ثمن الكتابة
إهداء
1 - أول رحلة خارج الوطن
2 - النصف الآخر من الأرض
3 - الأغوار وحافة النهر
4 - مؤتمر النساء في هلسنكي
5 - أول رحلة إلى العالم الأحمر
6 - إيران قبل الثورة
7 - رحلة الهند
8 - رحلة أفريقيا
Bilinmeyen sayfa
9 - الإمبراطور هيلاسلاسي والثورة
10 - جزيرة العبيد على الساحل الغربي
ثمن الكتابة
إهداء
1 - أول رحلة خارج الوطن
2 - النصف الآخر من الأرض
3 - الأغوار وحافة النهر
4 - مؤتمر النساء في هلسنكي
5 - أول رحلة إلى العالم الأحمر
6 - إيران قبل الثورة
Bilinmeyen sayfa
7 - رحلة الهند
8 - رحلة أفريقيا
9 - الإمبراطور هيلاسلاسي والثورة
10 - جزيرة العبيد على الساحل الغربي
رحلاتي في العالم
رحلاتي في العالم
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
Bilinmeyen sayfa
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا ، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
Bilinmeyen sayfa
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد ؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
إهداء
Bilinmeyen sayfa
إلى كل من سافر وعرف الغربة بعيدا عن الوطن، وإلى كل من عاش الغربة في الوطن.
نوال السعداوي
القاهرة، 1984
الفصل الأول
أول رحلة خارج الوطن
منذ الطفولة كان الوطن في عيني هو الحب، صدر أمي الدافئ ورائحة اللبن، يد أبي في الليل البارد تغطيني، صوت جدتي في ليالي الصيف تحكي قصة الغولة وجنية البحر، رائحة الخبيز والجميز والتين الشوكي، والزلعة على رأس ابنة عمي فاطمة ممتلئة حتى الحافة بماء النيل، وأمواج البحر في الإسكندرية، وهدير الطلبة في الشارع يهتفون: يسقط الملك.
وفي شبابي أصبح الوطن هو الثورة، والثورة هي الحب، ولأن الحب كان محرما فقد أصبحت الثورة محرمة أيضا، تقودني إلى السجن لا إلى الحرية.
وكان حلم حياتي هو الطيران والفرار من السجن، وفي طفولتي كان هناك حلم يتكرر: أن أبي مات وأصبحت أخرج بدون إذن. وفي شبابي حلم آخر مشابه: أن زوجي مات وأصبحت كاملة الأهلية.
كان أبي أكبر حب في حياتي، ومع ذلك كنت أحسد الأطفال اليتامى بغير آباء، وأول ثورة في حياتي كانت ضد أبي، وأراد أن يزوجني رجلا لا أحبه، وكنت بخيال مراهقة أعيش أحلام اليقظة، وأحب في الخيال بطلا يمتطي السلاح ويضرب الأعداء ويحرر الوطن ... ثم يضمني بين ذراعيه ويقبلني وأفقد الوعي ... وأنسى أبي وأمي وإخوتي وجدتي وكل آلامي.
لكنه ضمني وقبلني فلم أفقد الوعي، ولم أنس شيئا، حتى حكايات جدتي عن الغولة والجان والعفاريت لم أنسها، واكتشفت أول حقيقة في حياتي: أن الحب الأول وهم، والبطولة خيال، والوطن لم يتحرر.
Bilinmeyen sayfa
في منتصف الليل نهضت من السرير بحذر. كان صوت الشخير عاليا، والفم المفتوح، وفوق الشفة العليا شارب أسود كثيف، تسللت على أطراف أصابعي وفتحت الباب وخرجت. كنت أمشي بخطوات سريعة تشبه الجري، ولم يكن لي إلا هدف واحد؛ أن تلتف من حولي ذراعا أمي، لكني توقفت فجأة، تذكرت أن أمي ماتت، وأنها لم تعانقني في حياتي مرة واحدة، وأبي أيضا مات دون أن يعانقني أبدا. لا أنا ولا أي أحد من أخواتي وإخواني.
كنت أغيب عاما دراسيا كاملا في المدرسة الداخلية ثم أعود فلا يعانقني أحد أو يقبلني. لم تكن القبلات في بيتنا تعني الحب. كان الحب مجرد إحساس عميق مدفون في الأعماق. لا كلمات ولا عناق ولا قبلات. حب صامت فاقد النطق والحركة إلا في الخيال.
وكانت مأساة حياتي؛ فالحقيقة دائما أقل من الخيال، وأصبحت حياتي سعيا متصلا لتحقيق الخيال والحلم. ماذا كان حلم حياتي؟
كنت أراني فوق جواد أبيض يطير في الجو، وفي يدي سيف أضرب به الأعداء وأحرر الوطن. لقد ولدت في بلد يحكمه الأجانب. وتشهق جدتي حين أحكي لها الحلم: هذه ليست أحلام البنات. - وبماذا تحلم البنات يا جدتي؟ - يحلمن بالعريس وفستان الزفاف.
لكني لم أحلم أبدا بالعريس أو فستان الزفاف، رغم أن جدتي اشترت لي فستان الزفاف قبل مجيء العريس بعشرة أعوام، وفي كل عيد يشتري أبي لي فستانا جديدا، ويشتري لأخي مسدسا وطائرة صغيرة لها زمبلك يلفه عدة مرات فإذا بالطائرة تتحرك.
وفي الصندوق الأصفر من الكرتون رأيت هديتي؛ فستان حرير أبيض له كرانيش على الصدر ودانتيلا على الأكمام. وصحت بغضب: أريد طائرة ومسدسا مثل أخي.
وقالت أمي: ستكونين جميلة في الفستان الجديد.
وهتفت: لا أحب الفساتين.
وصاحت جدتي: هذه البنت كان لا بد أن تكون ذكرا.
