Ruh Cazim Mahatma Ghandi
روح عظيم المهاتما غاندي
Türler
آفاق الإنسانية
العناية الإلهية وتاريخ الإنسان
روح الهند
نشأة غاندي
عقيدته
صلاته
ما هي «الاهمسا»؟ «الاهمسا» من الوجهة العلمية
ثقافة غاندي
غاندي والجيل الجديد ... والمرأة
سياسته
Bilinmeyen sayfa
مفتاح شخصيته
تقديره ونقده
مصرعه
هذا هو الإنسان
آفاق الإنسانية
العناية الإلهية وتاريخ الإنسان
روح الهند
نشأة غاندي
عقيدته
صلاته
Bilinmeyen sayfa
ما هي «الاهمسا»؟ «الاهمسا» من الوجهة العلمية
ثقافة غاندي
غاندي والجيل الجديد ... والمرأة
سياسته
مفتاح شخصيته
تقديره ونقده
مصرعه
هذا هو الإنسان
روح عظيم المهاتما غاندي
روح عظيم المهاتما غاندي
Bilinmeyen sayfa
تأليف
عباس محمود العقاد
زاهد الهند نعى الدنيا وصام
أنا أنعاها، ولكن لا أصوم
طامع الغرب رعى الدنيا وهام
أنا أرعاها، ولكن لا أهيم
بين هذين لنا حد قوام
وليلم من كل حزب من يلوم •••
يعبد الأقوام ما يخشونه
وأنا أعبد ما لست أخاف
Bilinmeyen sayfa
ليس ينسى الله من ينسونه
فعلام البحث فيه والخلاف؟
إن وصلتم أو وقفتم دونه
لم يقف دون مقام أو مطاف •••
شرعك الحسن فما لا يحسن
فهو لا يحلو، وإن حل الحرام
ليس في الحق آثام بين
غير مسخ الحسن أو نقص التمام
ما عدا هذين مما يمكن
فاستبحه، وعلى الدنيا السلام
Bilinmeyen sayfa
عباس محمود العقاد
آفاق الإنسانية
آفاق الإنسانية واسعة، وأغوارها عميقة، ومداها من الزمن بعيد.
وحق على كل إنسان أن يذرع هذه الآفاق، وأن يسبر هذه الأغوار، وأن يبسط الرجاء على هذا المدى البعيد.
لا لأنه يعلم سيرة هذا الإنسان وحسب، ولا لأنه يحيط بتاريخ هذه الأمة وكفى، ولكن لأنه يحقق معناه ويبلغ به كماله، كلما عرف غاية من الغايات التي تنتهي إليها طاقة الإنسان.
وليس أعون له على ذلك من سير العظماء؛ لأنهم يتماثلون ويتناقضون، ويعرضون لنا ألوانا من القدرة، وأنماطا من الفطرة، وكلهم بعد ذلك على خلق عظيم.
وليس أجدر من عظمة «غاندي» بالمقابلة بينها وبين غيرها من ضروب العظمة الإنسانية؛ لأنك تقابله بألف عظيم من الأقدمين والمحدثين، كلهم يخالفه في كثير أو قليل أو يناقضه في كل صفة من الصفات، وهو بعد ذلك عظيم، وكلهم بعد ذلك عظماء.
والإنسانية العظيمة تطويهم في رحابهم أجمعين.
هذه صفحات تنزع إلى هذه الغاية ولا تنزع إلى غاية غيرها، ليست هي بسجل حوادث ولا تقويم أيام، ولكنها مرآة صغيرة يبدو فيها مناط العظمة من «مهاتما الهند» ... وهو الروح العظيم.
العناية الإلهية وتاريخ الإنسان
Bilinmeyen sayfa
هل للتاريخ الإنساني وجهة معينة نستطيع أن نتبينها من جملة الحوادث الماضية؟
هذا سؤال يتوقف جوابه على سؤال آخر وهو: ماذا عسى أن تكون وجهة التاريخ المعقولة إذا تخيلنا له اتجاها يتوخاه على نهج مرسوم؟
شيء يتعلق بالإنسان الفرد.
وشيء يتعلق بالناس كافة، أو بالإنسانية جمعاء.
فالشيء الذي يتعلق باتجاه الإنسان الفرد هو ازدياد نصيبه من الحرية والتبعة.
والشيء الذي يتعلق بالإنسانية جمعاء هو ازدياد نصيبها من التعاون والاتصال.
وزيادة نصيب الفرد من الحرية والتبعة هو المطلب الشامل الذي تنطوي فيه جميع المطالب، فهو أشمل من القول بازدياد العلم أو ازدياد القوة أو ازدياد الفضائل والملكات؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في زيادة استعداده لحق الحرية وزيادة قدرته على احتمال التبعة.
وكذلك يقال عن التعاون بين عناصر الإنسانية برمتها، فهو أشمل من القول بارتقاء النظم السياسية، وارتقاء المعاملات التجارية، وارتقاء الأخلاق الاجتماعية؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في التقارب بين الأمم والتعاون بينها على وسائل الوحدة والاتصال.
هذا وذاك هما الوجهة المعقولة التي نتخيلها للفرد وحده، وللناس كافة إذا كان للتاريخ وجهة معقولة تدل عليها الحوادث الماضية.
وهذا وذاك هما في الواقع سبيل الاتجاه الوحيد الذي يطرد في حوادث التاريخ.
Bilinmeyen sayfa
فكان الإنسان الفرد قبل نشأة القبيلة هملا مستباحا، لا يحفظ له حق، ولا يفرض عليه واجب، ولا ينال من الحرية إلا ما يغفل عنه المعتدون عليه.
ثم نشأت القبيلة فنشأ معها للفرد نوع من الضمان، ولكنه ضمان شائع لا يستقل فيه بحرية ولا بتبعة، فيؤخذ بذنب غيره في الثأر والمغرم، ويقاسمه غيره فيما يغنمه ويستولي عليه، فهو رقم متكرر وليس بكم مستقل في الحساب.
ثم نشأت الأمم فازداد نصيبه من الحرية كما ازداد نصيبه من التبعة، وأصبح المقياس الوحيد لارتقاء الأمة هو مقدار حظ الفرد فيها من الحريات والتبعات.
