الإهداء
رسالة الحياة
رسالة الأدب
رسالة الفلسفة
رسالة الحضارة
رسالة علم النفس أو الشخصية وتكوينها
رسالة العقل
رسالة الشباب
رسالة النقد
رسالة السياسة
رسالة القصة
رسالة الأدب الأوروبي الحديث
رسالة الأخلاق
رسالة الأدب الروسي
رسالة الفن الحديث
رسالة الآباء
رسالة السعادة
خاتمة
الإهداء
رسالة الحياة
رسالة الأدب
رسالة الفلسفة
رسالة الحضارة
رسالة علم النفس أو الشخصية وتكوينها
رسالة العقل
رسالة الشباب
رسالة النقد
رسالة السياسة
رسالة القصة
رسالة الأدب الأوروبي الحديث
رسالة الأخلاق
رسالة الأدب الروسي
رسالة الفن الحديث
رسالة الآباء
رسالة السعادة
خاتمة
رسالة الحياة
رسالة الحياة
تأليف
إبراهيم ناجي
الإهداء
إلى الصديق الحبيب ع. م
أيها الصديق الكريم، كيف أؤدي لك بعض فضلك علي؟ أتذكر كيف كتبت هذه الرسائل؟ كتبت بوحيك، وتمت في ظلال صحبتك، فمنك إليك مرجع هذه الكلمات.
أيها الصديق، لقد رضيت أن يتوج حرفان من اسمك كتابي هذا، وحسبي شرفا، وحسبي مدى العمر سعادة وهناء.
إبراهيم ناجي
رسالة الحياة
هل نتحدث عن الحياة ورسالتها أم عن الحياة ورسالة أبنائها؟
إن كان الأول فنحن أمام حديث بيولوجي هام.
نحن أمام الوجود وأسراره، أمام ميلاده ونهايته.
أمام السؤال المحير؛ كيف جاءت الحياة ولم؟
وأمام سؤال محير آخر: هل الحياة جاءت صدفة أم هي من عمل عاقل مبصر مدبر؟
وسؤال آخر: هل الحياة على هذه الأرض حياة خاصة بأهل هذه الأرض أم هي جزء من نظام عام، وبعض من كل؟
نتحدث عن القسم الأول من موضوعنا؛ أي الحياة وطبيعتها ومنشئها، فلا شك أننا إذا فهمنا شيئا ولو قليلا من ذلك اللغز الكبير الخفي، أمكننا أن نجيب في شيء من اليقين عن رسالة أبنائها.
إذا أقررنا نظرية داروين من حيث آليتها وميكانيكيتها اعتقدنا أن الحياة «ترس» ساعة أدارتها يد، ثم تركتها بشأنها دائرة أبدا، وتتلخص هذه النظرية في أن الحياة أسباب ومسببات وضرورات.
ولكن برجسون الفيلسوف الفرنسي الشهير، تتلمذ أولا على داروين، ثم ثار على عرشه وزعزعه. وكانت ثورته بالأخص على هذه الآلية التي بنيت عليها الحياة، وأخذ يدلل في قوة ومنطق وبيان قويم على أن وراء الحياة «وثبة» تدفعها لهدف بعينه وهو الكمال، فمن هنا يلتقي هدف داروين وهدف برجسون، ألا وهو «الكمال»؛ فالحياة تنتخب الأصلح وتدفع الأنسب إلى الأمام، وتطوي الضعيف وتهدم المتخاذل المزعزع، ولكن كلمة «انتخاب» إذا تدبرناها، عرفنا أن هذا لا يمكن أن يحدث جزافا، وإلا فأي قوة آلية يمكنها أن تميز بين الأصلح وغير الأصلح، وبين الأحسن والأسوأ، وبين الأقوى والأضعف؟
فهذه القوة العاقلة المنتخبة، إذن تعنى بالحياة لأنها تسير بها من حسن لأحسن، وتتخطى بها عقبة بعد عقبة، وتساعدها على النمو باطراد.
فهي إذن قد كفلت لها أسباب البقاء، وإلا فما معنى المحافظة على شيء زائل؟
فالمسألة ليست إذن مجرد خلق، ولا مجرد شعلة لمعت اعتباطا! وإلا انهار «المخلوق» ابن الصدفة وخبت الشعلة وليدة الأقدار! ولكن الذهن المدبر الذي خلق هذه الحياة، تفنن في الطرق التي تكفل استمرار الحياة، والتي تضمن لها البقاء.
فرسالة الحياة إذن استمرار الحياة.
وقد ضمن للحياة أن تستمر شيئان: (1)
قطبها ومحورها، وهو الجنس. (2)
ضدها ومفنيها، وهو الموت.
أما أن يكون الجنس محورها وعمادها وضامن استمرارها، فليس بعجيب، فقد تفننت الطبيعة في ذلك تفننا ما عليه من زيد، والمطلع على كتب علم الحياة يرى كيف تتهافت المخلوقات البدائية على التناسل تهافتا جنونيا، ونحن اليوم وإن تغيرت صور الحياة وأوضاعها، لا نزال نؤمن أن الحياة تقوم على نوعين من الحاجة، الحاجة إلى الطعام، والحاجة إلى الجنس.
أما تحصين الحياة بضدها، وهو الموت، فهذا هو المعجزة التي ما بعدها معجزة، للتدليل على أن هذا الخلق وليد قوة خارقة؛ فإن الموت يمنع الحياة من التكاثر المطلق الذي يؤدي إلى إفنائها بتطاحن أبنائها وتقاتلهم على الحطام، وبذلك يصونها.
والثاني أن تحديد دورة الحياة بحتمية الموت، هو السبب في الاختراعات بأنواعها، وفي الإتيان بأروع الأعمال في تلك الحقبة الصغيرة من عمر الزمن، وفي الجري وراء الرزق، وفي طلب النسل؛ أي في كل ما هو قيم ونافع وجميل، يمكننا من هذا أن نستشف رسالة أبناء الحياة، فالحياة تسعى إلى البقاء، وتهدف للكمال، فرسالة أبنائها أن يتعاونوا على البقاء والكمال.
وحين أقول: «أن يتعاونوا» أعني كلمة التعاون بأوسع معانيها، رسالة الحياة الكبرى هي في هذا التعاضد والتكاتف لبلوغ الغاية.
إن المجهود الفردي مهما عظم لا يقيم إلا حجرا واحدا في البناء الضخم، ولكن أبناء الحياة متكاتفين يمكن أن يبنوا كل يوم هرما خالدا.
إن العمل من جانب واحد يخل الميزان، ويهوي بكفة منه على حساب الأخرى، فاستقرار هذا «الميزان» هو الغاية التي يجب أن ننشدها حيثما التفتنا.
فإذا نظرنا إلى علاقة الفرد بباقي الأفراد علمنا قيمة هذا التوازن في العلاقات الآدمية.
وإذا نظرنا لداخل النفس وجدنا أن سكينة النفس وصلاحيتها تتوقفان على توازن القوى الداخلية، وفي المجموع، يتضح لنا أهمية التوازن الاقتصادي، فهذا هو أساس الرخاء وأصل الأمن، ومنشأ الحضارات الزاهية، ولا سبيل إليه إلا بتكاتف الأفراد معا على استقرار الميزان.
تلك رسالة الحياة.
رسالة الأدب
إذا رجعنا إلى اللغات القديمة، وجدنا أن كلمة أدب مشتقة من أدب المحرفة إلى آدم أي الإنسان، فتكون رسالة الأدب رسالة الإنسان، وهذا معنى في منتهى الطرافة، فإنه يحدد في الحال رسالة الأدب حين يجعلها مسألة إنسانية محضة.
فإذا رجعنا إلى هذه الكلمة في الإسلام وجدناها ترد بمعنيين؛ الأول: بمعنى التهذيب: «أدبني ربي فأحسن تهذيبي.» والثاني: بمعنى الدعوة: «هذا القرآن مأدبة الناس في الأرض.» والأصح أن هذه الدعوة، دعوة الناس إلى التلاقي، إما على مأدبة الطعام، وإما إلى غرض خلقي نبيل، وهذا ما يدعو إليه الحديث الآخر بلا جدال. أي إن القرآن يجمع الناس على مأدبة الخلق والحق.
على أن هذه الدعوة امتد ظلها ففقدت التركيز والتحديد، فصارت دعوة إلى المعارف عامة، بصفتها وسيلة من وسائل التهذيب، حتى صارت المعلومات الطبية أدبا، والمعلومات الفقهية أدبا
Literature ، ولكن العرب قد سبقوا غيرهم في هذا؛ سارعوا فحددوا موقفهم من كلمة الأدب، فقسموه إلى أدب النفس «التهذيب» وأدب الدرس «المعرفة»، فإذا تركنا أدب النفس جانبا، والتفتنا إلى أدب الدرس الذي أخذ بتطور العلوم والمعارف والثقافات يطغى على النصف الأول لمعنى كلمة الأدب حتى كاد أن يمحوها من الأذهان، وجدنا سؤالا واحدا يصاحب هذا الظل الممتد، وهو هذا؛ هل النثر والشعر والتاريخ جميعا تستحق أن تسمى أدبا؟ بالطبع كلا. يجب أن يقتصر الأدب على لون خاص، ذلك هو المأثور منه، بعبارة أخرى: الذي له طابع البقاء
permanence
وماذا نسمي ذلك الأدب الخالد؟ نسميه الأدب الرفيع، ويمكن أن ينضم تحت لواء ذلك الأدب الرفيع الآثار الباقية من الموسيقى والغناء والعمارة، ما دامت هذه كلها من أصول واحدة، لا تختلف عن الأدب البياني إلا في كيفية التعبير، وهذا «الأدب الرفيع» هو هو بعينه ما أسماه أهل الغرب «الفن»، وهي كلمة حديثة جدا في اللغة العربية، وهي في القاموس تعني الأسلوب أو الطريقة أو الإتقان أو التنويع، والفنان هو حمار الوحش لأنه يجيد فنون العدو، والمفن هو البارع الكثير الحيل.
وهنا يتناول أهل الغرب مسألة الأدب من حيث كونها «فنا» فيقولون: إن رسالة الأدب كرسالة الفن «البحث عن الجمال».
فالأدب على ذلك هو الفرع من الفن الذي يصل بنا عبر قنطرة الكلمة إلى حيث نرى ونؤمن بالجمال، ومن هنا يحسن أن نعرف الأدب تعريفا قويا ذا شعبتين:
فهو من ناحية صلة بين الواقع والخيال، ويمكن للاثنين أن يلتقيا في المعنى إذا اعتبرنا الطبيعة في نفسها حقيقة جافة تحتاج إلى مترجم وشارح ومتخيل هو الإنسان.
ولكن؛ هل كل إنسان يستطيع أن يكون صلة بين الطرفين؟ أين هو الذي يحسن الوساطة ويجيد النقل والترجمة والشرح والتفسير والإخراج؟ وأين هو الذي يجيد التوصيل، مضافا إليه شعوره الذاتي، وانفعاله أمام التجربة، وإحساسه بالجمال المنطوي كما هو بعصبه ولحمه ودمه؟ يا عجبا! وهل هذه الطبيعة محتاجة إلى شرح؟ الجبل، السماء، الصحراء! أجل! إن الأديب هو الذي يخلع على هذه وتلك الحركة والحيوية ويلبسها رداء الخيال، ويغمرها بالعاطفة، فلو كان الكلام جميلا بذاته ما كنا في حاجة إلى الغناء، ولو كان المشي جميلا بذاته ما كنا في حاجة إلى الرقص، ولو كانت الطبيعة جميلة بذاتها لاكتفينا بنقلها بالفوتوغرافيا!
ولو كان في تساقط المطر لحون كاملة، ولو كان في همس النسيم نغم تام، لما احتجنا إلى الموسيقى! أكرر فأقول: إن الفنان يشيع في هذه العناصر الطبيعية العاطفة والخيال والحركة والحيوية ويغمرها بالألوان، أو يسبغ عليها عطورا خاصة، وكل الفنون مشتركة الأصول في هذا؛ فنحن نقول: بيت الشعر، وألوان الموسيقى، وموسيقى الألوان، ثم نحن في نفس الوقت نجمع الشعر إلى الموسيقى إلى الرقص لنجمع العاطفة إلى الفكرة إلى الحركة إلى الخيال إلى الحياة.
أما العاطفة فهي الوقود الذي يغمر العمل بالضوء، فهي الإشراق المنبعث من الفن، أما الفكرة فهي عمل العقل أو الصنعة، وأما الحركة والخيال فهما صفتان من صفات الحياة، ومنها يمكن أن يعرف الأدب بأنه: «التصوير الخيالي لحقائق الحياة»، «أو المحاكاة الخيالية لحقائق الحياة».
ولما كان من آيات الحياة التكرار والعودة؛ فإن القلب يكرر نبضاته، والقدم تكرر خطوها، والمواسم تتعاقب، والطيور تهجر ثم تعود، فإننا نجد في طبيعة الفن - مهما اختلفت أنواعه - الخطوات المعادة، والنماذج المتكررة، واللحن المتجدد، والخطوط المتساوقة، هذا «الإيقاع»
rythm
هو المخدر الأول الذي نامت عليه أعصابنا ونحن في المهد إذ تغنينا أمهاتنا.
وهو هو بنفسه الذي يأسرنا ونحن كبار، فيخدر حواسنا فنستسلم للشاعر أو الموسيقي أو الرسام لنتركه يتصرف بنا كما يشاء بعد هذا المخدر الطبيعي الأصيل.
ومن هنا ندرك لماذا قد نتأثر بالشعر حين يلقى، في غير لغتنا، وبالموسيقى ونحن لا نلم بأصولها!
الوظيفة الأولى للأدب أن يكون مصورا حقيقيا خياليا؛ أي بعبارة أن يعبر عن الواقع، بالمجنح الطائر بواسطة العاطفة والفكر.
أما الوظيفة الثانية فهي أن يمد الأديب يده إلى دولاب الحياة الدائر، فيوقفه، بخيالاته وتأملاته إذا شئت، ليقتطع منه منظرا أو فكرة أو حادثة، يستخلصها ليختزنها في عقله الباطن ليخرجها يوما ما إلى العالم مضيفا بذلك للكواكب كوكبا جديدا إلى سماء الخلود
au ciel de fixes . ولكن من هذا الأديب الذي يستطيع أن يمد يده إلى الزمن الدائر فيقتطع من عجلته شيئا ثابتا خالدا؟ ثم من هو ذلك الذي يستطيع أن يميز في الفلك الدائر السريع ما هو جدير بالاستبقاء؟
الصفة الأولى في ذلك الأديب هو ما نسميه تجاوزا شدة الحساسية، ويسميه علماء النفس التماس الواعي مع الحياة والأحياء، والتماس الواعي معناه أن مهمازا يشك قلبه ويفتح عينه ويلهب حسه ويوقظ روحه، فإذا كانت الحياة هي «الوادي الذي تنضج فيه الأرواح» على رأي «كيتس» فإنها إنما تنضج عن طريق الألم وعن طريق الدموع، عن طريق الشوك، عن طريق التماس الواعي الذي أشرت إليه. على أن الأديب الذي أشير إليه يمتاز بالبصر، بل بالبصيرة، ويسمى بالفرنسية
un visionaire
أي صاحب رؤيا، وهي كلمة ملائمة جدا، ومعناها أنه رجل يبصر وراء الأشياء حقائقها البعيدة، أو يراها مكبرة، أو يراها مغمورة بأضواء خاصة، أو بعبارة أخرى: ذات رموز ومعان وإيماءات وأخيلة تهيب به وتدعوه، هذه الدعوة هي التي أشرت إليها في أول الحديث، والتي هي العنصر الأول في الأدب لفظا ومعنى.
أما استجابة الأديب على هذه الدعوى فكيف تكون، تكون بصرخة ذات لون من ثلاثة: دهشة أو دمعة أو ضحكة.
فنحن نرى إذن أن هناك بصيرة، فتماس واع، فنداء، فصرخة، فاستجابة. وهذه الاستجابة هي ما نسميه «اللفتة الذهبية» وهي كلمة ملائمة جدا، ولو حللناها لوجدناها تعني أن العاطفة تلجأ إلى الفكر مستعينة به على كيفية الاستجابة. كيفية الاستجابة أو بعبارة أخرى: «عملية الأدب» مسألة جديرة بالنظر؛ لأنها نهاية المرحلة وثمرة المجهود، ومما هو واضح أن هاته الرواية من بصيرة إلى صرخة إلى التفاتة ذهنية، والتي يمكن أن نطلق عليها اللحظة الانفعالية، هي في الواقع مشروع رواية تتطلب الإخراج والظهور على المسرح، رواية غايتها الوضوح، لتجد سبيلا إلى الإقناع والمشاركة والتمتع بالتلاقي مع الآخرين في صعيد وجداني واحد.
فمن ثم يتضح لنا أن عملية الأدب هي: «التأثر بتجربة ما، تأثرا خاصا والامتلاء بها امتلاءا عنيفا، يلح إلحاحا باطنيا في إبراز هذه التجربة مغمورة بالضوء الذي أبصرته فيه، جالسة على عرش من الشعور الذي اكتشفها، متكلمة بلغة خاصة تحمل تفسيرا خاصا، وشرحا خاصا وسبيلا للإقناع خاصا يجعل المشارك في التجربة يرى ويفهم ويؤمن بالجمال الكامن خلف كل شيء في الوجود من الصغير إلى الكبير.»
فالأدب إذن ومضة من ومضات البصيرة تدعو إلى التعبير، ورسالته السمو بالنفس عن طريق الجمال.
فجوهر الأدب إذن في التعبير، فكيف تعبر تعبيرا تكون آيته تأدية رسالة الجمال؟
يمكن أن نلخص السلسلة وحلقاتها كالآتي؛ تجربة - بصر - بصيرة - صرخة - استجابة - اختزان في العقل الباطن - ترجمة - تفسير - ترتيب - إخراج - توصيل، ويمكن اختصارها في تجربة - تعبير - توصيل.
فلننظر الآن في التجربة الأدبية؛ التجربة إما أن تكون حادثة أو فكرة أو منظرا، ولكنها على كل حال، تجربة غنية بالأضواء والصور والرموز، تجربة متعددة الأجزاء، كل جزء له قيمته من حيث إنه وحدة في كل متناسق، وزيادة على ذلك فعاطفته التي تثير التجربة عاطفة من لون خاص، فالعاطفة تتميز بالصدق الذي هو اقتناع قلبي مرتفع على قاعدة من الحماسة القوية، فليست العاطفة الصادقة إذن انفعالا متصنعا ولا نواحا ولا ندبا ولا عويلا، بل هي نوع من الانفعال المكظوم، نوع من الألم الجبار الذي أمكن للنفس القوية مهادنته وحبسه في جو من الهدوء، ومن ثم تكون نوعا لا يستثير الألم والعذاب، وإنما تكون ضربا من العزاء والشقاء، ولقد قال «كينس» معاتبا نفسه وموضحا معنى العاطفة العبقرية: من أنت؟ أنت حالم تعيش في حمى، إنك تثير آلام الناس وسخطهم، ولكنك ليس لديك البلسم الذي تلقيه فوق متاعبهم وآلامهم. ما أضيعك!
هذه العاطفة العميقة هي بمثابة اللهب الذي يضفي على التجربة الظلال والأضواء والأصباغ، وهو الذي يخلع على التجربة النبض والحياة، وقد تقول بالأصح: إن العاطفة العميقة تثير الخيال الذي هو في الواقع اليد الساحرة التي تقوم بكل هذا.
أما الشرح السيكولوجي لهذا، فهو أدق وأكثر توضيحا، وخلاصته أنا نعيش في ثلاثة عوالم؛ العالم الخارجي، والعالم الشعوري، والعالم اللاشعوري؛ أي عالم الحقيقة وعالم العاطفة وعالم الخيال، وهذه العوالم في دنيانا العملية تكاد تكون منفصلة تماما، أو على الأقل بينها اتصال غير كامل، أما العالم الخارجي فمنه المادة التي تعطينا التجربة، ففي لحظة الانفعال تنزاح الفواصل بين عالم المادة، وعالم العاطفة؛ أي يزول ما بين الوعي وغير الوعي، ففي هذه اللحظة المتاحة تستوعب التجربة صورة موحدة، وأنموذجا كاملا، ولا تلتقط مهلهلة الأجزاء مبعثرة الأشلاء، ولا مبتورة التفاصيل، فإذا انزاحت الفواصل بين الشعور واللاشعور، فإن اللحظة الانفعالية تصير حالة انفعالية ممتدة الزمن، وزيادة على ذلك فإن الانفعال يستوعب التجربة كخليط معقد الجوانب، وهذا ما يجعله مثيرا أو مشتعلا، ويجعل الأديب متوثبا لاستيعاب الانفعال والسيطرة عليه، فهنا يختلط الواعي بالباطن، فيطفو الأخير بأحلامه وضبابه وخيالاته في الشعور، وفي هاته اللحظة نحس بالحاجة إلى التعبير، ولكن الشعور تحليلي في نزعته، بعكس اللاشعور فهو تركيبي، فعلى ذلك يحيل الأول التجربة إلى الثاني الذي يعيد تركيبها، على أن الثاني إذ يعيدها، إنما يعيدها ومعها فروق وتدرجات وألوان وأصباغ وأضواء وظلال كالآفاق التي تبدو في الحلم سواء بسواء، وذلك لأن الباطن طبقات وإمكانيات، وهو يعطى بالتدريج ويغري باقتحامات جديدة، فالتجسد الأول للتجربة - أي التجسد الشعوري - تضخم متعب قد يؤدي إلى الانتحار أو الجنون.
أما التجسد الثاني فهو مخفف تدريجي يطفو في وسط الألوان والأضواء، وفيه شعور كذلك بالتحرر من قيود العرف، ولذلك يكون عمله في الأغلب في هدوء الليل وبعيدا عن الناس. على أن هذا التحرر - أو بالأصح اختلاط الواعي بالباطن واتفاقهما على كيفية التعبير - يصاحبه امتزاج المدركات الحسية جميعها، من حس إلى فكرة إلى عاطفة، ففي عالم الأدب يمتزج البصر بالوجدان بالفكرة، فنقول: عينان فرحتان، امتزاج حس ووجدان! والنحت حسي لمسي فقط، والموسيقى سمعي عاطفي، ولا يستثار الإحساس بالجمال إلا بالتئام الوجدان مع المدركات الأخرى.
يتضح من هذا أن العمل الفني مدين في جزء كبير منه للوعي والشعور، ولذلك يتبين أن العبقرية والقول بالسليقة وحدها لإنتاج العمل العبقري، قول على غير أساس.
ويتضح من هذا التحرر السيكولوجي أن المسألة محاولة إزالة فواصل، فمن الباطن الواعي إلى الخارج وبالعكس، معنى ذلك أنها عملية «إفضاء»؛ أي توصيل، وبعبارة أخرى: الخروج عما هو شخصي إلى ما هو إنساني وهذا هو غرض الأديب ورسالته ، ولكن ما دام اللفظ هو الوسيلة لهذا الإفضاء فما مركزه في هذه الحلقة «اللفظ» عليه أن يؤدي الصورة مستعينا بالخيال والرمز والموسيقى.
أما الموسيقى فقد سبق أن قلنا: إنها العصا السحرية، والوسيلة للإقناع القلبي الذي تحدثت عنه.
وليس أبدع من لغتنا العربية في التحدث عن اللفظ الفني: فيقال مثلا: إن المجاز «هو تجاوز اللفظ إلى ما لم يقصد به القاموس.»
ثم تقول كتب البلاغة: إن الكناية لون من ألوان التشبيه المركز، منه التلويح والإيماء والرمز، حسب ظهور العلاقة أو النسبة أو اختفائهما.
أي إن العرب أوصوا - للوصول إلى قمة البلاغة - باستعمال روح اللفظ لا ذات اللفظ، فسبقوا المدارس جميعها، من رمزية وغير رمزية مما سمعنا عنه في كتب الغرب. هنا أقف لأتحدث عن «روح اللفظ»: إن اللفظ المباشر قد يكون جميلا فاتنا، رائع الجرس متسق الرنين، كما نرى هذا على أحسنه عند «البحتري» في أدبنا وفي «سوبنبرن» عند الإنجليز، فتكون الموسيقى رائعة وآسرة، ولكني أحذركم من هذه الموسيقى التي تعتمد على اللفظة المباشرة، فإنها خداعة، تستولي علينا كأننا عدنا أطفالا في المهد.
أما استعمال «روح اللفظ» أو استعمال اللفظ بموجباته وظلاله وتأثيراته، فهذا هو الذي يحدث ما يسمى الموسيقى الباطنية، هذه الموسيقى - هذا الهمس الداخلي - هذا الإيحاء البليغ، هو سر الرمزية وقوتها وثباتها، والأمل في أن تصير المدرسة الوحيدة الباقية في المستقبل.
إني أتحدث عن الأدب عامة بقسميه من نثر ونظم، ولكني أقول: إن هذه الصفات التي شرحتها تنطبق بالأكثر على الشعر: الذي هو أعظم الكلام في أعظم مواضعه.
أما النثر فقد يبلغ مبلغا كبيرا من الإجادة، ولكنه سيظل دائما معتمدا على المنطق، والقياس، والوضوح والهدوء، والاتزان، وسيخلو من مميزات الشعر كالعاطفة المحضة، والغموض الجميل، والحماسة المركزة، والإيقاع المرقص، واللفظ المجنح الموحي.
رسالة الفلسفة
ساعة مع سقراط
لم يعن سقراط بتدوين آثاره الفكرية بين دفتي كتاب؛ لأن عصره لم يكن عصر كتب بل عصر مسرحيات؛ ولأن انشغال العباقرة بالقيام برسالتهم قد يصرفهم عن تدوين ما في سجل حياتهم من أعمال ، ولأن للعباقرة شخصيات قد تفوق كل ما يكتب عنها، بل إن القلم ليخجل عندما يجد نفسه عاجزا عن وصفها قاصرا عن الإحاطة بذلك الشيء المجهول الذي يكون الشخصية العبقرية، ولكننا لحسن الحظ نجد في كل زمان من المؤمنين بهذه العبقريات من يلذ لهم أن يعيشوا في ظلالها ليسجلوا كل كبيرة وصغيرة فيها، ولقد ذكر المؤرخون شبها كبيرا بين «سقراط» الأثيني و«جونسون» الإنجليزي، فقد وجد «سقراط» في تلميذه «أفلاطون» شارحا أمينا ومريدا ذكيا، كما وجد «جونسون» في صديقه «بوزويل» ظلا مخلصا حريصا كل الحرص على تدوين كل شاردة وواردة في حياة صاحبه وأستاذه، ولولا ذلك اندثرت معالم سير العظماء، وضاعت التفاصيل الدقيقة التي تدل أبلغ الدلالة على عبقرياتهم، والواقع أن هذه التفاصيل اليومية لأساليب العيش قد تكون رائقة فاتنة في أصالتها أو شذوذها.
ولقد يكون من الطريف أن يتناول أكثر من واحد حياة العبقري، فيصورونه من زوايا مختلفة، وهذا بالضبط ما حدث لسقراط؛ فقد تناوله «أفلاطون» تناولا أدبيا وفلسفيا، وقد تناوله «أرستوفان» في كوميدية السحب تناولا يدور حول شخصيته التعليمية، وتناوله «زينوفون» في مذكراته تناول المحامي الذي يدافع عن موكله، أما «أفلاطون» فقد جعل من محاوراته التي تدور حول «سقراط» جدلا مثاليا، يرفع سقراط إلى الذروة من الحكمة والتفكير، حتى اتهم «أفلاطون» بأنه يلبس قناع «سقراط»، وأن هذه الروائع التي تتسلسل في المحاورات إنما هي أفكار «أفلاطون» لا أفكار «سقراط»، أما كوميدية السحب عند «أرستوفان» فقد حضرها «سقراط» بنفسه، وكان قد قارب سن الخمسين، فلم يضايقه أن يتندر به «أرستوفان» وتعمد أن يقف في مقصورته ليلة التمثيل، ليرى الناس حقيقة ذلك الذي تندر به «أرستوفان» على المسرح، ولقد ظل صديقا لأرستوفان وكانا يشاهدان معا في ألفة ووئام.
على أن هذه المسرحية كان لها أثر بالغ في أيام «سقراط» الأخيرة، فقد رسب في الأذهان عامة وفي عقول المحكمين خاصة فكرة خاطئة مشوهة عن «سقراط» وتعاليمه أساسها هذه المسرحية التي لم يقصد بها «أرستوفان» غير التندر والفكاهة.
أما «زينوفون» فقد كانت رسالته التي يدافع بها عن سقراط دفاعا يجرده به من كل عبقرية وأصالة ويضعه في مصاف الرجال العاديين الطيبين الذين يعيشون ويموتون وهم لم يأتوا، ولم يحاولوا أن يجيئوا بجديد. فيتعين إذن على الباحث أن يقرأ كل هذا معا: محاورات «أفلاطون»، ومذكرات «زينوفون»، ومسرحية السحب لأرستوفان؛ وذلك لأن «أفلاطون» وصاحبه لم يعاشرا سقراط إلا في المرحلة الأخيرة من حياته، بينما كانت معرفة «أرستوفان» به معرفة تتناول شطرا من حياته لم يره الأولان وإنما سمعا به.
على أننا لا نشك في أن محاورات «أفلاطون» هي أهم مراجعنا عن «سقراط»، واتهام «أفلاطون» بأنه هو كاتبها إذ تخيلها غير قائم على حقيقته، فإن الأجزاء الأولى من المحاورات يتوسطها سقراط، والتي تليها لا نراه - أي سقراط - وإنما نسمع عنه، وفي الأخيرة لا نسمع أفلاطون يتكلم، فأفلاطون إذن لم يكن في حاجة إلى التخفي وراء قناع غيره.
نحن لا نعرف بالضبط متى ولد سقراط، ولكننا نعرف تاريخ المحاكمة الشهيرة، ونعرف من ذلك أن سقراط كان إذ ذاك في السبعين من عمره تقريبا. فنستطيع أن نستنتج أنه ولد في أثينا سنة 469 قبل الميلاد، ويمكن تقسيم حياته إلى مراحل ثلاث: من ميلاده حتى الحرب بين أثينا واسبارطة، وفترة الحرب، ثم أخيرا بعد هذه الحرب حتى محاكمته ووفاته. ويمكن أن نسمي المرحلة الأولى مرحلة التعلم، والثانية مرحلة الوحي، والثالثة مرحلة الرسالة، ولما كانت حياة العظيم وثيقة الصلة بما جرى في وطنه، فإن المرحلة الأخيرة أهم المراحل في رأينا؛ لأن «سقراط» اشترك أثناءها اشتراكا فعليا في شئون الشعب اليوناني وحكومته وسياسته، وهذه هي المرحلة التي لازمه فيها «أفلاطون»، وعنها وعنه كتب بيقين ووضوح وإيمان، في هاته المرحلة اختلط سقراط بالشعب وانتقد الحكومة حينا، وانتصر لها حينا، وخالفها حينا، وتعرض لسخطها أخيرا، ثم في الحرب هو جندي من جنودها، وهو في السلم أول المدافعين عن قوانينها، ولو كان فيها ما يمسه هو بسوء. ولقد عاش «سقراط» في عهد «بركليز» العظيم حين كانت أثينا ملتقى الثقافات، وحين كانت ملتقى المعارك العلمية والفلسفية بين الشرق والغرب، وحين كانت الحكومة ديمقراطية تمثل الشعب تمثيلا صادقا، وحين دارت الأيام بعد موت «بركليز» وانتهى الصراع بين اسبارطة وأثينا بانهيار أثينا، ثم أخيرا شهد «سقراط» عودة الديمقراطية لتحاكمه وتحكم عليه بالموت! في كل عهد من هذه العهود كان لسقراط أثر، ومما لا يقبل الجدل أنه كان وثيق الصلة بالدوائر المختلفة ومعروفا من جميع الطبقات، ولا جدال أنه أصاب شهرة واسعة من سن باكر إذ ليس من المعقول أن يجعله مؤلف مشهور مثل «أرستوفان» محورا لمسرحية من مسرحياته إذا لم يكن معروفا لأهل أثينا جميعا. ولقد دافع عن نفسه بأن ذكر أسماء شيوخ من شيوخ أثينا - عظماء وأثرياء - بينهم وبينه صلة وثيقة ومودة متينة، منهم «كريتياس» عم «أفلاطون»، و«كريتو» الثري المشهور. على أن أهم صلاته بالشباب، التي أثرت في محاكمته فيما بعد هي صلته التاريخية ب «السبياديس». كان هذا الشاب من أجمل وأنبل وأشجع شباب أثينا، ولا شك أن قراء التاريخ يذكرون كيف اتهم «السبياديس» بالكفر والتندر بالديانة اليونانية، وكيف قدم للمحاكمة فهرب إلى اسبارطة وانضم إلى جيوشها، وكان السبب في هزيمة أثينا، ودارت الأيام فرجع إلى وطنه ولكن وطنه جازاه أقسى الجزاء، فختم أيامه في النفي والتشريد. كانت الإشاعة التي تدور حول اسمي «سقراط» و«السبياديس» توحي بأن العلاقة بينهما أكثر من علاقة أستاذ بتلميذ وأن ما بينهما تطور إلى مسألة جنسية بحتة، فإذا ما سمع بهذه الإشاعة أجاب ساخرا: «حقيقة، إني أستاذ في فن الحب»! ولكن الذين يعرفون استقامته الصارمة يدركون بعده التام عن الشهوات والصغائر.
