فلستُ بآتيه، ولا أَستطيعُه ... ولاَكِ اسقِني إِن كان ماؤك ذا فَضْلِ
فيجوز أن ينطق الله تعالى الشاحج فيقول: الإكثار مظنة العثار. ومثلي ومثلك، مثل متخذة النؤور والسيطل، قرعته قرعة خفية فأجابها بصوت طال واتصل، ودخل في السمع بقوة فأفرط وقد حان منصرفي الليلة، ولولا ذلك لكان جوابك أقرب من البرة إلى الناقة ومن المرضع إلى الإفاقة. وإن كانت لك إقامة إلى الغد، أجبتك جوابًا مرضيًا إن شاء الله، على أن المثل السائر: " ربما كان السكوت جوابًا "؛ لا سيما إذا كان القول إزراء بالمستمع وطعنًا من القائل. والعي أبأس من الشلل، واللسان يبين عن الإنسان مثل ما انبأك عن لون طرف، وخبرك عن روض عرف.
فيمضي الشاحج إلى مربطه، ويبيت الصاهل بمكانه.
حتى إذا الصبح وضح، عاد الشاحج على الأدراج، حتى إذا كان من الصاهل بالمرأى والمسمع، أنطقه الله، إن شاء الله، فقال: أي التحيتين أحب إليك: أتحية الجاهلية؟ . فنعم صباحك. أم تحية الإسلام؟ فسلام عليك.
فيرد الصاهل بتكرهٍ.
ثم يقول الشاحج: أما أنفتك من خئولتي، فإن الأنف أخو الشنف، وكل متكبر مقيت، ورب عبد هو أزكى من سيده. وأمةٍ برئت من الآمة، أفضل من الحرة لحقت بها الملامة. وأنساب الحيوان أمر مخبوء. وما يدريك لعل " المرتجز " خالي، و" الدلدل " من أسرتي، و" يعفورًا " أبي أو عمي؟.
والجسد على النفس كريم، ولعل في ظن المننة أن ابنتها أحق بالحلى من الفتاة الحسنة. ولعل في نفوس الكروان أنها أحسن من الطواويس. ولولا الإسلام لم تسلم أدقاء العرب الشرف إلى بني عبد مناف. و" سلمان " عند الميزان أرجح من الهرمزان، و" خباب بن الأرت " وإن كان ينتسب إلى النبط، قد قرع من ينتسب في القبائل ذوات الحسب. وما تعترف الحبشة في ديراها أن أمة من الأمم أفضل منها في السؤدد. و" بلال بن حمامة " لا يدعى ل: " كعب بن مامة " و" صهيب بن سنان " لا يقر بالمنة ل: " زيد بن جدعان " والأراكة في نفس الظبية التهامية، أشرف من الرقلة عند حرة يمامية. والسدرة للعالقة أنفع من السحوق السامقة. والسائس في الجمازة وهي من اللبد، يحس الدابة ويرى أه أولى بناصيتها من مالكها. ويغدو الهاجري بالمسجة على المجدل، وما يرتاب في أنه أحق بالطارقة من الربيب.
وعلى ذلك جرت العصور السالفة.
وغرائز الحيوان قلما تعترف بالفضيلة، بل تجد أدنياء العالم يدعون الفضل على أهل الأقدار، والمنغمسين في الضعة تلهج ألسنتهم بالافتخار. وربما صورت الغريزة لصاحبها ما يقع الإجماع على بطلانه. تظن السمجة أنها جميلة، والقصيرة أنها فارعة، واليد البخيلة أنها سمحة؛ وإنما يحمل على ذلك قلة التمكن من المعقول. ومن كان ذا وفارة من اللب كان بالعكس من هذه الصفة، لأن علقه يعلمه أن الله تعالى قادر على أن يخلق من يفضله. والحازم يرى التواضع فرضًا لازمًا، والأخرق يرى التكبر حظًا جزيلًا.
وكل شجرة لا تقدر على عدوان الثمرة: فشجرة العفز لا تثمر بلسًا، والسلمة لا يمكنها أن تجنيك ثعدًا، والأراكة لا تونع إلا بمرد وبرير. ولو تكبر سنان الرمح فقال في نفسه: إن الله رفعني فوق أدوات الحرب، لجاز أن يطعن غب ذلك فينحطم فيصير إلى الهالكي، فيجعله مسمارًا في حافر هجين مقرف، ولعل النسر تكبر وهو في أعلى اللوح وأعجب بأنه ارتفع إلى مكان لا يبلغه كثير من الطير، فلم يلبث فنظر فإذا مكانه أخفض من أماكن خشاش الطير. ولعل الماء تواضع وهو في قعر البحر فبعث الله " تعالى " لسانًا من السحب فرفعه إلى حوض المزن؛ ثم إنه تكبر فنزل لوقته إلى القرارة المنخفضة، فصار طوفًا كديرًا تخبطه أخفاف الإبل ويعافه الصادي والعطشان.
وأما زعمك أني ادعيت قرابتك، فلون الحبشي شهيد أنه حامي، وتحطم الدرين أخبرك أنه عامي، ومشى الدابة على أربع يعلم أنها بهيمة، وصئي المقعد ينسبه إلى العكرمة دون كل قربى.
فالجنسية قرابة بين المتجانسات. ثم يتفرع ذلك إلى ترتيب الأنواع: فالحيوان كله جنس بينه تقارب بالجنسية، فقد جمعتني وإياك الحيوانية وكوننا من ذوات الأربع قرابة ثانية. وأخص ذلك أننا من ذوات الحافر.
1 / 19