولا يغنم من الزعامة، فالتضحية عنده أن يعيش بين الناس ويعمل مع الناس؛ لأنه يعطيهم كل ما يستطيع إعطاءه، ولا يأخذ منهم شيئا من الأشياء، في عالم الجسد ولا في عالم الروح.
ومثل هذا الرجل لن يعمل غير ما عمل غاندي، ولن يقول غير ما قال، فليس في وصايا زعيم الهند على هذا الاعتبار لغز مستغرب، بل هي وصاياه التي تجري في مجراها ونفهم معناها، وكل ما عداها فهو الغريب الذي يحتاج إلى تفسير. •••
وقر في يقين «المهاتما» أن آفة العالم كله، وآفة الهند خاصة، هي الحضارة الآلية؛ لأنها تحجب عن الإنسان مطالبه العليا وتشغله بمطالب لا يحتاج إليها.
فهذه الحضارة الآلية لا تغني الإنسان، بل تخلق له الحاجات التي هو غني عنها، وتسخره في سبيل هذه الحاجات المصطنعة، فيتهالك عليها ويتنازع فيها، ويضري على العدوان من جراء هذا التهالك وهذا النزاع.
وليس لهذه الآفة دواء في عقيدة غاندي غير البساطة الطبيعية، وهي الاستغناء عن كل ما يمكن الاستغناء عنه، ووضع الآلة والصناعة في وضعهما الأصيل، وهو خدمة الإنسان في ضروراته، وسد نقص الطبيعة في خدمة هذه الضرورات.
وهو لا ينكر العلاج بالطب الحديث لذاته، ولا ينكره على طريقة الخرافيين الذين يستبدلون به طبا آخر ينوب فيه علاج الجهل عن علاج المعرفة والتجربة العلمية، ولكنه يرى أن العلاج الطبي ضروري في حالة الحضارة الآلية ولا ضرورة له ولا فائدة في حالة البساطة الطبيعية، ولعله لا يخلو من الضرر إذا شفي به المريض، فاعتمد عليه وانحرف عن سواء الطبيعة لاطمئنانه إلى إمكان الشفاء عن طريق العلاج.
فالبنية التي يلتزم صاحبها معيشة البساطة لا يختل مزاجها ولا يصعب - عند اختلاله عرضا - أن يعود بتدبير البنية السليمة إلى سوائه، ولكنه إذا تناول الدواء فشفاه تعود مخالفة البساطة ولم يحذر عواقب المخالفة، فأضعف بنيته عن قدرة التعويض والتصحيح، واستمرأ العبث بطعامه وشرابه وأسلوب معيشته؛ لأنه لا يحذر عقباه.
أما علاج المرض بتغذية الجسم بالأغذية المحرمة في شريعة الهند فذلك شيء آخر؛ لأن الأمر فيه يرجع إلى التعارض بين واجبين والموازنة بين أي الواجبين أولى بالترجيح على حسب اعتقاد المريض أو على حسب مشيئته واختياره.
فغاندي الذي يسوم أهل الهند أن يعرضوا عن فتنة الحضارة الآلية بعلم أنهم لا يقدرون على ذلك إلا بقوة تعصمهم من تلك الفتنة، وهي قوة الإيمان.
فهذا الإيمان هو الحصن المنيع الذي ينبغي ألا تنفتح فيه ثغرة، ولا يتزلزل له أساس.
فإذا وقفت الحياة الفردية أمام هذا الإيمان فهذه هي الحيرة أو هذا هو مجال الحسم والإيثار.
وغاندي إذن لا يهمل العلاج بالطب إهمالا للحياة، بل صيانة لكل حياة.
وإذا رجعنا إلى المبدأ لم نجد خلافا بين غاندي وبين المصلحين من جميع النحل والعقائد؛ لأنهم يؤمنون جميعا بصيانة الحياة الإنسانية، ويؤمنون مع ذلك بمبدأ آخر لا اختلاف بينهم عليه، وهو: أن هذه الحياة لا تصان بكل ثمن، وعلى الرغم من كل فريضة توجبها العقيدة أو توجبها الأخلاق.
والفرق بين غاندي وغيره من المصلحين هو اختلاف العقيدة، لا اختلاف الرأي في هذا المبدأ المتفق عليه.
فهناك أشياء تهون فيها الحياة في سبيل هذا المبدأ كلما تعارضت الحياة وسلامة الضمير والوجدان.
ولا معارضة للضمير عند المسلمين والمسيحيين مثلا في تغذية المريض أو الصحيح بلحوم الحيوان، ولكن هذه المعارضة قائمة في عقيدة الهنديين، واحترام هذه العقيدة أمر لا يترخص فيه رجل يقيم دعوته كلها على الإيمان، ويعلم أن الإيمان هو العصمة الوحيدة التي يغلب بها فتنة الحضارة وفتن السياسة والسطوة والثراء.
ولك أن تقول: إنه غير مصيب ولكنك لا تستطيع أن تقول: إن في هذه الحالة لغز غير مفهوم.
ولك أن تقول أيضا : إنه يكلف الناس ما لا يستطاع، ويحملهم على محمل لا يقوى عليه كل إنسان من أتباعه ومريديه.
ولكنك إذا قلت هذا وجب أن تذكر أن غاندي في هذه الخصلة وسائر الدعاة والمصلحين سواء؛ لأنهم جميعا يفرضون ما يجمل اتباعه، ثم لا يتبعه إلا القليل من القادرين عليه، ويبقى الأكثرون وهم يحاولون فيفلحون تارة ويخفقون تارات. •••
ولا تناقض بين اشتغال غاندي بالصحافة واستهجانه لتهافت الناس عليها والاشتغال بأحاديثها وأخبارها، فإنما الصحافة عنده صلة روحية بينه وبين قرائه، وليست للقارئ صلة روحية بصحافة تشغله باللغط والثرثرة وتضيع عليه الوقت في التطلع والمحال.