فليس لارتقاء الأمة علامة أصدق من هذه العلامة: وهي حريات الفرد وتباعته، بل ليس للارتقاء عامة علامة غيرها يطرد بها القياس في جميع الأمور، أو كما قلنا في كتابنا «هتلر في الميزان» إن: «مقاييس التقدم كثيرة يقع فيها الاختلاف والاختلال، فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تتاح السعادة للحقير ويحرمها العظيم، وإذا قسناه بالغنى فقد يغنى الجاهل ويفتقر العالم، وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشامخة وتجهل الأمم الوثيقة الفتية، إلا مقياسا واحدا لا يقع فيه الاختلاف والاختلال: وهو مقياس المسئولية واحتمال التبعة، فإنك لا تضاهي بين رجلين أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل منهما هو صاحب النصيب الأوفى من المسئولية، وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بتبعاته، والاضطلاع بحقوقه وواجباته، ولا اختلاف في هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر والرجل الرشيد، أو بين الهمجي والمدني، أو بين المجنون والعاقل، أو بين الجاهل والعالم، أو بين العبد والسيد، أو بين العاجز والقادر، أو بين كل مفضول وكل فاضل على اختلاف أوجه التفضيل ...»
تلك هي وجهة التاريخ المطردة في حالة الإنسان الفرد حيث كان.
أما وجهته في حالة الإنسانية كلها فالاتجاه إلى التقارب بينها مطرد متعاقب في كل مرحلة من مراحل التاريخ.
ونحن الآن في عصر يلمسنا هذا التقارب في كل علاقة من علاقات العالم المعمور: في المواصلات، وفي المعاملات، وفي الروابط السياسية، وفي نقل المعلومات وإذاعة الأخبار، وفي هذا التضامن التام الذي يجعل الأزمة في ناحية من الأرض أزمة قريبة يحس بها أبعد الأمم من تلك الناحية، أو يجعل القوي مهتما بموقف الضعيف منه مهما يكن من اعتزازه بالسطوة والثراء.
ولم تكن الحروب ولا المطامع حائلا دون هذا الاتجاه، بل لعلها كانت من دوافعه ودواعيه، فأسفرت كل حرب من حروب الرومان والفرس والعرب والصليبيين والعثمانيين عن تشابك بين ناحية وناحية من الكرة الأرضية، ومن جراء هذه الحروب تشابكت آسيا وأوروبة وأفريقية، وانفتح الطريق إلى القارات المجهولة.
وإذا نظرنا إلى أثر الحروب في المخترعات وتسخير قوى الطبيعة جاز لنا أن نقول: إن وسائل المواصلات قبل غيرها مدينة للحروب بالشيء الكثير، فماذا يكون الطيران والرادار ومحركات القوى جميعا، لولا ضرورات الحروب واشتراك غريزة الدفاع عن النفس في سباق هذا المضمار؟
بل نحن نتعلم من التاريخ أن الدولة الفاتحة لا تدوم إلا بمقدار ما يكون لدوامها من رسالة عالمية.
Bilinmeyen sayfa
فدولة الرومان دامت حين كانت لازمة للعالم، وأخذت في الانحلال حين بطلت رسالتها العالمية، واستلزم التحول في أطوار الأمم واتساع مجالها رسالة عالمية أخرى على غير ذلك النظام. •••
ولنبحث عن دلائل هذا الاتجاه في تاريخ الإقليم الذي نتكلم في هذا الكتاب عن بطل من أبطاله: وهو الإقليم الهندي، أو الأقاليم الهندية على التعبير الصحيح.
فقد كانت حروب الاستعمار الأوروبي محنة طامة على الشرق بأسره، نقم منها الشرق لما أصابه من بلواها، ورغب فيها الغرب لأمر أراده وأرادت الحوادث غيره، ولم يخطر للشرق ولا للغرب على بال.
لم تكن الهند قط وطنا واحدا في عصر من العصور.
لأنها كانت تتألف من شتى العناصر وشتى المذاهب، وشتى اللغات، وشتى المصالح، وشتى المواقع الجغرافية.
فلم تدافع قط دفاعا واحدا، ولم تشترك قط في هجوم واحد، ولم تجمع قط على مطلب واحد بينها وبين أبنائها، ولا بينها وبين الغرباء عنها والمغيرين عليها.
فلما ابتليت باستعمار واحد طغى عليها من أقصاها إلى أقصاها، وجد فيها «وطن واحد»، يواجه ذلك الاستعمار بمطلب واحد، وهو مطلب الخلاص منه، كيفما تعددت وسائله بين طلابه.
وولدت الهند مولدا جديدا في التاريخ.
وزال الاستعمار أو كاد، وبقيت الهند الجديدة، وبقيت معها علاقات يشتبك فيها الشرق والغرب، وتنتظم في الوحدة الإنسانية على نحو لم تعهده ولم تحلم به قبل محنة الاستعمار. •••
إذا كان اتجاه التاريخ المعقول هو الاتجاه الذي تنتهي إليه الحوادث في حياة الفرد وحياة الإنسانية عامة.
Bilinmeyen sayfa
وكان هذا الاتجاه مما تلتقي عليه عوامل الوفاق وعوامل الشقاق، ويتوافى عنده ما يراد وما لا يراد.
فمن عمل المؤرخ الباحث، لا من عمل المتدين المؤمن فحسب، أن يفهم للتاريخ معنى غير معنى المصادفة العمياء، وأن يرى للعالم مصيرا مقدورا يمضي إلى غاية هذا الاتجاه حيث تهديه عناية الله.
روح الهند
ونعني بروح الهند ما يقابل «السيكولوجية القومية» التي تميز أمة من أمة في الخصائص النفسية.
وليس من اليسير أن نتكلم عن سكان الهند كأنهم أبناء قومية واحدة؛ لأنهم لم تتفق لهم قومية في العنصر، ولا في اللغة، ولا في العقيدة، ولا في الدولة، ولا في المعالم الجغرافية.
فلم يشعروا قط في تاريخهم القديم بشعور أبناء الدولة الواحدة، ولم يجمعهم قط فخار وطني واحد، أو عصبية قومية واحدة.
فليس من اليسير أن نتكلم عن روح الأمة حين لا تكون هناك أمة، ولكن هذه الخاصة السلبية هي في الوقت نفسه جامعة الهند الكبرى؛ لأن خلو النفس الهندية من دواعي العصبية القومية قد فسح الطريق لشعور آخر يشغل تلك النفس ويستغرقها في مكان العصبية القومية، وهو الحاسة الدينية أو الحاسة الروحانية.
فاتجهت النفس الهندية إلى هذا الشعور بقوة واحدة إذ كانت الأمم الأخرى تشغل جانبا من روحها بالنخوة الوطنية وجانبا منه بالحياة الروحية، فكانت العقيدة للهندي ملاذ جسد وملاذ روح، وعوضا من فخر الدول وعصبية الأقوام.