ولد سقراط من عائلة طيبة، ويستدلون على ذلك من اسم أمه وأبيه؛ فقد كانت للأسماء في تلك العهود دلالة على المنبت والأرومة، ولم يكن سقراط فقيرا ولا صعلوكا، ولكنه اختار لنفسه التقشف والحرمان؛ لأنه وجدهما سبيله الحقيقي إلى الثراء النفسي، وكان اسم سقراط مقيدا ضمن جنود الجيش، ويجري عليه كما للجنود دخل ثابت، أما في آخر أيامه فقد أدركه الفقر حقيقة، ويظهر أن ذلك من الفقر العام الذي ضرب أطنابه في أثينا، في المرحلتين، مرحلة الشباب والكهولة، وعلينا أن نتحدث عن: (1) شكله وزيه. (2) طباعه. (3) مدرسته. (4) ثقافات أثينا وموقفه منها. (5) ديانته وديانة أثينا. (6) المعجزات والعلامات الخفية التي نسبت إليه.
كان «سقراط» كبير الرأس، كبير الأنف، تترجرج مقلتاه ترجرج الزئبق، وكان في مشيته مشية البطة. أما عن طباعه فأول ما يذكر أنه كان دائب السخرية، لا من الناس فقط بل من نفسه، إذ كان يؤمن بأنه جاهل كباقي الناس، ولكن الفرق بينه وبينهم أنه يبحث عن الحقيقة ولكنهم لا يبحثون، وكان دأبه أن يعلم الناس كيف يعامل الواحد منهم غيره وكيف يعيش في الوسط الذي يحيا به، ولم تكن له مدرسة خاصة، فقد كان يسمي تلاميذه «الرفاق» ولا يتناول أجرا، وكان على زهده وتقشفه، متين البناء قوي العضلات، يجاري أصحابه أحيانا في الشراب، ولكن الخمر لم تكن لتؤثر به مطلقا، ويمكن أن نلخصه في بضع كلمات: لقد كان طاغي العاطفة، طاغي التفكير، متصوفا، ساخرا. أما عن التصوف، فقد كانت تعتريه نوبات ذهول وغيبوبة، وكانت تظهر له علامات خفية نكاد نسميها هواتف، وكانت لهذه العلامات صفات الإنذار والتحذير، أما الغيبوبة فكانت تقصر أو تطول، وقد استغرقت إحدى نوباتها أربعا وعشرين ساعة، على أن هذه العلامات كانت تبدو له على غير انتظار فيقف مصغيا إلى صوت بعيد، وقد كان معتادا أن يطيع نواهي تلك الهواتف، ولم يعصها إلا مرة واحدة كانت السبب في الكوارث التي مرت به في أواخر أيامه؛ فقد حذرته هاته الهواتف من الاندماج في السياسة، والاشتراك في أعمال الحكام فلم يصغ إليها، وكانت العاقبة وبالا.
هل كانت لسقراط «ديانة»؟ فمن الواضح أن عقلا كعقل سقراط لا يمكن أن يستسلم لأي عقيدة - دينية أو غير دينية - بدون مناقشة، فكان عليه أن يناقش كل شيء، فلم تخل ديانة أثينا من نقاشه العنيف، وقد كانت المعتقدات السائدة في أيامه ثلاثة: (1) الأورفية: وهذه مبنية على الاعتقاد بأن النفس ألوهة منفية، ومشتق من ألوهة كبرى، وأن هذه الروح أو الألوهة الصغرى منفية في أجسادنا، وعلينا أن نتعهدها بالتطهير والابتهال حتى تعود إلى الأصل مطهرة صافية، ولكن كلمة «الروح» لم ترد على لسان الأوروفيين، وإنما كان الأوروفيون يسمونها
psyche
أو النفس، ولم يكن لها صفة غير أنها ألوهة مشتقة من ألوهة أعلى، وتتسم بالإدراك والوعي بصفة عامة إدراكا واعيا مشتركا في جميع الناس على السواء. على أن سقراط - على قبوله بمبادئ هذه الديانة - لم يعتنقها كما هي، وخاصة لأنه أبصرها تضمحل وتستحيل إلى حلقات «ذكر» وابتهالات، أما الديانة الثانية السائدة في أثينا فقد كانت قائمة على الأساطير وأقوال الشعراء، ويظهر أن سقراط أبدى رأيه علنا في قيمة هذه الأساطير، ومن المهم أن نذكر أن من بين أسباب محاكمته «الكفر بهذه الديانة وبحثه عن أرباب جديدة»، فلما ووجه بهذه التهمة لم يزد على أن يسأل بدوره «ومن هم أربابكم»؟ فلم يردوا على سؤاله!
أما الديانة الثانية: فالديانة العلمية الفلسفية، وليس خافيا أن أول من بحث في طبيعة الكون ووجود الخالق وفي علاقة المخلوق بالكون وخالقه هم فلاسفة اليونان من قبل سقراط، وقد انقسموا مدرستين: شرقية على سواحل آسيا الصغرى، وغربية في جنوب إيطاليا، وقد كانت أثينا ميدان الصراع بينهما.
قرر الفلاسفة مبدئيا وبلا جدال أن للكون خالقا، فخرجت هذه النقطة من دائرة النقاش، ولكن بقي أن يبحث الفلاسفة في كنه هذا الخالق، ثم عن علاقة المخلوق به، ثم عن علاقة الكون بالاثنين؛ أما المدرسة الشرقية فكانت مدرسة موحدين، غير أنهم قالوا: إن النفس نفس أو هواء مشتق من هواء عام يعود بالموت إلى أصله، وزادوا على ذلك أن الكون أسطوانة مسطحة محمولة على الهواء. وكان في الغرب مدرستان: مدرسة «فيثاغورث» التي بنت بحثها على الرياضة، وابتدعت أهمية الأرقام، واكتشفت كروية الأرض، وأنكرت أن تطفو على هواء؛ لأنها معلقة في الفضاء، وأما المدرسة الثانية فمدرسة أخرى تقول: إن الخالق من نار وهواء وماء، وهذه مدرسة «أمبودكليس».
كل هذه المذاهب لم تقنع سقراط، وإن كانت قفزت بالعلم من الناحية الإسترولوجية إلى الناحية البيولوجية ثم إلى الناحية الرياضية، غير أن اثنين فقط هما: «بارمينيدس» و«زيتون» هاجما هذه الترهات حول صفة الخالق، إن هذا التقلب والتغير ليسا من صفات الخالق وإن الخالق يجب أن يكون «مفردا ثابتا مطلقا لا يتغير».
ساعة مع أفلاطون
قبل أن نتحدث عن «أفلاطون» نود أن نعود بالقارئ مرة أخرى إلى «سقراط» حتى يمكن لنا أن نلقي ضوءا جديدا على «أفلاطون».
يمكننا أن نقسم حياة «سقراط» إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى:
من مولده حتى قامت الحرب بين أثينا واسبارطة وجند فيها «سقراط».
والمرحلة الثانية:
فترة الحرب التي أنهكت أثينا وعصفت بقوتها وجرتها إلى الاضمحلال.
ثم المرحلة الأخيرة:
وهي مرحلة الرسالة، أو المرحلة التي اشترك فيها اشتراكا فعليا في أمور مواطنيه، وهي ولا شك أهم هذه المراحل شأنا.
المرحلة الأولى: يهمنا في هذه المرحلة أن نتكلم عن شكله وزيه، طباعه، وأخلاقه، العلامات الخفية، مدرسته، ثقافات أثينا وموقفه منها، ديانته وديانة أثينا.
أما شكله، فقد كان كبير الرأس، كبير الأنف، تترجرج مقلتاه ترجرج الزئبق، كما كان متين البناء قوي العضلات.
أما طباعه في هذا العهد، فتلخص في أنه كان يشعر بجهل الناس، وبما في نفوسهم من نقص، ولذلك كان دأبه السخرية من جهلهم، كما كان يسخر من نفسه، ولم يكن في هذا كاذبا، بل كان يؤمن بأنه هو أيضا يبحث عن الحقيقة، فهو إذن لا يفضلهم في شيء غير في أنه يبحث وهم لا يبحثون، وهذه تبين لنا أنه كان رجلا.
كان يعلم الناس كيف يعامل الفرد غيره، وكيف يعيش في الوسط الذي يحتويه، ولذلك نتساءل: هل كانت له مدرسة؟
لقد كانت له مدرسة من طراز خاص، فقد كان يسمي تلاميذه رفاقا
associates
وكان لا يتقاضى أجرا، وفي هذا تميز عن السوفسطائيين.
ولقد اتهم في محاكمته بأنه كان مفسدا للشباب، ولكنه دافع عن نفسه بأن ذكر شيوخا من شيوخ أثينا بين عظماء وأثرياء، كانت بينه وبينهم صلة وثيقة، على أن أهم صلاته بالشباب، والتي أثرت في محاكمته وأدت إلى الحكم عليه؛ هي صلته بالسبياديس وكان من أجمل شباب أثينا وألمعهم وأشجعهم، وكانت الإشاعة التي تدور حول علاقته بسقراط أكثر من أن تكون علاقة بين أستاذ وتلميذ؛ بل تخطتها إلى مسألة جنسية بحتة. وكان «سقراط» إذا ما سئل عن ذلك أجاب ساخرا على طريقته: إنني حقيقة أستاذ في فن الحب، ولكن الذين عرفوا استقامته الصارمة كانوا يوقنون ببعده التام عن الشهوات والصغائر.
ويمكننا إذن أن نلخص شخصيته إذ ذاك، بأنه كان رجلا طاغي العاطفة، طاغي التفكير، ساخرا، متقشفا، متصوفا.
وماذا نعني بالتصوف؟
نعني بالتصوف، أنه كانت تعتريه نوبات ذهول وغيبوبة، وكانت تظهر له علامات خفية نكاد نسميها «هواتف»، ولم تكن هذه الهواتف إيجابية ولا موجهة لناحية ما، وإنما كانت علامات مانعة تنهاه عن المضي في سبيل بدأ السير فيه، أما الغيبوبة، فكانت تقصر أو تطول، وقد استغرق فيها مرة أربعا وعشرين ساعة، ولكن العلامات الخفية كانت تعرض له على غير انتظار، فيقف، كأنه يصغي أو يستمع إلى صوت غامض ولكنه واضح له. وكان يلبي نواهيها، والمرة الوحيدة التي خالف فيها أمرها حدثت في أواخر أيامه، وقد كان مندفعا إلى الاندماج في السياسة، والاشتراك في أعمال الحكام، وكانت عاقبته وبالا كما سنرى.
والكلام عن التصوف؛ يدعونا إلى أن نتكلم عن ديانته؟
من الواضح أن عقلا كبيرا مثل عقل سقراط لا يمكن أن يستسلم لأي عقيدة - دينية أو غير دينية - بغير مناقشة. ولهذا فقد كان عليه بالطبع أن يناقش الديانات التي كانت شائعة في أثينا في ذلك الوقت ليتخير الأصلح منها.
ولقد كانت الديانات السائدة في أثينا في أيامه ثلاثا: الديانة الأورفية، والديانة العلمية الفلسفية، ثم الديانة القائمة على الأساطير، وهذه كانت أكثرها انتشارا، غير أنه يمكننا القول، أن هذه الديانات بمذاهبها المختلفة لم تقنع سقراط فهجرها برما بها، وشق طريقا جديدا هو «أن يعلم الناس كيف يمارسون حياتهم وكيف يعاملون غيرهم»، ووجد أن هذه أفضل ديانة «مؤقتا».
ويمكننا أن نقرر كذلك أن «سقراط» أول من اعتنق مبدأ «خلود الروح»، وأنه أول من ذكر كلمة الروح
soul ، وأنه أول من جعل لها معنى بأنها الشيء الذي يحتوي صفاتنا الذهنية والخلقية، ولذلك سميت فلسفته بحق «الفلسفة الأخلاقية».
وقبل أن ننتقل إلى المرحلتين الثانية والثالثة من حياته، يجدر بنا أن نقول: إن وقت هذه المرحلة الأولى قد يتفق مع الوقت الذي حدثت فيه معجزة دلف قبل حرب البلوبونيز بين أثينا واسبارطة، فقد اجتمع أهل اليونان في معبد دلف لتحية الأرباب وسؤالهم عما يهمهم، والاستعانة بهم في قضاء حوائجهم، وأخذت الكاهنات يجبن على هاته الأسئلة، وحدث أن وجه «سيروفون» سؤالا إلى الإله «أبولو» عمن هو أحكم الحكماء؟ فأجاب على لسان إحدى الكاهنات: «سقراط».
أما «سقراط»، فقد اعترته أزمة نفسية عنيفة؛ إذ استغرب أمر هذه المعجزة، ومضى يبحث عن دليل صدقها، فأخذ يبحث عن الحكمة بين جميع الطبقات حتى تأكد لديه صدق هذه النبوءة.
ثم حدثت له أزمة أشد إذ أخذ يسأل نفسه أسئلة ليجيب عنها: - لماذا نطقت الكاهنة بهذا الحديث؟ - عليه رسالة يجب أن يؤديها. - أي رسالة بالضبط؟ - أن يتعهد الإنسان روحه ويسهر عليها وينظفها.
إذن فهو مكلف برسالة، فاندفع يؤديها بأمانة حتى وفاته.
والمرحلة الثانية: هي - كما سبق القول - المرحلة التي قامت فيها الحرب بين أثينا واسبارطة، ولقد كان سقراط جنديا في هذه الحرب، وتاريخه العسكري رائع مشرف، ولما عاد أخذ يسأل كل شخص: ما حال الفلسفة في أثينا؟ وما حال شباب هذا البلد؟ •••
أما المرحلة الثالثة: فهي التي اشترك فيها اشتراكا فعليا في أمور مواطنيه، وهي المرحلة التي أخذ ينفذ فيها رسالته بقوة، وقد كلفه ذلك غاليا، إذ أدى به إلى المحاكمة فالموت، وكل نفس أبية لا تطرق أي باب للخلاص ما دام يتنافى مع مبادئ الرسالة التي يعتنقها.
عندما هرمت الديمقراطية، حكمت أثينا لجنة مكونة من 30 رجلا كان من بينهم صديقه الحميم «كريثياس» فاستبدت وطغت، وأخذت تصادر الأموال وتخالف القوانين، وتحاكم القواد، فثار سقراط على ذلك، وأبى أن يشترك في هذه الأعمال مع أنه كان عضوا في اللجنة التي تولت محاكمة القواد، وأبى كذلك أن يستمر في أعمال المصادرة والقتل بغير جريرة مع تكليفه بذلك؛ كل هذا زيادة على انتقاده علنا لهذه التصرفات حتى زجره صديقه كريثياس وثار في وجهه غاضبا.
ولقد كان انتقاده للديمقراطية أن هؤلاء فيهم الفضلاء، وهؤلاء منهم السادة الأكفاء، ولكن ما فائدة ذلك إن لم ينقل هؤلاء فضلهم وأهليتهم للشعب، لقد كان «بركليز» عظيما ولكن أين مثار عظمته؟ وكان «أرستبد» عادلا، ولكن أين عدوى عدله؟!
كان يصيح بهذا النقد علنا؛ فأحفظ قلوب الحكام عليه، وطلبوا تقديمه للمحاكمة أربع سنوات؛ أي بعدما عادت الديمقراطية وانتظمت دوائر المحاكمة من جديد، وكان في مقدوره أن يهرب، وأن ينفي نفسه بنفسه، ولكنه انتظر المحاكمة هادئا، وكانت أسباب المحاكمة هي: (1)
إفساد ديانة اليونانيين. (2)
إفساد أخلاق الشباب. (3)
أنه مسئول عن هرب «السبياديس» إلى صفوف الاسبارطيين مما أدى إلى هزيمة أثينا. (4)
أن كل ما جاء في مسرحية «أرستوفان» حقيقي وينطبق عليه، وأنها لم تكن مجرد سخرية، ومعنى هذا أنه كان صاحب مدرسة يتقاضى منها أجرا، وأنه اخترع دينا جديدا مبنيا على الهواء والأشباح
ghosts
وعلى تقاليع أخرى منها أنه اخترع آلة يتماوج بها فكره خوفا من التصاقه بالأرض.
لم يحاول سقراط في دفاعه أن يبرئ نفسه، وقد كان في مقدوره أن يشيد بتاريخه العسكري، ولكنه حاجهم فيما يتعلق بالدين وأحرجهم حتى لم يستطيعوا الكلام، ثم أقنعهم بأنه ليس له مدرسة ولم يتناول أجرا ما، وبعد ذلك أفاض في وصف المعجزة وآثارها وانتهى إلى شرح رسالته، وأخيرا قال: «إن الفلسفة بحث عن الحقيقة، ولكن هذا البحث أثناء الحياة يرى من خلال ثقوب، أما بعد الموت فهو يستكمله بلا ستار وحجاب»، وبعد ذلك أخذ يمتدح الموت كباب من أبواب الخلاص والمعرفة الحقيقية.
وكان المحكمون خمسمائة وحكموا عليه بالإعدام بأغلبية قليلة.
ولدواع مقدسة، تأجل التنفيذ شهرا، فأخذ يقضيه في تعليم أصدقائه وتلاميذه حتى اليوم الأخير؛ وحتى في صباح ذلك اليوم أخذ يحدثهم عن عظمة الموت، فلما حان ميعاد التنفيذ قدم له السجان الكأس وهو يبكي، فقال للسجان: لماذا تبكي؟ إنك تأخذ جسدي فقط.
وأخذ محبوه يبكون، فزجرهم، وتناول الكأس سرورا راضيا ، ثم وسد نفسه، ومات بهدوء تام. •••
إن ساعة مع «أفلاطون» العظيم، أقل من أن تطلعنا على جزء من ألف من تفكير ذلك الذهن الجبار، والواقع أني لا أشبه في هذا الزمن القصير أكثر من سائح أو دليل أو مقدم مسارد أتى أمام أفلاطون، أراني قبل موسوعة فخمة، وعظمة هذه الموسوعة قائمة في أنها أساس كل تفكير حديث، فنحن نجد بها ما ننشده من الحديث عن الفن والأدب، وما نتطلبه من البحث في نظم الحكم، وما نتخيله عن العالم الكامل، وما نريد أن نعرفه من أصول علم النفس، وما نود أن نلم به من مناهج التعليم، وفي الحق إن الإنسان ليحار في كنه ذلك الفكر الجبار الذي استوعب كل ذلك وفصله ذلك التفصيل الخارق المعجز، والمدهش أنه لم يكتب بأسلوب فلسفي غامض أو قلق، بل كتب بأسلوب شعري واضح جميل، حتى إن الإنسان ما يكاد يبدأ القراءة حتى يجد نفسه مسوقا إلى النهاية على الرغم منه، كأنه يقرأ رواية رائعة، ويكفي متعة أن نعود إلى المحاورات من وقت لآخر، وأن نخوض في «الجمهورية» كما نخوض عباب يم زاخر، يكفي هذان على الأقل ولا نتحدث عن الباقي من مؤلفاته.
على أن الذي يريد أن يقرأ «أفلاطون» عليه أن يلم بعصره، وأن يلم بحالة بلاده في ذلك العصر من حيث الحكم والاقتصاد والحرب والسياسة، وعليه كذلك أن يلم بسيرته هو من حيث إقامته وظعنه، ومن حيث أن بدأ تلميذا إلى أن انتهى معلما وفيلسوفا تام النضج.
نبدأ الآن بوصف صغير لليونان، في عهد «أفلاطون»، فقد ولد «أفلاطون» في أثينا سنة 427ق.م، واليونان في الخريطة تشبه يد هيكل عظمي تمتد في البحر الأبيض المتوسط وتشير إلى كيت، كأنما تشير إلى المنبع الذي سرت منه الحضارة إليها وإلى غيرها، إلى شرق اليونان نجد آسيا الصغرى، وهي في تاريخنا الحاضر هادئة وادعة، ولكنها في عصر «أفلاطون» كانت تموج بالفلسفة، وتزخر بمختلف ضروب النشاط الفكري والتجاري؛ وإلى الغرب نجد إيطاليا وصقلية قد كانتا تابعتين لليونان وفيهما مدارس لامعة للفكر والثقافة والعلم، وإذا اتجهنا إلى الشمال فثم مقدونيا وتساليا وأبيروس وقد كانت هذه الأبواب التي دخل منها الهمج الذين عمروا اليونان، ومن مزاجهم العنيف القوي انحدرت إلى التاريخ عقول جبارة مثل نهومير وبركليز وغيرهما.
كانت اليونان في عهد «أفلاطون» مكونة من مدن مستقلة تسمى الواحدة منها المدينة الدولة، وساعد على استقلال كل منها ما يحيط بها من المرتفعات ويفصل بينها من الخلجان ويحيط بها من التضاريس، فمذ كانت المواصلات بين المدينة والأخرى من الصعوبة بمكان، استقلت كل منها بنفسها. ومن أشهر هذه المدن اسبارطة، التي كانت تنافس أثينا كما كانت ألمانيا تنافس إنجلترا في العصر الحاضر، ولقد كانت اسبارطة قوية في البر كما كانت أثينا قوية في البحر، فكانتا تتحدان ضد العدو المهاجم، حتى إذا انصرف العدو، عادتا للتنافس الحار، ولقد كشف «برتراند رسل» في كتابه عن الفلسفة الغربية سر المصدر الذي منه استقى «أفلاطون» معلوماته عن المجتمع والحكم، فقد سرد «برتراند رسل» في كتابه المذكور تفاصيل النظم والقوانين في اسبارطة، فإذا هي هي تعليم «أفلاطون» مع تغيير قليل، غير أن أهل اسبارطة كانوا يهدفون إلى بناء أجسام قوية جميلة رشيقة، حتى إنه كان يتحتم على البطل إذا مات في الحرب أن يموت «برشاقة» أي يموت كما ينام، بلا أنين ولا دمامة ولا اضطراب، أي يمهد قبره كما يمهد فراشه! ولكن «أفلاطون» عاب على المربين أن ينصرفوا هذا الانصراف الكلي لتنشئة الأجسام، وأشار بأن يتجهوا إلى نواح أخرى سنفصلها فيما بعد.
على أنه في التنافس المذكور، كانت أثينا هي الغانمة، فإن ميناءها بيريه وأسطولها الذي كان في الحرب محاربا وفي السلم تاجرا، جلبا إلى أثينا التجار من مختلف الملل والنحل، وكان جوب البحار سببا في أن يدرس اليونانيون الفلك، كما كانت المبادلات التجارية سببا في أن يدرسوا الأرقام الرياضية، وكان الرخاء سببا في توفير الوقت الذي هو العنصر الأول في البحث والاختراع والتفكير الحر، فأخذ الإنسان يفكر في طرق طبيعية يفسر بها الحوادث الكونية، وانصرف عن تفسيرها بواسطة الخرافة والسحر، فمن ثم بدأت الفلسفة، على أن الفلسفة بدأت طبيعية؛ أي بدأت تتفهم «طبيعة الأشياء» وقد انتهى ذلك العهد بالفيلسوف «ديمقريطس» الذي كان يعتقد أن الكون «ذرات وفراغ»، وكان من مؤيديه «أبيقور» ثم «لوكريتس» في قصيدته الخالدة. غير أن مجيء السوفسطائيين بدل اتجاه ذلك التيار؛ فإن هؤلاء نقلوا التفكير من محيط الأشياء إلى محيط الإنسان، ومهما يوجه إليهم من النقد من حيث اعتمادهم على البيان المدوي واللفظ المزخرف المجلجل، فقد ظهر من بينهم رجال ذوو عمق وفهم وأصالة مثل «بروتاجوراس» و«هيبياس»، على أن السفسطائيين هم الذين ابتدعوا طريقة الحوار والجدل والتساؤل، وقد كانوا شجعانا، يقفون مدافعين عن آرائهم مهما كان وراء هذا الدفاع من المسئولية والخطر. وكانت آراؤهم السياسية تنقسم إلى فريقين، فمنهم من كان - مثل «روسو» فيما بعد - يدعو إلى الرجوع إلى الطبيعة على زعم أن الناس يتساوون دائما أمام الطبيعة، والفريق الثاني - مثل «نيتشه» فيما بعد - يدعو إلى القوة، ويقول: إن القوانين إنما أرادها الضعيف لتحد من مطامع القوي، مع أن القوة هي كل شيء.
فلما ظهر «سقراط» سار على طريقة السوفسطائيين، غير أنه أول من دعا نفسه بالفيلسوف، أي عاشق الحكمة، بخلاف كلمة سوفسطائي التي معناها «غارق في الحكمة»، وكان يقول عن نفسه: «إني على يقين من شيء واحد هو أني لا أعرف شيئا ...» ويشبه في العصر الحديث فيلسوفا كبيرا - «برناردشو» على الأرجح - في قوله: «في الأربعين اكتشفت اكتشافا هاما: اكتشفت علمي بجهلي.»
إن «سقراط» كان يدعي الجهل عمدا لكي يصل إلى الحقيقة، وقد كان صارما عنيفا في الوسيلة التي تصل به إليها، يتضح ذلك من محاورات «أفلاطون»، فقد كان يعتصر محاوره في الجذل اعتصارا حتى يجعله يثور ويجبن، على أنه لا يلبث أن يهدأ حين يقوده «سقراط» بيده إلى الطريق الذي يكشف له الحقيقة.
وقد كان «سقراط» كذلك عنيفا في آرائه السياسية، فقد كان لا يؤمن بالديمقراطية، إذ كان يعتقد أن الذكاء هو الذي يجب أن يحكم، وله رأي في الديمقراطية عجيب، هو أن الجماهير أبواق نحاسية تظل تدوي حتى يأتي من يسكتها بيده، ولا ندري أكان «سقراط» يتنبأ بما ستصنعه الديمقراطية يوما من الأيام، هل كان يدري أنه على يديها سيتناول كأس السم ذات يوم؟
على أن ديمقراطية أثينا كانت تامة بقدر ما كانت شاذة خرقاء، فقد كان عدد سكان أثينا 300000 منهم 20000 عبيد والباقي أحرار، يؤخذ صوتهم جميعا فيما يهم الدولة من الشئون.
على أن الديمقراطية أسلمت زمامها فيما بعد إلى أوليجارشية - أي جماعة من الأثرياء - يحكمون أثينا، ولكن الحرب بين أثينا واسبارطة أدت إلى نفي هؤلاء، وعلى رأسهم «كريتياس» عم «أفلاطون»، ولكنهم صدر عنهم عفو فما لبثوا أن عادوا من المنفى وأعلنوا الثورة على الديمقراطية، غير أنهم هزموا وقتل «كريتياس» وقبض على «سقراط» بتهمة أنه أفسد أخلاق الجيل، ونشر الكفر والزندقة، بينما السبب الحقيقي المستتر وراء كل هذا، هو مبدؤه السياسي، وتندره بالديمقراطية، وخلاصته كل ما سبق، وأهميته من حيث موضوعنا أن «كريتياس» عم «أفلاطون»، و«سقراط» أستاذه.
كان لقاء «أفلاطون» بسقراط شيئا هاما جدا في حياته؛ فلقد ولد أفلاطون في الثراء والمجد والنعمة والسعة، وكان رياضيا أوتي بسطة في الجسم ووسامة في الوجه، وحتى اسمه
معناه «عريض الألواح» ومن الواضح أنه ليس من السهل أن ينشأ الفلاسفة من هذا الوسط، ولكن التلميذ ما لبث أن تأثر بأستاذه، حتى لقد قال: «أحمد الله على أني ولدت إغريقيا، وولدت حرا غير عبد، ورجلا لا امرأة، وأني ولدت في عصر سقراط.»
كان «أفلاطون» في الثامنة والعشرين حين مات أستاذه، ولعل موت أستاذه بالسم، بعد المحاكمة الشهيرة ملأه حقدا على الجماهير حتى أساء الظن بهم، وفكر في طريقة جديدة لتهذيبهم، وأخذت الفكرة تتطور حتى صارت مشغلة حياته. ومما يذكر أن أفلاطون صنع ما يستطاع لكي ينقذ «سقراط» فلم يستطع، وعرض نفسه للشبهات والتهم والأقاويل، فنصحه أصدقاؤه بالهرب، فأخذ يستعد للرحيل والتجوال فرحل إلى مصر سنة 399 قبل الميلاد، ففوجئ بما رآه وشاهده بمصر مما لم يكن يتوقعه، إذ قال له الكهنة المصريون: إن اليونان مدينة طفلة لا عراقة لها في التقاليد والثقافة، ولقد راعته مصر بسبقها في العلم وإتقان الزراعة، وبقي هذا في ذهنه حتى رسم صورة للمدينة الفاضلة، ولقد رحل عن مصر كأنما صدم في غروره، فقصد صقلية فألفى هناك أتباع «فيثاغورث» الذين كأنما وجدوا أمامه ليتموا صورة المدينة الفاضلة في ذهنه، فقد ألفى نفرا من الحكماء الزاهدين الفلاسفة، قد انقطعوا للتفكير والفلسفة والحكم، ثم لبث اثني عشر عاما بعد ذلك يضرب في الآفاق من بلد إلى بلد حتى لقد ذكر بعض المؤلفين أنه وصل إلى حدود الهند، ثم عاد إلى أثينا 387ق.م وعمره إذ ذاك أربعون سنة، وقد أنضجه السفر وهذبه التجوال وثقفه، فاختلط عنده العلم بالفلسفة بالحكمة بالشعر في امتزاج عجيب، ولقد اتخذ لنفسه أسلوبا في التعليم والكتابة اجتمع فيه الجمال بالصدق، والدقة بالبيان الناصع، والواقع أن الصعوبة في فهم أفلاطون ترجع أحيانا إلى ذلك الأسلوب الشعري الذي تخلله السخرية أحيانا، فإن الإنسان حينما يقرؤه يحار أهو يجد أو يمزح! وأحيانا يجد الإنسان نفسه سابحا في جو غامض لذيذ يحمله على جناحين مسحورين يلهيانه عن التساؤل عن معنى كل ذلك.
والعجيب أن «أفلاطون» يجمع في أسلوبه المتناقضات التي عابها على الآخرين؛ فهو لا يحب الشعراء، ومع ذلك له أسلوب الشاعر، وهو لا يحب الكهنة والوعاظ، ومع ذلك فهو يعظ، ويدعو إلى الدين في أكثر من موضع، وينعي على السفسطائيين بيانهم وثرثرتهم وهو لم يخل من الثرثرة والاسترسال في البيان المجلجل في أكثر من موضع واحد.
على أنه مهما يكن من ذلك فإن «أفلاطون الفلسفة والفلسفة أفلاطون» كما قال «أمرسون».
هذه هي النواحي التي تتناولها فلسفته، ولن نتصدى لها بأكثر من إلمامة خاطفة، فإني كما قلت سابقا: لست في هذا الخضم المتلاطم أكثر من سائح أو دليل. (1)
نظرية المثل. (2)
النظرية الأخلاقية. (3)
النظرية السيكولوجية. (4)
النظرية التربوية.