رغم جدتي كنت أتطلع نحو السماء بعيني طفلة في العاشرة، هل سيأتي يوم أركب فيه طائرة؟ هل يمكن أن أطير في الجو كعصفور بعيدا عن هذا السجن الذي ولدت فيه؟
Bilinmeyen sayfa
في الحلم كنت أطير بغير طائرة، يرتفع جسمي في الجو، وأحلق فوق أسطح البيوت وقمم الأشجار والبحار، ثم فجأة يهوي جسدي إلى الأرض ويغوص في جوف البحر.
وتقول جدتي: الطيران في الحلم نجاح وسوف تتزوجين من أمير أو ابن ملك.
وأصيح في وجهها: أنا أكره الملك وأكره الزواج.
وتشوح بيدها في غضب: مجنونة مثل أمك.
وكانت أمي تكره الملك فاروق، لكن جدتي لم تكره إلا الإنجليز وتغني مع الراديو:
ملك البلاد يا زين يا فاروق يا نور العين.
لا زلت أسمع صوت حذائي الأسود الجديد يدب على أرض المطار كأنه بالأمس. مر عشرون عاما منذ وقعت عيناي لأول مرة على طائرة فوق الأرض. رأيتها أضخم مما تصورت، وكنت أراها في الجو صغيرة بحجم طائرة أخي ذات الزمبلك.
وقفت في الصف ومن أمامي وخلفي أعداد من النساء والرجال الأجانب، في يديهم حقائب جلدية ثمينة، وعلى سواعدهم معاطف صوفية. رءوسهم مرفوعة، وظهورهم عضلاتها مشدودة، وقامتهم طويلة.
رفعت رأسي وشددت عضلات ظهري، قامتي طويلة مثل قامة الرجال منهم، ونساؤهم أقل مني قامة، بشرتهم بيضاء كالطباشير وعيونهم كالدوائر الصفراء والأفواه كالخطوط بلا شفاه، تتحرك بسرعة وهم يتكلمون كالأوتار المشدودة أو الكرابيج.
في مرآة دورة المياه رأيتني أرتدي بالطو مطر أسود اشتريته من «عمر أفندي» بعد أن حصلت على تأشيرة الخروج من مكتب الجوازات في ميدان التحرير. وفي يدي حقيبة جديدة سوداء لها يد طويلة أعلقها على كتفي، في جرابها الخارجي تطل أطراف جواز السفر الأخضر، والتذكرة الطويلة الحمراء، وبطاقة التطعيم الصفراء المربعة. ومن النافذة الزجاجية العريضة ألمح الطائرات راقدة على أرض المطار كالطيور القانصة الضخمة، حيوانات خرافية من الزواحف.
Bilinmeyen sayfa
أزيز الإقلاع والهبوط يدوي في أذني ويسري في جسدي كالقشعريرة، مزيج من الرهبة والفرح والإقدام والخوف والحزن الغامض، يذكرني بليلة زفافي الأولى، وليلة موت أبي.
عيناي في المرآة تلمعان بضوء شديد السواد، وبشرتي سمراء متوردة بالحماس. لا زلت في ريعان الشباب، وباب الطائرة أمامي مفتوح على العالم الواسع، والشرطي القابع على بوابة المطار استوقفني وسألني عن أوراقي، ناولته الورقة الصفراء عليها ختم النسر، رمز الدولة. لماذا النسر؛ ذلك الطائر المفترس العنيف، والثورة كانت بيضاء بلا عنف كما قالوا! لكني أدركت بعد عشرين عاما من الرحلات في العالم أن أختام الدولة وشعارات الثورات تنسخ بالمقلوب، فإذا ما كانت الدولة دموية حفرت على خاتمها حمامة سلام، وإذا كان الزعيم قاتلا حصل على جائزة نوبل.
فحص الشرطي الورقة الصفراء بعينين بوليسيتين، تأكد أن خاتم النسر حقيقي وليس مزيفا، وأن الدولة توافق على انتقال جسمي خارج حدود الوطن.
ما دخل الدولة في حركة جسمي؟!
حرك الشرطي عينيه من الورقة الصفراء إلى وجهي، ينقل عينيه ببطء من وجهي إلى صورتي الملصقة بالصمغ على قطعة من الكرتون، وجهي لا يشبه الصورة، البريق في عيني لا يراه في الصورة؛ فهو بريق الكراهية المؤقت يشع من عيني الآن وأنا أنظر إليه.
لا يعرف أن بيني وبين رجال البوليس عداء ثلاثة آلاف عام، منذ سيطر الإله آمون وانهارت حضارة إيزيس وظهر إلى الوجود شيء اسمه العبودية.
حملق في وجهي بعينين ضيقتين وهز شاربه الكثيف فوق شفته العليا، ذكرني بصوت الشخير ينبعث من تحت الشارب الأسود الضخم، شوارب الرجال أيضا مثل أختام الدول تعلن عكس ما تبطن.
وسمعته يقول: هذه هي موافقة الدولة، ولكن أين موافقة الزوج؟
حملقت في وجهه بدهشة، ربما تقتضي الدكتاتورية أن تملك الدولة جسمي، لكن الزوج! هل هو أيضا يمتلك حركة جسمي؟!
وما هو الحد الفاصل فوق كياني بين ملكية الدولة وملكية الزوج؟
Bilinmeyen sayfa
غامت عيني بسحابة، لكن تذكرت فجأة أنني غير متزوجة، وانقشعت الغمة، ولمعت عيناي بالبريق، وهتفت بصوت رن في صالة المطار كرنين الفضة: أنا كاملة الأهلية، ولا أحد يمتلكني، اللهم إلا الدولة .
وزمجر الشرطي بصوت غليظ كالشخير: أنا أسألك عن موافقة الزوج!