قال «تاجور» في محاضراته التي ألقاها على الأمريكيين عن القومية في العالم: «إنه لما كانت مشكلاتنا في الهند داخلية أصبح تاريخنا تاريخ معالجة أخلاقية دائمة ولم يكن تاريخ قوة منظمة للدفاع أو الهجوم. وما كانت العالمية الغامضة التي لا لون لها، ولا الوثنية العارمة التي تتراءى في عبادة الأمة لنفسها لتكون هي الغاية القصوى التي يسعى إليها تاريخ بني الإنسان».
وكأنما أراد الشاعر الكبير بكلامه هذا أن الهند بدأت حيث تنتهي أمم أخرى؛ لأن كفاح القوميات سينتهي لا محالة إلى تعميم الآداب الإنسانية، أو إلى حل المشكلات الأخلاقية، وهي المشكلات التي فرضت على الهند بحكم حالتها الخاصة منذ بداية تاريخها.
Bilinmeyen sayfa
أما الأمة - كما عرفها الغرب - وعرفتها أقوام أخرى، فهي كما يقول تاجور: «وحدة سياسية اقتصادية ليس لها غرض خارجي - أو غرض إنساني عام - لأنها هي غرض لنفسها إنها تعبير لدني للإنسان باعتباره كائنا اجتماعيا ولها غاية سياسية، ولكنها تتجه إلى غرض اجتماعي هو حفظ الذات ... إنه جانب القوة وليس بجانب المثل الإنسانية العليا.»
ولا بد في رأي الشاعر من تقارب الرأي بين الوجهتين؛ لأن الغرب ضروري للشرق ضرورة الشرق للغرب، وإنما هذا الاختلاف في وجهات النظر إلى الحياة هو الكفيل بأن يعطي الإنسان صورا مختلفة للحق والأخلاق.
وكلام الشاعر عن الفارق بين الوجهتين صحيح في جملة حدوده، فإذا عمل صاحب القومية للجماعة التي هو واحد منها، فصاحب العقيدة الروحانية يعمل «لروح الإنسان» أو يعمل لغاية إنسانية تتجاوز الفرد كما تتجاوز الجماعة، إذ هي ليست غاية إنسان بعينه، وإنما هي غاية «الإنسان» حيث كان.
وغاندي - نبي الهند - يفهم وطنه كما يفهمه تاجور شاعر الهند، ويشعر به على هذا النحو من الشعور، فكان يقارن بين السواراج أو الاستقلال، وبين «الاهمسا» أو ضبط النفس، ومقاومة العنف بالحسنى، فيقول: إن الاهمسا مقدمة على السواراج؛ لأنها هي الاستقلال الصحيح. ويريد بذلك أن غاية الاستقلال هي خلاص البلاد من الحكومة الأجنبية، ولكن الإنسان قد يحكم بلده ولا يحكم نفسه، ولا يفلت من طغيان شهواته وأهوائه، وإنما كان حكم النفس هو الاستقلال جد الاستقلال.
غاندي وطاغور.
وقد يكون الهندي مسلما لا يدين بالبرهمية ولا بالنحل التي تفرعت عليها، ولكنه يظل هنديا في هذه الخاصة الهندية: وهي أنه ينوط وجوده باعتقاده ولا ينوطه بموضع ميلاده، ومن هنا كانت دولة الخلافة أهم في نظر المسلم الهندي من القضية الوطنية في داخل بلاده. وكان موقف الدولة البريطانية من الخلافة العثمانية هو الذي يعين موقف الهنود المسلمين من تلك الدولة، ويجنح بهم تارة إلى موالاتها وتارة إلى الثورة عليها.
بل قد يكون الهندي عالما من أفذاذ علماء الطبيعة، كما كان جاقاديس بوز
Jagadis Bose
نابغة العلوم الطبيعية والنباتية في زمانه (1858-1937). ولكنه لا ينسى هذه الروحانية في بحوثه وتجارب معمله، فكان يؤلف الكتب في جهاز النبات العصبي، وفي استجابة الأحياء وغير الأحياء للمؤثرات الطبيعية ، ويخلص من ذلك إلى القول: بوجود روح للنبات وشيوع الحس الروحاني في سائر الموجودات، كأنه يخلص إلى القول: «بوحدة الوجود» من طريق العلم وتجارب «الفيزية» والكهرباء.
ولا نحسب أن الخلو من الدولة وحده هو الذي نزع بالنفس الهندية هذا المنزع الذي تفردت به أو كادت بين النفسيات القومية، فإن الهند قد اجتمع لها من مظاهر الطبيعة وأنواع الأحياء ما لم يجتمع لإقليم آخر، فكانت خليقة أن تنظر إلى هذه المظاهر وهذه الأحياء نظرة شاملة لكل ما في الحياة، وأن تجعل حقيقة الوجود ماثلة في كل صورة من صورها، وكل نموذج من نماذجها، ولا تفصل بين بعض منها وبعض في معالم الوجود، كما يحدث أحيانا في كل وطن يستأثر به نوع من المظاهر أو نوع من الأحياء.
Bilinmeyen sayfa
هذه الروحانية هي سمة الهند الكبرى، وهي التي تفسر لنا كثيرا من غوامضها، وغوامض أبطالها، ومنهم - بل في طليعتهم - غاندي، موضوع هذا الكتاب.
وقد يحسن بنا أن نقول: إن الحاسة الروحية تراد هنا بمعناها الذي تقابله الحاسة الوطنية أو الحاسة القومية، وليس من الضروري أن تقابل الحاسة الجسدية، فقد يكون الهندي منغمسا في شهوات الجسد ومطامع المال والسطوة كما يكون أبناء الأمم الأخرى، ولكنه يخالفهم في إحساسه بمعنى الوطن ومعنى الدين، ويخالفهم في إيمانه بالغاية القصوى من الحياة الوطنية.
وهذا هو الفارق المهم في هذا الموضوع.
نشأة غاندي
من العظماء من يستطيع المؤرخ أن يهمل تاريخ أسرته ولا خسارة عليه ولا على العظيم الذي يكتب تاريخه؛ لأن فهم ترجمته لا يردنا إلى تراجم آبائه وأجداده، ولا يزداد وضوحا بالرجوع إليها.
ومنهم من ترتبط ترجمته وترجمة أسرته كما يرتبط الفصلان في قصة واحدة، فلا تفصله سيرته عن سيرهم إلا عرض لها بعض النقص، أو بعض الحاجة إلى التساؤل والتفسير.