نظرية المثل أو الصور
forme
نظرية رائعة حقا؛ فهي تبدأ من المنطق البسيط حتى تصل في تطبيقها إلى أكثر نواحي الحياة تعقيدا وغموضا، وقد بدأها أفلاطون بالتفكير في طبيعة الأشياء العادية المألوفة، مائدة مثلا: المائدة شيء له صفات؛ حجم، صلابة، لون، فإذا تناولنا هذه الصفات وجدناها نسبية محضة؛ أي إنها ليست لها حقائق مطلقة، إنها صفات تتوقف على العلاقة بينها وبين أشياء أخرى؛ فالحجم مثلا يتوقف على المسافة التي بين الشيء والمشاهد له، واللون يتوقف على الضوء المتساقط ولونه، والصلابة تتوقف على قبضة الضارب وكنهه، فالمائدة صلبة بالنسبة لليد البشرية ولكن ليست صلبة لمطرقة حديدية، على أن هذه الصفات لمادة ما، فإذا كانت هذه الصفات وهمية فلنجرب تجريد المادة من هذه الصفات، ماذا يبقى؟ لا شيء؛ لأنه لا يمكن تصور مادة بغير صفات. ولكن ما حكم علم الطبيعة الذي يقوم كله على «الأشياء» الواقع أننا في هذا العلم كغيره إنما نتناول نسبا وعلاقات، ولكنا لا نعرف كنه الأشياء بالذات، فإذا كان الشيء مجهول الكنه والصفة وهمية؛ أي إن الأبيض مثلا وهمي، فلننظر في صفة «البياض» لنرى هل هذه أيضا وهمية. هذه الصفة مشتركة في اللبن والقشدة وملاءة الفراش، وليس اللبن هو ملاءة الفراش، معنى ذلك أن هذه الصفة خارجة عن كنه الشيء بالذات، فهل يمكن أن يكون البياض صفة ذهنية نصطنعها لأنفسنا؟ أفلاطون يقول: إن هذا مستحيل، وإلا فإذا «فقد الإنسان وعيه فقد البياض صفته! وإذا كانت المسألة صفة ذهنية، يكون لكل ذهن بياضه الخاص، وهذا مستحيل.»
النتيجة أن البياض صفة يعرفها العقل حين يراها؛ أي إنها صفة أولية مشتركة إذا رآها العقل البشري عرفها كأنما يتذكرها؛ أي إن هناك «شكلا» أو مثلا أزليا أبيض هو الذي يعطي للأشياء صفة البياض إذا حل بها. إذن فلكل صفة ناقصة لدينا صفة كاملة هي صفتها الحقيقية التامة، فإننا لا نتخيل شيئا ساخنا مثلا إلا وجد ما هو أسخن منه. وحتى المثلث الذي نعرفه لا يكون إلا صورة ناقصة لمثلث كامل، فإن المثلث الذي نعرفه ليس مثلثا حقيقيا؛ لأن خطوطه في الواقع لها طول وعرض ثم إن هذه الخطوط ليست مستقيمة تماما. وبناءا على ذلك هذه الصور أو المثل باقية خالدة ، وما لدينا نحن غير ظلال لعالم آخر هو الباقي الدائم السرمدي الذي لا يمحى.
الآن، هل يمكن تطبيق هذه النظرية على الفن؟
ما هو الذي يجعلنا نحب الشعر ونطرب للموسيقى؟
لا شك أن الطرب والإعجاب أساسهما صورة أزلية مشتركة اسمها «الجمال»، وهنا نقف لنتساءل هل وظيفة هذه الصفة الثابتة المشتركة أن تخلع على نفسها الأشياء فحسب، بل هناك وظيفة هي أن يعرف الناس أن العالم ظلال وأشباح، وأن هناك حقيقة كبرى كاملة، وأن الناس يجب أن يؤمنوا بها ويتطلعوا إليها ويعملوا على الوصول إليها. نصل إلى نقطة هامة في طبيعة الفنان، فالفنان هو الذي يرى الجمال في صورته الأزلية الحقيقية، وعليه بعد ذلك أن يجلوه للناس أو بعبارة أخرى: يجسم الصورة، فالجمال إذن غرض الفنان من حيث إنه موضع رؤيته، وغرض العمل الفني لأنه يرمي إلى تجسيد الجمال، وغرض النظارة لأنهم يتطلعون عن سبيله إلى القيم العليا الخالدة، والفنان بالطبع يستعمل المادة الخام ليجسم بها الصورة، أما من جهة التمثيل فإن النظارة هم الأشباح والممثل هو الذي تتجلى الحقيقة الفنية على لسانه.
والآن هل يمكن تطبيق نظرية المثل على الأخلاق؟ إن أفلاطون يقول: إن الحقيقة التي لا نعثر عليها في الأشياء، نعثر عليها في عالمين: عالم المنطق والرياضة، ثم عالم الأخلاق، ففي العالم الأول هناك حقائق ثابتة يمكن الاطمئنان إليها، فمثلا الكل أكبر من الجزء، و أ
2 − ب
2 = (أ + ب) (أ − ب) هذه حقائق ثابتة لا جدال فيها، أما في عالم الأخلاق فإن هناك إيمانا لا يرقى إليه الشك في جميع النفوس بلا استثناء، أن الخير أحسن من الشر، وأن العدل أحسن من الظلم، إن هذه المثل الإنسانية إنما هي ظلال لمثل عليا.
هذه المثل الثابتة - هذه النماذج - يتوسطها الخبر كملك نوراني متوج، وبناء على ذلك يكون الخير عند «أفلاطون» موضوعيا؛ أي تابع لخير خارجي. ولكن السؤال المحير هو هذا: كيف تقول: إننا نعرف صورة الخير لأنها أزلية في نفوسنا، ومع ذلك تقول: إن الخير خارجي؟ وبعبارة أخرى: كيف تجثم الحقيقة الكبرى في أعماقنا ثم تبدو في ظلال ناقصة، وكيف لا تؤدي الرحمة الثابتة المتأصلة في نفوسنا إلا إلى عالم مشوه معطوب حافل بالقسوة والشرور؟
لم يجب أفلاطون على هذا السؤال، ولن يجيب أحد.
ننتقل الآن إلى سيكولوجية أفلاطون.
يقول «أفلاطون»: إن السلوك الإنساني ينبع من ثلاثة ينابيع: الرغبة والعاطفة والمعرفة، والرغبة والشهوة والدافع والغريزة شيء واحد، والعاطفة والطموح والشجاعة شيء واحد، والمعرفة والفكر والذكاء والتعقل شيء واحد، والرغبة مركزها بين الفخذين، وهي قدر يغلي من الطاقة البشرية، وأكثرها جنسي، أما الانفعال فمركزه القلب، وأما المعرفة فمركزها الدماغ، وهذه الينابيع مشتركة في الرجال جميعا ولكنها تختلف قوة، ولكي يتم أي عمل منظم يجب أن تتحد المنابع الثلاثة بانسجام، وما يقال عن الأشخاص يقال عن الدول، فالدولة الكاملة هي التي تتسق بها القوى الثلاثة على شرط أن يكون العقل قائدها.
وإن الاختلال يحدث حين تختلط الأمور ويوضع الشيء في غير مكانه، فيحل الاقتصادي مكان الجندي، والجندي محل الفيلسوف، والإنسان يتسم بالعدل حين تنسجم في نفسه القوى الثلاثة على أن تخضع للعقل، والعدل الفردي هو ذلك الانسجام الناشئ من جمال الروح، والعدل الاجتماعي هو الأثر الظاهر من انسجام قوى الدولة وحلول كل قوة مكانها الطبيعي.
وهنا نعجب لأن «أفلاطون» تكلم عن «غول الشهوة» الذي تكلم عنه «فرويد» غير أنه يضيف أن هذا الغول يطغى بالإفراط في المأكل والمشرب والملذات، وقد يؤدي ذلك إلى جريمة جنسية كعشق الوالدين مثلا «مركب أوديب!» ويقول «أفلاطون»: إن هذا الغول فينا جميعا غير أن بعضنا يعطيه القياد، وبعضنا يحول قوته الطاغية إلى قوة منظمة خيرة. ويعتقد أفلاطون أن الموسيقى تنيم هذا الطاغية، وقد ضرب مثلا بقسيس كان يعالج المصابات بالهستريا بواسطة الموسيقى.
ثم ينقلنا نقلة غريبة حين يطبق هذه الآراء على التعليم فيقول: إنه يجب على الجميع أن يتعلموا بلا استثناء، ويكون تعليمهم رياضيا لتكوين أجسامهم، ومصحوبا بالموسيقى، ويشترط أن لا يكرهوا على العلم إكراها، بل يتناولونه مخففا بالموسيقى، وهو يعتقد جازما بأن هذا المزيج من الرياضة والحرية في الشباب يؤدي إلى الوقاية من الأمراض في المستقبل ويغني عن الطب والأطباء.
ثم يشير إلى أهمية الدين في التعليم، قائلا إنه عند سن العشرين يقترح «فرزا» عاما بحيث يوجه كل لما يصلح له، وقد يعترض المعترضون ويثورون، فإذا آمنوا عن طريق التدين أن هذه إرادة الله، وأنه هكذا شاء أن يوزع المواهب، رضوا بقسمتهم، ومضوا كل في سبيله، ليعمل لصالح أمته في الطريق الذي رسم له.
هذه ساعة مع «أفلاطون»، وأعتقد أني ظلمته وظلمت فلسفته لأني لم أقل شيئا.
رسالة الحضارة
قبل أن نتحدث عن رسالة الحضارة يحسن أن نعين معنى الحضارة، ثم نتحدث عن نشوئها ثم عن الحضارات التي التمعت في التاريخ ثم انطفأت، عن أسباب انهيار تلك الحضارات، وأخيرا مميزات الحضارة الحالية وعن التصدع الذي في بنائها، وأخيرا هل هناك أمل في رأب ذلك الصدع؟
أما عن معنى الحضارة فمن الطريف أنه جرى حوار بين الفيلسوف الكبير «جود» وابنته المثقفة عن معنى الحضارة، وهذا الحوار يجوز أن يجري بين أي اثنين من المثقفين؛ ويجوز أن يحدث هذا من الإبهام في معنى الحضارة لأي مثقف كما حدث لابنة الفيلسوف، ولذلك سأوجز هذا الحوار اللطيف قبل أن أسترسل في البحث.
أنا :
أريد أن أعرف الحضارة، فما هو التعريف الذي لديك.
ابنتي :
أظن أن الحضارة هي الملابس الجميلة وركوب السيارات والحوانيت القريبة نبتاع منها ما نشاء.
أنا :
نعم، ولكنك تعلمين أن الأطفال يلبسون الملابس الجميلة؛ وأن خادمتنا تركب السيارات العامة وتبتاع الأشياء من الحوانيت، فهل تريدين أن تقولي أن الأطفال متحضرون وأن خادمتنا متحضرة؟
ابنتي :
لا، لست أظنهم كذلك، وإنما هناك أسباب أخرى تجعلهم متحضرين إذا شاءوا؛ كالآلات والقطر الحديدية والإذاعة والمسرة والسينما.
أنا :
لا أوافق على هذا؛ فإن كلمة المتحضر في معناها ما يشرف، فهل في الذي ذكرت شيء مشرف؟ اذكري لي مثلا لإنسان متحضر يشرفك ويشرف الدنيا ذكره.
ابنتي : «بتهوفن»، «شكسبير»، «رافاييل».
أنا :
هذا بديع، كدنا نصل. تعنين أن الأشياء الجميلة كالموسيقى والشعر والتصوير من مميزات الحضارة ؟
ابنتي :
نعم ، كل شيء جميل من مميزات الحضارة.
أنا :
الحلوى، القصور الجميلة، الأشياء الجميلة التي نحصل عليها بالمال والجاه والسلطان.
ابنتي :
كلا كلا.
أنا :
تعنين أن هذا اللون من الجمال شيء مادي يشتهى فينال فيمل؟ وتنشدين جمالا لا تسأمه النفس ولا يتغير معناه على الزمن.
ابنتي :
نعم هذا ما أعني، وأريد أن أذكر شيئا آخر له صلة بالحضارة، الآلات، وإن لم يكن لها أي جمال.
أنا :
الآلات نفسها لا تهم، وإنما الاختراع بالذات هو الذي يهم - معنى الاختراع - جمال الفكر الإنساني وعظمته، روعة ذلك الشيء الذي يجيء بالجديد المخالف.
ابنتي :
ولم كان التفكير الجديد دالا على الحضارة؟
أنا :
التفكير الجديد معناه التفكير الحر.
ابنتي :
وماذا يمنع الناس من التفكير الحر؟
أنا :
أن لا يكون آمنا على نفسه؛ لأن مخالفة العرف معناها التعرض للعقاب، فالتفكير الحر معناه وجود الأمن، ومعناه كذلك الوقت الكافي للابتكار والتجديد، ومعناهما معا أن الإنسان لم يعد عبدا للرزق؛ أي إن الرزق لم يعد همه الأول وشغله الشاغل، فلدى الإنسان وقت يقضيه في غير التفكير في الطعام والكساء؛ أي إن الأمن والفراغ من مميزات الحضارة؛ لأنهما يعينان على التفكير الحر الجديد، وكل شيء يوفر للناس هذا الضرب من التفكير يساعد على قيام الحضارة، من هنا صلة الآلة بالحضارة؛ لأنها توفر للناس الوقت فينصرفون للتفكير، وكذلك طاعة القانون تضمن وجود الأمن، وبالتالي تضمن أن يكون الناس أخيارا ولو مكرهين، وبذلك يصيرون اجتماعيين وتتحسن الصلات بينهم، هذه هي أعمدة الحضارة صنع الأشياء الجميلة، وهذا هو الفن، والتفكير الحر الخالق؛ أي العلم والفلسفة، وطاعة القوانين، وهذا ما يسمى العدالة السياسية والاقتصادية، وأخيرا وجود الأمن والفراغ وحسن الصلات الاجتماعية.
هذا هو الحوار الممتع الذي جرى بين «جود» وابنته، وهو مقدمة بليغة للمناقشة في موضوع الحضارة.
يبدو من هذا جليا أن من ذكرهم التاريخ في كتبه وأفرد لهم الفصول الطوال، ك «إسكندر الأكبر» و«هانيبال» و«نابليون» هم الذين يجب أن نخرجهم من كتاب الحضارة؛ لأنهم هم الذين أخروا العالم ومشوا به القهقرى، بينما نجد أن هناك قلة من البشر، نشئوا أفذاذا وعاشوا أفذاذا، هم الذين أقاموا بناء الحضارة على أكتافهم، فلو أني خيرت في كتابة التاريخ من جديد لمررت بهؤلاء الغزاة مرا، ولملأت كتابي بالحديث عن «كونفوشيوس» و«محمد» و«عيسى» و«سقراط» و«أفلاطون» و«بيكون» و«كوبر نيكوس» و«جاليليو» و«وات» و«نيوتن»، أولئك الذين بنوا الحضارة على دعامتين؛ الأولى: الخير وحسن الجوار وطيب الصلات. والثانية: تحرير الفكر وكسر الأغلال التي تكبل التفكير.
أعني تحرير النفس من عبودية الأنانية وتحرر الفكر من عبودية الجمود، أين مكاننا اليوم من هذا؟ إننا كأفراد صرنا نطيع القانون، ونحترم الجوار، ونقدم على قليل للمساعدة للغير، ولكننا كأمم لا نزال ندين بشريعة الحرب ونخضع لقوانين القوة ونتربص للجار ونقيم الحواجز وندبر الخطط؛ أي إن عقل الفرد أخذ يتحرر ببطء، ولكن عقول الساسة لا تزال تتخبط في ظلمات البدائية الأولى.
على أننا إذا فرضنا أن تاريخ الكائنات 100 عام، فإن تاريخ الإنسان شهر، والإنسان المتحضر سبع ساعات؛ أي إننا لا نزال في حواشي الفجر!
لقد ذكرت دعامات الحضارة وقلت: إنها الجمال في صور فنية وإنها الأمن والفراغ والعدالة الاجتماعية «سياسية واقتصادية»، والصلات الاجتماعية القائمة على الخير والإيثار.
غير أن هذا كله يمكن أن يوجز في عمودين: صلات الخير، وصلات الفكر المتحرر. الأول أقامه المصلحون الدينيون والفلاسفة. والثاني أقامه العلماء.
والواقع أنه ليس بين هذين الفريقين من حدود؛ فإن الفلاسفة فكروا تفكيرا نظريا حرا، والعلماء فكروا تفكيرا عمليا حرا.
الأولون وسعوا نطاق النفس، فأطلعوا الناس على ما كان خافيا من مواطن الجمال، ومن ثم نشأت الفنون، أما العلماء فطبقوا العلم عمليا، متحررين من القيود معرضين أنفسهم لكل أنواع الاضطهاد والسجن والتشريد، ولكنهم أفلحوا في خلق العصر الصناعي - أي العصر الآلي - فبلغنا ما قد بلغناه اليوم ووفر لنا من الوقت ما به نعلم من جديد ونبتكر من جديد.
ولنعد لحظة أخرى إلى التعاليم الدينية، فهي من بدئها لختامها تدعو لنفس المبادئ، كانت تدعو الناس لترك الأثرة والتمسك بالإيثار، كانت تدعوهم للعمل على ما هو أوسع من محيط النفس وأعلى من مستويات رغباتها، ولكن نسيان النفس في سبيل غرض أسمى من النفس، الذي هو الطريق للحضارة والسعادة، هو الشيء المستحيل الذي لم تستطعه الإنسانية في محاولاتها المتعددة.
هذا النسيان، أو بالأصح هذا التخلي بعد الإخفاق في محاولات عديدة هو السبب الأول في خوفنا على الحضارة، فإن المادة وحدها لن تدعم بناءها.
إن «جود» يسمي حضارة المادة، حضارة الحلوى، وهو تعريف قيم، ويعني بذلك أن حضارة المادة حضارة ترف قائمة على ما هو مستساغ كالحلوى، ولكنه مأكول زائل كالظل الجميل. ومن الواجب هنا أن نذكر أن المصريين هم الذين أقاموا الحضارة على دعامتين: الفن والحكومة الصالحة، ولا شك أن الذين أقاموا تلك التماثيل الجميلة الرائعة كانت نفوسهم جميلة جمال تلك التماثيل مشرقة إشراق تلك الفنون، وقد يكون ذلك ناشئا من أنهم بدءوا عهدا جديدا في التاريخ، عهدا توفر لهم فيه رغد العيش والأمن معا فأنتجوا ما أنتجوا، وأبدعوا ما أبدعوا، ولا شك أن هذا الإبداع مقرون باختراع الكتابة، فمما هو معروف أن المصريين هم الذين اخترعوا الكتابة، ولما كانت الحضارة لا تتم إلا بالانتقال من ممدن لمتمدين؛ أي من قلة إلى كثرة، فإن انتقال الآثار الذهنية عن هذا الطريق - طريق الكتابة - كان السبب في قيام الحضارة أولا، واستمرارها أخيرا.
ولا بد أن نذكر هنا فضل العقل اليوناني على الحضارة، فإنه هو الذي حارب الخرافة وتحلل من قيود الماضي، وألقى نظرة شاملة على الإنسان والوجود، وبحث في كيفية الخلق وطبيعة الخالق، ثم حقق في ماهية الروح، والعقل اليوناني أول من أثار الحوار واستعمل الجدل، وأول من نقل الفلسفة من بروجها العاجية إلى الطرق والأسواق والأماكن العامة. ثم إن العقل اليوناني أول من ناقش أنظمة الحكم المتعددة، واستقر على أن الديمقراطية أحسنها مهما يكن بها من عيوب.
لماذا انهارت هاتان الحضارتان؟
ليست هناك حضارة تستطيع البقاء إذا احتفظت بالحضارة بين ربوعها هي فقط، كيف تعتصم الواحة، وأين تختبئ من رمال الصحراء حولها إذا ثارت عاصفة؟ هذا بالضبط ما حدث للحضارات القديمة التي طمست، فإن الهمج أغاروا على اليونان، والهكسوس أغاروا على مصر، معنى ذلك أن الذين يتمتعون بنعمة الحضارة لا يجب أن تحبسهم أنانيتهم ضمن جدران ضيقة، بل عليهم أن يكونوا بدورهم ممدنين للعالم.
والآن، لماذا يساورنا الخوف على حضارتنا الحالية؟
إن حضارتنا الحالية يجب أن تستند دعائمها المتنوعة على العدالة الاجتماعية، وهي نوعان: عدالة سياسية يضمنها القانون، وعدالة اقتصادية معناها حسن توزيع الأقوات.
لقد أصبح الناس اليوم متساوين أمام القانون، وصار لهم في كثير من البلاد صوت مسموع في نظام الحكم الذي يخضعون له وفي اختيار حكامهم، ولكن توزيع الأقوات لا يزال ينطوي على كثير من الظلم، فالجزء الأكبر من الثروة التي تحصل عليها الأمة في كل عام يذهب إلى جيوب أقلية ضئيلة من الأفراد، في حين أن الكثرة الغالبة لا تحصل إلا على القليل الذي لا يغني، فهؤلاء يكدحون ليل نهار في سبيل الرزق، حتى إن هذا الكدح لا يدع لهم وقتا للتعلم ولا يدع لهم مجالا للمحافظة على صحتهم، ولا يتيح لهم فرصة للإنتاج الفني. فإذا انصرف البؤساء منهم إلى إنتاج فني فهو إنتاج مبتور ناقص حادث تحت إلحاح الحاجة وضرورات الفقر، ومؤثرات الخوف والفزع، ولا شك أن الحضارة منهارة طالما فيها تلك الصدوع الظاهرة في أعمدتها.
والغالب أن الضيق الداخلي الحادث في أمة من الأمم من سوء التوزيع الاقتصادي يؤدي إلى التنفيس الخارجي بواسطة الحرب، ويزيد هذا الميل خطورة أن العالم لم يعد وحدة متماسكة، فإن الحواجز خفية وظاهرة قائمة قياما حقيقيا بين الأمم.
أما عن عقلية الحرب فمن الطرائف أن الملك «أمان الله خان» عندما زار إنجلترا، أطلعوه على جميع الاستعدادات الحربية ولم يزر متحفا واحدا ولا استمع لشاعر واحد.
هذا الجيل جيل حرب واستعداد للحرب، ولم تغير الكوارث المتوالية عقول الساسة؛ لأن من وراء عقولهم آلات التدمير، تلك الآلات التي اخترعها الإنسان ليصير بها سيد الطبيعة فصارت هي سيدته، فنحن نقضي العمر في السهر عليها وتنميتها وتحسينها وتنميقها وتنظيفها، وجعلها مستعدة؛ أي إننا نصرف عمرنا في استرضائها، وفي صنع آلات جديدة.
وللأسف إن ما توفره لنا الآلات لا يزيل البؤس والضنك؛ لأن توزيع الخيرات التي تنتجها توزيع غير عادل، فيكثر عدد المتعطلين والفقراء.
إني متشائم كلما أرى عقول الساسة ترسف في القديم البالي، متشائم كلما أرى البؤس والتعطل والفقر، متشائم كلما أرى كيف نسينا تعاليم المصلحين والرسل والحكماء، متشائم كلما أرى أفكارنا صبيانية متحيزة، كلما أرى أن أكثرنا ثقلت عليه وطأة الحياة ومطالب العيش حتى فقد الأمان، وفقد معه الراحة، وفقد التفكير في غير الرزق والمعاش، إني متشائم كلما لمحت هذه الثقوب، ولكني أعود فأقول: إن رؤية العيوب والاعتراف بها ضمان لمداواتها.
إن المحاولات التي يقوم بها هنا وهناك نفر - وإن كانوا قلة - تنشر الضوء من خلال الثقوب وتبشر بفجر جديد على كل حال.
رسالة علم النفس أو الشخصية وتكوينها
لو سألت أكثر الناس وخاصة المثقفين منهم عن «الشخصية» لتضاربت الآراء تضاربا كبيرا، ومع ذلك ما أكثر ما نسمع «فلان له شخصية» ونسمع كذلك أن الأسد «له شخصية مهابة»، ونسمع كذلك «على الإنسان أن يعمل على تقوية شخصيته»، ونسمع كذلك من علماء التربية المحدثين أن الغرض من التربية الحديثة «خلق الشخصية»، فإذا استمعت إلى هذا ثم أخذت تفكر فيه تبين لك أن الشخصية أحيانا هي نوع من القوة والخيلاء، وأحيانا نوع من الخلق، وأحيانا نوع من الإرادة الضاربة، وأحيانا شيء غير مفهوم يوحي بالمهابة والخضوع والاحترام.
والشخصية في الواقع ليست هذا ولا ذاك، ونحن نتحدث عنها حديثا سهلا لينا كما نتحدث عن العبقرية، بدون أن تعرف ما هي؛ فليس للأسد شخصية، وليس للرجل العبوس شخصية، فقد كانت زوجة «بسمارك» تقول: إنه رجل حديدي خارج بيته، وهو في داخل البيت هرة ضعيفة عجفاء.
إذن، ما هي؟ إذا اتبعنا الطريقة العلمية فأصوب الطرق أن نصعد درج المخلوقات من البسيط للمعقد حتى نستطيع أن نعرف أن الخلية المفردة البسيطة لها من البساطة ما ينفي عنها صفة الشخصية على أي صورة فهمناها، وكذلك في الحشرة البسيطة مهما حبتها الطبيعة من الجمال والألوان، فلا بد إذن عند صعود درج التطور من مرحلة نقف عندها قائلين: «هنا شيء جديد.»
إن الحياة من أولها إلى آخرها نداء واستجابة أو بعبارة أخرى: دوافع حيوية والرد عليها، وهذه الدوافع الحيوية في الخلية البسيطة هي عناصر من غذاء واستنشاق وتناسل، فإذا جاعت الخلية بحثت عن الغذاء، وإذا نضجت أخذت تتناسل.
فإذا تعقدت الحياة تعقدت دوافعها، معنى ذلك أن هذه العناصر البسيطة لم تعد تكفي للبقاء، فإن الحياة أصبحت ميدانا للكفاح، فلا بد من أسلحة أخرى تعين على الصراع؛ لتضمن بقاء الفرد والنوع معا.
هذه الأسلحة هي الغرائز، والفكرة العامة عن الغريزة مبهمة؛ فهي في عرف الكتاب تعني الفطرة أحيانا، والعاطفة أحيانا.
ولكن التعريف الحقيقي هو أنها دافع حيوي وجد عندما تعقدت طرق الحياة وتنوعت وسائل البقاء، ويمكن تعريفها إذن بأنها «عادة اجتماعية»؛ أي عادة يعتادها المخلوق ليكافح في سبيل البقاء، وهي في الواقع نوع من الطاقة تستنفد في سبيل حفظ الفرد والنوع، وقد فصل منها علماء النفس ما يقرب من العشرين، فأدى ذلك إلى خلط كبير؛ فقد مزج أكثرهم بين الغريزة والأثر الذي يسبقها أو يدعو إليها، والنتيجة التي تنتهي إليها، فالخوف ليس غريزة، والحب ليس غريزة؛ فالخوف انفعال يؤدي إلى الهرب الذي هو غريزة كالإعجاب وطلب الجنس الآخر ... إلخ. يتضح من ذلك أن الغريزة دافع حيوي محض ليس فيه خير ولا شر، وهي في أبسط مظاهرها نداء واستجابة، ويمكن أن نسمي هذا كما يسميه علماء الفيسيولوجيا «منعكسا
reflex » وأهميته في علم النفس أن مدرسة «السلوكيين
Behaviourists » تعد السلوك الإنساني أفعالا منعكسة مشروطة
Conditioned .
معنى ذلك أن السلوك يستثار إذا وجد ما اعتاد استثارته، فإن الغذاء إذا اقترن برنة جرس فإن اللعاب يسيل إيذانا بميعاد الطعام، فإذا رن الجرس بدون وجود الغذاء فإن اللعاب يسيل على كل حال، وهؤلاء السلوكيون يقولون: إن الحيوان المعقد الجوانب ما هو إلا منعكسات معقدة الجوانب. على أننا لا نستطيع أن نوافقهم على هذا؛ فإن المنعكسات في الحيوان آلية محضة، ولا يمكن أن تكون المنعكسات البشرية من هذا الطراز. فيجيبون أن الاختلاف إنما وجد لأن الدروب تشعبت والمسالك التوت، ولأنه صارت هناك موانع تقف في سبيل الآلية المحضة.
ولكننا نجيب أننا إذا صعدنا الدرج نحو الإنسان نجد أن هذه الموانع التي تشيرون إليها إنسانية اجتماعية؛ أي إن المنعكس لم يعد بعد آليا؛ فقد صار شيئا عاقلا، وزيادة على ذلك فقد صار شيئا مبنيا على «الشعور»؛ أي على إحساسنا بوجود آخرين غيرنا لهم ما لنا من حقوق وواجبات. وزيادة في الشرح أقول: إن الحيوان حين يجوع يفترس، وحين تلوح له الأنثى يقتل في سبيل الحصول عليها، أما نحن الذين نرتدي ثياب الآدمية فنحن نتمهل قبل أن نختطف اللقمة من فم غيرنا، ونحن نستحي أن ننظر إلى زوجة الجار كأنها مجرد هدف للتناسل مهما بلغت قوة الجمال عندها، وقوة العاطفة عندنا.
على أننا لا شك نرتد إلى الحيوانية في أحوال خاصة؛ كالحرب والغضب، فنفترس غيرنا في سبيل اللقمة، وندوس حقوق الجار، ونصنع ما لا يحصى مما لا يليق.
وعلى كل حال، ما الذي حدث في سلم التطور حتى صار المنعكس الآلي منعكسا عاقلا مدركا؟
إن الإنسان لم يعد إنسانا إلا حين أخذ يعرف أن هناك «علاقة» بينه وبين غيره، وبينه وبين المجتمع على العموم.
هذه «العلاقة» العاقلة الشاعرة المحسة المدركة هي فجر الشخصية.
فلا يمكن أن نتكلم عن «شخصية» إنسان لا يعاشر الناس.
ولا يمكن أن نتكلم عن شخصية إنسان يتفاعل بخاصية متغيرة من مجموع خصائصه.
فالإنسان ذو الشخصية إذن هو آدمي علاقته بالبشر ثابتة من حيث إنها تفاعل ثابت، أو غالب في أكثر الأحوال.
ولقد أنكر علماء النفس عن شخص يقال إنه مرح وطيب، بل يقال مرح طيب، يفهم من ذلك أن الخصائص التي تكون الشخصية هي وحدة متماسكة كالسبيكة.
ومن جهة أخرى نجد السبيكة في طرف، والوسط في الطرف الثاني، فأيهما أهم في تكوين الشخصية؟
فلننظر في محتويات الطرف الأول.
السبيكة الإنسانية: هذه السبيكة مكونة من عقل وعاطفة وخصائص موروثة وأمزجة، ولقد عرفنا من أمر هذه السبيكة الكثير، ولكنه بقي الكثير أيضا، وهذا المحصول الكثير هو ما انحدر إلينا من أسلافنا وما لا نملك من أمره خيارا؛ أي إننا لا حكم لنا عليه. فهل تستطيع باخرة نصف بحارتها ظاهرون معروفون والنصف الثاني أشباح، أن تخوض في عباب الحياة سالمة؟ بعبارة أخرى: هل يستطيع النصف المعلوم التماسك والقوة حتى يقود السفينة بصرف النظر عن الأشباح الأخرى التي تعمل عملها في الظلام؟ لقد انصرف العلماء فريقين، فريق يقول بأن الوسط هو كل شيء، وفريق آخر يقول: إننا نستطيع بالنصف المعلوم إذا سهر
1
على تكوينه وتنميته وتوحيد أهدافه أن نتغلب حتى على الوسط، وفريق - كالأستاذ «برج» - يقول: «إن شعورنا بهذه الأشباح والمحتملات والخصائص الوراثية هو الذي يجب أن يجعلنا نشعر بالنقص فنبغي الكمال.» ومن ثم كان تعريفه للشخصية أنها ذلك التعامل بين الوسط وبين «إمكانيات وراثية
Hereditary Orentialits »، يعني بذلك أننا لا نرث شيئا محددا، وإنما ترث اتجاها وإمكانا واحتمالا.
فمن أجل تكوين الشخصية يكون من الأسلم أن نفترض وجود هذا الضعف قائما، على شرط أن لا نعده مهانة بل حافزا، ولا تحسبه قيدا بل دافعا للثورة على القيد.
قد نكون مغالين إذا افترضنا هذه المجهولات والإمكانيات كأساس لبناء الشخصية، وقد يسألنا عالم من علماء النفس: وأين أثر البنية؟ وأين أثر الغرائز؟ وأين أثر الغدد؟ وأين أثر الهرمونات؟ وأين أثر العقل بخصائصه الثلاثة «الاطلاعية والتأثرية والتنفيذية»؟ وأين أثر العقل بقسميه الواعي والباطن؟ فأجيب: وماذا نملك نحن من تكوين البيئة؟ وماذا نعلم نحن من أمر الغدد والهرمونات إلا القليل؟ وماذا نعلم نحن عن حقيقة العقل؟
أليست هذه كلها إمكانيات ومحتملات ومجهولات؟ إن الذي نستطيع أن نؤكده هو أن للجسم الصحيح القوي أثرا في بناء الشخصية ولكن حتى هذا التأكيد معرض للنقد، فكم من أجسام هزيلة يكمن خلفها شخصيات فذة جبارة! والذي نستطيع أن نؤكده عن الغرائز أننا نستطيع كبحها أو تحويلها ولا نستطيع تغييرها ولا خنقها، والذي نستطيع أن نقوم به نحو خصائص العقل هو أن نجيد استعمالها.
