وأما ذمك بني آدم وصفتك إياهم بالعنف المفرط، فإن إحسانًا سبق فريق، وإكرامًا ما ترك لك مرامًا: بغوك العض بالذهب فأطعموك، وقربوك في المنازل فأكرموك؛ وحبوك في الربيع الباكر نضيرًا وسقوك في الزمان الومد باردًا نميرًا؛ ولحفوك بثيابهم في الفرس وآثروك على عيالهم بالقوت واللبن؛ وصانوك أن تنزو فتضعف قواك، أو تطرق حليلات لسواك فيجيء ولدك مشهورًا في الحيوان! وقد زعم بعض العلماء أن " أخدر " كان فرسًا لبعض الملوك، فذهب في الأرض فتوحش، فولده - لما طرق الأتن - يضرب به المثل في حمير الوحش! وهذا قول حكى وما زكى، لأن ولد الفرس من الأتان بغل. وإنما ذكرت ذلك لأنه شيء قيل، ولعله من أحاديث الأعراب الذين يزعمون أن الجن تلد في الإنس، وأن " سنان بن أبي حارثة، صاحب الحمالة " وهو شيخ فإن ركب ناقته والحي بنخل، فذهب في الأرض فلا يعلم له خبر إلى اليوم، وأن الجن أخذته فاستفحلته! فزاد الله عقولهم من الخسارة! وأي فحلة كانت فيه وقد بلغ أكلأ العمر؟ أفأعوز الجن صبي يأخذونه فيربونه للفحلة ويستقبلون به عنفوان الشبيبة؟ والذي يشهد به المعقول أن أخدر حمار معروف. ويقال إنه حمار أهلي توحش فعسب في عانات الوحش، وولده في سيف كاظمة إلى اليوم وما أحسبك تطيق كلفة البر. لو أنك وردت ماء بصنيبعات، ورد وحوش مرتبعات. فألفيت ماءها قد نضب، لضاق مذهبك عليك. أو لو زرت عين أثال وغمازة تريد المورد، لجاز أن تلفى عليها صائدًا يلتمس وذرًا من لحمك رائدًا، إذ كنت أكثر من العير نحضًا، وأشد إشباعًا للدردق عدموا قرضًا. وقد علمت أن فارسك يسقيك من الجرور المطلب إذا طلعت الشعرى العبور. ومن إنعام بني آدم عليك أنهم حلوا مركبك ولجامك من اللجين والعسجد بمثل ما حليت الكرائم، وجنبوك في الموكب كأنك الهدى ناظرًا في عطفيك. ولو أنك بوجرة لمارست من الرتب وأوار القيظ وصنابر الأريز، ما ذرعك به غير رحيب.
وأما ذكرك ما قضب " الفرزدق " به الأتن، فإنما تلك سهام ليست ذات ريش ونصال. والشاعر غير صادق في المدح ولا في الهجاء. وذم القائل من الشعراء دال على فضل المذموم مثل ما دل المدح عليه. لأن المدح ونقيضه إنما يكونان لمن عرف وشهر. والنفوس بنيت على السخط وجنى الذنوب. وليس يرضى عن الرجل ولده في كل الأحيان، فما بال جاره الجنب وعشريه البعيد؟ وهل الأتن فيما قال: الفرزدق " إلا كالأنيق وبنى فزارة؟ مالحق الإبل عيب في ذلك ولا الأنيس؛ ونحو ما وجد في الشعر القديم من تعيير قريش بأكل السخينة، وثقيف بصيد الرخم، وبنى حنيفة بأكل معبود كان لهم من الحيس؟ ما نطق به " ابن الزبعري " لغير لاحق بالشعرى، وما أرسله " الحطيئة " من كلم ليس بمقان، ذهب فلم يعلق " بالزبرقان ".
وما ضر فوارس المروت هدر " الفرزدق " بشدق مهروت وإن دارمًا ذات الشرف، لم ينقص شرفها من قرير، تهكم ينقل عن المرء " جرير ".
ولم يصدق " البرجمي " أن زعم أن المرأة بالكلب زنى.
وزل قول " الحارثي " فما سدك ب " الأخيلية " وإن كان ما نطق، عن غير ألية.
وما غاض كرم " أوس بن حارثة " في الرفه والعشر، لما روى عن أشعار " بشر ".
و" أعشى قيس بن ثعلبة " ما رزأ " علقمة " فتيلًا عن مجد.
وما قذف به " النميري " " أم خنزر " ما مس لها ذي مئزر.
ولا أطفأ " زياد " من عقيقة، لما شتم بني الشقيقة.
وما أمر " ذري الرمة " بكيس، إذ يقصد بسبه " امرأ القيس ".
وما جاء " زهير " بجداء. إذ يقذف ب: " يسار " آل الصيداء، هلا نطق باقتصاد، كما فعل في بني مصاد؟ وكذلك المديح في كل زمان، ما رفع قد مشئم ولا يمان.
وما الذي أفاده رسول الله ﷺ لما امتدحه " كعب، وحسان ".
وهل يلتم بالمدح شعب؟ ما قيل في " عمرو بن هند " لم يجعله من سيل المنية بفند.
وما نظم في " النعمان " لم يأته من الموت بأمان. لم يثبت له منقبة، أن يقال فيه الأشعار المتعقبة.
وما قلده جيد " الحجاج " ليس باللؤلؤ ولا بالجاج....
وأي قول ظعن في الريح، ولم في بهجاء صريح.
وأما زعمك أني أدعي نظم الكلم، فقول منك أنبأنا عن قلة تأملك، وعجلتك في شئونك. إذ كنت لا تعدم أحد أمرين: إما أن تبطل القياس، وإما أن تثبته.
1 / 21