ذلك هو العظيم الذي تعرف أخباره وأخبار قومه فلا تزال تقول: نعم هذا هو جده الصالح، هذا هو الأب الذي ينجله، هذه هي الأم التي تغذوه بلبانها وتنشئه في حجرها وتلقنه حروفه الأولى.
وغاندي من هؤلاء العظماء، بل من أندر الأمثلة على الصلة بين حياة الأبناء وحياة الآباء.
كانت أسرته أصلح أسرة يخرج منها قديس مثله، وكانت أمه على الخصوص هي الأم التي لا نستغرب خلقا من أخلاقه ولا عملا من أعماله، إذا عرفنا سيرتها وعرفنا ما تلقاه من كيانها وما تلقاه من قلبها ولسانها.
كان جده «أوتاغاندي» رئيسا للوزراء في «بور بندر» أو البلدة البيضاء، وكان مع اشتغاله بالسياسة رجلا لا ينسى عهده ولا ينقض وده.
Bilinmeyen sayfa
ألجأته صراحته إلى ترك وظيفته والهجرة من بلده واللياذ بأمير إقليم «جوتاجاد»، فلما لقي الأمير سلم عليه بيده اليسرى إيذانا من اللحظة الأولى ببقائه على عهد أميره الأول، وقال: إن يدي اليمنى هي اليد التي عاهدت بها أمير «بوربندر»، فلا أعاهد بها مرتين!
وكان أبوه كرمشاند غاندي - أو كابا غاندي، كما عرف بين أهله - هو الولد الخامس لجده، والولد الأول من زوجته الثانية - وقد كان وزيرا في «راجكوت»، ثم وزيرا في «فانكانار»، ومات وهو يتقاضى معاشا من حكومة راجكوت ...
وفقد كابا غاندي زوجتين قبل أن يتزوج بأم غاندي «بوتلباي» ثالثة زوجاته، ورزق منها بنتا وثلاثة أبناء: أصغرهم هو «المهاتما» ... الذي سمي موهانداس.
وليس «كابا غاندي» قديسا ولا «مهاتما» كولده الصغير، أو ولده الروح العظيم. ولكن ليس في خلائقه ما يمنعه أن يكون أبا لقديس أو مهاتما؛ لأنه كان رجلا صادقا أمينا مستقيم الطوية لا يؤخذ عليه، إلا أنه كان غضوبا في صراحته، إذا كان في الصراحة وفاء بواجب: تطاول بعض كبار الساسة على أميره في غيبته فحفظ الوزير الأمين غيبة أميره ورد على السياسي الكبير سوء المقالة بمثلها، فحبس ليعتذر، فلم يعتذر، فأطلقوه.
وقد يؤخذ عليه أنه بنى بزوجته الرابعة وهو فوق الأربعين، ولكنه لم ينقض بذلك عرفا ولا خرج على عقيدة، وإنما هي النزعة الجسدية التي ورثها منه ابنه، وغالبها فغلبها حين نذر نفسه للقداسة والجهاد.
أما أمه «بتولباي» فلك أن تقول: إنها قديسة غير ذات رسالة، كانت تكتفي في اليوم بوجبة واحدة من الطعام، وكانت تصوم في معظم الأيام، وكانت على غيرتها الدينية متصرفة في عقيدتها. فقد قيل: إنها نشأت من الطائفة الفشنافية الهندوكية، فتحولت إلى العقيدة «الجينية»؛ لأنها وجدتها أقرب إلى النسك وأقرب إلى الكمال.
منها تلقى الوليد الصغير إيمانه بالصيام، فكان عادة له في حياته الخاصة، وكان عادة له في حياته العامة، بل كان أكثر من عادة في هذه الحياة التي حفلت بأحداث السياسة ... كان حصنا يلوذ به لينتصر فيه أو ليموت، فنذر الصيام خمس عشرة مرة، آخرها صيامه الذي نذره قبيل وفاته لكف عدوان الهندوكيين عن المسلمين، وطال خمسة أيام، وقد طال صيامه خمسة وعشرين يوما في إحدى هذه المرات.
ومن أمه، أخذ ما كان أفعل في تاريخه وتاريخ الهند كلها من الصيام، وهو الإيمان بعقيدة الجينية في «الاهمسا»، أو الكف عن العدوان.
فلا تنفصل عن «الاهمسا» حركة من حركات غاندي، ولا دعوة من دعواته، ولا علة من علل نجاحه، ولا خليقة من الخلائق التي راض عليها عقله وطباعه، ولا تفهم رسالة لغاندي في السياسة أو السلوك أو آداب الضمير، بمعزل عن هذه «الاهمسا» التي كان أصدق رسول لها منذ ارتفعت بها دعوة في البلاد الهندية؛ لأنه رضعها من ثدي أمه قبل أن يتعلمها من مرشد إلى أدب، أو مبشر بدين. •••
ولد موهانداس في اليوم الثاني من شهر أكتوبر سنة 1869، في بلدة «پوربندر» كما تقدم، وهي بلدة من إقليم يقع بين السند وبومباي يسمى الكوجرات، وينفرد بلغته وبعض عادات أهله بين الأقاليم الهندية.
Bilinmeyen sayfa
وقد روى لنا غاندي في سيرة حياته أو في اعترافاته شيئا من المحن التي عرضت له في صباه.
قال: إنه كان جبانا وكان يستمع إلى الأحاديث عن اللصوص والأشباح والثعابين فيفزع منها ولا يجرؤ على الخروج من بيته في الظلام، ولا ينام في حجرته إلا على نور، وظل كذلك حتى تزوج - وقد تزوج في الثالثة عشرة من عمره على عادة أهل الهند جميعا من الزواج الباكر - فكان يخجله أن يرى زوجته الصغيرة أقدر منه على مواجهة الظلام.
ونحن ننصف الرجل من تواضعه إنصافا للحقيقة فيما نراه. فقد يسمى ما وصفه جبنا، إذا كان الرجل قد عرف في جميع أيام حياته بحادث واحد يشف عن خوف من المخاطر المادية أو ما هو أرهب منها وأهول على الضمير: وهي المخاطر النفسية. وليس من المعقول أن يؤدي الإحساس بالجبن إلى انقلاب في طبيعة الإنسان يجعله من أشجع الناس وأقدرهم على مواجهة الخطوب التي يتقيها أشجع الشجعان، وإنما نسمي «الجبن» هذا بوصف آخر هو الوصف الذي اشتهر به الرجل طول حياته: وهو ملكة التصديق والإيمان، فلا فرق عند صبي مطبوع على ملكة التصديق والإيمان بين شيء يصدقه وشيء يمسه ويراه. وقد كان حديث المردة والشطار والثعابين حديثا مشاعا بين أطفال الهند يسمعونه كلما أصغوا إلى أقاصيص العجائز في بيوتهم، فكان يؤمن بوجودهم حيث توهمهم كأنه يلمسهم ويراهم. ونحن لا نصف بالجبن إنسانا يتقي مكامن اللصوص وجحور الحيات في الظلام، ولكننا نصفه بالحيطة الواجبة على الرجل العاقل، ونلومه إذا استطاع أن يقهر المخاوف فأحجم عن قهرها، ولكننا لا نطلب منه أن يتصدى لقهرها في ليله ونهاره بغير داع يدعوه إلى منازلتها، وهو قادر على اجتنابها.