فالأسلم إذن أن نفترض أننا بين طرفين: احتمالات ووسط، أما الاحتمالات فهي اتجاهات علينا تحديدها وتوحيدها وتبين معالمها، وأما الوسط فما يستطيع أكثر من أن يلون طبائعنا ويكسونا بثيابه ويسبغ علينا ظلاله.
ولقد يكون من المفيد حقا أن نعترف بالنقص لنسير في طريق الكمال، لقد يكون من المفيد حقا أن نعترف أننا نستطيع أن نجعل من اللاشيء شيئا ومن المجهول معلوما، ومن الأشباح أجسادا، ومن الأسس المتناثرة بناء واضح المعالم، ولقد يكون من المفيد حقا أن نعترف أن الصراع مكتوب علينا ونحن أجنة، فحتى أعضاؤنا الداخلية الكبرى تتقاتل في سبيل الاحتفاظ بأمكنتها، والطفل معرض للزجر والنهي في كل آونة، وإننا لو أصغينا إلى أي نفس بشرية حتى أكثرها هدوءا لأصغينا إلى صوت مدو، ولكن الفرق بين الشخصية واللاشخصية أن الصراع الداخلي في الأولى يؤدي إلى نتيجة موحدة كمجاذيف المركب سواء بسواء قد تختلف اتجاها، ولكنها تتحد اتجاها، وفي الحالة الثانية تتصارع أجزاء النفس معا صراعا يؤدي إلى تبعثر الأهداف وفشل المساعي.
إن هذا الصراع موجه وجهتين، داخل النفس وخارجها، فعلينا مواجهة النفس، وثانيا مواجهة الحياة، إن الذي لا يواجه نفسه يغشها أو يدللها أو يهرب منها، فإذا استطعنا أن نواجه أنفسنا بصراحة قررنا قبولها بعيوبها ونقائصها، كما يرث الإنسان قطعة أرض ملتوية الدروب، كلها أخاديد ومرتفعات ومنخفضات، فعليه وعلى المهندس معا أن يبنيا فوقها منزلا بطريقة تحجب هذه العيوب وتخلق من القبح جمالا، ولا نشك أن قبول النفس يمحو الشعور بالنقص، وليس الشعور بالنقص عيبا، بل العيب تغطيته بطرق غير لائقة، أو النظر إليه بجزع سرعان ما ينقلب حقدا على العالم، أو التفنن في مداراته بطرق تكشفه وتجعله سخرية، ويمكن لكل إنسان أن يخلق من نقصه شيئا نافعا، فالفضولي يستطيع أن يكون مخبرا ماهرا، ومحب العزلة يستطيع أن يكون عالما أو شاعرا أو فيلسوفا، وهكذا، وقبول النفس كذلك يضمن انصرافنا عن إدمان النظر فيها وفي عيوبها، إنه من المؤلم حقا أن يدور الإنسان في غرفة ممتلئة بالمرايا وأن يدور بها كل يوم، إن هذه المرايا لو تحولت إلى نوافذ؛ لوجدت النفس آفاقا جديدة وظلالا جديدة، وهذه الآفاق والظلال هي العثور على العمل والصديق، فهذان يصرفان النفس عن التفكير في همومها، ويجعلانها تعتقد أن هذه الهموم أشياء طبيعية عارضة كالغمامة في السماء، فنحن لا ننظر إلى الغمامة كحالة ثابتة دائمة، بل ننظر إليها كما ننظر إلى حجر يعترض طريقنا فننحيه برفق أو ندور حوله، ثم نمضي قدما نحو أعمالنا وأصدقائنا، ولا أعتقد أن هناك مؤثرا في شخصيتنا كأصدقائنا؛ ففيهم من هم أعظم منا وفيهم من هم أقل منا، الأولون يجعلوننا ننسى غرورنا، والآخرون يجعلوننا نحمد الله تعالى على نعمه، وإذا أحببنا صديقا نعترف بتفوقه، فقد رضينا بالمكان الثاني بالنسبة له، وهذا هو الإيمان في أبسط صوره، هذه هي مواجهة النفس فلننظر في مواجهة الحياة.
يرسم لنا
Menneken
في كتابه «العقل البشري» صورة فذة لهذه المواجهة؛ فهو يسمي الوسط «بالموقف»، ليشعرنا بأننا لا نواجه موقفا بعينه كل يوم
situation . فالناس ثلاثة أصناف: صنف يواجه، وصنف يهرب، وصنف يدمر. أما المواجه فهو الذي يحسن الملاءمة والانسجام، وأما الهارب فعصبي أو مجنون، وأما المدمر فهو شخص يدمر نفسه أو يدمر الوسط ليتخلص منه، وهذا هو المجرم أو المتمرد الثائر أو العبقري. على أن هنالك صنفا لا يقوى على المواجهة، بل يحول هروبه إلى عمل فني يداري به فشله، ذلك الشخص هو الكاتب أو الشاعر أو الفنان.
رسالة العقل
تطور العقل البشري
مشكلة العقل البشري مشكلة قديمة جدا، فمن أقدم العصور والفلاسفة يحاولون أن يحددوا كنه ذلك «الشيء» الذي يميز الإنسان عن كل ما عداه من المخلوقات، حقيقة أن الإنسان من يوم أن وجد على الأرض أخذ «يفكر» حتى يمكن أن يقال: إن هذا التفكير هو الطابع الإنساني الأول، ولكنه كان يفكر فيما حوله ويستعرض ما يدور بنفسه ويترجم ما يبدو له حسبما يقتضيه حفظ الذات وحفظ النوع. أما التفكير في طبيعة ذلك «الشيء الذي يفكر» فشيء حديث العهد جدا بالنسبة لعمر الإنسان على الأرض، وقد تم في مراحل تتبع تطور البشرية ومنصبا في القالب الذي جرت به البشرية في عهودها المختلفة، مثال ذلك أن طبيعة العقل الهمجي طبيعة شيطانية محضة، ونحن لا نزال نمارسها في أكثر أحوالنا، ومنا من لا يمارس غيرها، ثم تتلوها طبيعة العقل التبريري وهو العقل الذي يعمل حسب نوازعه ثم يأخذ في «تبرير» ما صنع. فهو عقل متميز محاب لما آمن به أو أحبه أو اعتقده، ذلك هو العقل البشري في فجر المدنية، ومازلنا نمارس هذا النوع من التفكير كثيرا في عهدنا الحاضر، وقد جر علينا آلاف النكبات والكوارث، ويتلو هذا العقل في سلم التطور العقل السيكولوجي، وهو الذي يحلل ويتعمق في الفهم، وأخيرا العقل الموضوعي أو العلمي، وهو الذي ينظر إلى الأشياء من حيث هي بقطع النظر عن أي شيء آخر.
العقل البدائي: كان الإنسان الأول يعيش في الظلمات ولذلك كانت أكثر رؤاه أشباحا، فإذا جلس يفكر في ذاته أحس بشبح في داخله يمشي ويقدر على التنقل، ويبدو إليه في الأحلام، وهذا أول إحساسه لشيء في كيانه يعي ويتحرك، وقد دعا الأستاذ «تيلور» ذلك الشيء «الروح الشبح» وهو وصف موفق.
ويعتبر هذا الدور في تطور العقل دور العقل من حيث إنه جزء من الوجود غير منفصل عنه
animism
غير أن الدور الثاني ما لبث أن جاء حين آمن فلاسفة اليونان الذريون بقوة ذرية للعقل تجعله منفصلا عن الوجود وإن كان لا يزال لاصقا بالمجتمع ومندمجا فيه، ولعل العقل الإنساني في القرون الوسطى كان من هذا الطراز، أما الدور الثالث فهو الدور الذي تلا القرون الوسطى على وجه التحديد، وهو دور العقل المستقل الذي انفصل عن الوجود وانفصل عن المجتمع، وهو الذي وصفه «ديكارت» وتحدث عنه وأسماه العقل المحصن
pure reason .
ولكن هذا العقل المستقل المنفصل لا يلبث أن يشعر بحاجته للمجتمع فيندمج فيه مع المحافظة على استقلاله، وهذا هو العقل الحديث، وأحسن تعريف له: «أنه ذلك الميزان الذي يمكننا من السير في ركب الحياة»
The adjuster
على أن ذلك الميزان الآدمي ليس آلة، بل وحدة تتكون من ثلاثة عناصر: الشعور والذكاء والإرادة، وهذه العناصر مندمجة معا اندماجا كليا كاندماج الموج في الموج؛ أي إننا نشعر ونتعقل ونريد في وقت واحد، وقد شبه أحد علماء النفس العقل الآدمي بقطار وقوده الشعور، وتعقله السائق، وإرادته الفرامل، أما الشعور فهو الخصيصة الآدمية الكبرى، ومعناه الحقيقي: «الإحساس بوجود آخرين لهم من الأهمية والحقوق ما لنا»، وهو الآخر مركب من عنصرين المعرفة والانفعال، أما المعرفة فمعرفة علمية إخصائية، ومعرفة سيكولوجية مبنية على الإحاطة والملاحظة والشمول، أما الانفعال فهو الحماس الذي يصاحب المعرفة ويلهبها يستحثها للعمل.
أما الذكاء الآدمي فمكون من العناصر الآتية:
الاختيار، والمقارنة وإدراك الفروق، واستخلاص النتائج، والتحليل ثم التركيب، أي الخلق.
أما الإرادة فمقترنة بالعمل وكيفية العمل، هي السلوك الإنساني
Behavior ، ونحن في هذا الباب لا نزال نجري على الطريقة الحيوانية من حيث التجربة، والاهتداء بالخطأ والصواب، والأصح أن نسميها طريقة التحسس والتنقيب.
ولكن الفرق بين الإنسان والحيوان أن الإنسان يتعلم ويعلم، أما الحيوان فيحتفظ بتجربته لنفسه، حتى لقد قال أحد علماء الحيوان: إن القرد لا يقلد غيره كما هو شائع ومعروف، بل يقلد جنسه، وحتى الإنسان يتكبر على تقليد غيره، ولولا وجود أفراد قلائل يسميهم «دارون» «أنواع جديدة»
variation
في كل قطيع، تفكر للقطيع وتقوده وتتطلع إليه، ما أمكن تقدم الجنس البشري عن طريق هذا التقليد الجبري، ولقد أوجز «روبنس» خصائص العقل البشري في ميزتين؛ ربط الأمور ببعضها عن طريق الأصالة أو عن طريق التقليد، وربط الأمور يكون بالتمييز بين ما هو عام وما هو خاص، ثم الالتقاء ثم التبويب، ثم وضع الاسم على الشيء المبوب المختار المنتقى، ثم ينتهي بعد ذلك إلى خلاصة ما، وهذا ما نسميه ربط الأمور أما في العقل الحيواني فالأمور عامة مختلطة، والنتائج لا تستخلص عن الطريق السالف وإنما عن طريق التجربة العملية المحضة.
ولكن نتساءل أخيرا ما سر هذه «الكينونة» التي تختار وتنتقي وتربط؟ هل هو وحدة مستقلة؟ هل هو ظاهرة فسيولوجية؟
يقول «برجسون» ورأيه من أهم الآراء: إن العالم دوامة متغيرة في كل لحظة، وإن هذه الدوامة التي تنشد من وراء التغيير كمالا وعظمة، لا يمكن أن تكون مجرد آلة أتوماتيكية، بل لا بد فيه من يد كيد الحائك حين يقطع الثوب قطعا، ليستطيع الحصول على شيء كامل منه أخيرا، وبينما هو يقطع الثوب يسمي كل قطعة باسمها، وبعد ما ينتهي من حياكة ثوب يعلقه في مكان ما، وقد كتب عليه اسم صاحبه، ولا شك أن العقل الإنساني إنما ساعد على ذلك باختراع الكلام.
ولكن هل سلم العقل الإنساني بعد كل ذلك من طبائعه الأولى؟ كلا؛ فإن الإنسان الأول كان يؤمن بقوى خفية يستسلم لها ولا يناقشها، فنشأت فيه العقلية ذات المعتقدات التي لا تناقش
Uncritical belief ، ونشأت على أثر ذلك «البنود» التي يضعها القوي للضعيف ليطيعها إطاعة عمياء، القوي استسلم للقوى الخفية وخضع لها، والقوي يشرع للضعيف ليؤمن كما آمن ويستسلم كما استسلم، وهذه البنود هي «التقاليد»، وأقرب مثل لها النجاسة والطهارة وما هو مناسب للأخلاق وغير مناسب. هذه العقلية البدائية لهاتين الصورتين ظهرت في تاريخ العقل مرتين؛ المرة الأولى في الإنسان الفطري، والثانية في العصور الوسطى، ونحن في عصرنا الحاضر لم نتخلص منها مطلقا، ونحن نعاني منها ومما انحدر إلينا منها على الأجيال، عناءا شنيعا وعبودية أشنع، ومن العجيب أن أكثر التقاليد التي نمارسها اليوم بغير جدال ولا مناقشة انحدرت إلينا من الإنسان الأول، وكان عهدنا بها أمس القريب.
ولكن الفترات التي جاءت بين ظهور هذه العقلية البدائية من حين لآخر لم تساعد على محوها؟
حقيقة لقد قام في عصر اليونان ما يسمى بالعقلية «التاريخية»، وآية هذه العقلية أنها أخذت تناقش هذه المعتقدات، أخذت تتحرر من القيود القديمة، ولقد كان ذلك في أعلى صورة عند «سقراط»، ولا شك أن «أفلاطون» و«أرسطو» قاما بدورهما في التحرير، ولكن الجميع لم يتحرروا من الاعتقاد بالقوى الخفية والأشباح الجاثمة وراء الطبيعة، والسبب في ذلك أن العقل كان عند هؤلاء متفلسفا محدثا مجادلا، وقد كان عليه أن ينزل إلى عالم التجربة حتى يتكئ إلى الحقيقة، وحتى تستطيع التجربة أن تبدد أشباح الخرافات، ولكن الصناعات اليدوية كانت كلها بأيدي العبيد، ولم يكن من المتيسر أن تنزل الأرستقراطية الذهبية إلى أسواق العبيد.
من هذا يتضح لماذا وقفت الحركة التحريرية للعقل جامدة، ولماذا عاد العقل البدائي إلى الظهور.
إن عقلية القرون الوسطى قسمان: قسم ينتهي بسنت أوجستين وقسم يبدأ بعده.
أما القسم الأول فكان فيه شيء من النور إذ كان عهدا تمتزج فيه الديانة بالفلسفة، ولكن الفلسفة كانت تعتمد على السلطة في إكراه الناس على قبولها.
أما القسم الثاني فقد انصرف الناس فيه عن التفكير في الأرض وأخذ الشيطان نفسه يتطور، فسمى نفسه «الخطيئة» وأخذت محاكم التفتيش تعقد وتحاكم من ينحرف أي انحراف عن التعاليم المنشورة بواسطة مجلس القساوسة، ولكن شيئا هاما نشأ في وسط هذا الظلام الذي أغلقت فيه دور العلم، وأحرق فيه العلماء أو سجنوا، ذلك أن هذه التعاليم غذت الغرور الإنساني فاعتقد الإنسان أنه محور الكون، فالسماء تتدخل في شئونه وتراقبه وتحاسبه كل لحظة من لحظاته، ثم إن الشيطان ليس له من هدف إلا إغواء هذا الإنسان.
إذن، فالإنسان شيء هام جدا، نفض الإنسان عنه فجأة عبارة القرون، وأخذ ينادي بعظمة العقل الإنساني، وأخذ كذلك ينادي بالسيطرة على الطبقة، ولقد صدرت هذه النداءات من جهات متعددة على ألسنة عباقرة ظهروا فجأة كل في مكان.
ولا شك أن أعظم هؤلاء - من حيث تحرر العقل وتطوره - هو «باكون»؛ فقد كان أول من دعا إلى الطريقة العلمية التجريبية وفصلها وبينها في كتبه فكانت أساسا للعقلية الحديثة، ومنها ما أدى إلى التطور الأخير الذي لا يزيد على قرنين من الزمان، وخلاصة آراء «باكون» أنها الدعوة إلى استعمال خصائص العقل الإنساني من حيث التبويب والمقاربة والتحليل واستخلاص النتائج بطريقة تؤدي إلى عقلية خلاقة، وقد دعا إلى التحرير من عبودية الماضي، قائلا: إن نهر الزمن لا يحمل فوق سطحه إلا ما خف ولم يكن غاليا، أما الغالي الثمن فقد رسب في القاع.
ولكن هذا التحرير العلمي العملي كان يمشي جنبا إلى جنب مع التطور الاقتصادي، فكان من اللازم أن يحدث شيء جديد، ذلك هو أن يصير العقل العلمي اجتماعيا اقتصاديا، فلنا أن نسمي العقل الذي نتوقعه في المستقبل العقل الاجتماعي
social mind ، وهو يرمي إلى شيئين، الأول: الملاءمة بين العقلية والفردية والحالة الاجتماعية، والثاني: إقرار النظام الاقتصادي
Economic Structure ، وفي كتاب «روبنسن» الذي أشرنا إليه، يقول: إنه لإصلاح العالم يجب أن نصرف النظر عن كل ما جربناه سابقا فأفلس، لقد جربنا التأثير بواسطة التخويف والعقاب فأفلسنا، وجربنا التعليم فلم نخلق منه غير أرستقراطية ذهنية، وجربنا الوعظ فلم يجدنا شيئا، فبقي علينا أن نجرب إصلاح الذكاء الإنساني. إننا لا نزال نفكر بعقل الإنسان الهمجي، إننا لم نتخلص بعد من الخرافات والمعتقدات التي تحتل من نفوسنا مكانا مقدسا، ولأننا لا نزال استبطانيين نعيش في أخيلتنا بدل أن نستعمل حواسنا، ونحن من أجل ذلك ندافع بكل تحيز عن كل ما يتعلق بمعتقداتنا الثابتة، ونحن نتحيز إلى كل ما نحب ومن نحب، هذا القانون قانون التمييز العام انحدر إلينا من أسلافنا ولم نتخلص منه إلى اليوم، وهو السبب في الانقسامات والحروب، فإن الإنسان يتحيز لقومه ويتعصب لعشيرته ولدينه، ومن ثم يكون حكمه على الأشياء خاطئا؛ لأن الحكم مصبوغ بالعاطفة المتحيزة، ولا شك أننا نتحيز للقديم ونجل الماضي، ونحن جميعا مؤمنون بالفطرة محافظون بالفطرة.
ونحن لا نزال نفكر بعقلية القرون الوسطى من حيث الخطيئة والعقاب والثواب ومن حيث الاستسلام المطلق لما تمليه هذه العقلية، ومن حيث إننا لا نجد مخرجا ولا خلاصا دون هذه الطرق.
على أن العقل الذي ندعو إليه هو العقل العملي التجريبي العلمي الاقتصادي؛ أي العقل الذي يعلم أن مهمته هي الاتجاه نحو عالم جديد وأن عليه أن يواجه مشاكل العالم علما واقتصادا، وأنه إذا لم يفلح في هذا الاتجاه فإنه لا شك يصل إلى النهاية التي رسمها الأستاذ «منيكن» في كتابه «العقل البشري»؛ فقد رسم لنا صورة عملية جميلة، بين فيها أن الإنسان عليه أن يواجه موقفا دائم التغيير
situation ، فإن أفلح في الموازنة فقد أفلح في الحياة وسعد، وإذا لم يفلح فإما يحطم الموقف أو يمزقه أو يحطم نفسه أو يمزقها، وإذا لم يستطع التحطيم أو التمزيق فإنه يهرب، وإذا لم يستطع هذا ولا ذاك فإنه ينكر الفشل ويوجه جهوده إلى عمل فني يستر به فشله، ويداري به عجزه عن مواجهة الحياة العملية، من الطراز الأخير أكثر الفنانين والكتاب والشعراء.
رسالة الشباب
إذا تكلمنا عن الشباب اليوم، فإننا نتحدث أولا عن أخطاء أكثرها بل جلها أخطاء المجتمع.
وأقصد بالمجتمع ما به من معلمين وقادة وآباء وأمهات، ماذا صنع المجتمع لإصلاح شبانه؟ إلينا خلاصة لما صنع إلى اليوم: (1)
التعليم:
قد أدى دائما إلى ثقافة شخصية ولم يؤد إلى المواطن الصالح، وكثيرا ما أدى إلى المعرفة التامة، ولكنه قليلا ما أدى إلى خلق شخصية سليمة. (2)
العقاب والثواب:
لم يؤديا إلى شيء، فإن السجون تفرغ وتمتلئ والمشانق تعلق، والشر لم يبتعد عن العالم، والخير لم تنزرع أصوله في النفس مطلقا. (3)
الوعظ والحث على الأخلاق الحميدة:
هذان أيضا لم يؤديا إلى إصلاح في الأخطاء الشائعة، فالغالب أننا نمل الوعظ ولا نتأثر به إلا إذا كان مهيئا في قالب فني تستوعبه النفس وينفذ إلى القلب، وبعبارة أخرى: إن لم يكن ذلك الوعظ مؤديا إلى إقناع قلبي فلا فائدة منه، وحقيقة قد يكون الكلم البليغ مؤثرا، ولكن تأثيره لا يعدو الساعة التي ألقي فيها. (4)
التعليم الديني:
إنني أومن بالدين كعنصر عام من عناصر الإصلاح، ويكفي أن نستعرض سير الأنبياء والرسل وما لاقوه في سبيل الدعوة وما تجشموه في سبيل الإنسانية وما صادفوه في حياتهم وهم يحاولون إصلاح العالم، يكفي ذلك تقويما للنفوس المعوجة وهديا للنزعات الضالة، ولكن اضطرابات العالم والكوارث المتلاحقة قلقلت الإيمان ونشرت في العالم موجة من القلق وعدم الثقة، جعلت المفكرين يفكرون في عكاز جديد يستند إليه العالم الأعرج ويكون قوة أخرى بجانب الإيمان تشد أزره وتسنده، هذا العكاز هو الإصلاح السيكولوجي، وقد فصل ذلك الأستاذ «شيلر» في كتابه «مستقبل الإنسان» تفصيلا قيما فليرجع إليه من يريد؟
على أن الإصلاح السيكولوجي يجب أن يبدأ من أسفل الدرج ليصل إلى أعلاه، على أن الدراسة السيكولوجية لا شك تقتضي الإلمام التام بعلم النفس، ومن لم يستطع الإلمام التام فعليه على الأقل بالبديهيات، فلنذكر هنا أن الآلة الإنسانية تتكون من وقود وسائق وموتور، فلنبدأ بالطفل، فهو كله وقود تقريبا، والعقل الذي عنده لا يعدو بضعة خصائص جنسية موروثة. أما الموتور لدى الطفل فشيء غشيم صغير تسيره العاطفة ويمكن أن نسميه العناد، أو التشبث أو الأنانية أو إرادة القوة، فإذا أضفنا لذلك الخيال وأحلام اليقظة اكتملت لنا صورة الهمجي الصغير المسمى بالطفل.
فيتلخص علاج الطفل - بناء على هذه الصورة - بمعالجة الإرادة الجامحة أو بالعاطفة العاصفة، وأهم ما في عواصف الطفولة الغضب والخوف والميل إلى الهدم. ولنعترف أن المرمى ميال دائما إلى كسر شوكة العناد، وقد اختلف المربون في هذا الباب فمنهم من أشار بالعنف ومنهم من أشار بضده، والرأي الحديث لا يميل إلى هذا العنف؛ لأنه هدم بغير بناء، ويميل بالأكثر إلى بناء شيء يقوم مقام العقل، ليقاوم ذلك التيار الجارف، إن العقل في دور الطفولة كما بينا لا يعدو بضع خصائص وراثية، فأي شيء نستطيع أن نقيمه مكانه، حتى يتم نموه ونضجه، «العادات»، وصدق من قال: «العادة تكون الفكر، والفكر يكون الخلق، والخلق يكون القدر»، فبناء العادات هو الذي يجب أن يجري بلا هوادة ويتم بلا رحمة ولا شفقة، وقد نصح أكثر العلماء بشأن العاصفة التي أشرنا إليها في نفس الطفل أنها من الممكن تشتيتها بتوزيعها على مجهودات مختلفة، ويمكن كذلك تحويلها، فإن الصفير في الخطر أو الخوف يمكن أن يتعود اصطناع المرح والشجاعة، فالواقع أن اصطناع المرح يذهب جانبا كبيرا من الحزن، ولا يخفى أن الصفير - أي ادعاء عدم المبالاة - يعين على الاحتمال والشجاعة.
وأعود فأقول: إن الطاعة العمياء في تكوين العادات أثناء الصغر، نوع من العبودية يؤدي إلى حرية عجيبة فيما بعد، فلو أننا استعرضنا العقل البشري كطريق لوجدنا أنه مكون على الأكثر من طرق محفورة ، نقشتها يد المربي أو البيئة، هذه الطرق هي العادات. ولو أنني وثبت من الكلام عن الطفولة إلى الشباب فذكرت بعض أخطائه، كقلة ضبط المواعيد وعدم الثبات والكذب وغير ذلك، لوجدتها لا تخرج عن أنها «عادات» ساء تكوينها في الصغر.
حسبنا هذا القدر عن الطفولة فلنمر إلى مرحلة خطيرة جدا، ألا وهي اليفاعة أو المراهقة، فهي الدهليز الذي يؤدي توا إلى الشباب، ولكنني قبل أن أمضي في هذا الدهليز أريد أن أتحدث في الأثر الناشئ من معالجة إرادة القوة بالعنف والإخضاع، أو بضد هذا وهو الملاينة المتطرفة، إن الحالة الأولى تؤدي إلى صراع
Conflict ، والحالة الثانية تؤدي إلى التدهور والفساد
Delinquency . الطفل في الحالة الأولى ثائر منطو على نفسه وإن يكن هادئا في الظاهر، وفي الحالة الثانية ينشأ الطفل اتكاليا ويشب عالة على المجتمع، ولما كانت تربية الطفولة تتلخص في أمرين: إعداد شخصية خالية من العقد وإعداد شخصية غيرية، فكثيرون من الأطفال يخرجون من الطفولة بالنقيصتين فيتعرضون لكل الكوارث النفسية الممكنة.
هذا هو الدهليز، ولكن لدي ما أسميه دهليز الدهليز؛ أي المرحلة التي تسبق المراهقة، وهي التي يتكون فيها الحكم
Reasoning ، المرحلة التي نعلم فيها أولادنا كيفية استعمال العقل، ولما كان أكثر المنطق الذي نستند إليه متحيز، فإن الخطأ يجيء من هذا الباب أكثر من أي شيء آخر. والغالب أننا نخطئ في حل مشاكلنا العقلية بسبب هذا المنطق المتحيز، وهذه مسألة عميقة الأثر في تكوين عقلية الشباب، ففي هاته المرحلة التي ندعوها دهليز الدهليز، على المربي أن يكون في الشباب العقلية التي تنظر إلى الأشياء نظرة مجردة، بعيدة عن أهوائنا ونزعاتنا، ولقد يكون من المرانة أن يعقد مجلسا عائليا لحل مشاكل الأسرة، ويكون رائد أفراد العائلة المناظرة المجردة عن الهوى والنزعات الشخصية، بهذه العقلية يجب أن يدخل الصبي إلى المراهقة.
في المراهقة يكون الفتى أو الفتاة في عالم جديد، فالغدد ناشطة والحياة الجنسية أخذت تزدهر، والدنيا مليئة بالمفاتن التي تغري بالسيطرة عليها، ومن هنا تكثر المخاوف المبهمة التي يأبى المراهق التصريح بها ، فهو يرى كل شيء في جسده جديدا ناميا فيتعثر، ويلوح عليه عدم الانسجام، والواقع أنه يرى صورتين في المرآة، صورته الحقيقية وصورة رجولته في مرآة ذهنه، والصورتان تتعارضان وتتداخلان في تصرفاته.
هذه الصورة التي تبدو في مرآة الذهن لها أثر بعيد في نفسية المراهق، فإنها تخلق ثورة دفينة، وخاصة في المنزل؛ حيث تتعارض الصورة الذهنية مع الصورة التي يرى بها أهل المنزل فتانا أو فتاتنا، فالمراهق في المنزل ثائر متبرم ولا يجد راحة إلا في المدرسة حيث يساعد جو النمو على اطراد النمو الحقيقي.
فعلى ذلك يجب الالتفات إلى هذه الثورة الدفينة، وعرفان مصورها وحسن ترجمتها.
فإذا اتفق أن يكون المراهق قد خرج من الطفولة بعقدة وصراع، فإن الشباب سيكون جحيما تاما، وهنا يجب أن نقف قليلا لننظر إلى معنى الجنس في المراهقة، إن الجنس في المراهقة خيال وتأليه وتقديس ومثالية، على أن الفتى بقدر ما يتخيل عن الفتاة فبينه وبينها نفور؛ لأنه خارج من سيطرة أم ونفوذها فهو يخشى الدخول تحت نير جديد، ومن هنا يتبين سر النزاع بين الشقيق وشقيقته في المنزل بغير داع؛ ولهذا السبب دعا المربون إلى منع اختلاط الجنسين في هذا الدور من التعليم، لا من أجل المسألة الجنسية فقط؛ لأنه قد اتضح أن كل ما يذكره المراهق عن معرفته بالمسألة الجنسية افتراء وادعاء، وأنه قادر على الكلام فقط، أما العمل ففي دور الشباب حين يكون الذكر قد نظر إلى الأنثى من زاوية جديدة خيالية وعملية، على أن لدور المراهقة هذه النواحي على العموم: عدم الاستقرار، تعدد الأهداف، التحرر من القيود لدرجة الاستهتار، تشتت الفكر، الاستغراق في أحلام اليقظة، التعرض لمركب «أوديب» أو على الأقل لتثبيته.
فالأخطاء التي يمكن أن يخرج بها فرد ما إلى الشباب هي: (1) أنانية ممتدة من الطفولة. (2) صراع مبني على العقد. (3) استهتار وميل للهدم والتحدي. (4) اندفاع عاطفي خيالي.
هذه هي بالذات أخطاء الشباب التي يجب الالتفات إليها ومحاربتها، وأهمها في رأيي الصراع بمسبباته ومختلف ألوانه، فهذا الصراع هو السبب في الشقاء الذي يخيم على نفوس الشباب في هذا الجيل، وهذا الصراع مقترن أشد الاقتران بتنوع الأهداف وتشتت المطامع والميول، والضباب المتكاتف حول المرامي.
يبدو مما ذكرت أن الرجولة الناضجة هي الرجولة الخالية من الأخطاء السالفة؛ أي هي سلامة من العقد، وإيجابية واتزان وغيرية، أما سلامة الشاب من العقد، فمعناها أن لا يكون الصراع عنده مرضيا مبنيا على قوى متضاربة مكبوتة، وقد فصلت المؤلفة «كوسجريف» ذلك تفصيلا واضحا في كتابها «سيكولوجية الشباب»، فذكرت أن الصراع قد يكون بين الحقيقة والواقع، وبين ما نتخيله وبين ما نحن عليه في الحقيقة، وبين فكرتين وبين عاطفتين، وبين الرغبة والطلب وبين الروحانية والمادة، وبين ما هو إنساني وغير إنساني، وبين الذاتية والطاعة وبين القيود والحرية، وبين فكرتنا عن نفسنا وفكرة الناس عنا.
وهذا الصراع مع الأسف ينتهي إلى أمرين: (1) الشقاء الملازم. (2) تمزق الشخصية.
وقبل أن أصف العلاج لهذه الأخطاء أضيف كلمة عن الحب عند الشباب، فأقول: إنه شيء جدي جدا في حياة الشاب والشابة، والعلاقة التي بين شاب وأول فتاة يعرفها قوية جدا وعميقة، وهو يبني على تلك العلاقة أهمية كبرى ويصاب بحزن بالغ يوم تنفصم.
على أن الإنجليز يسخرون منه ويسمونه
Calf Love
أي الحب العجول! ولست من هذا الرأي ولا أميل إلى السخرية بالحب في دور الشباب، فإن آمال الحياة وما تتطلبه من الاستقرار تتركز عند الفتاة في شاب يمثل أحلامها، وعند الشاب في فتاة تطابق أمانيه المتخيلة، فيجب أن لا نتسرع بعدها نزوات، ولكن المهم هو أن نميزها من سطحيات المراهقة.