فالجد في النسك هو تفسير كل لبس في حياة هذا الناسك العظيم، ولولا هذه القوة الخلقية الهائلة لما تأتى له أن يكبح شهواته وهي ميسرة كل التيسير إن شاء، ومنها شهوات يستعصي كبحها على أقدر الرجال كشهوة الحكم، وشهوة الترف، وشهوة المال.
ولولا هذه القوة الخلقية الهائلة لما استنهض الهند كلها في صراع يحتاج منها إلى كل قوة مدخرة فيها، وهي فقيرة في قوة العلم وقوة السلاح.
ولو أن الهند تلقته زعيما يلبس أحدث الأزياء، ويغشى أظرف الأندية، ويأخذ بكل بهجة من مباهج العيش الحديث لما زاد على الهند ولا على العالم شيء، ولكنها كانت تخسر كل ما استفادته من تلك البساطة الهائلة، بالغا ما بلغ فيها التناقض والإغراب. •••
على أن الجد في النسك لا يدل في غاندي خاصة على خلق من خلائق التجهم والصرامة، وهما أول ما يبادر الذهن من كلمة النسك وكلمة الجد مقترنتين.
فلم يكن في الرجل تجهم ولا صرامة، بل كانت له سماحة تفيض بالمرح والفكاهة في كثير من المواقف، وكانت له فطنة لمواقف الضحك الطبيعية، لا تخطئها نكتة بريئة من الإساءة والتكدير.
وتعبيراته عن أخطر الأمور تدل على هذه الخليقة السمحة وهذه السليقة الفكاهية التي يلطف بها جهامة العظائم والخطوب.
سألوه مرة: كيف تغيب عنه معائب عقيدته التي يدين بها نفسه ويدين بها أتباعه ومريديه، فحل المشكلة أظرف حل وأصدقه في كلمات قليلة، وقال: إن عقيدة المرء كزوجته، وهو لا يحب زوجته لأنها أجمل النساء وأسلمهن من العيوب ولكنه يحبها ويلازمها لأنها أقرب النساء إليه.
ودعاه نائب الملك مرة في جمع من كبار الموظفين ورجال الدولة، فجاءوه ببعض الشراب الحلو فاعتذر ودعا بكوب من الماء، فلما جاءوه به أخرج من حزامه صرة صغيرة، فأذاب ما فيها وهو يضحك، وشربها «في صحة نائب الملك» وإذا هو ملح ممنوع، يشربه في المكان الذي يصدر منه المنع والتحريم.
ودعاه نائب الملك مرة أخرى فسأله حفيده الصغير: إلى أين تذهب يا جداه؟ قال الجد الوقور متبسطا: إلى نائب الملك.
قال الطفل دهشا: ولكنك تذهب دائما دائما إلى نائب الملك، فلماذا لا يحضر نائب الملك مرة إليك؟
فلم يزل غاندي يضحك حتى فارق الدار.
إن الفكاهة فكاهتان: فكاهة النقمة وهي سلاح عدوان ودفاع، وفكاهة السماحة، وهي عاطفة تغتفر صغائر الناس كما يغتفر الآباء صغائر الأبناء.
وقد كان نصيب غاندي من هذه الفكاهة أوفى نصيب.
إلا أنها فكاهة من قبيل السليقة النفسية وليست من قبيل الملكة الفكرية، فهي تسري إلى الشعور، وقلما تروى بالكلام. •••
وقد تناقض النسك والحصافة في رأي أكثر الناس، بل قرنوا - قديما وحديثا - بين الإعراض عن الدنيا وانخلاع العقل والشعور، كأنهم - لإكبارهم متاع الدنيا - لا يصدقون أن أحدا ينصرف عنها وله حظ من العقل الحصيف.
ولكن غاندي على التخصيص كان نقضا بارزا لهذا التناقض المزعوم، فقد كانت له حصافة وكان له دهاء، وكان من الأذكياء المعدودين، وإن لم يكن من المعدودين بين أعاظم المفكرين.
فقد يأتي بين أعاظم المفكرين في الصف الثاني أو الثالث.
وقد يأتي في الصف الثاني أو الثالث أيضا بين أعاظم الساسة وخطباء الجماهير.
ولكنه بين جبابرة الروح في الرعيل الأول لا مراء.
وبهذه القوة الهائلة فيه قد استطاع ما لم يستطعه أحد في الصف الأول من صفوف المفكرين، أو صفوف الساسة والخطباء.
تقديره ونقده
كان غاندي يناوئ الحكومة البريطانية في إبان الحرب العالمية الثانية، فحنق عليه بعض الإنجليز واتهموه بأنه من أعوان هتلر، أو أنه من أولئك الذين عرفوا في إبان الحرب باسم «الطابور الخامس»، وهم الذي يساعدون النازيين بإزعاج خصومهم في إبان القتال. فتصدى للدفاع عنه رجل من أكبر رجالات الإمبراطورية: وهو المارشال سمطس القائد السياسي الفيلسوف، وقال: إن غاندي أرفع من أن تلصق به تهمة؛ لأنه رجل من أعظم رجال العالم، وهيهات أن يسخر لخدمة غرض من الأغراض.
وكان برنارد شو يقول: إن غاندي من العظماء الذين لا يجود التاريخ بأمثالهم إلا مرة في كل ألف سنة.
