وعدت إلى طهران في اليوم التالي. لم أحضر الجلسة الأخيرة في المؤتمر أو الحفل الختامي، يد تمسك الكأس بالنبيذ، وفي اليد الأخرى ورقة طويلة عليها التوصيات، كلمات مكررة وحبر على ورق.
الليلة الأخيرة في طهران قضيتها في غرفة «ماني» في الزقاق الصغير، تعيش وحدها في طهران، وأهلها في قرية صغيرة بالقرب من شيراز، تذهب إلى الجامعة في الصباح وفي الليل تعمل مع مجموعة من المناضلين، صنعت لي كوبا من الشاي وجلست أمامي، وجهها طويل نحيل، بشرتها سمراء، عيناها سوداوان واسعتان وشعرها أسود طويل على شكل ضفيرة كبيرة خلف ظهرها، ترتدي ثوبا أبيض، وتجلس على شلتة خضراء فيها مربعات بيضاء. كانت تتكلم وكنت أنصت: لي صديقة في السجن اسمها «هوما»، قبض عليها رجال السافاك وهي تسير في الشارع. لم تكن تحمل أي منشورات، وضعوها في السجن وحاولوا استجوابها، جردوها من ملابسها إلى ما تحت الصدر، ثم بدأ أحد الضباط في حرق حلمة ثدييها بسيجارة مشتعلة، كاد يقتلها الألم وبدأت تعترف بكل ما لديها، وفي الليل اقتحم البوليس بعض البيوت وحبسوا عددا من زملائنا الطلبة. قام رجال السافاك ورجال المخابرات الأمريكية المركزية بعمل فيلم عن «فن استجواب الثوار» وخاصة من البنات والنساء، وعمل من هذا الفيلم مئات النسخ، وزعته أمريكا كجزء من المعونة الفنية على بلاد صديقة مثل تايوان والفلبين وأندونيسيا. لم نعد نجتمع في البيوت أو الأماكن العامة، أصبحنا نجتمع في المسجد؛ فهو المكان الوحيد الذي لا يصله رجال السافاك أو المخابرات الأمريكية، الشاه شبه معزول، وأمريكا ترشده في كل شيء، وتحاول أن تصوره على أنه «الأب» للشعب الإيراني أو العائلة الإيرانية (فرمانده) حسب التقاليد الشعبية. صور الشاه تغطي الجدران ومن تحتها كتب: «أبو العائلة الإيرانية»، وفي كل أسبوع يذهب إلى الصلاة في مسجد من المساجد، يحاول انتزاع القيادة الدينية من الأئمة وآيات الله، ويوهم الناس أنه رجل صالح يخاف الله، وهو فاسد في حياته العامة والخاصة؛ استولى على أموال الشعب، وخياناته الزوجية المتعددة معروفة للجميع حتى زوجته فرح ديبا، يعتبرها بقرة ولادة لتنجب له ولي العهد. لا يحترم زوجته ولا يحترم النساء، فكرته وراء إنشاء وزارة لشئون المرأة ليس إلا محاولة لكسب تأييد النساء نظير تقديم بعض الحقوق السطحية لهن.
صوت «ماني» ظل في أذني حين ركبت الطائرة في الصباح وعدت إلى القاهرة، ومرت السنون ونسيتها أو خيل إلي ذلك، حتى قامت الثورة الإيرانية فعاد إلي صوتها وعيناها السوداوان الواسعتان وهي جالسة أمامي بثوبها الأبيض وضفيرتها الطويلة خلف ظهرها. وطرد الشاه من إيران ولم يجد بلدا يرحب به، حتى أصدقاؤه الأمريكيون نبذوه كأرنب ميت.
وتصورت أن الثورة الإيرانية سوف تحرر الشعب الإيراني، وتتحقق آمال «ماني» وزملائها وزميلاتها، لكن الثورة الإيرانية سرعان ما أجهضت على يد الخميني وأعوانه وتحولت من ثورة للتحرير إلى قوة بطش باسم الدين.