أما العلاج، فهو: (1) على الشاب أن ينظر نظرة صادقة مجردة عن التحيز لنزعاته وأهوائه. (2) عمل «ميزانية» للمطالب وتصفيتها بين حين وآخر؛ لنعلم بالضبط ماذا نأخذ وماذا ندع. (3) على الشاب أن يتسم بطابع من المرونة ليس فيه ميوعة ولا تخنث، حتى يمكنه أن ينسجم مع الوسط؛ لأن الشخصية تماسك وهدف وفي الوقت ذاته تفاعل بين الفرد والوسط. (3) على الشاب أن يعلم أن النجاح في كيفية الوسيلة لا في بلوغ الهدف، وأن كثيرا من الإخفاق أنبل وأشرف من هدف متحقق. (4) على الشاب أن يعلم بأن هذه الأخطاء طبيعية ومتوقعة ولا يجب أن تعتبر مهانات نعاب عليها ونخجل منها ونداريها ونطليها بطلاء خادع كاذب.
هذا ما يجب على الشاب، أما ما يجب على المربي فهو أن يعلم أن من الأخطاء ما يمكن أن يستغل فيصير كمالا، أو أرفع من الكمال، فمن صفات المراهقة المثالية والحماسة وعبادة البطولة، فيمكن أن تستغل هذه الصفات استغلالا كاملا على شرط أن لا تتحول المثالية إلى صراع، والحماسة إلى اندفاع عاطفي جامح، وعبادة البطولة إلى هدم وموت ضمير ووصولية.
هذه هي أخطاء الشاب وواجبات الشباب، وقد وجدنا أن أكثرها من صنع المربي، وقد وضح لنا أن أغلبها امتداد لظل سابق، فلنبدأ بتلافيها قبل وقوعها، وهذا هو العلاج الواقي الناجع.
رسالة النقد
نتساءل أولا: هل لدينا نقد أدبي؟ يكاد يكون الإجماع: لا. وحتى الذين يحررون هذا النقد في الصحف هم أول من يعترفون بأنه لا يدخل في باب النقد ولا ينتمي إليه بصلة.
ماذا نسمي هذا العبث إذن؟
الأفضل أن نسميه «عرضا»، ويقابلها بالإنجليزية كلمة
Reviewiny
لنفصل هذا الهراء عن الجد المسمى «النقد» أو
Criticism . واعتقادي أن السبب الأول في ضياع حرمة النقد، هو الخلط بين الموضوعين على غير وعي، وهناك أسباب كثيرة لهذا الانهيار الأدبي، أولها أننا في عصر قلت فيه القراءة الجدية، والثاني النزعة المادية التي تسيطر على العصر، فحتى استعراض الكتب لم يعد استعراضا؛ بل صار نصفه إعلانا ونصفه دعاية، فإنك تجد في آخر الحديث عن الكتب أين طبعت وأين جلدت ثم الثمن، وأحيانا وأحيانا كثيرة جدا نقرأ حديثا عن الكتاب، ونبحث عن اسم المؤلف فلا نجده؛ لأن عارض الكتب له عقلية عارض الأزياء.
والسبب الثالث: السرعة أو «اللهوجة» على حد تعبير المرحوم «المازني»، فالعارض ليس عنده وقت ليقرأ، فبالتالي ليس عنده وقت ليكتب، وإنه ليخيل لي أحيانا أنه قرأ صفحة في أول الكتاب وصفحة في آخره، واكتفى بهذا، ومن المحزن أن عرض الكتاب لا يكون له أهمية الخبر من حيث الأهمية والحيوية، إلا حينما يكون المؤلف من الذين لاسمهم دوي في آذان الجماهير. وقد حاول أحد الكتاب الأمريكيين أن يفرق بين العرض والنقد، فقال: إن العارض متحدث متعجل، والناقد عارض متئد، وحاول آخر أن يفرق بينهما، فقال: إن العارض يعطي صورة للكتاب أو الكاتب، بينما الناقد يضع هذه الصور بين صور أخرى، حتى نتبين على ضوء المقارنة قيمة هذه الصورة، وأخذ كاتب آخر يفرق بينهما بشكل أوضح، فقال: إن العارض صاحب كلام خاص لا يعلو على الخصوصية، ولا على الغرض المباشر، ولكن الناقد يخرج من الخصوص إلى العموم، ويسمو على الهدف القريب، فهو هنا يستوي مع الفنان. ويعود كاتب آخر يقول: إنك لا تخرج من العارض إلا برأي ذاتي مبتسر، بينما الناقد يجب أن تصل عبر أحكامه الذاتية إلى ما يصح أن يكون دستورا أدبيا ذا مواد شاملة وعامة وخالدة الأثر. هذا الرأي الأخير هو رأي «ريمي دي جورموز». على أن النقد هو ذلك الشيء الذي يخرجنا من عالم الثرثرة إلى عالم القيم الباقية
Values ، ولا أذكر من الذي قال: إن الفرق بينهما هو الفرق بين البوليس والقاضي، أو بين القسم والمحكمة، والمحنة هي في أن هذا البوليس، البوليس الأدبي جاهل أولا، وثانيا هو من الغرور بحيث يحتفظ بتحقيقاته في ملفاته الخاصة، بينما نحن في حاجة إلى من يحيل هذه الأوراق إلى قاض تكون أحكامه بمثابة قوانين أدبية يرجع إليها بين الحين والحين. فأين هو هذا القاضي؟ هو غير موجود على صفحات الجرائد والمجلات ولا في الإذاعة، ولكنه منطو على نفسه ضمن مكتبته وأسفاره يبني أحكامه الصادقة على شيئين:
الأول: الذوق الأدبي، والثاني: فهم دقيق للعملية الأدبية، وكيف تجري في أعماق الخاطر مبدأ ونضجا ونهاية، وقد يكون هذا القاضي قد قرأ آراء القراء والشراح الذين سبقوه، ولكنه لا يتقيد كل التقيد بآرائهم ومعتقداتهم؛ لأنه يعيش في القرن العشرين ولأن النقد في هذا الجيل لا يجب أن يسير على غرار المناهج القديمة، ذلك لأن النقد المصاحب للوعي الإنساني، مساير لتطور العقلية البشرية مماش حتى للمعتقدات الدينية، فمن هذا يبني القاضي الحديث أحكامه على عقلية العصر منتبها إلى ما يلائم ذوقه وتفكيره متخلصا من قيود القدم متخطيا أسرار التقاليد البالية.
هذا القاضي موجود ولكنه قليل ونادر، وهو يؤثر أن يستقر بأفكاره وأحكامه مفضلا عزلته على الاندماج في هذا الصخب الصحفي الذي أساء إلى النقد ونزل به من حالق، ولقد دعاني للمحاضرة عن موضوع النقد أنني قد عدت إلى الكتب الحديثة في النقد - رجعت إلى «أبر كرومي وريتشاردز ومري وروبرت ليند»، وكانت عودتي بالذات لاقتناعي بأننا في زمن جديد يحتاج لوعي جديد وبالأصح زمن جديد، ذي وعي جديد، يحتاج لطراز من النقد جديد، فما يكفي أن يقال، ولو كان هذا أحسن ما يقال: إن العملية الأدبية هي تجربة شعورية تندمج في اللاشعور، وقد تدخل مفصلة الأجزاء لتلتئم في الداخل، ويضفي عليها ضباب اللاشعور وأحلامه وتدرجاته وإمكانياته ثم تنتهي إلى إفضاء.
فعندنا من ناحية تجربة شعورية ومن ناحية أخرى «توصيل
Communication »، وفي الوسط مكان العملية، ونحن نعلم أن أغلبها يتم في العقل الباطن بين الفكرة والعاطفة والظلال والإيقاع، كل هذا تعميم، وقد تناوله كل الكتاب المحدثين، ولكن بالرغم من ذلك قد بدت في الحقل الأدبي ظواهر غريبة، أولها إبهام في القيم، وغموض في المقاييس. وثانيها وهو المهم اختفاء النقد بالذات من عالم الأدب، هناك إنتاج أدبي ضخم بدون شك، ولكن هذا «الترف من الفوضى» على حد تعبير «جوفري ويست»، أو بعبارة أخرى: هذه البضائع المكدسة في أسواق الأدب بلا ضابط ولا صيرفي يبين صحيحها من زائفها يدل على أننا في عصر متسم بخاصية من عدم المبالاة، وعدم الإلحاح في إيجاد روابط وضوابط.
هذا الوعي بالضبط هو الذي يجب تشريحه وتفهمه والتغلغل في طواياه، لنفهم كيف حدث وهل يرجى له علاج في المستقبل؟ كلما فكرت في الوعي الجديد يخيل لي أن هناك متكأ أفلت منا، وسندا قد أضعناه بإهمالنا، هذا هو التراث الأدبي
Tradition
أعني بهذا ذلك الحبل المتصل بيننا وبين ماضينا الأدبي، ذلك الحبل الذي تنسج خيوطه أجيال وأجيال من التجارب الأدبية الثابتة. نحن الآن ننظر نظرة نصف ساخرة إلى سفر قيم كديوان الحماسة، وأكثرنا ينظرون إلى الشعر العاطفي بنفس السخرية التي ينظر بها الآخرون إلى العقل المهيمن على ديوان الحماسة في التربية.
فنحن إذن في مزيج من الثورة والسخرية وعدم الرضا، وبين هذه الانفعالات المتضاربة لا نعرف أين نقف بالضبط، ولا ندري لنا طريقا خلال ضباب المستقبل، ونحن في هذه الحيرة نتساءل هل أفادتنا مجهودات المؤلفين الممتازين أمثال «السحرتي» و«مندور» و«الشايب» و«سيد قطب»؟ لا أعتقد أنها أعطتنا فرصا للمقارنة وأعطتنا فرصا للفهم والتحليل، ولكننا لم نزل بعد في ظلماتنا؛ لأن هذه المناهج المضطربة بين الكلاسيكية والرومانتيكية لا تؤدي إلى خطوط ثابتة يمكن السير وراءها، وليت اضطرابها فقط في التردد بين هذين المذهبين؛ الموضوعية والذاتية، بين المنطق والعاطفة، بين اللفظ والمعنى.
إلى آخر ما هنالك من هذه الدروس الملتوية بلا انتهاء ولا غاية.
ولقد يلتفت الباحث نحو الماضي فيجد عهدا من العهود، عهد قديما في الواقع كان النقد فيه مبنيا على الفطرة، ولكنه على كل حال كان سليما ومعقولا ومحترما، وكانت هذه الفطرة تشبه الإيمان الديني في الاقتناع والقوة، ولذلك جرى النقاد المحدثون على مذهب جديد، هو أن يقارنوا عندما يستعرضون تطور المجتمع، بين تطور الوعي وتطور الاعتقاد الديني، ففي العصر الذي تشير إليه كان الإنسان يستمد وعيه كما يستمد قواه الدينية من مصدر خارجي، وكان هذا المصدر الخارجي من القوة والسلطان والإقناع بحيث يجعل الوعي الأدبي والوعي الديني متماسكين في ظل النظم والقوانين والتقاليد التي شرعها ذلك المصدر الخارجي، لم يكن هناك انقسام في الوحدة النفسية، لم يكن هناك عقل وعاطفة، بل هناك عقل محض تختبئ في ظله العاطفة وتستدفئ الروح، وكان هذا العقل يستمد جبروته من عقل شامل محيط يملي ولا يناقش، في حماية هذا العقل كان النظام موطدا والاستقرار سائدا والدروب مشتركة والمسالك موحدة.
سار هذا النظام في القرون الوسطى حينما كان أرباب الديانات يستعينون بقوة الفلسفة - أي بقوة المنطق والعقل - في إجبار الناس على قبول المناهج الدينية أو الأدبية، أما في عهد النهضة وبعدها فقد استيقظت «الروح» الإنسانية واستيقظت الذاتية الفردية، واستيقظ الوعي الداخلي في النفس البشرية، كل هذا لتحد الروح من سلطان العقل، ولتثبت أنها جديرة عن طريق البصيرة
Insight
بوعي مستقل كامل لا يعتمد على إمداد خارجي هذا الانفصال في شبكة الوعي، هو بالضبط ما جرى في النفس البشرية فأثر بدوره في المجتمع والدين والأدب، أما في المجتمع فهذا معناه الثورة على الدكتاتورية وقيام الديمقراطية، وأما في الدين فقد جعل الناس أقرب إلى التشكك واللادينية؛ لأن الإيمان المبني على مجرد التأمل العميق يختلف عن الإيمان المبني على المنطق والواقع، فالأول أقوى وأعمق، ولكن الثاني أكثر سطحية وأعم اتساعا وشمولا.
أما في الأدب فمعناه خلع سلطان الكلاسيكية ومبايعة الرومانتيكية في الأدب.
ولكننا في وقت التحام العناصر النفسية كنا أقوى وأشد نظاما وترتيبا، ولكننا اليوم - بانقسام الوعي - شطرنا هذا الوعي، ولكننا لم نفلح في إعادة الالتئام إليه مرة أخرى. من ذلك نتبين أن هذا التصدع جرى في انتظام، التئام جديد، التئام بين دعاة العقل، دعاة الروح، دعاة الموضوعية، دعاة الذاتية، دعاة الطاقة الخارجة والطاقة الداخلة
Trasscendant and Immanent .
يقول «بوناميه دوبريه»: لم تر الدنيا عصرا من العصور ظهرت فيه الحياة تافهة، والوجود سخيفا والقيم زائلة كما يتبين اليوم، إن قوى هائلة من الإرادة الإنسانية والتساؤل تنبت في محيط كان يسوده الاعتقاد الأعمى المطلق. فنحن في الواقع لا نزال في عصر تحول
Transition
يتميز بالشك والقلقلة، وطابعه الاستخفاف بكل شيء وإنكار كل شيء. قال «تولستوي»: إن أول مراتب الفن والنقد الإحساس الكامل بالحياة بقسميها العقلي والاجتماعي، فمن أين يتيسر لنا الفن والنقد ونحن في عصر تحول، مفطور على تجاهل الحياة والقيم على أنه يبدو للذي يقرأ الروايات والسير أنها تلخص في بضع كلمات، فلان الفلاني في سن السابعة عرف القيمة الحقيقية لوالديه فأنكرهما، وفي البلوغ عرف قيمة التعليم فحقد عليه، وفي الشباب عرف قيمة الأخلاق فثار عليها، ثم تغلغل في المجتمع فاتضح له فساده فتمرد على أوضاعه ، وفي سن الخامسة والعشرين انتهت القصة بهذا النظام الأسود المتشائم، هذا ملخص عام لجميع روايات هذا الجيل بدون استثناء، والنتيجة الجدية أن نرى ولا نزاع أن الأدب الأبتر فرع من الشجرة البتراء.
ولكننا في الحق يجب أن نقف موقفا جديدا إذا أردنا أن نخلق عالما جديدا، يجب أن نقف موقفا متفائلا بدل هذا الموقف المتشائم القاتم، وأول خطوة لذلك أن نعترف أن التساؤل هو مدخل النقد.
وعلينا أن نذكر دائما ما قاله «ماتيو أرتولد» في هذا الباب، وهو بالحرف: «النقد هو ما يخلق موقفا ذهنيا، تستفيد منه القوى الخالقة.» وعنى ذلك أن الفن يبلور القيم الإنسانية، أما النقد فيجلو هذه القيم المتبلورة للأنظار.
وقد يتساءل متسائل وما علاقة الذوق الفني أو الأدبي بالنقد؟ أليس لهذا أهمية؟ فنجيبه أن الذوق هو بالطبع أساس النقد والفن، وقد يكون النقد التعبير التلقائي للذوق، ولكنه في الواقع أعلى من ذلك، فإن الذوق شيء باطني «على كيفه» أما النقد فهو وعي الفن، ويمكن أن يقال كذلك أنه وعي الذوق، أعني بذلك أنه الفن الواعي المنظم أو الذوق الواعي المنظم كما تشاءون
Criticism is the consciousness of art and test .
وخطوة أخرى في سبيل تفهم موقفنا الحاضر هو أن لا نجزع من تنوع واختلاط المقاييس، ويجب أن لا نفزع من سيل الفوضى الذي يغمرنا، فإن الحقيقة الكبرى أن لكل سيل اتجاهه ولكل انتقال هدفه، وإن هذا التنويع في الاتجاهات والمذاهب، يحمل - على رغمه - خطوطا رئيسية، فإذا فهم الناقد هذه الاتجاهات فعليه أن يكون محصنا ضد التأثرات العابرة، أعني أن يكون محيطا بميول نفسه وميول جيله، وملما بالميول والاتجاهات الإنسانية الماضية ومستعدا للمقارنة واستخلاص القيم الثابتة، وأزيد ذلك شرحا أن على الناقد أن تكون وظيفته «كاتب حسابات الفن»؛ عليه أن يدون الحسابات، ويرصد الدخل والخرج ويعين الرصيد، ويمحو من العملة القديمة ليبدلها بعملة جديدة، فهو من ثم يكون حافظ التراث، حافظ التراث القومي والتراث الإنساني، فإن لم يكن هناك تراث فعليه خلق تراث، هذه وظيفة هامة جدا للناقد، وهو في أثناء عمله هذا يجب أن يدرك أننا لم نعد في عصر يؤمن بقيم مطلقة لا تناقش، فإن القيم المطلقة مستحيلة، وإنما الذي نبغيه هو الاختلاف في ظل وحدة قابلة للنمو والتحسين.
ولما كانت الفلسفة والفن على اتفاق في أنهما يحددان ويخلقان القيم الإنسانية فإن الناقد يجب أن تكون له ذهنية الفيلسوف والفنان معا، ولو أن «مري» و«إليوت» يعطيان الأهمية للعقل الفلسفي، ولكن كما شرحت سابقا قد بينت علاقة النقد بالفن، وفي الواقع يهمني أن أجد الناقد فنانا ذا نشاط ذهني قوي، على الناقد إذن أن يكون له عقل فيلسوف وإحساس فنان، وهنا نقف على عتبة الموضوع الكبير، عقل أم عاطفة؟ موضوعية أو ذاتية؟ معنى أم لفظ؟ كلاسيكية أم رومانتيكية؟ إنه مهما تعددت المذاهب وانقسمت لا تنقسم أكثر من مذهبين؛ الكلاسيكية والرومانتيكية، فتصور تحرر الروح والتمرد على الأوضاع والانطلاق الشعوري التام، ففي الأولى الاستقرار في ظل النظام، والثانية في ظل فوضى لذيذة، وإذا استعرضنا العمل الفني على الأجيال خيل لنا أن هناك جهدا موصولا للخلاص من الكلاسيكية، ولكن هذا غير حقيقي؛ فإن كل جيل يخيل له أن الجيل الذي سبق مثقل بالقيود، فعليه الخلاص من قيوده، وهو في الواقع لا يمكنه أن يحطم تلك القيود؛ لأنها قيود أصبحت جزءا من الهيكل الأدبي والاجتماعي يود الذي يسكنه - وهو لا يدري - أن يخلق متنفسا من الهواء الطلق في أبهاء قصر عابس الحجرات متجهم المعالم، ولكنه قصر يقف رمزا للمجد ولا يزال أثره باقيا وسيظل.
فالخلاصة أن الأجيال المتعاقبة عاملة على إعطاء الزمام للروح بدل العقل، وللشعور بدل المنطق الصارم، هذا هو الاتجاه الرئيسي للجيل الحاضر، فالكلاسيكية كما يريدها ناقد مثل «إليوت» لم تعد صالحة مطلقا، والرومانطيقية كما يريدها
ioya
كذلك لا يمكن أن تنطلق على هواها!
فما هي القيمة التي يتوخاها الناقد الحديث - ناقد المستقبل - في العمل الأدبي؟ يجب أن يحاول الناقد وضع العمل الأدبي في مكانه من القيم الإنسانية الثابتة، بعبارة أخرى: يتعدى الخصوص للعموم، وهو لن يصل إلى هذه النتيجة إلا إذا اعتبر النقد وعيا للحياة الإنسانية.
قال «تشيكوف» لأحد أصدقائه الذين يكتبون من برج عاجي: «تعال، اختلط، استغرق في الزحام، تنفس أدبا، لكي تعرف أن تنقد أدبا!»
فقيمة العمل الأدبي أو الفني هو القيمة التي نسجلها في درج الحياة الإنسانية، فإذا فهمنا ذلك ذهبنا إلى صورة العمل الأدبي، العمل الأدبي غرفة ذات بابين: باب يطل على الحياة، وباب يوصل إلى الحياة.
من الأول نستمد تجربتنا الشعورية، ومن الثاني نوصلها للناس.
أما الغرفة الداخلية ففيها الفكرة والعاطفة واللفظ والمعنى والصورة والظلال، والموسيقى والانسجام والإيقاع؛ أي إنها «المطبخ» التي تطهى فيه التجربة لتخرج ناضجة.
وأهم ما في التجربة قيمتها الإنسانية، وأهم ما في المطبخ الانسجام والتوازن والسبك، وأهم ما في الباب الخارجي سهولة التوصيل ويسر التفاهم، وكيفية الإقناع والتأثير، وبث الإحساس بالقيم التي أوحت بها إلينا التجربة، وكشف مواضع الجمال والأهمية في الحياة والوجود، وقد يكون للشعر طبخ غير النثر، وللنثر طبخ غير الغناء أو الموسيقى، ولكنها في اختلاف النسب والمقادير بينما تبقى الأصول على حالها من حيث التوازن والانسجام.
فالعمل الفني يجب أن يحدد في عين الناقد بمقدار الشعور الإنساني المنبت فيه، والتوازن الجاري بين المتناقضات من عقل وعاطفة وفكرة ومعنى.
وأخيرا، هل أفاد هذا العمل اتصالا؟ فما قيمته وما أثره في الأدب الحاضر والمجتمع الحاضر؟ وما قيمته وأثره بالنسبة للتراث الأدبي العام، هذا هو نقد المستقبل أو مستقبل النقد والسلام.
رسالة السياسة
إن اعتبار السلوك السياسي على أنه مسألة عقل وتدبير قد أصبح على ضوء علم النفس الحديث اعتبارا عتيقا، وبعد قليل سيصير خرافة. فقد ثبت أن السلوك السياسي أبعد وأعمق من أن يكون مجرد عقل أو دهاء. وأقصد بالسلوك السياسي: ذلك السلوك الذي يساس به الناس بواسطة الحكام أو الساسة، ومصدر هذا التغير في الاعتبار هو بروز مسألة «الغريزة» والعودة إلى التحدث بشأنها في علم النفس الاجتماعي، وفي السلوك الاجتماعي على الإطلاق بشكل يدعو إلى التأمل العميق. لا ندعي من ذلك أن علم النفس ذلك العلم الذي لا يزال ناشئا، يمكن أن يطبق تطبيقا عاما في كل مسألة، أو أنه يمكن تطبيقه جزافا.
على أننا إذا لم ننتظر منه فائدة مباشرة، فإنه مما لا جدال فيه أن الميدان الأخير هو له في غير جدال، ولقد ذكر «ريفرز» في كتابه الأخير عن السيكولوجية والسياسة أنه كان يضع برنامج المحاضرات والامتحانات في الجامعة مدة 8 سنوات متتابعة في المدة الأخيرة، وأثار العجب في نفسه أنه في هذه السنوات كلها لم يذكر كلمة الغريزة، وها هو قد عاد إليها بحماس وقوة، ليقيم دعائم السلام عليها، وعلى ما تبين له من دراستها، على أنه ينكر المقارنة بين العقل والغريزة، ويقول: إن هذا عبث، ويعتبر العقل غريزة متطورة، وينكر نسبة السلوك إلى العقل، ويعرف الغريزة تعريفا جديدا ألا وهو: «أن الغريزة اتجاه موروث نحو السلوك»، ويقول: إن من صفات الغريزة عموميتها، وكثيرا ما ننخدع بشكل من أشكال الغريزة، اتخذ زيا جديدا على الأيام، وأخذ يبدو كأنه لون من ألوان العقل والذكاء، فإذا أخذنا نحقق وجدنا أنه غريزة تشكلت من جديد بحسب ظروف جديدة، وأهم هذه الظروف الكبت أو الاستعلاء، ثم يعود فيقول: إن العقل في نظره عبارة عن «لجام» يمسك بالغريزة، ويكبح جماحها ويقودها وفي يده عنانها، ويؤكد كذلك أن هذا الموجه لا يوجه نفسه، وإنما يوجه «النواحي العاطفية للغريزة»، على أن النقطة التي نريد أن نبدأ بها هي هذه: هل يمكن الاعتماد على علم النفس الاجتماعي فقط ليقود خطانا إلى ما نرجوه من السلامة؟
لقد حاول أكثر العلماء مزج علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع معا، على فكرة أنهما يلتقيان في أن الأول استنتاجي والثاني استقرائي؛ أي إننا ندون ملاحظاتنا بواسطة الثاني ونستخلص النتائج بواسطة الأول، ولكن رأى «جراهام والاس» في أن هناك ما يسمى «الميراث الاجتماعي
Social Heritage » وهو «ميراث غير غريزي
Non Instinctive » خارج عن السلوك الغريزي، جعل هذا المزج مستحيلا؛ فهناك من السلوك المتوقف على الميراث الاجتماعي ما لا يقوم على قواعد «سيكولوجية»، ولكنه يفيدنا فائدة كبرى في الناحية السيكولوجية، ولما كان السلوك السياسي وهو جزء من السلوك الاجتماعي العام فإن الملاحظات والمقارنات والإحصائيات سيكون لها أثر بالغ في توجيه السياسة وجهة نفسية، وعندنا أمثلة كثيرة على ذلك، أمثلة هامة جدا، وأول هذه الأمثلة ما جاء في كتاب «وستر مارك» المشهور عن عاطفة الانتقام، فهو قد قرر تقريرا سيكولوجيا مؤداه أن عاطفة الانتقام أصيلة في النفس الإنسانية، وهذا مبدأ خطير جدا معناه أن استقرار السلام في العالم غير مستطاع، فجاء «ريفرز» وغيره يبحثون هذه الطبيعة طبيعة الانتقام في سلوك القبائل، وفي الإنسان الأول وفي مختلف الطبقات، فانتهوا إلى نتيجة مخالفة لرأي «وستر مارك» مخالفة تامة، معنى هذا أنه لكي ننتهي إلى رأي صحيح يجب أن يسير كل علم في طريقه، على أن يسير العلمان على محاذاة وعلى اتصال.
ومثل آخر هو مثل الساعة ذلك هو حق المرأة السياسي، إننا لغاية اليوم نتعلل في حرمانها من هذه الحقوق بما نعرفه من سيكولوجيتها، فنحن نقول: إن مخها أقل من مخ الرجل، وبذلك يكون ذكاؤها أقل، وإن قوة احتمالها أقل، وإن عاطفتها جامحة، وإن تكوينها يعدها فقط للأمومة، وإن ... وإن ...
ولكن بقيت مسألة هامة أن السلوك الإنساني والسياسي ما هو غير غريزي وما هو بلا شك جزء من الميراث الاجتماعي، وهذا السلوك مبني على أسباب غير جلية، ولكن أثرها لا يمكن إنكاره، فمن ثم يتضح لنا أن سلوك المرأة السياسي يجب أن يوضع موضع التجربة على الأقل، بمعنى آخر يجب أن نتبين سلوكها في الانتخابات، والدعاية ووسائلها في البرلمان، وفي الإدارة وفي غير ذلك، من يدري؟ ربما كان في سلوكها السياسي ما يلقي بدوره ضوءا جديدا على طبيعة ذلك السلوك، وربما كان فيه ما يصحح لنا أخطاءا سيكولوجية أوقعنا فيها جهلنا وعجزنا عن المغامرة والتجربة.
وثم مسألة أخرى غاية في الأهمية، وهي أن الإدارة السياسية تجري بواسطة اللجان، واللجان حسب ما نعرف قسمان؛ استشاري وتنفيذي، والقسم الأول ناجح غالبا، والثاني فاشل في معظم الحالات، وقد أخذ علم النفس يبحث في أسباب الفشل السياسي؛ أي يبحث في أسباب فشل الهيئة التنفيذية للمشروعات غالبا ما تقع في أيدي قوم له خاصية سيكولوجية «الدفاع النفسي» وهي سيكولوجية قائمة على مركب النقص، ومركب النقص يدعو إلى «التهويش» وهذا التهويش هو دفاع عما تحته من العجز الحقيقي والقصور، فابتدعت في أمريكا طريقة تدعى طريقة الشريط الأحمر، وهي طريقة آلية يمشي فيها التفنيد من خطوة إلى خطوة حتى تنتهي الخطوات بلا تردد ولا تلكؤ، ولكن هذه الطريقة فشلت في السلم وإن نجحت في الحرب، فشلت في السلم لأن حالة السلم تقتضي المرونة والكياسة وإدراك الطبيعة الآدمية التي تتطلب الأيدي المرنة الذكية لتسيير دفة أمورها.
من هذا يتضح لنا أننا لا نزال في أول الطريق، على أن الطريق واضح مهما بدا للعين من أحجار وعقبات.
فإذا عدنا إلى ما بدأنا به الكلام من أن كل سلوك في الوجود هو غريزي أصلا، متجاهلين - بعض الوقت - مبدأ «ولاس» ألا وهو السلوك الغير الغريزي؛ أي الميراث الاجتماعي، فإننا ننظر في التعريف: «الغريزة هي اتجاه موروث نحو سلوك خاص»، فنجده يؤكد شيئين؛ الوراثة والسلوك، ويمكن مقارنة هذا التعريف بتعريف آخر يقرب منه ولا يقل عنه فائدة، ألا وهو أن الغريزة «عادة اجتماعية».
هذا التعريف وسابقه جديدان جدا، وقد محيا إلى الأبد التعريف القديم الذي ألفناه وهو أن الغريزة «دافع حيوي» أو فعل «منعكس» ... إلخ.
وفائدة التعاريف الحديثة جليلة جدا فهي قد فرقت بين الفرد والمجتمع، وبعبارة أخرى: محت ما كان معتقدا بأن هناك فرقا بين السلوك الفردي والسلوك الاجتماعي، ومحت كذلك ما كنا نسمع به عن «العقل الاجتماعي
Group Mind » وإني أعتقد كما يعتقد «ريفرز» وغيره أن هذا الكلام عن العقل الاجتماعي خرافة، فإن المجتمع ما هو إلا الأفراد مجتمعين وما سلوكه إلا سلوك الأفراد معا.
ولقد تحدث «جوستاف لوبون» وغيره عن هذا العقل الاجتماعي مدللين على وجوده بحالات خاصة تحدث في الحرب والفزع والنكبات، فإن الناس يتصرفون تصرفا جديدا ويمشون على نسق غير مألوف، ولكن المحققين في علم النفس الحديث يقولون: إن ما يحدث ليس إلا استيقاظ غريزة «القطيع» التي هدأت في الطبيعة البشرية، وأخمدت جذوتها عوامل كثيرة أهمها الكتب والاستعلاء.
ولقد جر هذا البحث مشكلتين من أهم المشاكل يرتكز بحثهما على الغريزة من جديد، وينتهي التحقيق منهما إلى رأي قاطع من حيث استطاعة البشر أن يرجعوا إلى حالة اشتراكية طبيعية أو لا يرجعوا.
إن للاشتراكية معنيين؛ الأول: انمحاء طبيعة الملك الفردي، واعتبار أن كل ما يملكه الإنسان يمكن أن يكون ملكا لغيره.
الثاني: أن يعتبر الإنسان نفسه مساويا للآخرين، وأنه خادم للمجموع وحجر في البناء العام.
والأول والثاني صفتان من صفات القطيع الآدمي.
فإذا اطمأن الإنسان إلى أن للغريزة صفة العموم وأن هذه الصفة لا تموت اطمأن إلى أن غريزة القطيع باقية في الأعماق تعمل عملها وإن تغيرت المظاهر والأزياء، ولقد ذكر «ريفرز» بمناسبة غريزة الملك أنه تحدث مع أحد أفراد القبائل الأبوزنجية عن أحواله العامة ففهم منه أن ما يصيده ويكسبه هو ملك للجميع، ولما عرف ذلك الإنسان البدائي أن «ريفرز» يقتصد لنفسه ويودع في البنك ... إلخ. أخذ يقهقه ساخرا. ما من جدال في أنه فوق صفة العموم في الغريزة فإن لها صفة أخرى أشد أهمية ألا وهي قدرتها على المرونة والتكييف، ولقد عارض «ريفرز» ما قرره «والاس» عن الميراث الاجتماعي، وصرح في جرأة أن الوراثة تشمل من ناحية الغريزة ما هو مكتسب وما هو غير مكتسب، وهذا مبدأ خطير جدا وحديث جدا، لقد بالغ فيه علماء الروس وقالوا: إننا نرث من آبائنا حتى المهارة اليدوية، ولكن المهم أن الغريزة تتهذب وتترقى، ونحن نرثها برقيها وتهذيبها، وعاد «ريفرز» يضرب مثلا على ما جرى لغريزة القطيع، فأخذ أولا يدلل على وجودها بشكل قاطع كأساس في طبيعة العقل البشري السليم، فإن العقل إذا اختل كان أول مظاهر اختلاله الخروج على نظام القطيع والثورة على التقاليد المعروفة.