وكان رومان رولان - وهو من أكبر كتاب الغرب وأشرفهم في العصر الحديث - يضع غاندي في طليعة أقطاب الإنسانية، ويبشر الغرب بأمثلته العليا، وله في سيرته كتاب يشف عن إجلال بالغ وحب عميق.
ولما نعي غاندي إلى أمم الغرب أسف البابا لمنعاه وهو رأس الكنيسة المسيحية الكبرى، وقال أسقف من رجال الكنيسة الأمريكية: إن غاندي مسيح، ثم عطف فقال: إنه لا يعني بذلك أنه كالمسيح أو أنه يتشبه بالمسيح، ولكنه يعني أنه السيد المسيح بعينه قد عاد إلى عالم الجسد لإتمام رسالة الحب والصلاح.
وتلقى نواب فرنسا منعاه وقوفا خاشعين.
ورثاه رئيس الوزارة الإنجليزية - أكبر خصومه في ميدان السياسة - فأطنب في تعظيمه والأسف لفجيعة الشرق وبني الإنسان فيه.
وليس في هؤلاء جميعا أحد يؤمن بديانة غاندي، بل ليس فيهم أحد يرى في صلاح الحياة البشرية مثل رأيه، فهم لا يعظمونه لأنهم يوافقونه ويتبعون عقيدته ورأيه؛ ولكنهم يعظمونه لأنه عظيم.
وإذا لم يكن تعظيم الرجل مقصورا على شيعته وأهل وطنه وعقيدته، فتلك آية العظمة الإنسانية لا مراء.
فليس العظيم من لا يخالفه أحد، فقد يبلغ العظيم غايته من العظمة ومخالفوه أكثر من موافقيه.
وليس العظيم من خلا من ناحية نقص، فقد يكون حسبه أنه امتلأ بناحية عظمة، وكان فيه موضع للنقص كما كان فيه موضع للكمال.
وإذا ظهر نقص العظيم فليس تعليل ذلك أنه غير عظيم، وإنما تعليله أن الإنسانية تتسع لأنواع شتى من العظمات، وأنواع شتى من الدعوات، وإنها لن تكون في جملتها إنسانية كاملة إن كانت لا تعرف إلا نوعا واحدا من العظمة وناحية واحدة من نواحيها.
وتعدد العظمات معناه الوحيد أن كل عظمة منها لازمة، وأن كل عظمة منها متممة للأخرى، وأنها تتم من ناحية النقص فيها. فلا غرابة في استهداف عظيم للنقد والتعقيب، بل لعله لا يستهدف للنقد والتعقيب إلا لأنه عظيم.
وهكذا كان غاندي في دعوته، وهكذا كان في تفكيره على الخصوص، كان فيه متسع للإعجاب الكبير، ومتسع للنقد الكبير.
وأحق ناحية فيه بالنقد هي الناحية التي استحق بها الإعجاب، وهي ناحية الكفاح في سبيل الروح، أو هي ناحية الكفاح بين الأشرف والأخس من طبيعتي الإنسان.
وأول ما ينقد من هذه الناحية أنه حصر ميدان الكفاح.
فالرجل الذي كان يؤمن بأن الأبد كله هو معركة بين الروح والجسد، قد أخرج كفاح الحضارة من هذا الميدان، وحصر الكفاح كله في روح الإنسان وأعضاء الإنسان.
لكن كفاح الحضارة في الواقع هو الميدان الأكبر لغلبة الفكر وغلبة الروح، أو لتقوية النفس صعدا في معارج البأس والانتصار.
فالهرب من الحضارة هرب من ميدان هذا الكفاح، أو هو على الأقل انتصار في غير ملحمة، وبأس لم يتعرض لتجربة تدله على نفسه، أو تدل غيره عليه.
إن سيئات الحضارة هي سيئات الجسد في مجال أوسع وأبقى ... وفرصة الروح، أو فرصة العقل في ترويض هذه السيئات - هي فرصة الأمم مجتمعات متعاقبات، فهي ألزم من معركة الصومعة المنعزلة بين روح إنسان وجسد إنسان.
وإذا كان الإنسان الفرد يجد روحه في كفاح مطالب الجسد وشهواته، فالأمم التي لا عداد لها تجد روحها في كفاح مطالب الحضارة وشهواتها، أو في هذا الصراع الذي يتلاقى فيه الخير بالشر، والقوة بالضعف، والمعرفة والعلم بالجهل والغباء.
وما تعلمت الإنسانية من شيء قط كما تعلمت من الشدائد، وفي مقدمتها الحروب، وهي شر ما يبتلى به الناس.
غاندي ورومان رولان.
فكل حرب يأتي بعدها للإنسانية تاريخ جديد.
فتحت الحروب الصليبية أبوابا كانت مغلقة بين المغرب والمشرق، وفتحت الحروب العثمانية أبوابا كانت مغلقة بين العالم الحديث والعالم القديم ، فظهرت القارات الخمس بعضها لبعض، بعد أن كان شطر منها مطويا وراء الحجاب.
وجاءت الحروب الحديثة فتقدمت معها المخترعات، وأصبحت هذه المخترعات شغلا شاغلا للأمم في سبيل الدفاع عن الحياة، ولم تكن قبل ذلك تشغل أحدا غير الخاصة من العلماء والمخترعين.
وقد يستطيع العالم الواحد أن يعرف أسرار القنبلة الذرية، ولكن الأمر يحتاج إلى اهتمام أمة كبيرة ليحصل ذلك العالم على الملايين من الذهب؛ ليبني بها المصانع ويتخير بها الآلات، ويترقى بها في مراتب التدقيق والإحكام.
وهكذا تساق الإنسانية إلى المعرفة بعصا من الضرورة، وتندفع مع الشر فتنتهي إلى الخير، وتنقاد للشهوات ونوازعها ثم تقبض على زمامها بعد طول الجماح.