وفي يونيو عام 1984 التقيت في لندن ببعض الشباب الإيرانيين الذين هربوا من بطش النظام الخميني وسألتهم عن «ماني». قالوا: إن هناك كثيرات من المناضلات اسمهن «ماني»، وحاولت أن أصف لهم ملامحها. قلت: بشرتها سمراء وعيناها سوداوان واسعتان ولها ضفيرة طويلة خلف ظهرها. وتذكرها أحدهم، ورأيته يطرق إلى الأرض ثم يرفع إلي عينين فيهما دموع وقال: «ماني» أعدمت في سجن الخميني، وقبل الإعدام بأيام قليلة دخل عليها رجل واعتدى عليها جنسيا حتى لا تموت وهي عذراء، فهناك اعتقاد عند آية الله الخميني أن الفتاة إذا ماتت وهي عذراء تدخل الجنة، ومن أجل أن تدخل «ماني» النار أحضروا أحد الرجال وزوجوها له رغم أنفها قبل إعدامها بأيام.
هذه هي العقلية التي تحكم إيران اليوم، ومنذ ثلاثة أعوام حاول أحد الأساتذة الإيرانيين طبع كتابي: «الوجه العاري للمرأة العربية»، وطبع فعلا بعد أن ترجم إلى اللغة الإيرانية، لكن رجال الخميني هجموا على دار النشر وحرقوا الكتاب، وأصر الأستاذ الإيراني على إعادة طبع الكتاب، وفعلا طبع ووزع في إيران، وأرسل نسخة من الكتاب إلى عنواني بالقاهرة مع رسالة رقيقة يعتذر فيها عن التأخير.
وفي يونيو عام 1984 وفي لندن أيضا التقيت بهذا الأستاذ الذي اضطر إلى الهروب من بطش الخميني وأعوانه، وأصبح يعيش في المنفى هو وبعض أفراد أسرته هربوا معه عبر حدود إيران. وله ابنة صغيرة لم تستطع الهرب معهم وبقيت في سجون إيران، وزوجته لا تنام الليل في لندن تفكر في ابنتها الحبيسة في طهران، وفي غيرها من الفتيات والنساء الإيرانيات اللائي فرضت عليهن حكومة الخوميني «الشادور»، وألوانها محددة هي الرمادي، الأسود، البني، الأزرق، أو الأخضر الداكن، ومن لا تلبس هذه الألوان تعاقب، ومن لا ترتدي الشادور تهدد بالفصل من عملها أو السجن، وكثير من الفتيات والنساء دخلن السجون أو أعدمن. أما الشباب الذين لم يدخلوا السجن أو يعدموا فقد جندهم الخميني في الحرب ضد العراق، وعلق في عنق كل شاب منهم مفتاحا حديديا ليدخل به من باب الجنة بعد أن يموت في الحرب.
بغير دموع تتحدث زوجة الأستاذ، عيناها مليئتان بالحزن، وشيء آخر غير الحزن، الغضب والإصرار والتحدي. ذكرتني بعيني الدكتورة سيمين دانشوار، وزوجها الأستاذ أيضا يشبه جلال آل أحمد، شاب طويل القامة نحيل، وأشيب أبيض، البشرة سمراء، والملامح إيرانية صميمة، والحديقة صغيرة، حديقة جلال آل أحمد في شميران، ومائدة الطعام ونكهة الشاي ولهجة الكلام، وكل شيء يذكرني بطهران عام 1969 رغم أننا في لندن والعام هو 1984.
وعلى الباب الخارجي لبيتهما الصغير ودعني الأستاذ وزوجته بمثل ما ودعني جلال آل أحمد ودانشوار، ورأيت مجموعة من الشابات والشبان الإيرانيين مقبلين نحو الأستاذ وزوجته، وقلت لنفسي وأنا أسير نحو الشارع: ستحدث ثورة أخرى في إيران.
وعلى جدران محطة القطار تحت الأرض رأيت الحروف الفارسية بالخط الأسود: «يسقط الخوميني»، وتذكرت هذه الحروف نفسها منذ أعوام، وبدلا من كلمة «الخوميني» كانت كلمة «الشاه».
Bilinmeyen sayfa