إلا أن اعتقاد غاندي الجبن في نفسه خطأ له شأن يذكر في تاريخ نشأته؛ لأنه دفع به إلى تجارب نفسية كان لها أثر بليغ في تكوين خلقه واعتقاده.
ففي صباه كان صبيان الهند جميعا يتهمون أنفسهم بالجبن ويحسون بالنقص كلما عقدوا المقارنة بينهم وبين شبان الإنجليز، وكانت تسري بينهم أبيات من الشعر نظموها بالإنجليزية نترجمها في هذه الأبيات:
أنظر إلى ابن انجلترا
منتصرا مظفرا
يسطو على الهندي وال
هندي يشكو القصرا
لأكله اللحوم طا
Bilinmeyen sayfa
ل واستطال وازدرى
ووقر في أنفسهم أنهم يكسبون الشجاعة وقوة الخلق إذا نبذوا معيشتهم، وأكلوا وشربوا ودخنوا وقصفوا ولعبوا كما يفعل الشبان الإنجليز.
ووسوس بهذا إلى غاندي زميل من زملاء المدرسة، فسرق غاندي دريهمات من خادمه ليصبح بطلا تعتز به الهند في وجه الدولة البريطانية ... وأكل اللحم المحرم، وهم باستباحة غيره من المحرمات. وجرأته السرقة الأولى على سرقة أخرى، فعاد إلى السرقة في المرة الثانية؛ لأنه رأى دائنا يلح على قريبه في طلب دين عليه، فاختلس من يد ذلك القريب قطعة ذهبية ليؤدي عنه دينه الذي يمطل به غريمه.
وعز على غاندي وصاحبه أن يختلسا القوة هكذا، وألا يجسر أحدهما على مكاشفة أهله بما يفعل فساورهما الأسف وحز في نفسيهما الكبت والروغان، وفكرا في «الانتحار» واشتريا السم فعلا وأكلا منه، ولكن دون المقدار الذي يميت.
وخيل إلى غاندي فترة من الزمن أنه ينكر كل عقيدة ويلحد في الله، إلا أنها كلها محنة عارضة لا مفر منها لقديس صغير، فإن القديس الصغير لا يولد وهو قديس كبير، فغشيته الصدمة الأولى كما لا بد أن تغشاه، وكانت غاشية غريبة عن طبيعته ومزاجه وتربيته، فلم يلبث طويلا حتى ثاب إلى إيمانه وتقاليد قومه. فاجتنب اللحم وعافه حتى بات يتقزز من رؤيته ويفزع من الحلم بمنظره، وكان بره بوالديه - ولا سيما والدته - من أكبر أسباب توبته ورجوعه إلى سالف اعتقاده؛ لأنه أشفق أن يعلما باستباحته أكل اللحم، وهي فظاعة عندهم كفظاعة أكل الخنزير عند المسلم، وأنف أن يكذب عليهما ويلقاهما بالرياء والخداع، ولم يكن من طبعه نهما ولا مسترسلا مع الإباحة والإنكار، فعاد بعد هذه الغاشية إلى إيمان أثبت من إيمان الطفولة وأقوى.
وتزوج غاندي - كما تقدم - على عادة قومه وهو في الصبا الباكر، فخطبت له الصبية «كسترباي» من عشيرته وهو في الثامنة، وبنى بها وهو في الثالثة عشرة، ولم يبلغ العشرين حتى صار أبا لأربعة أطفال، أكبرهم «هيرالال» الذي مات بعد مقتله ببضعة أشهر، وكانت وراثته «الغاندية» قلقا دينيا خامره منذ صباه، فلم تعجبه الجينية ولا البرهمية، وانتحل الإسلام والمسيحية، واعتزل أهله منذ فارق نحلة الأسرة إلى أن مات (يونيو 1948).
ولا يذكر غاندي بالرضى زواجه في هذه السن الباكرة. فكتب في ترجمة حياته أن أهله أصروا على تزويجه وتزويج أخيه، وأحد أبناء أعمامه في يوم واحد «ولم ينظروا إلى مصالحنا ولا عنوا بسؤالنا، كأنما كل ما في الأمر أنهم راضون وأنهم قادرون على تكاليف الزفاف، وليس الزواج عند الهندوكيين بالأمر الهين، فقد يجر الخراب على أسرتين، وفيه ما فيه من تضييع المال والوقت وقضاء أشهر في إعداد الملابس والحلي وأدوات الزينة وإقامة المآدب، ومباراة كل من الأسرتين للأخرى في النفقة؛ لتبذها في السرف ومظاهر الوجاهة.»
وأصاب غاندي في امتعاضه من هذه العادة التي لا خير فيها؛ لأن نفقات هذا الزفاف الضخم قد نالت من ثروة أبيه وهي ليست بالثروة الطائلة. فقد كان الرجل أعف من أن يستخدم منصبه لابتزاز المال، ولعل امتعاض غاندي من تزويجه في هذه السن على غير موافقة منه قد ظل عالقا بنفسه إلى أن تولى زعامة قومه، فأنحى على هذه العادة أشد إنحاء، واستهدف من جراء ذلك لغضب الكثيرين من المحافظين.
ويمكن أن يقال: إن الصبي القديس كان يقبل على الشيء أن ينفر منه بمقدار نصيبه من اختياره، فنفر في صباه من المسيحية؛ لأن المبشرين بها كانوا يفرضون بشارتها فرضا على الصغار والكبار، ونفر من الألعاب الرياضية؛ لأنها كانت «مادة إجبارية» في المدرسة، وكان إصغاؤه إلى أحاديث المسلمين عن دينهم أيسر وأسمح؛ لأنهم كانوا لا يقحمونها على مستمعيها.