ومن طريق العقل يترقى العالم والحكيم.
ولكن الأمم لا تندفع معه إلا إذا اندفعت بغريزة قاهرة، دفاعا عن الحياة أو طلبا للمجد والسيادة.
والطبيعة تعلمنا ذلك كل يوم وتعلمنا إياه في ولادة كل مولود.
فكل أب وكل أم يسهران الليل ويشقيان بالنهار لحفظ النوع وتربية الأطفال، ولكن قل أن يعيش طفل في هذه الدنيا لو قيل للآباء والأمهات: إنكم تحفظون النوع وتعملون لغير أنفسكم، ولم تعطهم الغريزة سرورا وغبطة تختلج بها الأجساد، إذ يحتملون هذه التضحية من أجل بقاء الحياة لأحفاد لا يرونهم بعد مئات السنين، وألوف السنين.
وهكذا تساق الإنسانية إلى التعاون بين أبنائها والتضامن بين أقويائها وضعفائها، يطمع هذا في السيادة على الدنيا، وينبري هذا للدفاع عن حياته، فلا يسود هذا ولا يدافع هذا عن حياته وكفى، بل يعملان معا للوحدة الإنسانية في أوانها المقدور ...
ومن طريق الحروب ومخترعات الحضارة تقاربت الأمم واشتركت في هذه الوحدة الإنسانية فاشتبكت بينها المواصلات والمعاملات، وبلغ من تقارب الكرة الأرضية ما لم يبلغه في عصر من العصور: ينطق القائل بالكلمة فإذا هي مسموعة بعد هنيهة على مسافة الألوف من الفراسخ، كأنما القائل والسامع يجلسان في حجرة واحدة، ويقع الحادث في الصباح فلا يعود صباح بعده حتى يملأ خبره ما تملأه الشمس من الأرضين والبحار، وتهم الدولة القوية بعمل من الأعمال فتنظر إلى أصغر دولة في أقصى الأرض لعلها تأبى ما تريده، ولعلها تقلب ميزان النصر في أزمة من أزمات النضال، فيتحول النصر من فريق إلى فريق.
من أين كنا نبلغ هذا لو أحجمنا عن الحضارة من مرحلتها الأولى؟
إننا أطعنا المادة غاية ما تطاع، حتى كشفنا عنها الستار فإذا هي نور.
وعلم الناس من خبر «القنبلة الذرية» أن المادة شعاع، وأن الشعاع «حسبة رياضية» تدركها العقول ولا تتوقف على كثافة الأجساد.
فعادت بنا المادة إلى عالم العقل المجرد، ولكن من طريق الإيغال فيها لا من طريق الإحجام عنها، أو من طريق الكفاح لا من طريق التسليم.
ذلك كله حق نلمسه الآن.
وذلك ما لم يدخله غاندي في حسابه، وهو يبشر بدعوته.
ولكن هل كان في وسعه أن يدخله في حسابه، وتبقى له دعوة تدعى؟
إن المثل هنا أعون على الجواب من إطالة الشرح والبيان.
فالطب قد تعلم ولا ريب من الأوبئة والطواعين، ولولا الوباء بعد الوباء لما عرف الأطباء أسرار الجراثيم، ولا حقائق الأمراض.
ولكن الطبيب مع هذا يوصي بالدواء، ولا يوصي بالطاعون.
وغاندي هو الطبيب وشرور الحضارة هي الطاعون!
فإن كانت له في هذا العالم دعوة فلن تكون هذه الدعوة إلا كما دعاها، وإن لم تكن قط فتلك هي الخسارة على الناس في هذا الميدان الفسيح الذي يتسع لجميع الدعوات.
ومثله بين المصلحين كمثل العازف الماهر الذي لا يسمع وحده، ولكنه إذا سكت كانت كل فرقة موسيقية ناقصة بغيره.
ومكانه من العظمة أنه يتمم هذا النقص.
وليس مكانه من العظمة أنه خلا من كل نقص يعاب عليه.
وحسبه ذلك من مراتب الكمال التي تتاح للإنسان.
مصرعه
في صباح يوم السبت (الثامن والعشرين من شهر فبراير سنة 1948)، خرجت من أرض الهند آخر فرقة من الجيش البريطاني كانت معسكرة فيها، بعد أن احتلها هذا الجيش بمئات من الفرق، زهاء مائتي سنة.
خرجت من ميناء بومباي.
ووقفت قبل خروجها تبادل فرقة من الجيش الهندي تحية السلاح.
وعزفت موسيقاها بنشيد «حفظ الله الملك» ونشيد الهند الوطني «فاندي ماترام».
وهتف قائدها «جاي هند» أي: لتحيا الهند ... وكان آخر من صعد إلى السفينة، في عودة كان مقدمها في الواقع قبل مائتي عام.
وبهذه الصفحة طوي السجل الذي كتبت صفحته الأولى في الثالث والعشرين من شهر يونيه سنة 1757: وهو يوم المعركة التاريخية في حياة الشعوب الهندية، وحياة الدولة البريطانية: معركة «بلاسي» التي بسطت يد اللورد «كلايف» على العروش في الهند والشعوب.
كنت أقرأ في صباي كتاب «الأبطال» لتوماس كارليل الفيلسوف الأيقوسي الكبير، وكنت أعجب منه بالفصل الذي كتبه فيه عن شكسبير، وكان أعجب ما يعجبني منه خاصة قوله: إن شكسبير أعز على الأمم التي تتكلم الإنجليزية من الهند وكنوزها؛ لأن الهند وكنوزها ستخرج من أيدينا في يوم من الأيام، أما شكسبير فهو الفخر الذي لا يسترد ولا يزول.