وقلت: وأنا أقول لك إنني حسب القانون يمكنني السفر بدون موافقة الزوج؛ لأنني امرأة حرة بغير زوج.
وصاح بغضب: وهل معك ما يثبت أنك غير متزوجة؟
وبحركة سريعة أخرجت من حقيبتي ورقة طويلة تشبه شهادة ميلادي، أو شهادة النجاح والتخرج النهائي، رفعت الورقة البيضاء فوق رأسي كالراية أو كطوق النجاة، وبحركة أخرى سريعة وضعتها في يده تحت عينيه.
قرب الورقة من عدسته البوليسية وفحصها بدقة، راجع أختامها وتوقيعات المأذون والشهود ثم زمجر: لماذا لم تقولي منذ البداية أنك مطلقة (نطقها بفتح اللام)؟
وقلت بغضب: أنا لست مطلقة (بفتح اللام) ولكن مطلقة (بكسر اللام)!
رغم مرور عشرين عاما على تلك الرحلة الأولى خارج الوطن. لا زال صوتي يرن في رأسي وأنا أضغط على الشدة تحت اللام المكسورة، والشرطي جالس أمامي من وراء القفص الحديدي يطل علي بعينين ضيقتين شبه مختنقتين كعيني حيوان محبوس، ولا زلت أذكر حركة يده حين رفعها إلى فوق وضرب بالختم الأسود كالمطرقة الحديدية على جواز سفري وتركني أمر.
لم أصدق أول الأمر أنه تركني أمر، وحركت قدمي ببطء إلى الأمام متصورة أنه سيمنعني. لكنه لم يمنعني، فخطوت الخطوة الثانية بحذر أقل ولم يمنعني، وغمرني الفرح كالدهشة فقفزت خارج حدود الوطن كأنما أولد من بطن أمي للمرة الثانية، وصفقت بيدي كالطفلة، وحركت قدمي فوق الأرض كأنما سأحلق في الجو، وجهي ناحية السماء وظهري تجاه الوطن، تأهبت للانطلاق والطيران، لكن شرطيا آخر استوقفني وفحص أوراقي، ثم تركني أمر مع المسافرين، وعلى سلم الطائرة استدرت خلفي، ظننت أن أحد رجال الشرطة يتبعني، وأنه في اللحظة الأخيرة سيمنعني، وتم إغلاق الأبواب وانسحاب السلم.
وتحركت الطائرة وأنا شاخصة إلى أبوابها كأنما ستفتح فجأة ليدخل شرطي يتجه نحوي.
Bilinmeyen sayfa
لكن الأبواب ظلت مغلقة، ومن خلال النافذة الزجاجية المستديرة رأيت شرفة المودعين، والأيادي المرفوعة تلوح في الهواء، ليس من بينها يد واحدة تلوح لي، والوجوه كثيرة ليس من بينها وجه واحد أعرفه.
ودار رأسي مع الطائرة وهي تستدير بعيدا عن مبنى المطار، غامت عيناي تحت ضباب مفاجئ. من خلال الغمامة لاح لي وجه طفلتي، يدها الصغيرة تلوح لي وعيناها العسليتان فيهما دموع، اقتربت منها لأقبلها، والتفت أصابع يدها الخمس حول أصابعي بقوة.
الألم عند نهاية الضلوع، تحت القلب مباشرة، عميق وثقيل كقطعة الرصاص، قطعة مني لا تزال هناك، في تلك الشقة الصغيرة، بشرتها من لون بشرتي، وأصابع يدها تشبه أصابعي، تحبو على يديها وقدميها وتتطلع بعينيها الواسعتين نحو غرفة نومي فلا تجدني. شددت جسمي كأنما سأنهض وأعود، أمومة مفاجئة على شكل حنين جارف يجهض فرحتي بالسفر، أحاول أن أنهض لكني مربوطة في مقعدي بحزام سميك، والوطن يلوح لي من بعيد على شكل وجه طفولي مستدير، وعيناه عسليتان مليئتان بالدموع، وأصابع خمس دقيقة ما إن تلامس أصبعي حتى تلتف حوله كالوتد تربطني بالوطن، كالجذر الممدود في الأرض، وأصبح كالشجرة الأم وأنا لم أعش طفولتي بعد، أمومتي وطفولتي تعيشان داخل كياني في تناقض متوازن، وحنيني لابنتي كحنين للوطن متناقض، رغبة في الفرار.
أول رحلة خارج الوطن منذ عشرين عاما تبدو لي وكأنما بالأمس، والرعشة على أطراف أصابعي وأنا أتحسس حزام المقعد، وهدير الطائرة في أذني وهي تهم بالإقلاع، ثم انفصالي المفاجئ عن الأرض، والارتفاع في الجو، وخفقات قلبي تتصاعد وتتصاعد، الطائرة تهتز كأنما ستسقط، والضربات تحت ضلوعي تتوقف، إلى جواري رجل يقرأ في جريدة أجنبية كأنه جالس في بيته، له أنف طويل مقوس وبشرة بيضاء محمرة، يرتدي ربطة عنق ضخمة متعددة الألوان، وأصابعه حول الجريدة طويلة بيضاء، أظافرها مشذبة بعناية فائقة.
الرمال الصفراء تتسع وتتسع من خلال النافذة الزجاجية المستديرة والبيوت تبتعد ويصغر حجمها، نهر النيل كالشريط الرفيع الأبيض، الشاطئان شريطان لونهما أسود، ثم الصحراء كبحر من الرمال الممتدة في الأفق.