ثم عاد يقارن بين القطيع الآدمي من قديم، والقطيع الآدمي الحديث ليرسي علم الحكم على قواعد لا تنهار.
فهو يقسم القطيع إلى قيادي ولا قيادي والأخير شائع جدا في الحيوانات؛ فهناك من القطعان ما يسير في جماعات لا رئيس لها ، ولكنها تعيش وتنمو وتتكاثر وتدافع عن نفسها وتهاجم على سياق جيد رائع.
فهذه القطعان تعمل عملها بواسطة الإيحاء
Suggestion ، والإيحاء يتكون من ثلاثة عناصر؛ التعاطف والبصيرة والتقليد.
ولما كانت الطبيعة البشرية تقذف بنماذج جديدة بين آن وآخر
Varriation .
فقد يحدث أن يبدو في القطيع المتشابه فرد متميز، فيتبعه الباقون، وينتقل التعاطف والتقليد والبصيرة إلى ذلك الفرد، ولكن التعاطف يصير إعجابا، والتقليد يصير طاعة، والبصيرة تصير إدراكا واعيا، ولكنها مهما تنوعت مظاهرها فإنها إيحاء. ولما كان الإيحاء مصدره العقل الباطن فقد استنتج الباحثون أن هذه الخاصية الأصيلة في القطيع، والتي تجعله يؤدي أعماله تأدية آلية سليمة في صمت وهدوء، يمكن استغلالها بين الشعوب، وفي ذلك تنحية للنزاع الذي لا ينتهي بين الحاكم والمحكوم، وقد أخذ المحققون كذلك يبحثون في تأثير «الكلمات» في الشعوب فانتهوا إلى أن الشخصية هي التي توحي لا الكلمة. •••
إذا كان علم النفس قد وصل إلى هذا الحد من البحث، مرجعا البحث في السلوك إلى الغريزة والغريزة وحدها، بل الغريزة الأصيلة، فما المانع من تتبع الدوافع التي تؤثر فيها وتغير مظهرها، ألا يجوز أن المجتمع يمرض كما يمرض الفرد سواء بسواء، ما دمنا قد قررنا مبدئيا محو الفرق بينهما، إن الفرد يمرض جسميا ويمرض نفسيا، والمرض النفسي أهم ما فيه الكبت، فهل الشعوب تكبت؟ أجل، تكبت. والساسة في هذا والأطباء سواء بسواء، أكثرهم يعالجون مظاهر الكبت ولا يلتمسون علله الدفينة، وأكثرهم يصفون ملطفات بدل التقصي للأسباب الحقيقية، وهناك مرضى يهربون من الحقيقة وأطباء يسيئون التشخيص لأنهم لا يريدون مواجهة الحقيقة.
ها أنتم سادتي ترون فائدة هذا البحث الجليل فأرجوكم أن تتبعوا الجديد في علم النفس الاجتماعي، والسلام.
رسالة القصة
تحدثت كثيرا عن رسالة القصة، وأنا لا أعيد ما قلته سابقا، فالذي يبدو لي أن سنة واحدة غيرت مجرى تفكيري، وفي هذا العصر من لم يتغير في سنة واحدة يعد جامدا، وتمر عليه الأحداث دون أن يدري، ذلك لأن القصة كأي لون من ألوان الأدب يجب أن تساير العصر وإلا اندثرت ، وقد ساءني أننا متخلفون جدا عن الركب الحديث، ولقد كتبت «فرجينيا دولف» مقالا عن القصة الحديثة، فبينت أن أقطاب القصة الذين نجلهم أمثال «جالسورتي» و«لونراد» و«أرنولد بنيت» يعدون متأخرين، بالرغم من الروائع التي خطتها أقلامهم والتي نقشت نقشها نقشا في سجلات التواريخ الأدبية، إذا كان هذا هو الرأي في هؤلاء العباقرة، فأين نحن إذن من هؤلاء؟ ولقد كتب أخيرا القصاص الذائع الصيت «أوفولن» في مجلة المستمع الإنجليزية التي هي لسان حال الإذاعة البريطانية في هذا الصدد، فانتقد القصصي الإنجليزي الحالي والقصصي في العالم عامة نقدا مريرا ساخرا.
على أني يجب أن أفرق أولا بين القصة القصيرة والقصة الطويلة وأقرر مبدئيا أنهما يختلفان تماما، وإن كانت بينهم وشائج وأرحام، ولأبدأ أولا بالقصة الطويلة.
قليل من الكتاب في مصر هم الذين يحاولون القصة الطويلة، وأكثرهم يحاولون القصة القصيرة؛ لسبب بسيط، هو أن الأولى تحتاج إلى «نفس»، وجهد، وتفصيل، ومعاناة، وفهم ودراسة، وسبك، ومبدأ ونهاية، وعقد وحوار وحبكة ... إلخ. حقيقة؛ إن لكل شخص «حكاية» وحكاية طويلة يمكنه أن يجلس ليدونها، وإذا اجتمعت بأي إنسان تنهد وقال لك: إن عندي قصة طويلة، طويلة جدا ومؤثرة جدا، وأريد أن أكتبها، وإذا كنت ناشرا أو رئيس تحرير لمجلة، وجدت في البريد هذه القصة الطويلة المؤثرة، ولكنها حين تصل إليك وحين تقرؤها تتردد في نشرها، وقد يكون أسلوبها جيدا ووقائعها حقيقية، فما السبب في ترددك؟ أليست القصة مهما اختلفت ألوانها «حكاية»؟ أليست كل قصة مكونة من وقائع؟ والجدير بالتسجيل منها هو المستمد من واقع الحياة، ولكنك تتردد في نشرها بالرغم من سلامة لغتها وإشراق أسلوبها وديباجتها، وقد تردها «مع الشكر» لصاحبها فيعجب كل العجب لأنك رددتها إليه. وحينما كنت محكما في وزارة المعارف في مسابقة القصص، كنت مكلفا بقراءة القصص المرسل للمباراة، فقرأت أكداسا وأكداسا، فلم أستخلص مما يصلح إلا القليل، القليل جدا. تتساءلون الآن ولا شك: هل الحكاية الجيدة السرد المستمدة من الحياة لا تكون قصة؟ إذا كان هذا لا يكون قصة فماذا يكونها إذا؟
أجيب على ذلك بأنك تستمع إلى اثنين يقصان عليك قصة واحدة، هي هي بعينها، وقائع وتجارب وتفاصيل، ولكنك تغط في النوم وأنت تستمع إلى الأول، بينما يستأثر الثاني بلبك حتى تلقي ما بيدك مهما يكن هاما لتصغي إليه إصغاء تاما. السبب في ذلك أن الأول «يحكي كل شيء» فيضيع عليك كل شيء، والثاني يحسن شيئين؛ الاختيار والترتيب
Selection & Arrangement ، ومعنى الاختيار أنه يعرف ماذا عليه أن يترك قبل أن يعرف ماذا عليه أن يقول، وهذه حكمة النضوج والفهم والتجربة، لا في القصة وحدها، بل في أي عمل أدبي على الإطلاق، وقد كان «تشيكوف» يؤلف القصة في 100 صفحة أولا ثم يحذف منها بالتدريج حتى تصل إلى صحيفة أو صحيفتين.
أما الترتيب، فهو ما نعبر عنه «بكيفية العرض»، فأنت قد تقدم فصلا على آخر أو جملة على أخرى، أو شخصية على أخرى، أو كلمة على أخرى فيفسد الجو كله، والعبرة هنا لا شك بالذوق الأدبي، ويتبين ذلك على أتمه لا في القصة على الخصوص، بل في الشعر، فإنك أخذت البيت الرائع وبدلت في كلماته، محافظا في نفس الوقت على المعنى وجدت بيت الشعر قد فقد طعمه، ولم يعد شعرا ولا نثرا، وقد كان أحد أساتذتنا مغرما بقلب القصائد الكبيرة على هذا المنوال، أي بمجرد نقل كلمة مكان أخرى وتقديم الواحدة على الثانية أو تأخيرها، ووضعها أولا أو وضعها أخيرا، ولماذا نذهب بعيدا، خذوا الآية المشهورة:
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا
انقل كلمة أسفا من مكانها وأنت تشعر في الحال بالقوة التي يحدثها «الترتيب» في العمل الأدبي.
إذن فمجرد السرد لا يحدث حكاية ولا يحدث قصة.
تقول لي: ولكنها مستمدة من الحياة. فأقول: إن الواقع المجرد
fact
لا يحدث تأثيرا قويا. ولقد قال
Haglett
أن للعمل الأدبي، وخاصة القصة، جناحان؛ القوادم والخوافي، أما القوادم فهي هذا الواقع، أو على حد تعبيري التجربة الواقعية، أما الخوافي فهي «التجربة الشعرية» أعني الظلال والألوان التي يضيفها المؤلف على الواقع.
ولما كانت هذه التجربة الشعرية خاصية لا تتوافر إلا للقليلين أدركنا سر الإحساس الذي يجعلنا نلقي بقصة ما جانبا ونحن نقول: «مش قوي»، «مش قوي»، وإنما نعني نقص هذه الظلال، فقدان هذه الأصباغ، أو باختصار ضياع الشاعرية المطلوبة في القصة، هاتان التجربتان هما ما نسميه جوهر القصة، وإذا حللناهما تحليلا أدق وجدناهما يتكونان من الأشخاص والحوار، والعقدة وحل العقدة، والمبدأ والنهاية. على أن بعض المؤلفين يقولون: بل إن هؤلاء ليسوا في الواقع جوهر القصة، بل الشكل الذي تصب فيه القصة
form
ويقسمون الشكل إلى قسمين: الشكل الميكانيكي، أو الإطار الصناعي، أو القالب. والقسم الثاني: القسم الغريزي
inslinctive form ، أما الشكل الميكانيكي فهو المتبع بين أكثر الكتاب الكبار، مثل «بينت» و«جالسورتي» و«ولز»، وقد كان «بينت» أكثر الكتاب عناية بهذا الشكل الميكانيكي، بحيث إن الشكل عنده قد شبه ببناء هندسي تام الأبواب والنوافذ بحيث لا نجد منفذا واحدا تتسرب الريح من خلاله.
ولكن مبتدع الشكل الغريزي وهو «لورانس» يقول: دعوا القصة تطابق الشجرة النامية؛ أي إنها تنبت جذعا ثم تتفرع أفرعا، ثم تورق ثم تثمر.
أي إن شكل القصة يجب أن يتكون من نموها الداخلي، فهو هذا الذي يحدد الشكل الخارجي، بينما المذهب الميكانيكي يبني البيت أولا ثم يملؤه بالأثاث والسكان، وبعبارة أخرى: مذهب يبدأ من الخارج إلى الداخل، ومذهب يبدأ من الداخل إلى الخارج، على أن المذهب الأخير مذهب «لورانس» و«فرجينيا دولف» مذهب خطير جدا، فهو مذهب حر مبني على استجابات ودوافع داروينية محضة، أساسها التفاعل بين الإنسان والإنسان، والإنسان والبيئة، والإنسان والحوادث، فليس هناك عقدة ولا حبكة، بل تفاعل مستمر، يتضح من ذلك أن القصة تماثل فيلما ملونا سريعا خاطفا، ويتضح كذلك أن الفرق بين المبدئين هو الفرق بين ما هو مادي وبين ما هو غير مادي، بين ما هو كلاسيكي يجري على قاعدة ويتقيد بأوضاع، وبين ما هو حر لا يتقيد بأوضاع غير ما تمليه الحياة ذاتها.
وقد يخيل إلينا أن أصحاب المذهب المادي كانوا يعانون في «بناء» القصة نصبا وتعبا، بينما أصحاب المذهب الحر يستسلمون لفوضى لا تكلفهم أي عناء.
حقيقة إن أبناء المذهب المادي، لكي يكون البناء متناسقا فخما كاملا، كانوا يعانون مجهودا ضخما جبارا في سبيل ذلك؛ فإن «فلوبير» كان يحبس نفسه في غرفته أياما بحالها من أجل كلمة، وأحيانا يخرج إلى الشارع كالمجنون وهو يشد شعره.
وقد ذكرت حكاية لطيفة عن «ثاكراي»؛ فقد اعتذر عن ليلة ساهرة لأصحابه؛ لأنه يريد أن يكتب فصلا في روايته الخالدة «فانيتي فير» فأراد أصحابه أن يداعبوه، فأقبلوا على منزله في آخر السهرة وفاجئوه وهو يكتب، فوجدوا أنه لم يكتب غير اثني عشر سطرا من خطه المنمق الصغير.
على أننا يجب أن نصرح أن المذهب الحر، في أيد غير أيدي «وولف» و«جويس» و«لورنس»، يؤدي إلى فوضى لا قرار لها، وقد كان «لورنس» شديد العناية بعمله عناية فائقة، وكان يتوخى تجنب هذه الفوضى التي قد يؤدي إليها المذهب الغريزي في القصة، فما يروى عنه أنه كان يكتب القصة لآخرها، وأحيانا كان لا يرضى عنها فيمزقها إربا ويبدؤها من جديد.
هذا فيما يختص بالمذهبين القائمين اليوم، ولنا عودة إليهما بعد حين.
فالآن أتحدث عن «الأشخاص» في القصة: إن الحديث عن الأشخاص يعود بنا إلى التجربة الشعرية في القصة.
قال «كيتس»: «إن الشاعر أقل الناس شاعرية»، يعني بذلك أنه مرآة تلتقط كل شيء تصادفه، إنها تشرب هذه الشخصية وتندمج في تلك حتى تتلاشى شخصية الشاعر الأصيلة؛ لأنها امتصت كل هؤلاء، وتفسيرا لهذا نضرب مثلا له على أتمه في «توفيق الحكيم» و«بيرم التونسي»، فإنهما يجلسان في مجلس السمر صامتين لا يتكلمان، فإذا انفض المجلس يمكنك أن تستخرج من عقليهما فلما كاملا لما كان وما حدث في أتم صورة وأجلاها، لقد امتصا كل شخصية واستوعبا كل كلمة، فإذا جلس «توفيق الحكيم» ليكتب عكس كل هذا في قصصه عكسا صادقا عجيبا، وإذا جلس «بيرم» ليؤلف زجلا وجدت هذه الصور مطابقة للأصل مطابقة مدهشة
true to type .
هذه الصفة الشاعرية كانت من مميزات «شكسبير» الأولى، والظاهر أنه كان من الطراز الصامت المستوعب؛ لأننا لا نعرف من تفاصيل حياته الخاصة كثيرا، ولكننا نعرف أنه عرض كل شخصية ممكنة في السجل الآدمي عرضا صادقا جبارا.
إن القصة كما ترون تطورت من السرد المحض إلى السرد المختار، كما هي عند «جين أوستن» و«فيلدنج»، إلى السرد المختار الجيد الترتيب، كما هي في فجر القصة العربية الحديثة، ثم إلى القصة التي لها «شكل» و«جوهر»، وقد تكون هذا الشكل والجوهر في العصر الحديث، العصر المادي من «الواقع»، فالمادية فيه تساوي الواقعية والعكس بالعكس، وتناول علم النفس هذه المادية الواقعية بالتحليل والشرح، حتى صارت القصة أشبه بالجثة تحت مبضع التشريح، وحتى ضاع المذاق الفني للقصة.
تسألونني: وما هو المذاق الفني؟
فأقول: إن القصة كلما تطورت ماشت العصر، حتى أصبحت شغل عقل
Clever Brain Work ، وكلما زاد عمل العقل في الأدب ارتفع إلى برج منعزل، وغمسته أرستقراطية ذهنية خاصة، وصارت عينه ترى في المجتمع فروقا وطبقات.
فإذا انتقلنا إلى الفن الروسي عند «دستويفلسكي» و«تشيكوف» وجدنا الوثبة التي كنا نتمناها، وجدنا العقل قد أسلم زمامه للروح، فصارت القصة لا وصفا لتفاعل الغريزة مع ما حولها ولا لتفاعل العقل، وإنما وصفا لومضات الروح، وصفا للأعماق الهائلة التي تسبح فيها الروح البشرية، وما دامت الروح البشرية واحدة، فمن هنا تنمحي الفواصل بين الطبقات. هناك روح واحدة تسر وتتألم، تسخط وترضى، تحب وتبغض، تسف وترتفع، ترسف في القيود أو تطلب الحرية، هناك أعماق واحدة متشابهة.
وصعوبة الفن الروسي هي في أن الذي يحلل الروح البشرية روح مثلها تفهمها وتدرك آلامها وعذابها وحيرتها، الفن الروسي روح حساسة تخاطب روحا حساسة، عذاب يخاطب عذابا، آلام تخاطب آلاما، آمال تناجي آمالا، الفن الروسي اعترافات، اعترافات متوالية، ولذلك خلا من مبدأ ونهاية، إن عالم الروح غامض فسيح، وكذلك القصة في الفن الروسي، فقد تنزل الستار والناس يتحدثون، لم يفرغوا بعد من الحديث.
إن الفن الروسي على حد تعبير «وارنر»: «يقبض على الأبدية في كف، وفي لمحة.»
رسالة الأدب الأوروبي الحديث
التحدث عن التطور في الأدب الأوروبي الحديث بصفة عامة يغني عن تناول التطور في أمة بذاتها من الأمم الأوروبية الكبيرة، وما ذلك إلا لتقارب التيارات الفكرية في مختلف تلك الأمم، وتأثر كل منها بالأخرى، واحتفالها بكل مذهب جديد ينبثق في آفاق جاراتها، حتى صار الحديث عن أدب إحداها مشابها للحديث عن أدب الأخرى، ويمكن القول في غير تعرض للخطأ أن تطور الأدب الأوروبي الحديث يتخذ أسلوب التطور العلمي.
وقد ساهمت الحربان العالميتان الأخيرتان في التقريب بين الاتجاهات الفكرية الأوروبية، وتبدو وجهة نظرنا هذه جلية فيما أسفر عنه نشوب الحرب الإسبانية الأهلية؛ فإن هذه الحرب لا تعد محلية، بل ظاهرة عالمية أو أممية، وقد اعتبرها الشعراء والكتاب مظهرا لتنازع القوى، ومحكا لاختلاف المذاهب، ومعرضا لتضارب العقائد، وعلى ذلك نزح عدد كبير منهم إلى ساحتها، ومن لم يشترك فيها بسيفه أو بندقيته اشترك بقلمه.
وهناك ظاهرة أخرى تؤيد ما ذهبنا إليه وهي أن كل مذهب جديد في الشعر يؤدي إلى التحول والتطور، تصدر عنه نشرة تتضمن أصوله وقواعده وتسمى «مانيفستو»، فأدباء الإنجليز يذكرون «المانيفستو» الذي كتبه «وردسورث» «والمانيفستو» الذي كتبه «ف. ت. هولم»، أما «مانيفستو» العهد الحديث فقد ظهر في إيطاليا وامتد منها إلى باقي الأمم المتحضرة، وهو يتميز بلهجته العنيفة ودعوته إلى بتر القديم، وامتلائه بالشتائم والبصقات. ومهما تكن قيمة هذا المانيفستو الذي ما زال اسم كاتبه المجهول محل حدس وتخمين، فإنه كان صورة لما تردد في الصدور من ضرورة التحول في الأسلوب والمعنى والهدف الذي يتعلق الأدب به ويسعى إليه.
ونحن نقصد بالعهد الحديث تلك الحقبة التي تبتدئ قبيل نشوب الحرب الأوروبية الكبرى الأولى، ويرى بعض أهل الرأي أن تحدد بالأشخاص لا بالحقب، فيقال مثلا: إن الشعر الإنجليزي الحديث بدأ يوم نشر إليوت قصيدته الخالدة «الأرض المهجورة»، أو أن قصيدة الشاعر «بردجز» «إنجيل الجمال» اختتمت عهده القديم.
على أن هناك ظاهرة هامة يمكن تلمسها في كل مرحلة من مراحل تطور الأدب، وهي أن أصحاب الأسماء الضخمة التي تلمع إبان التجديد ليسوا في الواقع المجددين ولا أول من غامر في التجربة، فقد تمر فترة من الزمن تعلق أثناءها الأنظار بهم وتردد الألسنة آلاءهم، ثم تتجمع الشواهد على أن اسم الرائد الفعلي للتجديد مطموس في بطون الكتب والأوراق، ونحن نذكر على سبيل المثال لما نقوله الشاعر الإنجليزي «هو بكنز» والشاعر الفرنسي «ريمبو»، وكان الأول من رجال الدين فحالت مهنته دون نشر ديوانه الذي ظل وديعة لدى صديقه الشاعر «بردجز» فلم يطبع وينشر إلا بعد موته، أما الثاني فقد جد له ما دعاه إلى هجر وطنه والنزوح إلى الحبشة، واحترف هناك التجارة، ثم عاد إلى مصر ومرض بها، ومات في مرسيليا وهو في طريق العودة إلى بلده، وكانت لمعته في الحياة قصيرة، ولكنه استطاع أن يخلف ذخرا من شعر رائع شرقي النفحة، تضمن بعضه وصفا لمشاهد أغلب الظن أنها مصرية، ومما يلفت النظر أن أكثر المجددين المجهولين الذين يتم التطور على أيديهم عباقرة من الشباب يختطفهم الموت في سن مبكرة، ولا يحترفون الأدب ولكنهم يظلون من هواته.
ولو بحثت في تاريخ الأدب الأوروبي المعاصر لأذهلتك قلة المجددين، وأما الأدباء الذين وقفوا حياتهم على نشر دعوة التجديد فكثيرون، وقد ذخرت ألمانيا وروسيا بأولئك المبشرين الذين نزحوا من بلادهم في سبيل خدمة المذاهب الأدبية الجديدة، ولاقى كثيرون منهم حتفهم في ذلك السبيل، ولكن ما هي الدعوة الجديدة؟ ما هو الشعر الجديد؟
خلاصة هذه الدعوة أن الشعر الحديث يجب أن يساير الزمن الحديث والحياة الحديثة، يجب أن يصبح في متناول الناس لا بعيدا عن أذهانهم، قريبا منهم لا معتصما بأبراج عاجية، وقد رأى المحدثون أن تكون هذه المسايرة بالتزام أمرين: أولهما: الطابع العلمي، والثاني: السرعة.
أما الطابع العلمي فمنقسم إلى قسمين: أولهما: طابع التأمل والتمحيص والشك والتجربة. وثانيهما: ألا يقف الشعر على هامش الحياة، بل لا بد أن يتغلغل إلى صميم الحقائق فيجلوها، وأن يصل إلى أغوار النفوس فيكشفها.
وأما طابع السرعة والتركيز والاختصار فقد نادت به أولى المدارس الأدبية الحديثة وهي مدرسة الصوريين
Imagists ، وقد ظهرت في أعقاب العصر الفكتوري وترعرت في نهاية العصر الجورجي .
وإذا كان الطابع العلمي قد أفاد الأدب من ناحية؛ فقد أضر به من ناحية أخرى. فهو قد وصله بالحياة إذ جعله واقعيا، ولكن تقطيع الأدب تقطيعا علميا وتشريحه تشريحا ماديا يفقده قيمته الفنية وجمال وحدته وتماسكه، ولا يظنن أحد أن الطابع العلمي يرمي إلى جعل الأدب علميا، ولكنه يدعو إلى التذرع بوسائل العلم وهي الشك والتحليل الدقيق والاستقراء العميق.
ومما لا شك فيه أن الراديو والسينما والصحافة طبعت الأدب الحديث بطابعها إلى حد كبير، حتى إن الكثير من الأعمال الأدبية صارت أشبه باللمحات الخاطفة، أو بالعلم السريع الملون، ولقد صار أدب لحظة ولحظة لا أدب أجيال وأجيال، وليس الأسلوب التصويري في مذهب الصوريين إلا وليد تلك الآلات الحديثة الاختراع.
بنى الصوريون مذهبهم على أن الأدب يجب أن يكون صورا متلاحقة مضغوطة، وقد بالغوا في ضغط صورهم وتفننوا حتى حملوا الكلمة الواحدة صورا مجتمعة لا صورة واحدة، ومازالوا يمعنون في مبالغتهم حتى صاروا يشحنون القصيدة الواحدة الضخمة في بيتين من الشعر لا ثالث لهما، ولكن المذهب الذي دعوا إليه لم يربطه بالماضي أي رباط، ولما شعروا بأن المبدأ الذي ينبت عن الماضي يضل سواء السبيل إذ لا يجد أساسا يرتكز عليه، بحثوا عن دعامة يؤسسون عليها مذهبهم فيصلونه بالحياة، فاهتدوا إلى مدرسة رأوها أقرب المدارس إلى مذهبهم وهي مدرسة الرمزية الفرنسية، تلك المدرسة التي أسسها أديب لا علاقة له بفرنسا هو «إدجار ألن بو».
وصلوا سلكهم بسلك الرمزية، ولكن شتان بين المذهبين، وإذا كان للصوريين فضل فهو لا يمت إلى مذهبهم بصلة، ولكنه ينحصر في أنهم تسببوا عن غير قصد في نقل مذهب الرمزية في الأدب إلى إنجلترا، ذلك المذهب الذي لا يخامرنا شك في أنه سيصبح أخطر المذاهب الأدبية شأنا في المستقبل، وسيضرب المجددون المفننون في كل اتجاه، ولكنهم لا بد راجعون إليه آخر المطاف مرغمين.
ولزيادة الموضوع شرحا أقول: إن مذهب الصوريين كان يعتمد على الأسس الآتية: (1)
التصوير الشعري. (2)
التركيز. (3)
الضغط. (4)
استعمال اللفظ الموحي.
ولكن أصحاب هذا المذهب حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة ظلوا يدورون حولها حتى استنفدوا قواهم فهلكوا فيها، على أن «إليوت» و«سبندر» و«لويس»، وهم من شعراء العصر الحاضر، ظلوا يتبعون طريقة التصوير والتركيز والضغط حتى بعد اندثار مدرسة الصوريين، ولكنهم نحوا في ذلك بطبيعة الحال نحوا جديدا، وكان مما يدعو إليه المذهب الصوري اختيار اللفظ الموحي للتعبير عن المعنى، ويرجع ذلك إلى اعتقاد أصحاب ذلك المذهب أن المعنى المحدد للفظة ما يفقدها قوتها، وأن جمال الموسيقى الشعرية لا يكون إلا في غموض المعنى الصوتي للألحان، فكلما ألقت اللفظة ظلا من الغموض اكتسبت قوة وجمالا، وذلك لأنها تفتح لقارئها آفاقا مبهمة تتسع للتأمل!
ولا يغرب عن البال أن شعر «شكسبير» كان غنيا بالصور حتى إن الصوريين عجزوا عن اللحاق به في هذا المضمار، ولكن غزارة مادته حالت بينه وبين الضغط والتركيز، وقد جاء شعر «شيللي» كذلك على غرار ما دعا إليه المذهب الصوري، وكانت صوره من الكثرة بحيث تبهر البصر كالمرايا المتكسرة في طريق تنعكس عليه أشعة الشمس، ولكن المدرسة الشعرية الجديدة في «إنجلترا» وجهت اللفظ توجيها سيكولوجيا جديدا. وتفسير ذلك أن الكلمة عند «شكسبير» و«شيللي» والصوريين كانت كلمة واضحة تؤدي معناها مباشرة وتعني ما تقول، أو بعبارة أخرى: كانت تصدر عن العقل الواعي لتخلق صورة محددة أو عدة صور.
أما المدرسة الشعرية المشار إليها فقد اتجهت إلى تحديد التجربة الشعرية، وتحديد العلاقة بين العقل الواعي والعقل الباطن، وتحديد مهمة العقل الباطن في الأدب، واستغلال إمكانيات العقل الباطن، وبناء الشعر الحديث على الطريقة المسماة التداعي الحر
Free Associations ، وتقوم هذه الطريقة الأخيرة على الاسترسال وراء الكلمات؛ أي إن كل كلمة تجر الكلمة التي تليها حتى تنتظم القصيدة بأكملها، فإذا أعمل فيها القارئ فكره، وجد نفسه يموج في عالم لجب من المعاني والصور، وقد قال الشاعر الفرنسي «مالارميه» بمثل هذا حين زعم أن قيمة اللفظ تنحصر في خلق جو غامض يستر وراءه وضوحا عليك أنت أن تستجليه بخيالك!
والذي يعاب على هذا المذهب أنه ممعن في الذاتية ؛ أي إن الشاعر يعبر عن قرارة ذاته، ويتصيد أوهامه الغامضة محتفظا بمفاتيح أسرارها ويدع الناس يتخبطون وراء معانيه كيف شاءوا، ويختار كل منهم التفسير الذي يلائمه.
وإذا طوينا كشحا عن الانحرافات الأدبية الناشئة عن الويلات التي عانتها الإنسانية بعد كل من الحربين الكبيرتين الأخيرتين، فإننا نستطيع أن نكرر ما قلناه من أن الطابع العلمي هو طابع الشعر الجديد الذي عمد إلى مجاراة الحياة والأحياء، فأما مجاراته للحياة ففي طريق تأثره بها وتأثيره فيها وامتلائه بالحيوية الدافقة. وأما مجاراته للأحياء ففي طريق مشاركتهم في مشاعرهم، والتفاهم معهم ومخاطبتهم بلغتهم، فإن ازور عنهم ونبذهم ازوروا عنه ونبذوه.
نعم، يحرض الشعر في هذا العصر على أن يكون واضحا مفهوما حتى لذوي الثقافة الضحلة.
وقد كان الشاعر فيما مضى يصف الذهول مثلا، فيقول: إنه إغراق في الشرود، أو يقول شيئا شبيها بذلك، ولكن الشاعر المعاصر «سبندر» يقول عنه: «كنت ذاهلا كمريض مبنج على مائدة العمليات الجراحية.»
ثم إن الشاعر الحديث لا يتورع عن استعمال الكلمات المتداولة التي كان الشعر يترفع فيما مضى عنها، حريصا على تخير الألفاظ الشريفة الأنيقة، ويرجع سبب هذا التغير إلى أن اللفظ لا يتخير الآن لذاته أو لحسن السبك وفخامة الديباجة، ولكنه يتخير لأداء المعنى على أدق وجه وأوضحه، مع مراعاة تناسقه مع المعنى والموسيقى الشعرية، وهذا يتمشى مع نزول الشعر إلى الواقعية في بساطتها وصدقها.
رسالة الأخلاق
يتحتم علينا قبل الدخول في الموضوع أن نحدد ما نعنيه بكلمة فلسفة ثم ما نعنيه بكلمة أخلاق، أما الفلسفة: فهي ذلك الشيء الذي يضع الخطوط العريضة للتجارب الإنسانية، ومنذ القدم عرف أن هناك طبقة فوق الفلسفة هي طبقة الدين، وطبقة تحتها هي طبقة العلم. والدين كما هو معروف قائم على الحقائق التي لا تناقش، أما الفلسفة فشرح الحقائق البعيدة للحقائق الظاهرة، أما العلم فتطبيق عملي لهذه الشروح والتعليقات، ومن يستعرض مراحل الفكر على الأجيال يتضح له أن الدين يتكئ على الفلسفة، والفلسفة تتكئ على العلم، وأن الفلسفة إذا عجزت تطلعت إلى الدين ، وأن العلم إذا وصل إلى أزمة تطلع إلى الفلسفة طالبا منها المعونة.
أما الأخلاق فكلمة غامضة، تناولها الدين فجعل لها معنى، وتناولها العلم فجعل لها معنى، وتناولتها الفلسفة فجعلت لها معنى آخر.
أما من ناحية الدين فالأخلاق الطيبة هي التي تتفق وتعاليم الدين بغير مراعاة للظروف والبيئات والأجيال والتغيرات الاقتصادية أو العمرانية، ولا شك أن الديانات تضع المناهج العامة التي بمقتضاها يتحقق صلاح العالم، ولكن العقائد التي لا تناقش صار موقفها حرجا في العالم المتطور الذي أصبح كل من فيه صاحب رأي، وكل صاحب رأي مغرما بالجدل والمناقشة، والواقع أن أكثرنا يؤمن بتعاليم الدين وقل من يمارسها اليوم ممارسة مخلصة.