ستخرج الهند من الدولة البريطانية في يوم من الأيام؟
نعم، إن يوم الخروج لا بد آت ولكن متى؟ متى يحين ذلك الحين الذي نظر إليه الفيلسوف؟
لم نقدر بأية حال أنه حادث من الحوادث التي نشهدها في هذه الحياة، وأنه سيصبح عما قريب خبرا من أخبار البرق، التي يوالينا بها في هذه الأيام.
وأكبر الظن أنه لولا رجل واحد ظهر في الهند، لتأجل موعده إلى حياة أبناء، بل حياة أحفاد.
ذلك الرجل الواحد هو «غاندي» بلا مراء. •••
لقد اشتركت في تهيئة ذلك المنظر الصغير - على ميناء بومباي - عوامل لا تحصى في صفحات.
عوامل بعضها من الهند نفسها، وبعضها من القارة الأسيوية في جملتها، وبعضها من الكرة الأرضية بأسرها.
ولكنها إذا وجب أن تحصر في شخص واحد، لم نجد شخصا واحدا نحصرها فيه، غير ذلك الجسد الضئيل: ذلك الروح العظيم.
إنه هو الرجل الواحد الذي يمكن أن يقال: إنه عجل بذلك اليوم حتى دخل في حوادث هذه السنة (سنة 1948) للميلاد ...
لأنه هو الرجل الواحد الذي أدخل في روع الإنجليز أن بقاءهم في الهند عناء لا جدوى لهم فيه، وأن الجلاء عنها أصلح لهم من البقاء. •••
فقد كان من الجائز - بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية وزوال الخطر الياباني عن الهند - أن توازن بريطانيا العظمى بين البقاء والجلاء فيبدو لها أن البقاء أيسر كلفة من الجلاء، ولكن غاندي هو الذي قلب لها كفتي الميزان فأقنعها بأن الأمر معها على نقيض ذلك، وأن جلاءها أيسر كلفة عليها من بقائها؛ لأنه جعل المقاطعة السياسية والاقتصادية سلاحا قاطعا يضاعف مشقة الإنجليز في حكم الهند والاضطلاع بتبعة الدفاع عنها ويقلل من منافع هذا الحكم ومزاياه، وكان مرجع الفضل في نجاحه إلى إخلاصه وتجرده المطلق من المآرب الشخصية، فلم يشق على أحد من خاصة أهل الهند وعامتهم أن يقنع بالكفاف وأن يتحدى المحن والشدائد، وهو يرى أمامه رجلا عالميا موفور الكرامة والوقار يقنع من الكساء والغذاء بكلفة لا تتجاوز بضعة دريهمات.
وأعانه على رسالته أنها رسالة من طبيعة الهند وعنصرها؛ لأنها رياضة روحانية في بلد «الفقراء» والنساك، فصح فيه أنه رد الهند إلى روحها أو رد روح الهند إليها.
وبحق جعل الهنود مغزله شارة الهند على علمها المثلث، ذي اللون «الأخضر، الأبيض، البرتقالي» ... وحولوه إلى مغزل «بوذا» الذي يغزل به خيوط الحياة.
وقد وعى القوم درسهم من الحرب العالمية الأولى، فلما نشبت الحرب العالمية الثانية لم يقبلوا كما قبلوا في الحرب الأولى أن يبيعوا عاجلا بنسيء، وأخذوا على أنفسهم العهد أن ينصروا قضية الديمقراطية، وأخذوا على الإنجليز العهد أن يكون لهم من هذه الديمقراطية نصيب لا وكس فيه ولا تسويف، وكان غاندي على طليعة «المتطرفين» في هذه الحملة؛ لأنه جعل نداءها على كل لسان: «اتركوا الهند» ... وأصر على الجلاء بغير شرط ولا قيد ولا تسويف.
غاندي بين حفيدتيه.
وبدأت هذه الحملة والحرب قائمة، والجيوش اليابانية تغير على بورما وسنغافورة، وتجد لها أشياعا في داخل الهند من أبنائها الذين استجابوا لدعوة (آسيا للآسيويين).
وكانت مسألة الخلافة الإسلامية قد انتهت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فعمل المسلمون في الحركة الوطنية غير مرتبطين بخطة من خطط السياسة البريطانية قبل دولة الخلافة، سواء فيما اختاروه من مقاومة أو وفاق.
وراحت حكومة بريطانيا العظمى تقترح الحل بعد الحل، وتشرع النظام بعد النظام، وتستشير تارة وتنفرد بالرأي تارة أخرى، فانتهت إلى حل موقوت في حكم البلاد الهندية بجملتها ريثما تنجلي عنها وتنفض من تبعاتها كلتا يديها، وهو حل الحكومة الاتحادية التي يقوم عليها مجلس وزراء وهيئة نيابة يشترك فيها الهندوسيون والمسلمون.
فحبط هذا الحل أمام عقبة كأداء تنفرد بها الهند خاصة بين بلاد العالم، وهي عقبة الأقليات.
وليس شأنها في الهند كشأنها في سائر البلاد الأخرى؛ لأنها في الهند أقليات وليست بأقليات.
فالمسلمون في الهند كثرة غالبة في بعض الأقاليم، وقلة صغيرة في بعض الأقاليم، وقلة كبيرة في أقاليم أخرى.