لأول مرة أرى الوطن من مسافة بعيدة، أصبح الوطن صغيرا، مجرد خط ملتو كالثعبان الرفيع في مساحة صفراء، كل شيء في حياتي أصبح صغيرا؛ أفراحي وأحزاني، أمومتي وطفولتي، آمالي وأحلامي، كل شيء أصبح صغيرا. حتى عبد الناصر بصوته المدوي كل يوم، وصفوف رجال الدولة الراجفين أمامه، أصبحوا جميعا مجرد سطر صغير في ذيل الصفحة في الجريدة الأجنبية تحوطها أصابع الرجل الغريب.
كنت أظن أن وطني هو كل العالم بمثل ما كنت أظن وأنا طفلة أن شارعنا هو كل الوطن. وكلما كنت أكبر كان الشارع يصغر. وحين امتد كياني خارج الوطن انكمش حجم الأرض وملأني إحساس جديد بأنني أكبر مما كنت. •••
جناح الطائرة من خلال النافذة الزجاجية ثابت الحجم، ثابت الجسد. لا يتحرك، معلق في الفضاء فوق أمواج من السحب البيضاء الثابتة. لا شيء في الكون يتحرك: لا السحب ولا الطائرة ولا حتى «الشاي» في الفنجان الموضوع لي على منضدة بيضاء بلاستيك معلقة في ظهر المقعد أمامي.
حملقت في الثبات ساعة وراء ساعة، ثم اكتشفت أن السفر بالقطار كان أكثر متعة؛ فالحركة كنت أراها من نافذة القطار، أعمدة السواري والأشجار تجري إلى الوراء بسرعة لا تلاحقها العين، تملؤني بحركة الحياة وانطلاق نحو الهدف بأقصى سرعة، والدم يجري في عروقي بالسرعة نفسها، وإحساس طاغ بالسعادة. منذ طفولتي كان للسفر فرحة كالعيد، أرتدي له ملابس جديدة وحذاء جديدا، ولا أنام من الفرح، وأصحو قبل أذان الفجر أو صياح الديوك. السفر كان في سيارة أو قطار، وداخل حدود الوطن: من القاهرة إلى قريتنا كفر طحلة، أو إلى منوف، أو الإسكندرية، أو الجيزة، أو حيث تشاء وزارة المعارف أن تنقل أبي.
وأتسابق أنا وإخوتي للجلوس بجوار النافذة، أخي كان يكبرني بعام واحد، وكنت أسبقه إلى النافذة، لكن أخي الأصغر كان يبكي ويتشبث بالنافذة فأترك له المقعد، أخواتي البنات كن أصغر مني، تجلس أصغرهن على ركبتي أمي.
Bilinmeyen sayfa
لم أكن أعرف عن الطائرة إلا الأزيز من بعيد أسمعه في السماء، وجسم صغير يلمع في الأفق بحجم اليمامة، له حركة بطيئة في الكون كحركة السحاب.
لم يكن خيالي قادرا على تصور حجمها الحقيقي أو سرعتها، ولم أتصور أنه يمكن للبشر بأحجامهم العادية أن يكونوا داخلها، يطلون علينا من فوق السحاب كالآلهة. ولم يكن لخيالي أن يمتد رأسيا، فأتصور أنني سأكون في السماء داخل طائرة أطل على الكون من ارتفاع شاهق.
كان خيالي يمتد بشكل أفقي مع حركة السيارة أو القطار فوق القضبان، وحركة قدمي، وامتداد النيل باستواء الأرض. وحينما أرفع رأسي عموديا نحو السماء تنزعج العيون من حولي، خاصة عيني جدتي، منذ ولدت وهي ترمق بقلق رأسي المرفوع فوق عنقي، أكان من المفروض أن أولد بغير رأس؟ وإذا حركت عنقي إلى أعلى ازداد قلقها وصاحت: لا ترفعي رأسك هكذا! ألا ترين كيف تسير البنات المؤدبات؟
وكانت البنت المؤدبة تسير ورأسها مطرق إلى الأرض، وظلت جدتي تقول: إنني غير مؤدبة حتى ماتت. لكنها كانت جدتي آمنة والدة أمي. أما جدتي مبروكة والدة أبي فكانت تضع الزلعة فوق رأسي وتقول: لا تحني عنقك هكذا، انظري كيف تسير بنات الكفر مرفوعات الرأس. لكنها كانت تظن أن رأس البنت لم يرتفع عموديا فوق العنق بهذا الشكل إلا لتحمل فوقه الزلعة.
ومع كل ذلك كنت أحب جدتي مبروكة أكثر من جدتي آمنة، وأفضل السفر إلى بيتها الترابي ذي الشرفة الخشبية، أشرب من الزير، وأستحم بماء الزلعة من النيل. لكن أمي كانت تفضل السفر إلى بيت أبيها في القاهرة، وأبي كان مثلي يحب قضاء إجازة الصيف في بيت أمه في الكفر، ويدور النقاش بينهما أول كل إجازة صيف. لم يكن نقاشا حادا أبدا، ولا ينتهي بفوز أحدهما على الآخر، نوع من التعادل بين القوتين الكبيرتين في البيت، وتحزم أمي الحقائب وتسافر إلى أهلها مرة، وإلى أهل أبي مرة، هكذا على التوالي.
قبل السفر بأيام أخرج كل ملابسي من الدولاب وأرصها في الحقيبة الكبيرة، وتأتي أمي وتفرغ الحقيبة في الدولاب وهي تصيح: لن تأخذي معك كل ملابسك، ثم إن موعد السفر لم يأت بعد.
وتقف على الكرسي الخشبي العالي، وتشب على أطراف أصابعها لتضع الحقيبة فوق الدولاب، ومن موقعي فوق الأرض وعيناي إلى أعلى أرى ساقيها السمينتين البيضاوين بغير شعر يمتدان تحت ثوبها الحريري إلى فخذين أشد سمنة وأشد بياضا، ثم يلتصقان في النهاية في خط واحد عميق داكن اللون.