أما تعليم الصبي فقد اتبع فيه أهله ما يتبع في تعليم الأطفال من أبناء أمثالهم، وكان أبوه في راجكوت حين بلغ موهانداس الصغير سن السابعة أو سن الدراسة الابتدائية، فألحقه بمدرستها وانتظم في المدرسة الثانوية وهو في الثانية عشرة، وقال عن نفسه: إنه كان في طفولته فج الذاكرة فلم يحفظ جدول الضرب إلى بشق الأنفس، ولم يكن من التلاميذ اللامعين، ولكنه كان يقبل على دروسه ولا يتوانى في استذكارها.
Bilinmeyen sayfa
ولم يتعلم في المدرسة كثيرا من الدروس الدينية، ولكنه كان يتلقاها في البيت والمعبد ويعي منها كل ما يلقى إليه.
ومات أبوه وهو في السابعة عشرة من عمره، فكفله أخوه الأكبر، وكان أيضا أخا جديرا بقديس ... فإنه توسم النجابة في أخيه الصغير فنسي أثرته ورشح هذا الأخ الصغير للقيام على رئاسة الأسرة، والترقي إلى مركز في الوزارات الإقليمية كمركز أبيه، ولا يهيئه لهذا المركز في عصره إلا تعليم كتعليم الجامعات في الهند والأقطار الأجنبية، فأشار على كبراء الأسرة بإعداد موهانداس لهذا التعليم.
وكان أمامه جامعتان: إحداهما جامعة بافنجار والأخرى جامعة بومباي، وهي أكبر نفقة مما يطيق، فاختار كلية ساملداس في الجامعة الأولى. وقال: إنه غرق في علومها فنقل إلى بيته بعد نهاية السنة الأولى، فنصحه برهمي صديق للأسرة بالسفر إلى البلاد الإنجليزية لدرس القانون، ومال هو إلى الطب ... فذكره أخوه أن أباهما كان يمقت تشريح الجثث، وأن وظيفة الطبيب لا ترشحه لولاية الوزارة، فجنح إلى الدراسة القانونية إكراما لذكرى أبيه.
وهنا قامت في وجهه العقبة الكبرى؛ لأن إيغال فتى مثله فيما وراء البحار مستنكر في شريعة الجينيين، ولم يكن في الهند كلها سيدة أشد تحرجا من مخالفة عقيدتها من السيدة «بوتلباي» والدة غاندي، فضلا عن تحرج أهله وسائر أقربائه.
إلا أن غاندي الذي شب في صباه وديعا مطواعا قد شب كذلك قوي العزيمة لا ينثني عن رأي عقد النية عليه، فلم تنفع حيلة من حيل آله في إقناعه، واستطاع كاهن الأسرة أن يجد للأمر مخرجا يرضي الأم ويرضي فتاها، فقال لهم: إن النذر باجتناب المحرمات في بلاد الغربة كاف إذا وثقت الأسرة من رعاية الفتى لنذره. وكانت الأم تعرف وليدها وتطمئن إلى صدقه في وعده، فأقسم بين أيديهم لا يقاربن امرأة ولا يذوقن خمرا ولا يأكلن لحما أو طعاما محرما ... ومع هذا لم يسلم الفتى من غضب المتشددين من كهان عشيرته، فاستدعاه رئيسهم في بومباي وهو يهم بركوب الباخرة إلى البلاد الإنجليزية، ونبهه إلى الخطر على عقيدته من معاشرة الأوروبيين في بيوتهم؛ لأنهم يشربون الخمر ويأكلون اللحوم، ولا يتورعون عن مقاربة النساء. فلم يحفل غاندي بتنبيهه، وأصر على السفر في حينه، فأعلن الكاهن عقوقه وحظر على أبناء العشيرة أن يذهبوا لتوديعه.
ويمتحن مهاتما المستقبل في هذه الرحلة بالفتنة الكبرى.
فالنزعة المادية طاغية، والإباحة الخلقية فاشية، وفلسفة العصر في أواخر القرن التاسع عشر - بين الجيل الجديد خاصة - أن اللهو حق له بل فريضة عليه. وقد أوشك غاندي أن يطلب هذا الحق ويدين بهذه الفريضة، فتدرب على الرقص وتعلم العزف على بعض الآلات الموسيقية، وصحب رفاقه إلى السهرات وراض نفسه على أدب المغازلة، ثم أحس أنه يتكلف ولا يخف بطبعه إلى استجابة هذه الفتنة. وشاءت المصادفة أن تقترن فلسفة العصر بفلسفة أخرى في البيئات التي تعنيه، وتستحوذ على هواه إذ كانت نهاية القرن التاسع عشر أيضا فترة الاستشراق، والتوفر على دراسة أطوار الشرق القديم والشرق الحديث: فكثر بين علماء الغرب من يدرس اللغة الهندية ومأثورات البرهمية والبوذية، إما استجابة لدواعي الاستعمار، أو استجابة لنوازع الروح وامتعاضا من غواية المادة ولجاجة الإلحاد التي أفسدت على بعض العقول معنى الحياة. وكانت هذه الشواغل القليلة أقرب إلى سليقة غاندي وأقمن منه بالتلبية والإصغاء، فاتصل بالأندية الصوفية، واطلع في اللغة الإنجليزية على آداب قومه التي فاته أن يطلع عليها في اللغة السنسكريتية، وعاد من طريق أوروبة الحديثة إلى تاريخ وطنه القديم.
ونال إجازة الحقوق بعد ثلاث سنوات، فرجع إلى وطنه وهو أطيب ما يكون قلبا بلقاء أمه ووفاء نذره، ولكنه سمع - أول ما سمع - بنعي تلك الأم التي ماتت في غيبته، وكتموا نبأ موتها عنه إشفاقا عليه من صدمته وسوء وقعه في طمأنينة نفسه وانتظام دراسته، فاستفاد يقينه من هذه الصدمة المفاجئة فائدة لم يطلبها ولم تقع في حسابه؛ لأن وفاءه لذكراها قد ضاعف حفاظه على نذرها، واجتمعت الأمومتان: أمومة الجسد، وأمومة الوطن في أمومة واحدة، وهي أمومة العقيدة الروحية.
وزاول غاندي صناعة المحاماة زهاء سنتين في وطنه، فكانت أول تجربة له فيها إخفاقا تاما؛ لأنه حصر عن الكلام، ولم ينجح فيها بعد تكرار التجربة ولا رضي عن عمله في هذه الصناعة؛ لأنه أخذ نفسه بالصدق في قبول دعاواه، وأنف من اقتناص أصحاب القضايا بالحيلة ومعونة السماسرة. فما هو إلا أن دعي إلى أفريقية الجنوبية حتى بادر إلى قبول الدعوة ووصل إلى بريتوريا في سنة 1893، وهو لا يعلم بما يضمره له الغيب في هذه الرحلة المفاجئة فقد كانت مفرق الطريق في حياته وفي حياة بلاده على الإجمال.