وبينهم وبين الهندوسيين اختلاف شديد في الجنس واللغة والعقيدة، لخصه السيد محمد علي جناح رئيس الرابطة الإسلامية في كلمة واحدة حين قال: كيف يحكم بنظام واحد قوم يعبدون البقرة وقوم يأكلونها؟
وأعضل ما في الأمر أن وطنية الهندوسيين هي في صميمها وطنية عقيدة روحانية، أو عقيدة دينية، وأن زعيمها لم يفلح في دعوته إلا لأنه قاد دعوتها الوطنية من هذه الناحية، وما في كل يوم يجد المسلمون أمامهم زعيما كغاندي يعتصم بالسماحة في قوة وصدق طوية، ويستطيع أن يروض أتباعه على العدل والرفق وحسن المعاشرة وفض المشكلات بترضية المخالفين في الرأي والعقيدة.
على أن غاندي نفسه قد غالته يد هندية؛ لأنه استهجن ذبح المسلمين والتشنيع بنسائهم وأطفالهم على مشهد من الشرطة وجنود الحكومة الهندية، فإذا أوجس المسلمون شرا من حكومة كهذه فلهم العذر كل العذر في شرعة المنصفين. •••
ولم يجدوا بدا في النهاية من إقامة دولتين منفصلتين: إحداهما هندوسية والأخرى إسلامية تعرف باسم الباكستان، وينتقل من يشاء من أتباع إحدى الدولتين إلى بلاد الدولة الأخرى مع تنظيم الهجرة وتبادل السكان.
ولم يكن تنظيم الهجرة بالأمر الميسور؛ لأنه بمثابة اقتلاع ملايين من الأسر من أماكن قد استقرت فيها وارتبطت فيها بمعاملاتها وأسباب معيشتها، إلى أماكن أخرى لا تتسع لها في كثير من الأحيان، وليس هناك من يعوض أحدا عن ماله المتروك في البلد الذي يهاجر منه، أو البلد الذي يهاجر إليه.
وما هو إلا أن أعلن قيام الدولتين حتى كانت مشكلة السكان هذه مثار الخصومات والفتن في كل بقعة يعيش فيها المسلمون مع الهندوسيين والسيخ منهم خاصة. وانطلق أناس من غلاة المتعصبين يطاردون المسلمين من مساكنهم ويعملون القتل والسلب فيهم، ويغيرون على المساجد فيلوثونها أو يهدمونها أو يحولونها إلى معابد هندية وينصبون فيها صورهم وأوثانهم، ولا يعترضهم أحد من الشرطة والجنود، بل يشاركونهم في هذه الجرائم ويحرضونهم عليها، ويزودونهم بالسلاح الذي يعلم العارفون بالهند أنه كان محظورا على جميع الهنود في عهد الدولة البريطانية، واقترف هؤلاء الغلاة من الآثام والمجازر في صيف تلك السنة (1947) ما لعله لم يحدث قط في هذا الزمن في بلد من البلدان.
وكان على رأس المجرمين الذين فعلوا هذه الأفاعيل جماعة وطنية متهوسة تعرف باسم «مهاسابها» أو الجماعة الكبرى، تتلخص مبادئها في إقامة حكومة هندوسية واحدة والقضاء على حكومة الباكستان وتجنيد جميع الشبان ومطاردة المسلمين ومعاملتهم معاملة الجواسيس المهددين لأمن الدولة الهندوسية، وتحريم الدخول في الدين الإسلامي على أبناء النحل الدينية الأخرى.
وكانت هذه الجماعة لا تبالي في نشراتها اليومية - وهي تحرض الغوغاء على القتل والسلب - أن تؤكد لهم علانية، معاونة الجيش والشرطة، وحمايتهم من الاعتقال والتحقيق.
وكان غاندي أشد أهل الهند نقمة على هذه الفتنة المخزية وجرت على لسانه كلمات يأس وشكاية لم تسمع منه قط في أحلك أيام جهاده، فكان يقول لمن حوله: هذه أحوال لا تغري بالعيش، ويسأل مع الشاعر: إلى متى أقيم في هذه الدنيا ألعب هذه اللعبة؟ يعني الحياة.
ولما أعرض المهيجون عن نصائحه المتكررة نذر الصيام حتى الموت أو تجاب مطالبه ويتحد المسئولون على العمل بها: وهي كما نشرتها صحيفة نيويورك تيمس (في يناير سنة 1948) «السماح للمسلمين بإقامة احتفالهم السنوي في معبد مهرولي القريب من دلهي، وإعادة المساجد المغتصبة إليهم، وصيانة حياتهم وأموالهم، والترحيب بعودتهم إلى مساكنهم وتأمينهم في السفر، والكف عن مقاطعتهم في الحياة الاجتماعية.»
ومضى في صومه خمسة أيام، ثم جاءه الزعماء وقادة الجماعات مستغفرين، وقطعوا له العهد على قبول وصاياه جميعا والعمل بها توا، فعدل عن صيامه، واستطاع أن يتوجه إلى مهرولي؛ ليشهد مع المسلمين مولد قطب الدين بختيار، الذي احتفلوا به في السابع والعشرين من شهر يناير، وعاوده الرضى بعد ما انتابه في الفترة الأخيرة من يأس قاتم، وحزن أليم.
إلا أنها الفتنة قد جن جنونها وانقطع عنانها، ونظرت إلى غاندي وهو يكبح شهوتها، كما ينظر الوحش المهتاج إلى الحارس الذي يدفعه عن فريسته، إنه قد يدع فريسته إلى حين لينشب أظافره في الحارس الذي حماها.
ففي العشرين من شهر يناير ألقى طالب اسمه «مادان لال» قذيفة على غاندي لم تصبه، فلم يجفل ولم يرتجف منه عصب، ومضى إلى الصلاة وهو يوصي الشرطة ألا يعنفوا على «الصبي المسكين!»
