390

أوما حان لبني لبنان أن يفهموا أن فرنسا تريد بسط حمايتها في البلاد السورية كلها، وأنها تلعب بساداتنا اللبنانيين وبالإكليروس لعب الأكر؟ فلما كان موقفها متزعزعا في سوريا، لما كانت تخشى أن تتغلب السياسة الإنكليزية على سياستها كما تغلبت سنة الستين؛ أخذت تشجع اللبنانيين في طلب استقلالهم مقرونا بمشارفتها، أجل، وقد شجعتهم إلى حد أن أذنت برسم الأرزة في العلم الإفرنسي وبرفعه علما لبنانيا في الجبل، ولكنها حين تعزز موقفها في ما أقره مؤتمر سان ريمو غيرت خطتها اللبنانية فأمرت بطي العلم - علم المجد والاستقلال الموهوم - بل منعت رفعه والمظاهرات به لأسباب قد تكون غامضة عند أعضاء مجلس الإدارة، ولكنها واضحة في نظر ذوي الألباب.

إننا نلوم فرنسا على مثل هذه السياسة، وإننا نحترم الصراحة وإن كانت علينا، فلو أحسنت فرنسا النصح للبنانيين منذ البدء، ولو لم تمالئ الإكليروس اللبناني وتمده بسكوتها

4

في حماسه الطائفي؛ لما حدث ما حدث من المظالم والفظائع في المدن المجاورة المنطقة الشرقية، فهل كان في سوريا خوف من العصابات قبل سفر البطريرك الماروني إلى باريس؟ وهل أخلص المسيو كليمنصو النصح للوفد الديني اللبناني؟ كلا، ثم كلا، فلو عمل هذا الإفرنسي الكبير بمبادئه الحرة وسلك في سياسته اللبنانية المسلك الذي يسلكه في سياسته الإفرنسية لقال للبطريرك وحاشيته: خير لكم أن تتحدوا وجيرانكم ونحن في البداية نشارف على هذا الاتحاد إلى حين، لو قال لهم هذا القول بدل أن «يجاملهم» فيعطي البطريرك تعهدا ارتبنا بقيمته في ذاك الحين وتحققنا قلة قيمته اليوم؛ لما أمعن اللبنانيون بالهوس الذي جر عليهم الويلات، إن كليمنصو الحر كان رجعيا في سياسته اللبنانية.

المردة والصليبيون

يكثر الناشدون استقلال لبنان، المتغنون بحب فرنسا، من ذكر المردة والصليبيين، وقد فاتهم أن أحوال الماضي لا تنطبق قطعا على أحوال الحاضر. قد حارب المردة في قديم الزمان من أجل دينهم لا من أجل استقلالهم المدني السياسي، قد تحالفوا وملوك بيزنطة لا لأن بيزنطة كانت أقرب إليهم من دمشق، ولا لأن الروم من جنسهم ودمهم؛ بل لأنهم كانوا مسيحيين. وقد حارب الموارنة العرب لا لأن العرب جاءوا يقوضون استقلالهم ويحتلون بلادهم بل لأن العرب مسلمون، فلو كان الاستقلال السياسي المدني في نظرهم أعز شيء يذودون عنه لما رضوا بعدئذ بسلطة الأغيار يوم تحالفوا والصليبيين باسم الدين أيضا ورغبوا بهم أسيادا في البلاد ما يزيد على المائة سنة.

إن مقاومة اللبنانيين العرب إذا لمن أجل الدين لا من أجل الاستقلال، فقد كانت المسألة في تلك الأيام دينية بحتة، واليوم نرى الموارنة يؤثرون الفرنسيس على سوريي دمشق؛ لأن الفرنسيس - على ما فيهم من كره لمزج الدين بالسياسة - لا يزالون يمالئون الموارنة على سبيل الدين، والموارنة لا يزالون يقاومون العرب لا حبا باستقلالهم بل لأن العرب مسلمون .

والبرهان على ذلك أنهم يرضون بمشارفة إفرنسية لا أجل محدود لها، مشارفة تستحيل تدريجا إذا شاءت فرنسا احتلالا تاما دائما، ولا يؤاخون مواطنيهم في البلاد ويتحدون وجيرانهم. إن اللبنانيين من هذا القبيل رجعيون ، ونزعاتهم لا تزال دينية كما كانت في أيام المردة والصليبيين.

وا أسفاه! أفلا تغير ألف سنة شيئا من هذا الشعب اللبناني الجامد في بلاده الناهض في بلاد الأجانب؟ وهل يظل منقادا إلى الإكليروس وإلى الأعيان عبيد الإكليروس، أولئك الذين لا يهمهم من استقلال لبنان غير أن يظلوا متبوئين كرسي السيادة، قابضين على نفوس اللبنانيين وعلى عقولهم؟ أتعد المشارفة الأوروبية غير المحدودة الأجل استقلالا؟ أويمكن أن يكون لها أجل محدود والحال التي توجبها، أي الأكثرية الإسلامية والأقلية المسيحية، حالا دائمة لا تتغير؟ أنسلك اليوم ونحن في القرن العشرين مسلك أجدادنا أبناء القرن العاشر؟ أهذا ما نسميه منعة ومجدا واستقلالا؟ أتتطور الأمم في سائر المعمورة عملا بسنة الارتقاء ويظل اللبناني مقيدا بقيود التقاليد العقيمة، قيود العصبية الطائفية، قيود صاغها الإكليروس والأعيان في الأجيال الغابرة ولا يزال الإكليروس والأعيان يستخدمونه اليوم لمآربهم الذاتية؟

ولكن البحر مفتوح لبني لبنان والعالم الجديد يناديهم، فضلا عن الأحوال الاقتصادية التي تحول دون إقامتهم في بلاد ضرب الفقر فيها عصاه وخيم البؤس على ربوعها.

Bilinmeyen sayfa