ويراودني خاطر غريب، هو أنني هبطت إلى العالم من هذا الخط الداكن، ثم يتبع ذلك على الفور خاطر آخر أكثر غرابة، هو أن أبي له علاقة ما بهذا الخط الداكن. وإلى هنا تتوقف خواطري تماما كأنما وصلت نهاية العالم، وأعود أدراجي إلى مكاني فوق الأرض، ثم أصعد على الكرسي الخشبي العالي وأمد ذراعي فوق الدولاب، لكن يدي لا تصل أبدا إلى الحقيبة.
كل ليلة ومنذ أن تبدأ الإجازة الصيفية وأنا أحلم بأن يدي امتدت وطالت وأمسكت بالحقيبة، وأن ملابسي كلها انتقلت من الدولاب إلى الحقيبة، وأن أمي توقظني في الفجر لأرتدي الملابس الجديدة، وأبي يحكم إغلاق النوافذ والأبواب، والسيارة الأجرة تنتظر أمام الباب، صوت الموتور يرن في أذني عجيبا، ورائحة البنزين تسري في أنفي نفاذة منعشة. وعند محطة القطار يبدو كل شيء مدهشا، رصيف المحطة العالي، والقضبان الممتدة إلى ما لا نهاية في الخندق العميق، وأصوات الأجراس وصفارات القطار والدخان الكثيف يندفع من الفوهة السوداء، والناس تجري وفي أيديهم الحقائب، وبائع السميط ينادي بصوت حاد مرتفع، وسلم القطار العالي. أمسك المقبض الحديدي وأضع قدمي على السلم ويخيل إلي أن القطار سيتحرك وقدمي الثانية لا تزال على الأرض، لكن القطار لا يتحرك، وأجري إلى مقعدي وأنظر من النافذة، وتظل المحطة ثابتة والبيوت ثابتة، وأظن أن القطار لن يتحرك أبدا. وفجأة أحس برأسي يهتز بعنف إلى الوراء ثم إلى الأمام، وتبدأ البيوت في الحركة إلى الوراء، ومن بعدها أعمدة السواري التي تبدأ في الجري إلى الخلف واحدة وراء الأخرى.
وأطل برأسي من النافذة وأنا أشهق بالفرح، الهواء القوي يطير شعري في الفضاء، وفمي مفتوح عن آخره أبتلع الهواء والدخان، ولا أحس إلا بيد أبي تشدني إلى الخلف وصوته يدوي في أذني مختلطا بصوت عجلات القطار: أدخلي رأسك!
Bilinmeyen sayfa
تراجعت برأسي بعيدا عن النافذة، لكني داخل الطائرة ولست داخل قطار، والنافذة صغيرة مستديرة مغلقة بزجاج مزدوج، والسماء زرقاء ثابتة، والسحب بيضاء ثابتة. لا أشجار ولا أعمدة سواري تتحرك، ولا أستطيع أن أطل برأسي من النافذة، وجسدي عاجز عن إدراك الحركة، كأنني داخل علبة حديدية معلقة في الكون إلى الأبد، وحزام المقعد يلتف حول جسدي وينتهي إلى قفل معدني، ملمسه فوق صدري كالسماعة الطبية تتدلى من الخرطوم المطاطي حول عنقي، ورائحة اليود والدم في معطفي الأبيض، ولهاث المرضى في أذني كالطنين، طابور طويل يمتد حتى الزقاق المترب أمام باب المستشفى تعلوه لافتة نحاسية صدئة نقشت عليها حروف سوداء: «مستشفى الأمراض الصدرية بالجيزة»، وإلى جواري المنضدة الخشبية كالحة، والفانوس الكهربي لرؤية صور الأشعة، ثم نافذة صغيرة مفتوحة على بركة صغيرة تقذف الهواء محملا بالغبار ورائحة عفونة كالمجاري.
حملقت في الكون الواسع من خلال الزجاج المزدوج، ونظرت ناحية الأرض، أبحث بعيني عن موقع مستشفى الدرن من الأرض أو موقع الأرض من المستشفى.
من بين السحب البيضاء كزيت القطن رأيت سردابا طويلا يهبط إلى الأرض. الأرض سوداء تماما، لكن عيني التقطتا نقطة فوق الأرض أكثر سوادا، وقلت لنفسي: لا بد أنه المستشفى، والأرض أيضا ليست أرضا وإنما هو شيء له حركة ماء ولا بد أنه البحر.
من خلفي رجل عجوز يسعل، سعاله من النوع الجاف بسبب الدخان وليس الدرن، أذناي تدربتا على تشخيص المرض من نوع السعال.
كل يوم من الساعة التاسعة صباحا حتى الثانية بعد الظهر أسمع سعال الطابور الطويل، أضع السماعة المعدنية بين الضلوع البارزة وأسمع صفارة الهواء ثم خشخشة الدم والصديد، أسلط على الصدر الأشعة وأنا أقول للمريض: اكتم نفسك. وبدلا من أن يكتم نفسه، يسعل في وجهي ويملؤني بالرذاذ، أتراجع إلى الوراء بسرعة وأدس في اليد المعروقة زجاج الدواء قائلة: قرص واحد بعد كل وجبة طعام ثلاث مرات في اليوم.
يردد الصوت الخافت مع اللهاث: بعد كل وجبة طعام؟
وأقول: نعم، بعد كل وجبة طعام، ثلاثة أقراص في اليوم الواحد بعد الوجبات الثلاث!
ويأتي السؤال على شكل شهقات: الوجبات الثلاث!
وأردد: نعم، وجبات الطعام الثلاث!
ذلك اليوم كانت آخر الطابور امرأة في يدها طفل وعلى كتفها طفل، استدارت وهي تزمجر: وهل كنت أمرض بالسل إذا كانت هناك وجبات ثلاث؟!