سافر غاندي إلى أفريقية الجنوبية بدعوة من بعض الشركات الإسلامية التي كانت تتجر على شواطئ المحيط الهندي من أقصاه إلى أقصاه، ولم يدع للمحاماة، بل لمساعدة المحامين الكبار من الإنجليز؛ لأن المحامي الإنجليزي هو الوكيل القضائي الذي يسمع له صوت في محاكم أفريقية الجنوبية.
Bilinmeyen sayfa
ولكنه ذهب في الواقع إلى تلك البلاد لأمر آخر مطوي عنه وعن موكليه في عالم الغيب المجهول.
ذهب ليتلقى رسالته في حياته.
فتلقى رسالته وعرف قضيته ووضع قدمه على فاتحة الطريق التي انتهت به إلى زعامة الهند كلها، بعد جهاد طويل دام نحو عشرين سنة، ووضع هناك (سنة 1908) دستور الهند في جهادها السياسي والأخلاقي، فكان هو الدستور الذي قاد به الهند إلى استقلالها.
في أفريقية الجنوبية ضرب غاندي وأهين؛ لأنه اجترأ على النزول في الفنادق الأوروبية والركوب في السكك الحديدية مع الأوروبيين، وكاد أن يحرق حيا في النزل الذي أوى إليه بعد العودة من زيارة قضاها في بلاده؛ لأن «البيض» قد حسبوا أنه مهد السبيل في هذه الزيارة لإغراق أفريقية الجنوبية بالعمال الملونين.
وهناك عرف القوانين التي كانت تفرض الحيف فرضا على الأسيويين والأفريقيين من الشعوب التي يسمونها بالشعوب الملونة، ولا سيما طوائف الزراع والصناع.
وهناك ألغى أعماله كلها ليعيش عيشة الفاقة والضنك مع أولئك البائسين، ويشاطرهم الظلم الذي يخضعون له ويريد أن ينقذهم منه. فأنشأ لهم مزرعة يعملون فيها كما يعمل ويعيشون فيها عيشة الكفاف؛ ليحطموا قوانين الحكومة الظالمة بالصبر والمقاومة السلبية، وسماها مزرعة تولستوي.
ونزل الفتى النظري الروحاني في معركته السياسية الأولى إلى ميدان كله عمل ومادة؛ لأنه عالم السلاح والمال، ولكنه - عند النظر إلى الوسائل والنتائج - قد كان في ميدانه هذا عمليا أنجح من العمليين، وقد بلي منه العمليون بخصم جديد لم يعهدوا مثله قط فيما عهدوه.
غاندي في الجامعة.
لقد عهدوا من معارضيهم حملات الصحافة، ولم يهمل غاندي هذه الحملات؛ لأنه تولى تحرير صحيفة سماها (الرأي الهندي) تصدر بالإنجليزية وثلاث لغات هندية، ولكنها لم تكن قصاراه من الكفاح.
ولقد عهدوا من معارضيهم حملات المنابر، ولم يهمل غاندي هذه الحملات؛ لأنه كان يخطب ويقنع، ويخاطب المتعلم والجاهل بما يفهمان، ولكنها كذلك لم تكن قصاراه من الكفاح.
Bilinmeyen sayfa
إنما السلاح الجديد الذي جاءهم به هو سلاح لم يخافوه قط ولم يحسبوا يوما أنه يخيف لو أنهم عرفوه، وذاك هو سلاح المقاومة في غير عنف، أو سلاح المقاومة السلبية كما عرفه ولاة الأمر في حكومات الجنوب.
كان بعض الهنود ينقادون لغاندي في حملات المقاومة السلبية؛ لأنهم يؤمنون مثله باجتناب العنف والتورع من إزهاق كل حياة.
لكن عمال الجنوب فيهم صينيون وأندونسيون، وفيهم هنود غير مؤمنين بالنحلة التي يؤمن بها الزعيم، وفيهم زنوج ووثنيون لا يعرفون من الأديان غير أديان الهمجية الأولى.
وكانوا مع ذلك يطيعونه جميعا ويعملون بما أرادهم عليه؛ لأنهم مطمئنون إلى إخلاصه الذي لا تشوبه شائبة ولا ترتقي إليه مظنة.
هذا الإخلاص النزيه هو العنصر الذي جهله ولاة الأمر، واستخفوا بالمقاومة السلبية لجهلهم بفعله في هذه الحركة، وفي كل حركة سياسية.
فلما التقاهم به الفتى القديس وجدوا منه ما لم يجدوه من قبل في خصومات الساسة، ومشاغبات الدعاة.
ترك غاندي كل عمل فيه ربح مالي، ووقف ما عنده من المال على معونة المعوزين من المظلومين، وسكن من حيث كانوا يسكنون، وأكل مما كانوا يأكلون، ونزل بالسجن مرات حيث ينزلون، وهجر الحضارة وزينتها في الملبس والشارة، وعرض نفسه لكل مهانة يتعرض لها أضعف الضعفاء وأفقر الفقراء.
فأغمضوا العيون وفتحوا البصائر واتبعوه.
وهكذا يصنع الأتباع مع كل متبوع لو وجدوه، ولكنهم لا يجدونه واحدا فردا بين عشرات ومئات.
وأوصاهم إذا كفوا عن أعمالهم أن يكفوا عن إكراه من يعمل على ترك عمله، وأن يكفوا عن مقاومة الجند الذين يسوقونهم سوقا إلى المصانع والمزارع؛ لأن الجند لن يحركوا أيدي العمال بالفئوس والآلات إذا شاءوا أن ينبذوها ولا يحركوها، أما إذا ضربهم الجند أو جرحوهم أو قتلوهم فليصبروا وليصبروا، وليطيلوا الصبر بغير سأم ... إن المعتدي خليق أن يسأم عدوانه قبل أن يسأموا الصبر على ذلك العدوان. وقد جعلهم يتحدون أوامر الحظر في الأماكن الممنوعة فذهبوا إليها بالألوف وحيروا الحكومات والمحاكم؛ لأنهم لا يبالون السجن ولا تتسع السجون كلها لهذا العدد الكثير من السجناء.
Bilinmeyen sayfa
وكان يجمع من المال ما وسعه أن يجمع لتموين العمال المضربين، ويمضي في تنظيم المزارع النموذجية ليستخرج لهم منها بعض القوت الكفاف، وهو أكثرهم في العمل وأقلهم في نصيبه من الغذاء، وليست وسائله هذه بالوسائل التي تغني في انتظام معيشة يعتمد عليها الألوف من العمال المضربين إلى أجل طويل، ولكنها كافية لتعجيز المصانع والشركات عن الانتظام، أو تعجيزها عن مقاومة الإضراب وذلك هو المقصود.