وما أصدق قول «برجسون» الفيلسوف: إن التقاليد والعادات هي الأخلاق، ولما كانت الديانات تنهى عن الخروج على المألوف فالتقاليد والعادات تتفق مع النصوص الدينية.
وفي القانون الهندي القديم «المانو» جاء ما يأتي: «إن التقاليد المتوارثة جيلا عن جيل خلال الأجيال، إنما هي عماد الأخلاق الفاضلة»، ومهما يكن في هذا الأمر من الصواب من حيث إن التقاليد هي خلاصة التجارب الماضية، أو هي في عبارة أخرى: «غربلة الماضي»، فهي لا تصلح لأن تكون قانونا عاما.
إذن فكلمة «أخلاق» أو رجل عنده أخلاق تعني: العرف السائد «ذلك الذي لا ينحرف عن الأصول»، ونحن في حياتنا العامة نعتبر كل من يخرج على العرف سيئ الأخلاق، أما ما هي هذه الأصول بالضبط؟ أو ما هو هذا العرف؟ فهو هذا الذي ترك الأفهام حائرة.
فسيقول لك رجل الدين «عليك بالقرآن والأحاديث» وسيقول لك رجل الفلسفة «عليك بأرسطو أو أفلاطون»، وسيقول لك عالم النفس «هو في التوازن النفسي»، وسيقول لك عالم الاجتماع: «هو فيما يوائم بين حاجات الفرد وحاجات المجتمع»، ولقد فرق الفيلسوف «دورانت» بين التقاليد والأخلاق، فقال: إن التقاليد هي عادات نطبقها ولا نعظ بها، والأخلاق هي عادات نعظ بها ولا نطبقها.
أما موقف الدين من هذه المسألة أعني مسألة المعتقدات الثابتة في العالم المضطرب المتغير، فلا يمكن أن يوصف أو يحدد بأدق مما حدده «بوذا» لتلاميذه منذ القدم، فقد ذهب إليه سكان «كالاما» وقالوا له: «إن بعض البراهمة والنساك يجيئون إلينا بمختلف المذاهب حتى عدنا لا نعرف ماذا نصدق.»
فأجاب: «الشك مفيد لكم، والاعتقاد الأعمى ضار بكم، لا تحكموا بالتقاليد ولا تطيعوا الكتب المقدسة بدون فهم، ولا تتقيدوا بحجج المنطق، ولا تؤمنوا إيمانا أعمى بحواسكم، ولا بالأفكار القديمة، ولا حب المظاهر، ولا تجروا وراء معلم أو ناسك، ولكن ليكن حكمكم كما ترون أنتم، فإذا تبين لكم أن هذا الشيء ضار أو غير لائق، أو أنه يحدث النكد والشقاء لنا ولغيرنا فتجنبوه، وإذا كان الشيء لائقا أو صالحا، وإنه يسعدنا ويسعد غيرنا فاتبعوه.»
ذلك هو القانون، وهذه هي الأخلاق.
غير أن هناك ثلاثة أشياء لا بد من ذكرها ما دمنا نتحدث عن علاقة الدين بالأخلاق:
أولا:
أن الديانات مختلفة التعاليم.
ثانيا:
أن أرباب المذهب الواحد أو الدين الواحد قد يختلفون على النقطة الواحدة، فيتشعبون فرقا ويتبعثرون شيعا.
ثالثا:
أنه في ظلال دين واحد لا يتغير، تجيء نظم وتتلاشى نظم وتظهر مذاهب وتختفي، وتتجدد عادات وتتوارى تقاليد، ففي ظلال المسيحية كانت المبارزة مشروعة وكان الرقيق محللا.
ولما كنا في عصر العلم فقد جاء العلماء، وقالوا لنا: لماذا تتعبون أنفسكم؟ إن الطبيعة هي التي تقرر الصالح بغير انتظار لحكمكم.
فلما جاء «دارون» وقال ببقاء الأصلح ظن أنه حل مشكلة الدنيا، بمعنى أن ما تصنعه الطبيعة هو الطيب الوحيد، ولكنه اتضح «أولا» أن الأصلح في عرف «دارون» ليس هو الأصلح بالمعنى المجرد لهذه الكلمة، بل «الأصلح للبقاء»، ثم اتضح أنه يعني بالأصلح الأقوى، فهو قد سن شريعة القتال لتصفية الموقف وتحديد الأصلح، وهو في ناحية أخرى بنى هذه الصلاحية على التعاون كمثل أعلى للحصول على ما هو أصلح.
ولكن مذهب «دارون» انهار فلسفيا حين اتضح أن التنافس في ناحية يقابله الكفاح في أخرى، فكأننا لم نصل إلى شيء، وبعبارة أخرى: أن التعاون المحمود ما هو إلا كفاح ضد الكفاح، أو هو ضرب من التكتل ضد العدوان .
أما علماء الاجتماع فقد بحثوا عن هذا «الطيب» فيما أسموه حقوق الإنسان، أعني أن هذا الطيب هو حق الإنسان الاجتماعي، وأن على القوانين والعادات أن تتفق مع هذا الحق الاجتماعي، وقد كان قرار استقلال أمريكا في سنة 1776م مبنيا على الحق «في الحياة والحرية والسعادة»، وبعد ثلاثة عشر عاما من ذلك التاريخ قررت الجمعية الفرنسية الوطنية حق الإنسان في «الحرية والملكية والأمن ومقاومة الظلم».
فها نحن نرى أن أكثر هذه المقررات سرعان ما بات سرابا خادعا، ففيما يختص بالحرية، ظلت تجارة العبيد بعد قرار استقلال أمريكا.
وفيما يختص بمقاومة الظلم كانت الحرية ترفرف على ربوع فرنسا والظلم يجري دهاقا في مستعمراتها.
وفيما يختص بالملكية كان النداء بالديمقراطية ثم بالاشتراكية نداءا صريحا ضد الملكية.
وإذن فالميدان السياسي الاجتماعي لم يحل مشاكلنا، ولم نصل عن طريقه إلى خير عام مقرر يصلح لأن يكون لجميع الأزمان، إذن فلا مناص أن نعود أدراجنا للفلسفة؛ فقد تعودت الفلسفة أن تكون دائما أصدق معين وسند حينما تعجزنا السبل الأخرى.
فإذا لجأنا إلى الفلسفة وجدنا أننا لا بد أن نبدأ بأسياد الفلسفة، لنرى هل من الممكن أن تنفعنا أراؤهم القديمة اللذيذة في هذا العصر المتجهم المر؟
لقد كان «أفلاطون» و«أرسطو» ومن قبلهما «سقراط» يعتقدون أنه لا حاجة بنا لأن ندل أي إنسان على الطيب؛ لأن ذلك مطبوع في النفس الإنسانية.
ولقد قالت «سانت أوجستين»: «إن الخلق الطيب كالوقت، أعرف ما هو بدون أن تسألني عنه»، معنى ذلك أن في النفس نوعا من البصيرة نولد بها ولا نكتسبها، ويمكننا أن نسمي هذه البصيرة «الضمير الفردي»، ولكن هذا الرأي لا يمكن قبوله اليوم؛ لأن هذه البصيرة لا يمكن أن توهب للناس جميعا على حد سواء، ثم إن هذا الضمير «الفردي» قد يتبدل بتبديل الأحوال والبيئات والظروف، فمن يدري ربما كان «نابليون» يعمل تبعا لوحي ضميره «الفردي».
فلما جاء عصر غير عصر نابليون انقسم الناس فريقان؛ فريق اعتبره عبقريا ومصلحا، والثاني اعتبره سفاحا ومجرما.
ولما كان علم النفس هو الابن البكر للفلسفة فقد مالت عليه تسأله رأيه، فجاء برأيين، الرأي الأول: أن الأخلاق «غرائز اجتماعية» يعني بذلك أن الغرائز التي نولد بها إنما جعلت لنحافظ بها على أنفسنا أولا، وبعد ذلك تجعلنا صالحين للاجتماع، وإذن فهناك غرائز تنحى وأخرى يفسح لها المجال للظهور حتى تصبح «عادات اجتماعية»، ولكن هذا الرأي ينهار إذا اعتبرنا أن هذه «العادات الاجتماعية» هي خلاصة «الغربلة» ونهاية التجارب؛ لأننا نلاحظ أنها ليست أكثر من طلاء تمسحه ظروف طارئة كالحرب والمرض والحب والغضب، ويتضح من ذلك أن هذه العادات الاجتماعية ليست غير قشرة لا يمكن الاعتماد عليها مطلقا.
أما الرأي الثاني فهو رأي «ينج»، وهو أن الأخلاق إما أخلاق استنباطية أو خارجية، وأن الإنسان البدائي استبطاني، والطفل استبطاني أي إنه انطوائي، ينتزع من الصور التي في داخل نفسه ليعكس على الخارج، بعكس الخارجي الذي يعتمد على الحواس لينتزع صورا خارجية يعكسها إلى الداخل. يقول أتباع هذا الرأي: إننا كلما تحضرنا، صارت أخلاقنا خارجية ولكن لم يقولوا لنا: أي النوعين أصلح أو أجود.
إذن فنحن نقف موقفا عجيبا، عندما نريد أن نحدد ما هو طيب وما هو شر، ونستطيع أن نحدد على الأقل أنه ليس هناك طيب في ذاته ولا شر في ذاته، وإنما يحكم على عمل ما بالنتيجة، ولكنك تتساءل: النتيجة لمن؟ وكيف؟ فأجيبك: النتيجة المباشرة وغير المباشرة، قريبة وبعيدة، للإنسان ولغيره.
وأي نتيجة؟ أجيبك في كلمة واحدة: المنفعة. فتسألني: وما صفة المنفعة؟ أجيبك: «الإسعاد». ولقد تناول أتباع «بنتام» الإنجليزي هذا المبدأ، مبدأ المنفعة حتى تسموا بالمنفعيين، وأخذوا يشرحون معنى «الإسعاد» فتعثروا؛ فهم عرفوا هذا الإسعاد بأنه «السرور وتجنب الألم»، فخلطوا بين السرور الذي هو لذة حية وبين السعادة التي هي فكرة، ومن ثم فاتتهم ألوان من السعادة لم تخطر لهم على بال، كالسعادة التي تنطوي تحت لواء الفنون، وفي ظل آيات الجمال وزيادة على ذلك فقد أخذوا يحسبون هذا الإسعاد بالأرقام الرياضية فزاد ذلك في أسباب فشلهم.
على أنهم وإن فشلوا في تفسير معنى الإسعاد فقد تركوا للأجيال شرحه وتطبيقه.
ونحن إذا نظرنا للإنسانية من ناحية عامة، من حيث وسيلة «إسعاد البشر» وجدنا أن هذه الغاية لا تتساوى في جميع المراحل التي اجتازتها البشرية، فإن البشرية مرت في ثلاث مراحل؛ المراحل البدائية: ومن الواضح أن إسعاد الهمجي أو البدائي يتلخص في إشباع غرائزه. والمرحلة الزراعية: وهي مرحلة لبثت فيها البشرية خمسة عشر قرنا من الزمان، وفيها وجد التشريع الأخلاقي؛ ففي هذه المرحلة تكونت الأسرة، ونضج الإنسان بسرعة، وتزوج زواجا مبكرا، وقدست الأمومة، والعفة والحياء، وأدرك الإنسان شيئا من الاستقرار بفضل التعاون بين أفراد الأسرة الواحدة أو الأسر المتجاورة.
وكل ما يعين على تحقيق هذه الغايات في الوسط الزراعي يؤدي إلى «إسعاد» أهل هذا الوسط إسعادا فرديا وجماعيا.
أما الوسط الصناعي الذي صار طابع العصر في الغرب، والذي تتحول إليه مصر تحولا لا شك فيه فإنه وسط المعمل والمصنع، وسط الكفاح الفردي وسط ينضج فيه الفرد متأخرا ويتزوج متأخرا، وتقل قيمة الأسرة، وينظر للعفة والحياء والأمومة بنظرة مختلفة، ويكثر فيه القلقلة والاضطراب والكبت، ويقل الأمن والاستقرار، فلا شك أن «الإسعاد» فيه مختلف جدا عن كل ما سبق.
وإذن فالخلق الطيب يقدر بنتيجته، معنى ذلك أنه لا يوجد خلق طيب فاقد النتيجة، أو بعبارة أخرى: له صفة سلبية، فليس يكفي أن تكون لك النية فقط، بل يجب أن تتحرك وتعمل فصفة العمل الطيب الأساسية أنه إيجابي نافع ومسعد.
ما الطريقة إذن لخلق شخص له هذه الميزة المثلثة؟ إن الفلسفة توقفنا عند هذا الحد ثم تسلمنا لابنها الأكبر وهو علم النفس، يتحدث عن أمرين: دوافع داخلية ووسط، وإن جميع المشاكل - لا مشكلة الأخلاق وحدها - قائمة على التحيز لأمر من هذين.
وإذا قسمت الفلاسفة المحدثين وعلماء النفس المشهورين قسمتهم مدرستين كبيرتين من حيث التحيز لهذا الرأي أو ذاك.
أما «أرسطو» فقد قال: «إن هناك دافعا داخليا يشكل كل شيء»، ومن هذا الرأي «برجسون» و«وليم جيمس» «في مذهب الذرائع».
ويضاف لذلك «أفلاطون» و«كانت» و«لينتتر» و«شوبنهاور»، ومن علماء التطور «لامارك »، ومن الأدباء «جيته» و«كاريسل» و«نيتشه»، وتلخص آراؤهم في أنها تخضع الأشياء للفكرة والمادة للعقل، بينما المذهب الثاني: المبدأ الذي يدين بأن الوسط هو كل شيء، يحول الفكر إلى «شيء» و«العقل
mind » إلى مادة، ومن أقطاب هذا المذهب والمبشرين به «ديموقريطس» و«أبيقور» و«هوبز» و«سيبنوزا» و«داروين» أخيرا، ثم «سبنسر» ثم «واتسن» صاحب المذهب السلوكي.
ولا بد أن أذكر أنه لا تزال تذكر في كتب علم النفس الحديثة، الحديثة جدا، مذاهب تقسيم الأخلاق حسب المزاج؛ حزين وغضبي ودموي وبلغمي.
ولا نزال نذكر التقسيم إلى فكري وعاطفي وإرادي، ولكن هذا أصبح قديما جدا.
ولكن المذهب الذي يأخذ به المحدثون اليوم يميل إلى الرأي الأول، ولكنه يعترف بوجود اتجاهات ورغبات ودوافع موروثة، وفي ذات الوقت يعترف بأهمية الوسط، يعترف بها اعترافا جديا، ولكنه يبدأ من الناحية الأولى في شرح مسألة الأخلاق، وعلى ذلك يبدأ بمسألة الدوافع، ويقسم كل دافع إلى ثلاثة أقسام، ينقسم كل منها إلى قسمين: سالب وموجب، أما الثلاثة الأقسام فهي متداخلة ولا يستطاع فصل الواحد منها عن الآخر، وهي: الغريزة والعادة والشعور. ونحن نولد بخمس غرائز أساسية يمكن ضربها في اثنين ما دمنا نجد لكل غريزة وجهين. الغرائز هي: البحث عن الطعام، والقتال، والعمل، والاجتماع، والتناسل.
فالبحث عن الطعام سلبيته التقشف، والقتال سلبيته الهرب، والعمل سلبيته الخمول والنوم، والتناسل سلبيته الامتناع عن الأنثى.
والعادة المصاحبة للجري وراء الطعام، إما الصيد والقنص «إيجابي»، وإما انتظار الطعام وغسل اليدين «سلبي»، والشعور المصاحب هو الجوع، أو ضده وهو العزوف عن الطعام.
ويمكن الاطلاع على التفصيل لهذا في كتب علم النفس.
ولكنني أريد أن أخلص من هذا إلى أن هذه هي الخطوط الرئيسية للخلق الإنساني، وعلى الجنس والعنصر والوراثة أن تحدد بعض هذه الخطوط، ولكن على الوسط ومؤثراته وحده تحديد الباقي، فالشعر الشائع مثلا مشهور.
وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
فإن الجبان يتنمر حين يخلو الميدان، فإذا امتلأ الميدان استحال إلى شيء آخر ، والجرح الصغير قد يكون حافزا على الشجاعة، والإصابة البالغة قد تسبب الجبن، وبعبارة أخرى: هناك وسط يثير إيجابيتنا، وآخر يثير سلبيتنا، وبعبارة أوضح: الاتجاهات يحددها الدافع الداخلي، والوسط يحدد التعبير وكيفيته.
ومن ثم يتضح أنه لبناء الأخلاق بناءا سيكولوجيا، يجب علميا أن نتكئ على شيئين: حسن الاختيار في الزواج، والثاني العناية بالوسط الذي ينشأ فيه طالب الأخلاق.
رسالة الأدب الروسي
لماذا نتحدث عن الأدب الروسي؟ هل له أهمية تقتضينا هذا العناء والتقصي؟ أجل له أهمية بالغة.
فإن الأدب الروسي - في القرن التاسع عشر - ثورة على الاتجاهات الأدبية كما عرفها التاريخ الأدبي، فإننا جميعا نعرف أن الأدب إما جرى في ظلال العاطفة أو في ظلال العقل، أو في مزيج منهما معا.
ولكن الانفصال بين العاطفة والعقل ظل عاملا مهما في أسباب الجمهور الأدبي، وقل في الشعراء أو القصاصين من أمكنة يلائم بينهما، فهما فريقان؛ إما فريق مغرق في الخيال، وإما فريق مغرق في الواقعية، وقد كان المزج بين المذاهب المختلفة ديدن المفكرين والنقاد في العصور الحديثة.
ولكن الروس أفلحوا في إيجاد هذا الانسجام، وزادوا على المستوى الوجداني والفكري مستويين آخرين؛ مستوى الروح، ومستوى الأعصاب، ويمكن أن نقول: إن «تولستوي» أضاف مستوى آخر هو مستوى الحياة؛ أي إن هناك طابعا للوجدان، وطابعا للروح، وطابعا للأعصاب، وطابعا للحياة، وهذه كلها عليها أن تلتئم لتحدث أدبا جديدا.
على أنني أقول: إن المستوى الروحي هو الطابع العام للأدب الروسي، أوجد الابتكار الجديد لذلك الأدب، وإن إضافة الأعصاب كانت من شأن «ديستوفيسكي» والحياة من نصيب «تولستوي».
وقد يقال إن هذا العالم - عالم الروح - قد سبق أن تناوله الكتاب من قبل، فأجيب أنه لم يسبق أن تغلغل أحد تغلغلا مباشرا جريئا صريحا كما صنع كتاب الروس، ولذلك لا يخاطب الأدب الروسي أي إنسان، ولا أي روح، بل يخاطب الروح البسيطة الصادقة الميالة للخير، هي هذه التي تتجاوب معه والتي تفهمه والتي تحبه. والواقع أن الأدب الروسي يظل غريبا على الذي اعتاد قراءة الأدب الغربي الخاضع للعقل والترتيب والمنطق والشكل.
والصواب أن على الإنسان أن يقرأ كثيرا قبل أن يتمكن من فهم هذا الوعي الجديد.
هذه هي الأهمية الأولى: الأدب الروسي أدب يبحث في أسرار الروح وتفاعلها وآلامها وحسراتها.
والأهمية الثانية: هي أن الأدب الروسي يبحث مسألة السلوك الإنساني بحثا مباشرا صريحا جريئا، وكما تعود الكتاب أن يفصلوا بين العاطفة والعقل، فكذلك الأخلاقيون يفصلون بين الطبيعة العقلية والطبيعة الخلقية، بمعنى أن الإنسان يمكن أن يكون سليم الأخلاق، وهو في ذات الوقت ناقص العقل، أو العكس، فالروس يقولون أن هناك وحدة بين قانون العقل وقانون الخلق، وأن البحث على أنهما منفصلان هو أصل الخطأ ومصدر الضلال، وقد يقال: إن هذا المذهب إغريقي قديم، نادى به «يوربيدس» ودعا إليه في مسرحياته، وهذا صحيح، ولكن تناوله على أيدي الإغريق كان تناولا هينا لينا، أما تناول الروس له فكان تناولا حارا عاصفا عنيفا، والسبب في ذلك ينطبق على الإغريق كما ينطبق على أهل الغرب اليوم، فإن الإغريق مارسوا السياسة وتطبعوا بالطابع العملي شأنهم شأن أهل الغرب، ولذلك فإن قواهم الروحية استنفدت في مزاولة الناحية السياسية أو العملية، أما الروس فإن أرواحهم احتفظت بكامل قواها في تناول المسألة التي تختص بالسلوك الإنساني، وتناولتها يإيمان وحماس.
وعيب الناحية العملية أنها تجعلنا نقبل عدم الكمال كحالة واقعة، ونسلم بالفوضى الحاضرة على أنها حقيقة مؤثرة، وإننا «عمليا» يجب أن نرضى بهذا.
ولكن الروسي لا يقبل هذا الرأي، فهو يعتقد أن النقص علاقة على الكمال، زيادة على أن النفس الروسية لا تدين «بالانفصال»، فعندها أن السياسة والروحانيات ملتئمان لا يتجزءان، وعيب الغرب وكتابه محاولة التفرقة بين السياسة والروح، أو السياسة والدين، على فكرة أن السياسة شيء غير مشترك، والدين شيء فردي خاص.
ولكن الروس يرون أن الدين لا يمكن أن يكون خاصا بمعنى كلمة الخصوص؛ فإنه يمس الفرد وغيره بلا جدال.
ولذلك لا يعترف الروسي في قرارة نفسه بحرفية القانون، أو بالناحية العملية للقانون؛ لأن القانون يحاسب على العمل، ويفصل العمل عن الاعتقاد، بينما العقلية الروسية اللاانفصالية لا تفصل العمل عن الاعتقاد.
وإذن فمسألة السلوك الإنساني لا تعني مطلقا قصة الفعل عمليا، بل قصة الرأي والاعتقاد كذلك بمعنى أن المسلك السياسي أو العملي يستند دائما إلى خلفية روحية.
وإذن فالحكم على العمل لا يعطينا قضاء محكما، فإن الرأي والمعتقد جزء من الشخصية، والشخصية شيء نهائي وقد يكون جبريا خارجا عن خيارنا، فهذا الاتحاد يجعل الحكم على ناحية واحدة حكما غير متين.
ولقد يقال إن هذه هي النظرية الموضوعية العلمية غير المتحيزة، فنجيب: هذا صحيح، ولكن حكم العلم قاس جامد بارد، ولكن حكم العقلية الروسية الأدبية دافئ حنون إنساني.
الأهمية الثالثة للأدب الروسي نتيجة لما سبق، معنى ذلك أنك ما دمت لا تستطيع أن تحكم حكما منطقيا على العدل المطلق، فلا يجب عليك أن تدين أو تعاقب.
الإنسان منا لا يحب أن يدين أو يعاقب، ومن هنا التسامح والغفران والتحمل، هذه الصفات الكبيرة الواضحة في الأدب الروسي.
لا نستطيع أن نحكم، ولا نستطيع أن ندين، إذن من الذي يدين ويحكم ويثيب ويعاقب؟ الذي يدرك الحقيقة. أين هو؟ موجود، فعلينا بالبحث. إننا تحت أيد جبرية مخفية تحت أستار كثيفة.
هلم نكشف هذه الأستار أو بعضها، إن المسيحيين يقولون: إن الله هو الحق، والمسيح هو الخلق، وهذا قول جميل، وقد كان جميع الكتاب الروس مسيحيين يدينون بهذا القول.
ولكن بصورة تأملية فلسفية جعلتهم يعترفون بأن إكبارهم للمسيح - أي للحق - «صير المسيحية عندهم أضيق من أن تتسع لهم».
ولكن ما دام الخير والشر سران في ضمير المطلق، فقد تميز الأدب الروسي بهذا الظمأ للمطلق، والهيام بالمجهول، والانطلاق وراءه انطلاقا عنيفا. وهذا الانطلاق الحر قد صير النفس الروسية كعالم متموج فيه احتمالات كثيرة، وفيه مجال للغفران، ومجال للتسامح، وهذه المجالات الرحبة خلقت شيئا من الفوضى جعلت القلب الروسي حائرا يبحث عن مستقر فلا يستطيع، فهو شارد ضائع يضرب في فيافي الأرض. ولقد قال دوستويفسكي: «إن الروسي الشريد محتاج لكل سعادات البشر لكي يعرف مستقرا أو هدوءا»، ومعنى ذلك أن الذي يعلق سعادته بجميع سعادات البشر لن يجد السعادة.
هذا التسامح العجيب هو سر سحر الأدب الروسي، فإن ذلك الأدب يأخذ الدنيا على أنها «كل» لا على أنها أجزاء ينظر لكل منها نظرة خاصة.
وهو على ذلك لا يعترف بوجود «فواصل»، وعندما تنمحي هذه الفواصل يقرب الخير من الشر، والصعلوك من الملك، والنجاح من الفشل، فلا يعود الإنسان حاقدا على الشر، ولا حاسدا للملك، ولا يائسا من الفشل، ولا فرحا بالنجاح.
وإذن فهناك «أعماق» يمكننا أن نصل إليها عندما نتسامح ونضحي ونتجاوز الحدود الفاصلة، عندما نعترف بالانسجام التام بين البشر وبعضهم وبين البشر والكائنات. على أن الإنسان حين يبدأ بالاطمئنان لهذا السر، التناسي، ويأخذ في الهدوء والتآسي، يأخذ الشك في ذات الوقت بخناقه، فيقول: «أيمكن أن يكون ذلك صحيحا؟» ولقد كان «تولستوي» يخرج وحده في الظلام، بعد أن محا الفواصل التي بينه وبين الناس؛ ليقابل العناصر مفردا، وليسأل: «هل ممكن أن يكون ذلك؟ ولماذا يا رب شئته أن يكون كذلك؟» •••
أما «تشيكوف»، فيعترف أولا بالفوضى التامة في أحوالنا الدنيوية، وقلة التناسق عندنا، ثم يتغلغل من هذا الإيمان بالتناسق الكلي.
أما «دوستوفيسكي» فأبطاله فريقان؛ فريق يقبل هذا التناسق الكلي، وفريق يرفضه، ويكون محور القصة المقابلة بين القبول والرفض، وأثر كذلك في النفسيتين المتناقضتين، ويتضح ذلك على أتمه في رواية «إخوان كارامازوف»، فمن هؤلاء «إليوث المؤمن»؛ «خرج إليوث وكانت زهور الخريف حول المنزل نائمة حتى الصباح، وصمت الأرض يذوب في صمت النجوم، ولغز الأرض متصلا بلغز الكواكب ...»
وكان «دوستوفيسكي» يرى أن هذا التناسق يمشي مشيا ملازما لحالات النفسية الإنسانية، وهو يرسمه رسما واضحا في اقتران العواصف النفسية بالعواصف الكونية، فهنا كما هناك الإشراق والظلمة، والهدوء والعاصفة.
على أن أهم ما في الأدب الروسي هو أنه بعد هذا البحث المضني والاستقصاء المر ينتهي الأمر إلى نوع من التسليم والمهادنة، أو ينتهي إلى التنبؤ بأننا في سبيل خلق عالم يرى هذا الانسجام حقيقة ثابتة لا زائلة أو حائلة.
رسالة الفن الحديث
السيريالية
الفن السريالي أو الفن فوق الواقعي أو الفن التجريدي، وثبة من وثبات التطور الفكري لا يمكن فهمها بغير الرجوع إلى سلسلة طويلة من العلاقات التي نشأت وتطورت بين العواطف الإنسانية والفكر، وفي استعراض هذه السلسلة وتلك العلاقات تعترضنا عدة أسئلة؛ السؤال الأول: كيف كان الإنسان الأول يفكر ثم كيف كان يصور وينحت؟ والسؤال الثاني: ما الذي دعا لتبديل هذه الطريقة؟ وهل الأسلم أن نعود إليها؟ وقد دعا كثيرون من الكتاب والفنانين المحدثين للرجوع إلى الغريزة فيما نكتب ونرسم، والسؤال التالي: أيهما أسلم، اتباع الغريزة أم اتباع العقل، أم اتباع طريق بينهما؟
نبدأ بالسؤال الأول، وهو: كيف كان الإنسان الأول يفكر؟ وكيف كان يرسم؟ ثم نصعد في سلم التطور حتى نرى الخطى التي مشت بنا لأعلى هذا الدرج.
الفرق بين الإنسان والحيوان هو أن الإنسان قادر على التجريد
Abstraction ، والحيوان لا يستطيع، أعني بذلك أنه لا يستطيع الخروج - إلا قليلا جدا - عن حدود الحواس والواقع.
وأعني بالتجريد استعمال خصائص العقل بدون الاستعانة بالمرئيات، أو بعبارة أخرى: «التعقل
Intellect » المبني على مجرد ربط الأفكار منطقيا.
ومما تقرر في هذا الباب أن الإنسان لم يمكن ظهور خاصية التجريد فيه إلا في أثناء التطور البشري لا في أوله.
ففي الإنسان الأول إذن كان التجريد موجودا، ولكنه قليل وضيق الحدود، ولم يكن تجريدا عقليا بمعنى الكلمة، بل كان تجريدا عاطفيا
Emotion ، وكان لصيقا لا ينفصل عن المرئيات، وزيادة على ذلك فقد كان هذا التجريد العاطفي ضيق النطاق جدا، بحيث لم يكن يتعدى التقديس والخوف، وتوضيحا لذلك أنقل ما قاله «ليفي برول» بالحرف الواحد في وصف العقلية الإنسانية البدائية: «كانت هذه العقلية غير متميزة التفاصيل، بحيث لم تستطع أن تتبين المرئيات لنفسها، قائمة بذاتها بدون أن تغمرها الإحساسات التي استثارتها هذه المرئيات، والواقع أن هذه الإحساسات والانفعالات، جزء من تلك العقلية من المرئيات والأشياء.»
ويمكن إيجاز تطور الوعي في أنه «محاولة» تطليق العنصر العاطفي، من العنصر الواقعي، وبعبارة أخرى: محاولة «لتصفية» ما هو مختلط، وإيجاد «خانات» تتميز فيها المحتويات التي وراءها، ومن ثم اخترعت الحروف الأبجدية «كرموز » لما وراءها، ويمكن أن ندعو هذه الرموز بدلالات
Concepts ، لما خلفها من المحتويات
Contents .
ثم تتطور المسألة إلى الدور الثاني وهو أن هذه «الرموز
Symbols » تؤخذ لذاتها، وتستعمل في التجريد العنصري بقطع النظر عما يخالف المحتويات التي دلت عليها.
ويتضح هذا على أتمه في فلسفة «هيجل»، وكانت التي استعملت هذا التجريد استعمالا قلبت به وجه التاريخ، وسأبين كيف كان ذلك الآن، فلننظر كيف مشى الفن في هذا السبيل، مشى عاطفيا، ثم صار في حاجة إلى الرمز، لكي يدل كل رمز على مجموعة خاصة من المحتويات الجعبة المسماة العاطفة، وبينما في الأدب تستعمل الكلمة، ففي التصوير والنحت تستعمل الخطوط والعلامات، ثم بالتدريج تسقط أهمية هذه الرموز في دلالتها على ما وراءها؛ أي تنتهي المسألة بطلاقها من الحقيقة، وبعد طلاقها من الحقيقة تفقد أهميتها وتأخذ في الذبول، ولكن تأخذ في الذبول فقط كرمز، ولكن تصير لها أهمية حديثة وهي أنها تصير نشاطا عقليا خاصا، ويكبر هذا النشاط حتى يحاول أن ينفصل عن الفن، بحيث يأتي فيلسوف مثل «هيجل» ليقول لنا: إن العقل والفن منفصلان ولا يجب أن يتصلا، وزاد على ذلك أن الفن من خصائص المراهقة، وهذا قول لا يقصد به الجور على الفن وإنما الدفاع عن المنطق. وقد يكون «هيجل» على بعض الحق من حيث إن الفن لا يمكن أن يكون مسألة رموز ولا مدلولات، وإنما هو في الواقع علاقة بين الحواس والمرئيات.