Bilinmeyen sayfa
كل يوم وأنا أحملق من النافذة على البركة الآسنة أرفع عيني إلى المساحة الصغيرة من السماء بين الجدران وأخاطب الله: من هو المسئول عن هذه التعاسة فوق الأرض؟ أنت أم رئيس الدولة؟
وتسري في جسدي قشعريرة الخوف. وقد ألقيت المسئولية على رئيس الدولة وليس على الله، وكنت لا أزال أومن بالعدالة الإلهية.
ذلك اليوم دق جرس التليفون فجأة، وانتفضت في مقعدي، تصورت أن مكتب الأمن بالوزارة التقط بجهاز ما شكوكي العميقة في عدالة الدولة.
وجاءني صوت يقول بلهجة متعالية: صدر قرار وزاري بسفرك ضمن وفد الأطباء إلى الجزائر. •••
وفي كل رحلة خارج الوطن كنت أظن أنني لن أعود، لكني في كل مرة كنت أعود؛ حنين لابنتي يشدني إلى الوطن، وحنين إلى الأرض، رائحة الأرض والتراب والهواء، الوجوه والملامح المألوفة، اللغة واللهجة تشتاق إليها أذني، والشوق له ألم حاد في الأذن، وفي القلب تحت الضلوع، وفي حركة الدم في العروق، كاشتياق المدمن لوجع السم. •••
أحملق من خلال الزجاج على أرض الوطن. لا أرى إلا السماء والسحاب وفي القاع البعيد الساحل الداكن كالخط الأسود يفصل البحر عن الأرض، هل نحلق فوق الإسكندرية؟ أحملق في القاع البعيد. لا شيء يتغير تحت عيني. لا زال وجه موظف الأمن أمامي، رأسه أصلع أملس كرأس السلحفاة، عيناه بيضاوان بغير جفون ولا رموش، يرمقني من قمة رأسي إلى أطراف قدمي، كياني ينقلب إلى برغوث مثبت بالصمغ تحت عدسة الميكروسكوب، جهاز يشبه الأشعة يكشف عن أعماقي، أخفيت الكراهية في طيات أمعائي ورسمت على وجهي ملامح قديسة تفيض بالحب والخوف، فلا شيء يهدد الأمن إلا الكراهية أو الحب بغير خوف.
لأول مرة أقف للفحص أمام موظف الأمن لاستخراج ذلك الدفتر الصغير المستطيل المسمى «جواز السفر». لأول مرة في حياتي أستخرج جواز سفر، وحين استقر «الباسبور» في حقيبة يدي سرت في الشارع مرفوعة الرأس في زهو، كأنني بهذا الدفتر صعدت من طبقة إلى طبقة، لكن سرعان ما تبدد الزهو حين ابتلعني المبنى الضخم المسمى «مجمع التحرير»، وسقط جسمي في خندق مزدحم بالأجسام تلهث، وتنز بالعرق، وأخذت ألهث أنا الأخرى، وأجري من مكتب إلى مكتب، وفي يدي أوراق ألصقت عليها دمغات صفراء وخضراء، وتوقيعات بالحبر الأحمر والأسود والأزرق. واستقر بي الأمر في النهاية داخل مكتب الأمن، وموظف يشبه الموظف الآخر، رأس أصلع وصوت ناعم، رمقني من رأسي إلى قدمي، وحملق في صورة وجهي ثم سألني: لماذا تسافرين إلى الجزائر؟
قلت: لحضور المؤتمر الطبي العربي.
وتساءل كأنما بدهشة: أنت طبيبة؟
وقلت: نعم.
Bilinmeyen sayfa
حملق في وجهي وقال: ما رأيك في الثورة؟
وتساءلت: أي ثورة؟
ولكني تداركت السؤال وقلت: نعم.
قال: نعم؟
وبدأت أفكر.
وزمجر الرجل بغضب: فيم تفكرين؟
قلت: في الإجابة.
وقال بدهشة: وهل السؤال يحتاج إلى تفكير؟
وبدا لي التفكير لحظتها كالعورة، وانتهت المقابلة بسرعة، وانقضى شهر وأنا أنتظر حصولي على تأشيرة الخروج.
لكن التأشيرة لم ترد.
Bilinmeyen sayfa
وجاء يوم الثلاثاء وكان موعد السفر الأربعاء، أي بعد يوم واحد، وذهبت إلى موظف الأمن وسألت: لماذا تأخرت التأشيرة؟
ورد: إنها تتأخر دائما.
وقلت: ألا سبيل إلى استعجالها؛ فالمفروض أنني سأسافر غدا؟
قال: لا سبيل إلى استعجال أي شيء.
وعدت إلى بيتي، جدران الشقة تطبق على صدري، مددت يدي نحو قرص التليفون، رنين الجرس يدوي في أذني. لا أحد في العالم، وأنا وحدي تماما، سرت إلى النافذة لأطل على الناس في الشارع، رائحة كطفح المجاري تملأ الجو، الهواء محمل بغبار وصهد، الناس تتحرك في الطريق كأشباح ميتة في عالم آخر، عربة بوليس تجري ومن خلفها سيارة تطلق صفارة حادة، إحساس جارف بالغربة يسري في جسدي.
وفجأة توقف أتوبيس أحمر، وهبطت منه ابنتي، ترتدي مريلة زرقاء لها كولة بيضاء، وفي يدها حقيبة المدرسة، رفعت رأسها نحو النافذة ورأتني، ابتسمت ولمعت عيناها العسليتان بالفرح، جريت إلى الباب، وانتظرت حتى خرجت من باب المصعد فحملتها بين ذراعي، دفنت رأسها في صدري، رائحة الطفولة في شعرها توقظ أمومتي وتبدد الغربة.
