كم بين معيشة في دعة، وكبد بالأسنة متصدعة! وإن كانت الشواحج في شقاء فإنها لا تهلك أوان اللقاء. إنما تحضر الهيجاء معينة على حمل الأثقال، فلا يعمد إليها الطاعن بإرقال؛ ولا تبيت من شهود الغارة وجلة، مبطئة كانت أو متعجلة. وإنما يفرق من اعتراك القوم فرس يلقى الصوارم بهاديه، ويعاين الشجب فيراديه. هل حدثت بواحد من أصحابك هلك بطعنة أو ضربة؟ فأنتم من ذلك مثل حمام الحرم إنما يأتيها الموت بيد القضاء فتموت حتف الآنف؛ فأما نحن فنباشر الشوكة إذا واجهنا الفئة، ولا نأمن حدها عند المنصرف. ورب ميت منا في الشأو المغرب، كظه الدأب والغاية إلى أن فاظ.
وقد افتخر " الجعدي " فقال:
وإِنا لَحَيُّ ما نعوِّدُ خَيْلَنا ... إذا ما التقينا أَن تَحيدَ وتنفِرا
ونُنكِرُ يومَ الروع أَلوانَ خيلِنا ... من الطعنِ حتى نَحسَب الجوْنَ أَشقرا
فليس بمعروفٍ لنا أَن نردَّها ... صِحَاحًا ولا مُستَنكرا أَن تُعَقَّرا
وقال " عامر بن الطفيل " وعقر فرسه:
ونعم أَخو الصعلوكِ أَمسِ تركتُه ... بتُضروعَ يَمْرِى باليدين ويَعسِفُ
وقال " عروة بن الورد ":
أَقِيه بنفسي في الحروب وأَتَّقي ... بهادِيه، إِني للخَليلِ وَصُولُ
فمتى أصاب أحدًا من رهطك سنان بشر، أو قتل في كر وفر؟ وهل حدثت عن بعض أسرتك أن مهندًا أفرى عنقه، أو أصاب المفصل فطبقه؟ وأكل أبناء أبيك محرم في الملة، فقد أمن كلها حد المدية وغليان المرجل، وأن تهرأ بضيعه الإرة. ونحن لسنا كذلك، بل كانت العرب تأكل لحومنا في الجاهلية، وتركها الشرع الوارد، على تلك السكنة. أليس " حاتم " والمثل به مضروب في الكرم، عقر فرسه لامرأة طرقته معها أيتام؟ ولعل " اليحموم " وهو لركاب " النعمان " ما فقد أذية من الدهر، وإنه لطرف الملك، فما ظنك بطرف المتصعلك؟ وبنو آدم، كما علمت، لا يحفظون الخلة ولا يراعون الخدمة. أليس أعمامك وأبوك من أعظم دوابهم نفعًا وأقلها شماسًا ونفرًا؟ يركبهن الشيخ الهرم والطفل المتعرم وهما آمنان من السقطة وسوء العاقبة، وتردها للحاجة الكبيرة المهترة والكعاب المتسترة، ما لقيت في ذلك عنتًا ولا عنفًا. وقد يكون بعضها عند المقتر أبي السلفان، فإذا كان الأفق كالمريب من بياض الضريب، وكان ذلك في عين البائس المعود أقبح من الوضح في عين المتهود، حطب عياله عليه فجاءهم بأجدال الشجر وجزل القطيل، فأوسعهم من جمر يتلهب، ودون في صرف القر الذهب. فإذا حطبهم الكفاية عدل بالعضد إلى المبتاعين فباع بالدرهمين مرة أو الدرهم، وجعله في الأمر الأهم: من شراء جابر بن حبة والمضيء بن الضروة وإذا كان زمن الرقاع نقل إلى مكان الشغلة ما هذ بمخالب العالمين من لغيف وأرنيف وإذا ركى القوم نكز، جلب عليه الشرب الناقع فأروى الدردق وشرب منه الصادون، ومن رغب في غسل وطهور. وهو في ذلك إذا عثر على بعد لعنه، وإن كان مكثبًا تناله اليد، وكزه بالمطرق أو طعنه. وليس في الحنادس المظلمة بتارك له من استعمال فيما عد بقليل من المصلحة، أو يمتهنه في بعض الأرجاء، حتى يكون ما كسبه المجترح من الحبوب طحنًا يقدر على استعماله باشر أو باكل، هو لجشب الطعام آكل.
ولم يكف ولد الإنسان ما أحلوا بأسرتك من الكد والهون، حتى أتبعوا ذلك قبيح المقال، فضربوا المثل بهن في الذل، وقرنوا إليهن في التشبيه من يستغبون من الرجال. وقال قائلهم على وجه الدهر:
إِنَّ الهوانَ، حِمارُ الأَهلِ يَعرفُه ... والطِّرْفُ يُنكرُه والجَسْرةُ الأُجُدُ
وقال الشاعر:
وما المولَى وإِن عَرُضَتْ قَفاه ... بأَحْمَلَ للملاوِم من حِمَارِ
وشر من ذلك ما فعله " الدارمي " من السوءة الباقية على الأيام: لما سب " جريرًا " وقومه، قذفهم بالذي يكنى عنه فقال:
لعلك في حدراءَ لُمْتَ على الذي ... تخيرت المِعْزَى على كلِّ حالبِ
عطيةَ، أَو عبدٍ سواه كأَنه ... عطيةُ زوجٍ للأَتانِ وراكبِ
إلى غير ذلك مما ثبت في الصحف ودون، وتناقلته الرواة في عصر بعد عصر.
وتلك الآبدة، لا وسم في العلباء وتوقيع في الملبد، ونعوذ بربنا من خزي الأبد.
1 / 8