أي إن العرب أوصوا - للوصول إلى قمة البلاغة - باستعمال روح اللفظ لا ذات اللفظ، فسبقوا المدارس جميعها، من رمزية وغير رمزية مما سمعنا عنه في كتب الغرب. هنا أقف لأتحدث عن «روح اللفظ»: إن اللفظ المباشر قد يكون جميلا فاتنا، رائع الجرس متسق الرنين، كما نرى هذا على أحسنه عند «البحتري» في أدبنا وفي «سوبنبرن» عند الإنجليز، فتكون الموسيقى رائعة وآسرة، ولكني أحذركم من هذه الموسيقى التي تعتمد على اللفظة المباشرة، فإنها خداعة، تستولي علينا كأننا عدنا أطفالا في المهد.
أما استعمال «روح اللفظ» أو استعمال اللفظ بموجباته وظلاله وتأثيراته، فهذا هو الذي يحدث ما يسمى الموسيقى الباطنية، هذه الموسيقى - هذا الهمس الداخلي - هذا الإيحاء البليغ، هو سر الرمزية وقوتها وثباتها، والأمل في أن تصير المدرسة الوحيدة الباقية في المستقبل.
إني أتحدث عن الأدب عامة بقسميه من نثر ونظم، ولكني أقول: إن هذه الصفات التي شرحتها تنطبق بالأكثر على الشعر: الذي هو أعظم الكلام في أعظم مواضعه.
أما النثر فقد يبلغ مبلغا كبيرا من الإجادة، ولكنه سيظل دائما معتمدا على المنطق، والقياس، والوضوح والهدوء، والاتزان، وسيخلو من مميزات الشعر كالعاطفة المحضة، والغموض الجميل، والحماسة المركزة، والإيقاع المرقص، واللفظ المجنح الموحي.
رسالة الفلسفة
ساعة مع سقراط
لم يعن سقراط بتدوين آثاره الفكرية بين دفتي كتاب؛ لأن عصره لم يكن عصر كتب بل عصر مسرحيات؛ ولأن انشغال العباقرة بالقيام برسالتهم قد يصرفهم عن تدوين ما في سجل حياتهم من أعمال ، ولأن للعباقرة شخصيات قد تفوق كل ما يكتب عنها، بل إن القلم ليخجل عندما يجد نفسه عاجزا عن وصفها قاصرا عن الإحاطة بذلك الشيء المجهول الذي يكون الشخصية العبقرية، ولكننا لحسن الحظ نجد في كل زمان من المؤمنين بهذه العبقريات من يلذ لهم أن يعيشوا في ظلالها ليسجلوا كل كبيرة وصغيرة فيها، ولقد ذكر المؤرخون شبها كبيرا بين «سقراط» الأثيني و«جونسون» الإنجليزي، فقد وجد «سقراط» في تلميذه «أفلاطون» شارحا أمينا ومريدا ذكيا، كما وجد «جونسون» في صديقه «بوزويل» ظلا مخلصا حريصا كل الحرص على تدوين كل شاردة وواردة في حياة صاحبه وأستاذه، ولولا ذلك اندثرت معالم سير العظماء، وضاعت التفاصيل الدقيقة التي تدل أبلغ الدلالة على عبقرياتهم، والواقع أن هذه التفاصيل اليومية لأساليب العيش قد تكون رائقة فاتنة في أصالتها أو شذوذها.
ولقد يكون من الطريف أن يتناول أكثر من واحد حياة العبقري، فيصورونه من زوايا مختلفة، وهذا بالضبط ما حدث لسقراط؛ فقد تناوله «أفلاطون» تناولا أدبيا وفلسفيا، وقد تناوله «أرستوفان» في كوميدية السحب تناولا يدور حول شخصيته التعليمية، وتناوله «زينوفون» في مذكراته تناول المحامي الذي يدافع عن موكله، أما «أفلاطون» فقد جعل من محاوراته التي تدور حول «سقراط» جدلا مثاليا، يرفع سقراط إلى الذروة من الحكمة والتفكير، حتى اتهم «أفلاطون» بأنه يلبس قناع «سقراط»، وأن هذه الروائع التي تتسلسل في المحاورات إنما هي أفكار «أفلاطون» لا أفكار «سقراط»، أما كوميدية السحب عند «أرستوفان» فقد حضرها «سقراط» بنفسه، وكان قد قارب سن الخمسين، فلم يضايقه أن يتندر به «أرستوفان» وتعمد أن يقف في مقصورته ليلة التمثيل، ليرى الناس حقيقة ذلك الذي تندر به «أرستوفان» على المسرح، ولقد ظل صديقا لأرستوفان وكانا يشاهدان معا في ألفة ووئام.
على أن هذه المسرحية كان لها أثر بالغ في أيام «سقراط» الأخيرة، فقد رسب في الأذهان عامة وفي عقول المحكمين خاصة فكرة خاطئة مشوهة عن «سقراط» وتعاليمه أساسها هذه المسرحية التي لم يقصد بها «أرستوفان» غير التندر والفكاهة.
أما «زينوفون» فقد كانت رسالته التي يدافع بها عن سقراط دفاعا يجرده به من كل عبقرية وأصالة ويضعه في مصاف الرجال العاديين الطيبين الذين يعيشون ويموتون وهم لم يأتوا، ولم يحاولوا أن يجيئوا بجديد. فيتعين إذن على الباحث أن يقرأ كل هذا معا: محاورات «أفلاطون»، ومذكرات «زينوفون»، ومسرحية السحب لأرستوفان؛ وذلك لأن «أفلاطون» وصاحبه لم يعاشرا سقراط إلا في المرحلة الأخيرة من حياته، بينما كانت معرفة «أرستوفان» به معرفة تتناول شطرا من حياته لم يره الأولان وإنما سمعا به.
Bilinmeyen sayfa