أعددت لها الطعام وجلست أرقبها وهي تأكل بشهية، تقلص وجودي في الحياة إلى ذلك الصحن تمتد إليه يدها الصغيرة ثم ترتفع إلى فمها، وحركة فكيها الصغيرتين وهي تمضغ الطعام بلذة.
وفي الليل نمت وذراعي حولها، كأنما أحتضن العالم كله، ولا شيء في العالم يمنحني هذه النشوة. لا رجل ولا عمل ولا سفر. وترددت لحظة: هل ركوب الطائرة أكثر متعة؟ وكيف يبدو العالم تحت عيني وأنا فوق السحاب؟ والأرض هل سأراها كروية؟ وهل سأطل على القارات الخمس في آن واحد؟ والتضاريس والجبال والأنهار والبحار هل سأراها بشكلها على الخريطة؟
خيالي تلك الليلة ظل راكدا، وصورة قائمة واحدة سيطرت على عقلي: أن الطائرة سقطت في البحر وأنا داخلها، وتحولت خيبة الأمل في السفر إلى فرحة النجاة من الموت، ونمت نوما عميقا.
وفي الصباح فتحت عيني وقد تبددت تماما كل رغبتي في السفر، وذهبت إلى المستشفى كأي يوم، لكن جرس التليفون رن إلى جواري وجاءني الصوت المتعالي ويقول: لقد وصلت تأشيرة الأمن.
Bilinmeyen sayfa
ووضعت السماعة إلى مكانها، وأدركت أن تصاريح الأمن لا تحل بالإنسان حين يرغبها، فإذا ما كف تماما عن رغبتها حلت به فجأة من حيث لا يدري كالقضاء والقدر.
أفقت على صوت ينبعث من سقف الطائرة يقول: إننا نحلق فوق ليبيا. جسدي يسترخي في المقعد وخدر لذيذ يسري في كياني، أصبحت خارج حدود الوطن، تحت ضلوعي خفقات تتصاعد بسرعة، والدماء الدافئة تمشي في عروقي، شحنة من الحماس، وحواس جديدة تستيقظ وتتفتح للحياة والحب، أسندت رأسي إلى مسند المقعد وأغمضت عيني ثم فتحتهما، لحن موسيقي في أذني، وعينان زرقاوان تتطلعان نحوي وتبتسمان. كانت تجلس في المقعد المجاور لي وتحضن بين ذراعيها دمية كبيرة من البلاستيك، تهدهدها كأنها طفل حي.
سألتني: عندك أطفال؟
قلت: نعم.
قالت بأسى: حرمت من الأطفال.
وقلت: الحياة فيها أشياء أخرى غير الأطفال.
تساءلت: مثل ماذا؟
قلت: العمل، السفر، الحب ...
تساءلت: هل أحببت؟
وفاجأني السؤال: لم يسألني أحد من قبل هذا السؤال، لكن سؤالها يبدو لي عاديا، وبي رغبة لأفتح قلبي لهذه المرأة؛ فهي لا تعرفني، وسوف نفترق ولن نلتقي بعد اليوم.
Bilinmeyen sayfa
وقلت: أتريدين الصدق؟
قالت: نعم.
قلت: توهمت الحب لكنني لم أحب بعد.
وضحكت وألقت بشعرها الأصفر الغزير إلى الوراء، رأيت بين أسنان فكها العلوي سنة ذهبية. أظافرها طويلة مدببة مطلية باللون الأحمر. أمسكت خصلة من شعرها بين أصابعها ولعقت بطرف لسانها شفتها العليا وقالت: لا يوجد شيء اسمه الحب.
سألتها: من أي بلد؟
قالت: أنا إيطالية، وأشتغل في بني غازي.
وقلت: وماذا تشتغلين؟
قالت وهي تشعل سيجارة: راقصة، ثم أردفت بصوت خافت: ومومس أيضا.
انتفض جسدي مبتعدا عنها بحركة شبه غريزية، لأول مرة في حياتي أرى امرأة مومسا، قرأت عنهن في الروايات وشهدتهن في أفلام السينما، رمقتها بطرف عين أدرس ملامحها وذراعيها وساقيها، كل شيء فيها عادي لا يثير الانتباه. كنت أظن أن المرأة المومس لا بد وأن تثير الانتباه بشيء غير عادي. تأملت أصابع يدها الخمس بدهشة، كأنما كنت أتوقع أن يكون لها ست أصابع أو سبع، أفقت على هزة عنيفة كأنما تسقط الطائرة في البحر، ومعدتي تسقط معها إلى تحت، أمسكت المقعد بكلتا يدي وهتفت: ماذا يحدث؟
وقالت المرأة الإيطالية: نهبط في بني غازي.
Bilinmeyen sayfa
أضاءت رقعة مستطيلة من الضوء فوق رأسي عليها حروف بالإنجليزية: اربطوا حزام المقعد، أطفئوا السجائر. صوت أنثوي يعلن في الميكرفون أن الطائرة تهبط، ولم أسمع بقية الكلمات، الميكرفون يأكل نصف الحروف، والأزيز العالي يبتلع النصف الآخر، وجدران أذني تنطبق وتنغلق تحت ضغط مفاجئ، ولم أعد أسمع إلا صفيرا حادا، ثم انفتحت أذني فجأة بصوت أشبه بالفرقعة الخفيفة وزال الضغط تماما، وسمعت صوتا كهدير الشلال، ثم ارتج جسمي مع ارتطام عجلات الطائرة بالأرض.
ولا بد أن وجهي كان شاحبا؛ لأن قلبي كان يدق بسرعة، وحلقي جف تماما.
على أرض مطار بني غازي رأيتها من خلال الزجاج تسير بين الصفوف، تحمل على ذراعها الأبيض النحيل دميتها البلاستيك كأم تحمل ابنتها الوحيدة، وبيدها الأخرى أمسكت حقيبة جلدية صفراء.