وطال صبر الفتى القديس عشرين سنة، ولم يطل صبر المصانع والشركات، ولا صبر الجند وولاة الأمور، فانتصر وانكسروا وأفلحت هذه المقاومة العجيبة في تحطيم سلاح القوة وتحطيم سلاح القانون. واضطرت حكومات الجنوب إلى نسخ كثير من القوانين التي تحجر على حرية العمال الملونين في الإقامة، أو تقتر عليهم في الأجور، أو تسومهم الطاعة لما لا يطاق من الغبن والإجحاف.
غاندي في أفريقية الجنوبية.
وكأنما كان غاندي يحس في أيام أفريقية الجنوبية أنه قد نوى الصمود على جهاد لا تجدي فيه أنصاف القوى، فلا غنى له عن عدته الروحية الكاملة، أو لا عدة له على الإطلاق.
ففي أفريقية الجنوبية - وهو يناهز السادسة والثلاثين - نذر النسك والتبتل، أو نذر ما يسميه الهنود «بالبرهماشاريا» أي: الإعراض عن الجسد والسلوك إلى الله، واتفق وزوجه على هذا النذر، فأصبح يدعوها بعد ذلك «با» أو يا أماه.
وللروح - إن صح التعبير - عضلاتها كما للجسم عضلاته، وللصراع في إبرام تلك العضلات أثر كأثره في إبرام هذه العضلات. فلما عاد غاندي إلى الهند بعد صراعه الطويل في أفريقية الجنوبية، عاد بروح قد عرف كيف يلوي الحديد.
عاد إلى الهند بعد نيف وعشرين سنة (1915)، فإذا بسمعته تسبقه إلى كل بقعة من بقاعها: سمعة القديس بل سمعة المخلص الموعود أو «الأفاتارا»
Avatara
الذي تنتظره الهند أبدا في أزمة الضيق والأمل .
وكان أمل الهند في الخلاص قد تجدد في أوائل القرن العشرين. لأن أبناءها الذين خيل إليهم زمنا أن الاستعباد ضربة لازب عليهم وعلى أمثالهم من الأسيويين، قد أفاقوا يوما فإذا بدولة أسيوية لا تبلغ عدتها خمس عدتهم قد سخرت الجيوش والأساطيل على أحدث نظام، فقهرت بها دولة من أكبر الدول شهرة بالقوة والبأس بين الهنود والأسيويين على التعميم. كانت غلبة اليابان على روسيا مبعث رجاء جديد في جميع الأقطار الأسيوية التي منيت ببلاء الاستعمار، وجاءت الحرب العالمية الأولى بعد ذلك بأقل من عشر سنوات، فكشفت لأبناء الهند عن حاجة الدولة الأوروبية الأولى - الدولة التي تسيطر عليهم - إلى معونة منهم لمقاومة خصومها أو لإنقاذ كيانها.
Bilinmeyen sayfa
فعلموا أن رضاهم شيء يؤبه له، أو شيء له ثمن يؤديه القوي المسيطر عليهم، وهو راض أو كاره.
وفي هذه الآونة عاد غاندي إلى بلاده، فلا جرم يحسبونه قد هبط عليهم من السماء في ساعة الضيق وساعة الرجاء.
ولم ينغمس غاندي بادئ الأمر في لجة السياسة الهندية التي كانت تضطرب بالخصومات الحزبية والطائفية في تلك الآونة، لعله أخذ في ذلك بوصية الزعيم جوكهيل
Gokhale
الذي نصح له بمراقبة الحالة سنة كاملة ريثما يستجمع فكره على رأي يستخلصه من تجاربه ومشاهداته، أو لعله آثر بطبعه إصلاح الأخلاق وتقويم المجتمع ومساعدة العمال والزراع على طريقته التي جرى عليها في أفريقية الجنوبية. فسعى في إنصاف العمال والزراع بالحسنى أو بالمقاومة السلبية، وطفق يجول في الريف ويتنقل على قدميه من قرية إلى قرية؛ ليرفع من شأن الطبقة الفقيرة في القرى بما استطاع. وبدأ منذ هذه الرحلات القصيرة في مقاطعة الآلة الحديثة كلما أمكنه أن يقاطعها، فلم يركب السيارة ولا القطار، إلا حيث كان الركوب ألزم للرحلة من المسير على الأقدام.
ولم يلبث أن طارت شهرته بالقداسة، بل بالكرامة والخارقة المعجزة، فأخذ الناس من ثم يروون عنه الخوارق التي كان هو أول المكذبين لها، ومن تلك الآونة تعود القديس أن يرى في طريقه أمهات يلمسنه بأطفالهن الصغار طلبا للبركة والهداية، وعجائز ضريرات يعز عليهن أن يعبرن طريقهن دون أن يعرج عليهن، فيترصدن في مجاز السيارة ليلمسنها ولو على خطر الموت، إن فاتهن أن يسعدن بمصافحة القديس العابر في الطريق، وتعاظمت هذه الشهرة في الاستفاضة والرسوخ حتى جاء يوم من الأيام، بعد فترة من الزمن، آمن فيه عامة أهل الهند بأن الزلزال الذي أصاب «بيهار» إنما كان عقوبة إلهية أرسلها الله على القوم؛ لأنهم لم يستمعوا إلى عظات غاندي في معاملة المنبوذين.
ولم يكن هذا إيمان العامة وحدهم، بل كان من راجات الهند وخاصتها من يرفع صورة غاندي في قصره تيمنا بقداسته، وإن خرج بذلك على مقتضى التقية في مسلك الأمراء والعظماء.
كانت هذه الشهرة المقدسة تتجمع حول غاندي يوم جذبته السياسة إليها جذبا على غير اختياره.
وكان أهل الهند يومئذ في سياستهم الوطنية على مذاهب شتى: فريق يجنح إلى الثورة الدموية، وفريق يجنح إلى التعاون مع الإنجليز تمهيدا لبلوغ المزيد من الحقوق الدستورية، أو حقوق الحكومة الذاتية، وفريق يجنح إلى عدم التعاون استعجالا لبلوغ هذه الغاية.
وليس في هذه الأحزاب كلها حزب يحجم عن عمل من أعمال العنف، أو أعمال الغيلة والفتك، إذا أحرجته الضرورة إليه.
Bilinmeyen sayfa