ويقول «ليفي برول» مرة أخرى أن الإحساس الفني في الإنسان الأول كان صادقا من حيث إنه مزج بين المرئيات والمدركات، ولكن ليس معنى هذا أن نعود إلى الإنسان الأول، فإن هذا المزج حقيقة نحن في حاجة إليه ولكن على طريقة أخرى، فإنه يجب أن يجري على طريقة البدء بالمدركات وإلباسها ثوب الحقيقة؛ أي يقبل التقسيم العلمي الفلسفي من ناحية وجود وأهمية هذه المدركات أو المدلولات أو الفكر، ثم الرجوع إلى الحقيقة التي هي سلم لها وإلباسها ثوبها.
وبعبارة أخرى: بدل المدلول المجرد عليه أن يخلق المدلول الحي، أو الظاهرة الحية، وهذا هو العمل الفني.
هذا هو الفن الحديث في آخر تطوره، والسريالية طراز خاص يبين كيفية تطبيق هذا المبدأ، وبناء على هذا فهي تبدأ بأخذ هذه المدركات، التي هي نواة الفكرة؛ لتطبيقها تطبيقا سيكولوجيا، فأمام منطق «هيجل» و«كانت» يجب أن نعترف بأن هناك قوى معادلة للوعي وموازنة له، ولا تقل أهمية عن قوته. كل شيء له مناقضه الذي علينا أن نجلوه معه لكي يزيد الوعي قوة باقترانه باللاوعي، فأمام منطق «هيجل» لا بد أن نذكر أحلام «لوتريامون» و«بيكاسو»، وأمام منطق «توماس أكونياس» لا بد أن نذكر البناء التخيلي للكنيسة القورطية، فالمسألة إذن هي مسألة إطلاق قوى معوضة مكبوتة عليها أن تظهر في العمل الفني بشكل شاعري يضاف إلى المنطق والعقل، فالعمل الفني الحديث يجب إذن أن يخاطب الحواس، وفي ذات الوقت يستند على قاعدة عاطفية انفعالية، أو بعبارة أخرى: أن يجلو الفن الفكرة ومعادلها أو مناقضها إذا شئنا أن نقول، ويمكن أن نوضح أكثر فنقول: إن الفن السريالي أو التجريدي قائم على إيجاد التناقض بين الفكرة والفن، وفي حالة إيجاد هذا التناقض يحدث المزج المطلوب بدون إخلال بوحدة الموضوع الأصيل وهو المدلول أو الرمز
Concept .
ولنوضح هذا في الفن السريالي كما نعرفه اليوم، فنبدأ بكلمة «الفراغ
Space »، فالفن السريالي يبدأ بهذه الكلمة أو «المدركة» ليجلوها في ثوب يجعل لها حياة ونبضا، وقد تناول المصور السريالي «دالي» الذي سأحدثكم عنه قريبا هذه «الفكرة»، فهو في بضعة خطوط وبضعة ألوان يجعلنا نحس، ثم نعي «بالفراغ»، وعلى كل حال ما دمنا بدأنا بالمدركات وأردنا ترجمتها، فقد دخلنا في منطقة العقل الباطني، وكلما تغلغلنا في فهمه واستغلال ذلك الفهم أمكننا أن يكون فننا ديناميكيا، بخلاف الفنون القديمة التي كانت شيئا ساكنا
Static
تحوم حوله ظلال حماسية، يتلخص الفن السريالي إذن في أنه فن يبدأ من «الداخل للخارج»؛ أي يهتم بالفكرة قبل الموضوع وأقصد بالموضوع
The Object . وقد ظن أكثر الناس أن الفن السريالي فن تجريدي محض؛ أي إنه مجرد تأملات باطنية تسجل على اللوحة أو بالكتابة بقطع النظر عن المرئي أو الملموس، ولكن «لابريتون» و«جاكسوين» وأقطاب هذه المدرسة، قالوا مدافعين عن مذهبهم: إنه ليس هناك فن غير مبني على المرئى الحقيقي، ولكن السرياليين يبدءون بالحقيقة كما هي ثم ينسونها، أو بالأصح يرجعون إلى حقيقة الحقائق، ألا وهي صورة الحقيقة مرتسمة في العقل الباطن، فكما أن في الطبيعة لا يمكن فصل الأشياء عن ملابساتها؛ إذ إنه ليس هناك صحو بلا ضباب، ولا ليل بلا نهار، ولا ضوء بلا ظلال، ولذلك فلا يمكن في الحياة ذكر حقيقة أو تصويرها بغير ما يختلط بها من انفعالات وذكريات، وانطباعات ماضية وحاضرة وأخرى ثابتة أو عابرة، فالحقيقة إذن هي هذه، حقيقة العقل الباطن، فليس الواعي هو كل شيء، بل يجب أن تكون صورة الحقيقة ممثلة للواقع وفوق الواقع أو وراء الواقع معا.
ولو خيرت في التسمية لاخترت لها كلمتي «ما وراء الواقع»، سواء بسواء، ككلمتي وراء الطبيعة أو الميتافيزيقا سواء بسواء، ومصداقا لهذا أذكر أن مبدأ السريالية الحقيقة كان عند المصور «بوش» في القرون الوسطى، وقد كان فنا سيرياليا دينيا ميتافيزيقيا، ولوحاته مشهورة، وقد كانت وحيا لكثيرين من المعاصرين، وبخاصة «دالي» الذي حدثتكم عنه، ولكن فن «دالي» - على تأثره بفن «بوش» - انتقل من الحقل الديني إلى الحقل اللاواعي، بل أكثر من ذلك اعتمد على رموز العقل الباطن وأحلامه، وقد اطلعت على إحدى لوحاته الشهيرة، وكان يسرني أن أحضر صورة لها لتستقر في أذهانكم لوحة لدالي، بل للسيريالية الأصيلة، ولكني أكتفي بأن أخبركم بمحتويات الصورة، «دالي» يرسم حذاء سيدة وبالقرب منها كوب من اللبن، ويرسم خنزيرا بالقرب منه حشرة لها أقدام آدمية، متدل منها ساق بشرية مقطوعة.
وكل هذه الصور والرموز لا يمكن فهمها بغير الاطلاع على قاموس «فرويد»؛ فإن الحذاء مثلا رمز جنسي
Sexual
يعرض لمفسري الأحلام كثيرا، وكذلك كوب اللبن.
من ذلك الوصف يتضح أن الناحية الجنسية غالبة في الفن السيريالي، ويتضح كذلك من «الفانتازية
Fantasy » أن الناحية الشعرية غالبة كذلك.
فليس من العجيب إذن أن نجد أكثر مصوري هذا المذهب يجمعون لفن التصوير فن الأدب، وبالأصح فن الشعر، ولا أعرف ممثلا لهذا اللون من الأدب السيريالي - ربما على غير وعي منه - مثل «جيمس جويس» الأديب الأيرلندي المشهور، وبخاصة في قصته «يولوسيس» فهو في هذا يطلق عنان العقل الباطن إطلاقا حرا تاما معتقدا أن الحرية الخالقة يجب أن تكفلها حرية مطلقة في التعبير، ويمكننا التعبير عن هذا بأن الحرية الفنية سبيلها تحطيم الحواجز القائمة بين الصور الطبيعية والسيكولوجية، أو على حد قول «هربرت ريد»: عالم يختلط فيه الوعي بغير الوعي، والعالم الداخلي بالعالم الخارجي، وتختلط الحقيقة بالخيال، والفكر بالعمل؛ أي يكون هذا العالم صورة شاملة للحياة بأجمعها. وبينما نحن نعتقد أن النزعة السيريالية نزعة خيالية محضة، يعترض أقطاب السيريالية على ذلك قائلين: إنها نزعة مادية محضة. وهذا عجيب! وحجتهم في ذلك أنها بجمعها للمتناقضات أو بعبارة أخرى: الروحانية تمشي جنبا لجنب مع المادية التاريخية.
عندما نتحدث عن هذه المذاهب لا يمكننا أن نترك الحديث عن أقطاب في التصور أدت وثباتهم إلى ما بعدها ومنهم «سيزان».
وقصة «سيزان» في التصوير رائقة وطريفة، ومذهبه في التصوير يعتبر القنطرة التي سار عليها القديم نحو الحديث، بل اعتبرها شخصيا الفاصل بين ما هو فن وما هو مهارة فنية. «سيزان» مصور شهير من مصوري القرن التاسع عشر، وكان معاصرا للكاتب الشهير «زولا» وكانا صديقين حميمين، بل الصحيح أن «سيزان» لم يكن له صديق غير «زولا».
والواقع والغريب في حياة سيزان أنه أقسم أن ينتهج نهجا خاصا في الفن لا يغيره، وأقسم كذلك أن ينقطع لهذا النهج، فاعتزل الناس، وترك صحبتهم، وأبعد المرأة عن محيطه، وأخذ يمارس في التصوير طريقة خاصة كان يؤمن بأنها هي الطريقة الوحيدة للفن الصحيح، تلك هي البحث عن الحق لا عن الكمال. يقول «سيزان» لأمه في إحدى خطاباته: «البحث عن الحق والحكمة هو الفن، أما البحث عن الكمال فهو المهارة الفنية»، ولقد كان يعتقد أن فن «زولا» على فرط واقعيته، أدب مهارة أكثر من أي شيء آخر، وكذلك أحدث في الأدب «جيلا ميتا» على حد تعبيره، وإن يكن در على «زولا» المال والشهرة.
كانا صديقين وكانت الصداقة بينهم تقتضي الصراحة التامة، فكتب «زولا» لسيزان يقول: «أنت لا شخصية لك، فإنك كسول، عنيد.» ونعته بغير ذلك من الألفاظ، فاحتمل «سيزان» كل ذلك وأجاب عليه بأن الشخصية الفنية غير الشخصية الحلقية، وأن الفنان يجب أن يكون صاحب مزاج
Tempelament ، وقد انتهت الصداقة التي بينهما على طريقة شاذة، فقد دخل «سيزان» ذات يوم ليزور «زولا» فلم يعجبه منظر الترف والأبهة، وخرج فلم يعد إليه، ولم يشاءا أن يستعيدا صداقتهما، قال «سيزان» في أحد خطاباته لأمه: «لم يعجبني إميل؛ مكتب عظيم وأبهة، لقد تغير، ولذلك خرجت على أن لا أعود إليه.» •••
ما هو المذهب الذي دعا إليه «سيزان» غير توخي الصدق والحكمة؟
هذا المذهب هو الاندماج في الطبيعة، لا عن طريق العقل وحده بل عن طريق الحواس.
فمذهبه إذن مذهب حسي اندماجي كامل، يثور على العقل؛ أي يثور على الكلاسيكية، ويدعو إلى ضرب من التأمل الباطني العميق المقرون بالحس.
هذا هو «سيزان»، فلننظر الآن نظرة إلى «بيكاسو» زعيم السيرياليين، في مقال لهربرت ريد عنوانه «انتصار بيكاسو» عرض جميل لحياة ذلك الرجل، وعرض كذلك للمذهب السيريالي، وكيف طبقه على فنه وحياته.
بيكاسو
يتفق «بيكاسو» مع «سيزان» في نقطتين؛ الأولى: أنه يعترف أنه يرسم حسب هواه، ويقول مرة أخرى: إني أرسم مدفوعا بالحب والعاطفة.
والنقطة الثانية: أنه أنكر استعمال العقل في الفن، وزاد على ذلك بأن أنكر كل قيد، ومارس الشعر والنحت والتصوير، وكان يقول: إنه من الحتم وجود الفكرة «سجينة» في عمل أي فنان إذا كان فنانا حقيقيا، فلا معنى للتحدث عنها. وفي سبيل هذه الحرية، أخذ يبحث عن «المجهول والقلب العادي، والذي لم يخلق بعد»، وعن الخفايا الدفينة في أغوار النفس، هذا هو «بيكاسو» فلنستمع إلى المدافعين عنه «لابريتون» و«جاكسوين» في المانيفستو الشهير.
يقول «لابريتون» إن السير «ريالته» بعث أسلوبا جديدا ولا مذهبا جديدا وإنما هي «فلسفة حياة»، إن في أعماق الإنسانية والمجتمع وترا غنائيا ، وسنظل نطلبه إلى الأبد، وهذا الوتر هو الباطن؛ الباطن الذي أتيح لقليلين أن يصغوا إليه ويضربوا عليه، فطن إليه أمثال «جيته» و«مليك» و«ورد سورت» ولكن الذي كشفه حقا هم الفرويدويون، وقد شاء السيرياليون أن يجعلوا له أهمية فائقة، فكما أن هناك ناحية «طبيعية» في الخارج فهناك ناحية أخرى في الداخل، في الأحلام، في الرؤى، في التنويم.
ويقول المانيفستو:
إن «السيريالية» سيكولوجية أوتومابية تعبر بالرسم أو اللفظ مجرى التفكير الحقيقي.
ولا علاقة لها بقيود الوعي، ولا قوانين الجمال والخلق.
إنها لا تفرض وجود عالم الأحلام بل تقول: إنه حقيقة كبرى.
ويختتم «لابريتون» المانيفستو بقوله، قال ريمبو شاعرنا السيريالي: «تغير وجه الحياة»، وقال غيره نغير وجه الدنيا، وهما النقطتان التي ترتكز عليها فلسفتنا. •••
ولكن ما رأينا الخاص؟ رأينا أن هذه النزعة الفلسفية هي رومانسية متطرفة، وأنها تقاوم الكلاسية من حيث إن هذه عقلية مثالية.
على أن أحكم وأشهر السيرياليين لم يفتهم مطلقا أن يجعلوا فنهم مبنيا على شيء من العقل والحكمة، وبذلك تم لهم ما نشده وينشده الفن، وأعتقد أن المستقبل هو لهذا المزيج ولمن يستطيع أن يقوم به.
رسالة الآباء
الهستيريا: بحث جديد
إن الهستيريا مرض يغلب في النساء.
قد سار بنا علم النفس الحديث نحو حقائق جديدة كل الجدة، غريبة غاية الغرابة.
وأول هذه الحقائق التغيير الكلي في معنى هذا المرض «الهستيريا»، فقد كنا لعهد حديث جدا نعلم أنه مرض عصبي، منشؤه صراع عاطفي عند الذين يتصفون بضيق الوعي، وعمق العقل الباطن، فإن الأول إذا ضاق بما يحتوي، نقل ما به بسرعة إلى الباطن، فيكدس ما نقل إليه، وأخيرا تقع الطامة، إذ يحاول المكبوت أن يجد متنفسا، إما عن طريق استجداء العطف والتمثيل، أو عن طريق الجسد، فتحدث الاضطرابات الجسدية المألوفة في الهستيريا كالاهتزازات، والتشنجات ... إلخ.
ولما كانت دراسة سيكولوجية المرأة قد كشفت لنا أن واعية المرأة ضيقة، وأن عقلها الباطن عميق متسع، فقد أصبحنا نفهم لماذا كثر هذا المرض في النساء.
وما يحدث للذات «الإيجو» يتوقف على مقدار الصراع الدائر ، وعلى مقدار التخفيف المستطاع.
وعلى كل حال فإن الرجة التي تعتري الإيجو تصدع بناءه، وقد يصل هذا التصدع إلى درجة انقسام الشخصية وازدواجها.
هذا ملخص لمعرفتنا عن طبيعة الهستيريا في السنوات الماضية، أما في العصر الحديث فقد دعا ظهور أعراض الهستيريا في الأطفال بشكل غير مألوف، وانكشاف أعراض «هستيرية» لصيقة بأمراض أخرى كالصرع والكورية الروماتزمية، كل ذلك أدى إلى استعادة البحث على ضوء جديد.
وأخذت الدكتورة «أودلام» الطبيبة بمستشفى «فكتوريا» في تناول هذا الموضوع بطريقة حديثة، فأخذت تسأل المثقفين عن رأيهم ومبلغ فهمهم والممارسين من الأطباء عن مدى علمهم.
فكان الاتفاق عاما على أن الهستيريا هي صراخ وثورة وهياج يبديها شخص ما، عندما يضيق ذرعا بالحياة، أو عندما يعترض طريقه شيء أو شخص يريد الخلاص منه.
وزاد الأطباء على ذلك أن المألوف فريقان؛ فريق لا مرض عنده، وإنما هو يخترع مرضا لغاية ما، وفريق له نظرة منحرفة شاذة نحو أوضاع الحياة، تؤدي إلى اضطراب عاطفي يؤدي بدوره إلى أعراض جثمانية.
على أن الطبيعة المذكورة كما أكدت وجود هذين الفريقين، أكدت وجود نوعين آخرين.
نوع يتميز بفقدان الوعي مدة تطول أو تقصر.
ونوع مصحوب بفقدان الذاكرة على درجات تتراوح بين النسيان البسيط والنسيان الذي يتناول حتى الذات.
والمألوف أن الذاكرة تعود من بعد فقدانها، ولكن عرفت حالات لا اضطراب للعقل فيها مطلقا، وإنما ذهبت الذاكرة فجأة ولم تعد أبدا.
وأما الاضطراب الجسدي الذي أشرنا إليه فمنه ما يكون تخفيفا لكبت، ومنه ما يكون هربا من مواجهة مشكلة ما، وقد عرف عن كثيرين كثرة التبول في غير مرض، فهذه الظاهرة تعتبر كذلك وسيلة للهرب.
والعجيب أن هذا المرض الذي ينشأ من القلق والخوف وتوتر الأعصاب يجب علاجه في هذه الألوان من «التغطية»، فيبدو المريض بالهستيريا أحيانا مطمئنا، هادئا، لدرجة غريبة من عدم المبالاة، ولكن السؤال هو هذا: كلنا نواجه من المتاعب ما لا حصر له، وكلنا نكبت، وكلنا نعاني صراعا بين العاطفة والواجب، فمن هنا الذي يقع فريسة للمرض ومن يسلم منه ؟
لقد اتضح للباحثين اليوم أن التعريف الوافي للهستيريا هو: «الهستيريا اضطراب عاطفي يصيب مرضى ذوي شخصية خاصة»، هذه الشخصية تسير بيننا ونصادفها هنا وهناك، فعلينا أن نتبينها جيدا.
لقد سميت هذه الشخصية «بالشخصية الهستيريونية»، وهذه الشخصية توجد عند الذين من طبعهم التمثيل والمبالغة «والتهويل» في شئون الحياة، وقد يكون هذا التمثيل «خارجيا» ويبدو كظاهرة «استعراضية» كما هو الحال عند السياسيين، وأرباب الأعمال الذين تقتضيهم أعمالهم التمثيل والظهور بمظاهر خاصة، وقد يكون هذا التمثيل «باطنيا»، ويكثر عند الفنانين الذين لهم عالمهم الخاص في أعماق سرائرهم، «يمثلون» فيه كما يشاءون ويؤلفون فيه رواياتهم الخاصة.
ولما كانت المرأة في طبيعتها «خارجة» تلبس أزهى الثياب للزينة - والزينة نوع من الاستعراض الجميل - وتتحلى بأجمل الحلي ولو زائفة «لتمثل» دورها الرائع في الحياة، فنصيبها من التعرض لذلك المرض غير ضئيل.
ولا شك أن القارئ يسأل: ولكن متى تصاب هذه الشخصية بالمرض؟ وهل حتما تصاب؟
لقد اختلف الرأي في كيفية وجود هذه الشخصية، ولكن السائد هو أن الإنسان يولد بها، وقد يكتسبها أحيانا من الوسط، وهي في درجاتها البسيطة كثيرا ما جاءت للوجود بالشخصيات الخالدة الممتازة بالحيوية والمرح، والذين جعلوا الوجود في شتى نواحي الفن والأدب والاجتماع.
وقد يعيش أكثر هؤلاء بهذه الشخصية الهستيريونية مستترة وبلا أعراض مرضية حتى يصطدموا بما يجرحها.
وأسوق ختام هذا الحديث للأمهات والآباء أن أعراض الهستيريا قد تبدو في أي سن فيما بين الطفولة والمراهقة.
ولقد بينت سابقا أن أصحاب الشخصية الهستيريونية تبدو عليهم ملامحها مبكرة، وإذا لم تتبين في أعمال الطفل فإنها تتبين في كيفية لعبه، أما بعد نضج الإدراك فإن هذه الشخصية قد تصطدم بما يطبعها بطابع مرضي، إما في البيت أو في المدرسة، ففي البيت يكون أول عامل وجود نزاع عائلي دائم أو أب سكير أو أم صخابة، وفي المدرسة تصطدم بالمعلم القاسي الجاف أو بالرفاق العابثين.
فإذا كان الطفل خارجي النزعة فأول ما يصيبه هو أن يفقد الثقة، ويطوي نفسه على خوف وشك، فيغطي ذلك بالصياح والضجيج لينال أغراضه، أما إذا كان باطني النزعة فإنه يلجأ إلى العزلة والانفراد، وقليلا ما يصاب الأطفال والمراهقون بأعراض جسدية من الشلل وفقدان الإبصار والبكم.
وعلاج هاته الحالات يتوقف على فهم الأمور جيدا، فيجب من أول الأمر أن يفهم الوالدان أنه إذا تمكن الصبي من بلوغ أغراضه بطريقته هذه، فذلك أمر في منتهى الخطورة؛ فعليهما أن لا يمكناه أبدا.
وعليهما في الوقت ذاته أن يفهما أن نفس الصبي مطوية على خوف، وعليهما أن يعيناه ويشجعاه على احتمال المواقف الجديدة، وفي ذات الوقت عليهما أن يهتما بدورة حياته اليومية في المدرسة من معلمه ومن رفاقه، وعليهما كذلك أن يعلما أن البيت الهادئ الرزين هو أول واق من الأمراض النفسية.
رسالة السعادة
لا شك أن السعادة في حياتنا هي غاية الغايات.
ولكن ما هي السعادة؟
هي كلمة من تلك الكلمات الغامضة التي لا يمكن أن نعرفها تعريفا محيطا دقيقا، كلمة السعادة ككلمة الشعر ككلمة الحب.
تلك أشياء يؤمن الإنسان بوجودها.
يؤمن إيمانا لا جدال فيه، فإذا أقبل يضع يده على شيء ملموس، وجد أنه يضع يده على شيء أثيري، ولكن السعادة ما دامت هدفا لكل إنسان، أليس من العجيب أن يكون ذلك الهدف غير واضح ولا مشترك؟ ولقد ألف «برتراند رسل» الفيلسوف الشهير كتابا ضخما عن السعادة، بدأه بالبحث في أسباب الشقاء، ثم أخذ يدلل على أن السعادة هي في تجنب أسباب الشقاء، وهذا منطق معقول ولكنه غير عملي، فإننا يستحيل أن نتجنب أسباب الشقاء حتى ولو عرفناها، إذ كيف نتجنب منغصات العيش وأثقال الحياة وثقلاءها؟ كيف نتجنب الظلم المتأصل في النفوس، والنفاق العريق في الطبائع، والكذب الذي هو من مقررات العصر؟ ثم أخذ «برتراند رسل» يدلل على أن كل من طلب السعادة لنفسه لم يجدها وأنها إنما تحدث كنتيجة لإسعاد الغير؛ أي إن السعادة في رأيه ظاهرة انعكاسية، ولكنه لم يقل لنا ما هي هذه الظاهرة، ولم يقل لنا: ما هي الطريقة لإسعاد الغير، أهي السعي في منفعتهم؟ أهي إشباع مسراتهم؟ أهي منع الضر عنهم؟ ولم يقل لنا: هل مجرد القيام «بالواجب» نحو الآخرين يجعلنا سعداء لأنهم هم أصبحوا سعداء؟ ولم يقل لنا هل الجندي الذي مات في الحرب فداء «الواجب» والرصاص يفتك به أو السيوف تخترط جسده، هل ذلك الجندي مات مسرورا أو مات سعيدا؟ وبالأحرى، ما علاقة السرور بالسعادة وما الفرق بينهما.
وقد ألف الكاتب المشهور الشهير «كوبر بويز» كتابا دعاه «فن السعادة»، فأخذ في مستهل الكتاب يدلل على أن السعادة «فكرة» ومن ثم هي شيء لا يعتمد على الشعور الحسي. أي إنها شيء خارج عن ملذات السمع والبصر والشم واللمس!
وإذا كانت السعادة فكرة، يرجع بنا القهقرى إلى «أرسطو»، ومن طرائفه أنك لا تقول عن حيوان أنه نام سعيدا، ولا عن طفل؛ لأنه ليس للأول «فكرة» إنسانية، ولأن الطفل لم تنضج عنده الفكرة بعد. وقد يقول القارئ: ولكن الفكرة بمعناها الدقيق موجودة عند الحيوان وعند الطفل، فأعود إلى «أرسطو» مرة أخرى، فأراه يعني الفكرة الآتية من جوانب الروح أو بعبارة أخرى: الروح الواعية. وأعود إلى «أرسطو» فأسأله مرة أخرى، وهل كل فكرة روحانية واعية تؤدي إلى السعادة، سلمنا معك أن السعادة مسألة روحانية، وبذلك نخرجها من دائرة السرور والملذات الحسية وما أشبه، ولكن هل كل «نشاط روحي» يؤدي إلى السعادة؟ يجيبنا «أرسطو» قائلا: كلا، بل «نشاط روحي يؤدي إلى ممارسة الفضيلة والتفوق في ذلك». وهو لا شك تعريف جامع عميق، ويكاد يقول لك: إن السعادة تتمثل في الفيلسوف الذي «انقطع» لهذه الممارسة، ممارسة الفضيلة.
هذا هو رأي «أرسطو»، وهو رأي نبيل، ولكن هل يمكن أن يطبق على جميع العصور؟ هل ممكن لفيلسوف يمارس الفضيلة ممارسة مخلصة أن يعيش في القرن العشرين ويسعد في القرن العشرين؟ سيقول قوم: إنه سيكون سعيدا ما دام فيلسوفا عرف غايته وعاش لها وتخصص فيها، ويقول كثيرون: إن أكثر هؤلاء الفلاسفة ومن شاكلهم، إنهم لم يعرفوا السعادة في حياتهم، بل عرضتهم مثاليتهم لأقسى أنواع العذاب والاضطهاد. فلندع «أرسطو» في مثاليته، ولننظر فيما يقول علماء النفس المحدثون ، فهم يقولون: إن السعادة هي غاية الحياة، بل غاية الغايات، وإن كل الأهداف الصغيرة مهما اختلت إنما ترمي إلى هدف كبير واحد، هو السعادة بأوفى معانيها. فننتقل في الحال إلى الحياة والهدف من الحياة؛ أي إن رسالة السعادة تكون مرادفة لرسالة الحياة، فهل تكون الحياة قد أدت ما يطلب منها إذا اعتزلت الناس، وعاشت في برج عاجي تمارس فيه مثاليتها؟ وكيف تتم هذه الممارسة في برج عاجي؟ ولنفرض أن قديسا بلغ قمة الفضيلة واعتزل في رأس برج، وأخذ ينظر إلى الناس من أعلى، يراهم في أحقادهم واقتتالهم وتكالبهم على الفاني، ماذا يكون أثر ذلك في نفسه؟ أن يرفع رأسه للسماء قائلا: «رب اهدهم»، وإما أن يدير ظهره إليهم متأسفا حزينا، وإما أن ينزل من برجه إليهم. والحالة الأخيرة هي التي نأمل أن يمارسها الفيلسوف بفكرة أنها فضيلة كبرى أن يختلط القديس بالعامة ليهديهم ويرشدهم.
هناك حديث نبوي رائع مؤداه: «كلكم يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها.» ولا شك أن سيكولوجية الحياة السعيدة هي في كلمة «معتقها»؛ أي إن الإنسان «يتكيف» مع الوسط، فلا يبيع نفسه له، ولا يرتكب موبقة بالثورة عليه أو الهدم من كيان المجتمع.
وبعبارة أخرى: يمشي بزورقه في ذلك البحر الخضم، آونة هادئا، وآونة مسرعا، يماشي اللجج ويصانع العاصفة حتى يتعلم الناس الفضيلة، ويأخذوا في ممارستها، وحتى يتعلم الناس أن الفرق بين الإنسان والحيوان هو في «الشعور الروحي» فقط، وعندئذ يكون قد أدى رسالة الحياة؛ أي رسالة السعادة.
ولكن كيف يتكيف الإنسان وما هي مقتضيات هذا «الميزان»؟
إن الطريقة الوحيدة هي الطريقة العملية المبنية على الملاحظة والتجربة، فهناك بضع قواعد أساسية للسير في عباب «أقيانوس» القرن العشرين، ويجب أن نلم بها، وأن نفهمها جيدا، من تلك القواعد أن نفهم أننا نختلط بنوعين من الناس؛ الرجال والنساء، وأن هذا المجتمع قد برز بشطريه معا، ولم يعد مجتمع رجال فقط، ولم يعد فيه النساء مطويات في الدور محجبات في القصور، فإذن عليه أن يفهم الفرق بين العقليتين، ويدرك اختلاف النفسيتين، فإذا خاطب رجلا خاطب عقله ومنطقه وبيانه، وإذا خاطب امرأة خاطب عاطفتها، هذا مبدأ سهل بسيط، ولكنه مجهول، وإني أدلل به على ما ذكرته سابقا من أن هناك قواعد أساسية مستقاة من واقع الحياة والجيل الذي نعيش فيه، وقس على ذلك كثيرا من القواعد الأخرى المقررة، التي لا حاجة بنا لتفصيلها فإنها معلومة للذي يستقصي ويدقق، ويريد أن يتكيف مع الحياة بدون أن يفقد شخصيته وبدون أن يبيع نفسه.
لنكن عمليين إذن، نؤمن أن السعادة «نشاط روحي» وأن هذا النشاط له علاقة كبرى بالخير والحق، وأن هذا النشاط يستلزم لممارسته عقلية مرنة تعطي وتأخذ، وفي ذات الوقت تحتفظ بطابعها.
هذه هي السعادة لمن أراد السعادة، والواضح أن ممارسة السعادة بعد ذلك تصبح عادة، على شرط أن يتوفر الإيمان ويتيسر التدريب الطويل.
خاتمة
قد استعرضت في هذا الكتاب ألوانا من الأدب وألوانا من الحياة، وألوانا من مشاكل الناس، صغارهم وشبابهم وكبارهم، وحاولت ما وسعني الجهد أن أجد لكل مشكلة حلا، ولكل داء علاجا، وقد رجعت إلى أطباء النفوس من قديم، وما زلت أمشي عبر التاريخ منحدرا إلى الحاضر أسائل هذا وأتحدث إلى ذلك، لعلي أقع على الحقيقة.
وأين هي الحقيقة؟
هناك حقيقتان؛ الحقيقة الصغرى التي نصل إليها بعقولنا في المدى الضيق الذي نصل إليه عن طريق الحواس، والحقيقة الكبرى التي نصل إليها - أو لا نصل - بقدر ما نمنح من وعي باطني، وإحساس لا يتصل بالعقل ولا بالحواس.
ونحن بنو البشر قد عشنا إلى اليوم نستخدم حواسنا ووعينا وعقولنا، ولا نستخدم غير هذه، وقد خيل لنا أننا وصلنا، ولكن في الوقت الذي اعتقدنا ذلك؛ أي عند بلوغ القمة، اعترفنا أن هذه القمة سفح من السفوح.
وقد حاول أكبر علماء الغرب اليوم أن يرجعوا إلى أسرار الشرق، فضاق علماء النفس المحدثون ذرعا بما وصلوا إليه، واعترفوا أن حدود علم النفس ضيقة جدا، وأنه في اليوم الذي نعتقد أن التعمق والتحليل والاستقصاء قد بلغت بنا طريق الفهم والسعادة، نرى فجوة بيننا وبين المعرفة الكبرى، وفاصلا هائلا بيننا وبين الحقيقة اللانهائية، حتى لقد نصح «درموند شو»، الكاتب المشهور، قراءه أن يتعلموا كيف يكبحون جماح الوعي؛ أي إن الإنسان منا يجعل وعيه فضاء تاما لبضع لحظات، أعني بمنعه من التفكير والتأمل على الإطلاق، في هذه اللحظة يتصل العقل الباطن بعقل لا نهائي، ويلاحظ الذين مارسوا ذلك وبرعوا فيه، أن الإلهامات تترى وتتهادى في صفاء وسطوع.
وإذن فقد انتهى العلم إلى نوع من التصرف، أو بعبارة أخرى: شعر بقصور باعه، وبحاجته إلى ذلك «المجهول المطلق» الذي هو وحده طريق المعرفة، وطريق السعادة، وبيده سر الحياة.
فليكن شعارنا إذن أن نبحث عن الحقيقة، مستعينين بعقلنا ومنطقنا على شرط أن نعترف بحدودنا، ونؤمن بالقوة الخالقة التي تمدنا بالصبر والأمل وتوجهنا للخير والسعادة.
Bilinmeyen sayfa