واتجهت الشبهة في هذا الحادث إلى جماعة رياضية على النظم الفاشية، تسمى جماعة المتطوعين لإنقاذ الوطن، ولكن التهمة لم تثبت عليها وظهر أن الجريمة من عمل متآمرين ينتمون إلى «المهاسابها» أو الجماعة الكبرى.
ولم يردعها إخفاق هذه المحاولة عن جريمتها التي بيتت النية عليها، فعادت إلى الاقتراع بين أعضائها على من يتولاها وينجح فيها، فكانت القرعة من نصيب فتى من محرري الصحيفة المتطرفة «هندوراشترا» يسمى: «ناثورام فيناياك جودس»، فتقبل القرعة متهللا؛ لأنه كان من أشد المبغضين لغاندي ودعوته الإنسانية، وكان كثيرا ما يقول: «إن لي رسالة لا بد من أدائها».
وما نظن أن قاتلا ضريت نفسه بالشر كما ضريت نفس هذا التعس المفتون، فحسبك نية القتل إذا كان القتيل هو غاندي، تلك وحدها كافية. «جودس» قاتل غاندي.
ولكنها لم تجمع كل ما في طويته من ضراوة إبليسية. فقد تعمده بالقتل وهو في موقف يثني يد الشر ويخلق الضمير النادم لمن مات فيه الضمير، تعمده بالقتل وهو يسعى إلى الصلاة بين حفيدتين بريئتين، وينظر إليه نظرة العطف الوديع التي يغمر بها كل من حياه.
كان غاندي في يوم الجمعة (الثلاثين من شهر يناير) يتحدث إلى السردار باتل في شأن خطير، فأخره الحديث عن موعد الصلاة، فلما كانت الساعة الخامسة والدقيقة العاشرة، قال لمحدثه العظيم: الآن دعني ... إنه موعد الصلاة ... وخرج بين حفيدتيه آفا ومانو ليؤدي صلاته في معبد قريب ... فاقترب منه فتى في سترة خاكية وصدار أخضر، وهو يطوي ذراعيه على صدره علامة التحية الهندية، وقال له: لقد تأخرت يا أبت. فتمتم غاندي مطرقا كالمعتذر، وهو يقول: نعم تأخرت يا بني. وانحنى الفتى كأنما يهم بتقبيل قدميه، فنظر إليه غاندي نظرته الوديعة وابتسم له في رفق وممانعة، وطوى ذراعيه على صدره ردا للتحية، فإذا بالفتى قد وثب واقفا وفي يده أداة لا تكاد تنظر - مسدس بيريتا الصغير - وأطلق منه ثلاث رصاصات على صدر المهاتما على مدى ذراع، فهتف غاندي بالصلاة «آي رام. آي رام» ... وسقط إلى الأرض رافعا يديه كما كان يرفعهما لمن يدعون له بالحياة.
جثمان غاندي على شاطئ النهر المقدس - نهر «جمنا».
ولم يعش بعدها غير ثمان وعشرين دقيقة، ولم يفه بعدها بغير هذه الكلمات: «إذا كنتم لا تريدون أن أعيش ... فلا أرب لي في العيش.»
وظل القاتل كلما سئل بعد ذلك يضحك ويقول: لست بنادم ... ولست أجهل ما ينتظرني ... ولكنني لا أبالي ... إنني أقحمت اسمي على التاريخ بأحرف من نار ...»
صدق! فما في وسع التاريخ أن ينساه؛ لأنه في تاريخ بني الإنسان كله اسم وحيد.
وتم العجب من سيرة غاندي حيا وميتا.
رجل رفع أبصار الناس إلى أوج السماء، فهبط بها قاتله إلى قراره الجحيم.
رجل وهب للهند حريتها، فسلبته الهند حياته.
رجل أراد أن يمسح العدوان من ظهر الأرض، فمات معتدى عليه.
هذا هو الإنسان
وجمت حين سمعت النبأ.
وما أظن النبأ إذا قيل على إطلاقه محتاجا إلى تفسير. فما كان للكرة الأرضية من شاغل غيره في زاوية من أقصى زواياها. لقد أوشك أن يكون حادثا من حوادث الكون بما رحب، بل كان حقا حادثا من حوادث الكون؛ لأنه على أوثق اتصال برسالة الروح.
وجمت وطال بي الوجوم، بل ذهلت وطال بي الذهول؛ لأن الخبر إنما يمهد له خبر مثله؛ ولأن الحادث إنما يقاس على نظيره، ولا نعرف نظيرا لمصرع غاندي في كل ما سمعنا به من أنباء العالم، وفي كل ما عرفناه من حوادث التاريخ.
لقد قتل من قبل مصلحون وقديسون.
ولكنهم قتلوا بيد السلطة التي تخاف منهم على نفسهم، أو قتلوا بأيدي الطغام المهتاجين وهم يسفهون أحلامهم، ويحطمون أصنامهم، ويبدلون شعائرهم، وينكسون منابرهم، فيثور الشر في نفوسهم، ويهجمون على القتلى وهم لا يفقهون ولا يفيقون.
ولكن مصرعا كمصرع غاندي لم يحدث قط فيما علمناه من حوادث التاريخ.
لم يحدث قط أن ترتفع يد بالشر إلى رجل لا يسفه الأحلام ولا يبشر بغير السلام: رجل في الثامنة والسبعين يسعى إلى الصلاة يتوكأ على حفيدتين بريئتين، ويكف الشر في النفوس بوقار سنه وضعف شيخوخته وطيبة سكينته واستسلامه، رجل يدين بما يدين به قاتله المتعصب لعقيدته. وقصارى ما تنتهي إليه تلك العقيدة - عند ذلك القاتل التعس - أن قتل البقرة حرام، وأن قتل القديس العظيم مباح.