عاصفة من الرمال هبت وطيرت شعرها الأصفر، ورأيتها تغطي ركبتيها البيضاوين بطرف ردائها، وهواء بني غازي يعاندها ويرفع عنها الرداء، ووجوه سمراء تتفرسها، وعيون جائعة تلتهمها.
ورأيتها تتوقف ثم تستدير نحو نافذتي، ولوحت لي من بعيد بمنديلها الأبيض الصغير، فلوحت لها وخوف غامض يسري في كياني. •••
حين هبطنا في الجزائر كانت الشمس لا تزال في السماء، شمس الأصيل الدافئة تلمع فوق الشجر والجبل العالي الأخضر. لأول مرة في حياتي أرى جبلا عاليا أخضر صاعدا نحو قرص الشمس. في مصر لم أعرف إلا الأرض المستوية، وجبل المقطم لم يكن جبلا، والخضرة في مصر لم يكن لها اللون الأخضر القوي الداكن.
سمعت من خلفي صوتا يقول: حمد الله على السلامة، استدرت بسرعة، رأيت الوجه الطويل الأسمر والشارب الدقيق المنمق فوق الشفة العليا، اسمه الدكتور «جميل ياسر» وكان أستاذا لي بالكلية.
تساءل: أنت وحدك؟
قلت: نعم.
قال: تعالي معنا، سنأخذ تاكسيا إلى الفندق. كانت معه زوجته، امرأة ضخمة سمينة تتأرجح على كعبين رفيعين. السائق الجزائري يتكلم بالفرنسية. الساعة حول معصمي تشير إلى الثامنة والنصف، ولا تزال الشمس في السماء. وقال الدكتور جميل ياسر: ألم تغيري ساعتك؟ الساعة الآن الخامسة والنصف.
Bilinmeyen sayfa
مددت رحلاتي المتعددة في بلاد العالم خلال العشرين عاما الماضية، ورغم أنني حركت عقارب الساعة إلى الوراء أو إلى الأمام حسب موقع البلد الذي أسافر إليه، إلا أنني لا زلت أذكر هذه المرة الأولى التي غيرت فيها الزمن بيدي.
أحسست رعشة خفيفة فوق أصابعي وأنا أحرك مسمار الساعة، وعيناي تتابعان العقربين وهما يتقهقران إلى الوراء ثلاث ساعات كاملة.
كنت أظن أن حركة عقربي الساعة مقدسة لا يمكن ليد أن تلمسها أو تغيرها. هذان العقربان كانا يحكمان يقظتي ومنامي، مواعيد عملي ولهوي، يحكمان أيام عمري، يحكمان علي «بالشباب أو بالشيخوخة». هذان العقربان لم أكن أستطيع أن أقدمهما أو أؤخرهما دقيقة واحدة، ولا يستطيع أحد غيري حتى الصائغ الذي صاغهما ودقهما بمطرقته وصنع منهما عقربين. هذان العقربان المقدسان استطعت الآن أن أحركهما إلى الوراء ثلاث دورات كاملة.
وتحولت الدهشة إلى فرحة، كأنما اختلست من الآلهة ثلاث ساعات وأضفتها إلى عمري، أو كأنما درت حول الكرة الأرضية ثلاث دورات وأنا في مكاني.
وحين سرت على أرض الجزائر والشمس لا تزال في السماء قلت لنفسي: الناس في مصر غربت عنهم الشمس وأنا لا تزال الشمس في عيني! أهي الشمس نفسها أم شمس أخرى؟
ملمس الشمس فوق وجهي في أول زيارة لا يزال في ذاكرتي، واللهجة الجزائرية بدت لي كاللغة الجديدة، والملامح الجزائرية حادة قوية شامخة كالجبل، والسلام الجمهوري حين سمعته يعزف لأول مرة أدركت أنني فوق أرض الجزائر، أرض المليون شهيد، حرب التحرير والفدائيين، سجون التعذيب وجميلة بوحريد، الجنود الفرنسيون وفظائع الاستعمار، «فرانزفانون» وكتابه «المعذبون فوق الأرض»، «بن بيلا» بوجهه المستدير وقامته الطويلة تقارب قامة عبد الناصر.
افتتح «بن بيلا» المؤتمر الطبي. قاعة ابن خلدون مليئة بالأطباء العرب، والحديث بينهم يدور حول الثورة الجزائرية والعمل الفدائي والتحرر من الاستعمار، لكن سرعان ما انقسموا إلى لجان متخصصة وبدءوا الحديث عن أمراض القلب والمعدة والطحال.
وفي المساء كانت حفلات الموسيقى والغناء والرقص الجزائري، أنغام البيانو والكمان تمتزج بدقات الدف والعود، كلمات فرنسية تمتزج بكلمات عربية، عيون فيها ثورة وغضب، وعيون فيها استكانة وشبع، نساء رشيقات نصف عاريات، ونساء محجبات تحت خمار سميك وعباءة واسعة بيضاء.
في حي القصبة العربي طغت دقات الدف والعود على أنغام البيانو والكمان، وطغت الكلمات العربية على الفرنسية، وبدأت الأزقة الرطبة والبيوت القديمة المتآكلة وعيون النساء من تحت الحجاب الأبيض ووجوه الأطفال الذابلة.
تقدمت نحوي امرأة تخفي وجهها وجسمها تحت عباءة بيضاء واسعة، على ذراعها طفل، وذراعها الثانية ممدودة نحوي، باسطة كفها تشحذ: أعطني قرشا. قالتها بالفرنسية. لأول مرة في حياتي أسمع شخصا يشحذ بلغة أجنبية. كنت أظن أن الشحاذين لا يعرفون إلا العربية.
Bilinmeyen sayfa