خارقة من خوارق الإثم تشده العقل وتشل الخيال، فلا تدري الأذن كيف تسمعها، ولا يدري الحس كيف يحملها إلى رأس أو ضمير.
لقد خرج غاندي إلى البحر يتحدى «قانون الملح» المشهور، وخرج وراءه ألوف من الرجال والنساء، وأمرهم أن يصبروا للضرب ولا يضربوا، وأن يتعرضوا للأذى ولا يردوه بمثله، ثم لاح ذلك الشبح الهزيل للجند القائمين في طريق البحر وهم صفوف من وراء صفوف، فانفرجت صفوفهم له وتركوه يمضي في سبيله، ثم انطبقت من بعده على الجموع التي تبعته لتعمل فيها الضرب واللكم وتهوي عليها بالعصي والهراوات. فإذا بقزم الجسد مارد الروح، قد وقف عند البحر خاشع الرأس دامع العينين، يبكي وحيدا لأنه سلم وحده، وأصيبت من ورائه تلك الرءوس والأجسام.
لقد مثل بين يدي القضاء فسأله قاضيه: أمذنب أنت بحكم القانون؟ فقال: نعم مذنب، وأعود إلى الذنب متى قدرت عليه ... فأحس القاضي إحساس المذنبين أمام هذا المتهم الذي لا يحس إلا إحساس الشهداء. وقال قولته التي سيخلد بها في سجل القضاة: إنني أحكم عليك مكرها، وسأكون أول من يهنئك مبتهجا، إذا استخدم حاكم الهند حقه في العفو عنك، وهو حق لا يملكه القضاء.
مستعمرو بلاده هابوه ويجلوه.
غاصبو وطنه أحجموا عن المساس به والقسوة عليه.
ويشاء النحس لذلك الوطن المنكوب أن يشتمل على مخلوق من أبنائه: مخلوق من أبناء البشر، تتحرك يمينه بالقذيفة القاتلة إلى صدر لم يبق فيه مع الحب الشامل لبني الإنسان - ولكل بني الإنسان - غير جلود وعظام.
قيل منذ أيام: إن قذيفة ألقيت على غاندي فنجا منها.
فوقع في الأنفس أن نجاته من تلك القذيفة حدث من أحداث الطبيعة لا غرابة فيه ... كأن المادة نفسها تهاب أن تمضي بالأذى إلى هيكل ذلك الروح ... كأن القذيفة ترتد - ولا تستطيع إلا أن ترتد وحدها - عن القداسة التي أخضعتها، ولم تخضع لها قط في تجارب الحياة.
فلما قيل: إنه قتل بيد إنسان، قد والله سألت: كيف تحركت عضلة في جسد بشري بضربة قاتلة لذلك الشهيد؟
قد والله سألت عن اليد التي لا تعقل؛ لأنها كانت خليقة أن تعجز عن الحراك إذا سيمت مثل هذا الحراك الذي يشذ عن كل قانون ... ولم أسأل كيف سولت نفس، ولا كيف هجس ضمير ... لأن من الهول الهائل أن يدخل مثل هذا الجرم في حساب نفس أو ضمير.
وباسم الوطن وخدمته يقتل القاتل ويصاب الشهيد!
باسم الوطن وخدمته، يعتدي أكبر مسيء إلى وطنه على أكبر محسن إلى ذلك الوطن المنكوب.
فليس في العالم صديق للهند ولا عدو من أعدائها، تخامره ذرة من الشك في فظيعة من الفظائع يقدم عليها المتعصبون هناك، إذا كان النهي عن التعصب ذنبا يستحق عليه مثل غاندي أن يحرم نصيبه من الحياة.
ومن غاندي الذي يحرم هذا النصيب الضئيل؟
غاندي الذي تدين له الهند بأعظم الديون ...
غاندي الذي وهب الحرية للهند، وصنع للهند ما لم يصنعه هندي قط منذ خلقها الله.
غاندي الذي تفدى حياته بحياة الملايين؛ لأن الإنسانية لا تزال مفتقرة إلى أمثاله، ولو كان فيها من أمثاله ألوف ... فكيف بافتقارها إليه وهو واحد مفرد في هذا الزمان.
كبر على الهند أن يظهر من أبنائها أشرف إنسان في زمانه، فأبى عليها النحس إلا أن يظهر فيها أشأم إنسان في كل زمان.
ومن يقتل شرف الإنسانية كلها إلا مخلوق يخجل من إنسانيته كل إنسان، بل كل حي من الأحياء، وكل ضارية من ناهشات الأبدان، وكل ساعية من نافثات السموم.
ويسألون: ألا جزاء يجزى به وراء الإعدام؟
فما الإعدام في جانب الوصمة الأبدية يحملها المسكين وحده في تاريخ البشرية بأسرها، فيذكر وحده إذا ذكر الخزي الذي لا خزي مثله في طوايا التاريخ.
هذا هو الإنسان في بؤرته السفلى.
وذاك هو الإنسان في ذروته العليا.
وفي خشوع لا ينتهي، نحيي الإنسان المشرف للإنسانية.
وفي حياء لا ينتهي نزوي البصر عن خزي الإنسانية في جميع تواريخها.
أعانها الله على كفارة تمهد بها العذر لنفسها، بين يدي ضميرها وبين يدي كل حي من خلائق الحياة تحمله هذه الغبراء ...
وبين يدي الله ...
عظماء الهند ينتظرون جثمان غاندي (في الوسط: سردار ساتل، أبو الكلام آزاد، والشاعرة نايدو، ونهرو).
Bilinmeyen sayfa