Mutlu Gölgeler Dansı

Rihab Salah Din d. 1450 AH
89

Mutlu Gölgeler Dansı

رقصة الظلال السعيدة

Türler

بعد مرور كل هذه الفترة، مادي هي التي بقيت. كانت هي من رحل أولا للالتحاق بالكلية، ثم رحلت أنا. قالت لي: امنحيني أربع سنوات، ثم أمنحك أنا بعد ذلك أربعا مثلها. لكنني تزوجت. لم تتفاجأ؛ كانت حانقة علي بسبب ما أشعر به من شعور بائس وغير مجد بالذنب. قالت إنها دائما كانت عازمة على البقاء. وإن أمي لم تعد تشكل مصدر «ضيق» لها. قالت: «لقد فاض الكيل بي من أمنا غريبة الأطوار الآن، ولم أعد أفعل شيئا حيالها. كففت عن محاولاتي المستمرة أن أجعل منها «إنسانة»، كما تعلمين.» لكن من قبيل التبسيط المفرط أن أفترض بأن مادي متدينة، وأنها كانت تشعر بمباهج التضحية بالذات، بالجاذبية الروحانية القوية لنكران الذات التام. لكن من ذا الذي يمكن أن يقول ذلك عن مادي؟ في مراهقتنا، عندما كانت خالتانا، الخالة آني والخالة لو، تتحدثان إلينا عن أحد الأبناء أو البنات البررة الذين ضحوا بكل شيء في سبيل رعاية أحد الأبوين في مرضه، كانت مادي تستشهد بآراء الطب النفسي الحديث على نحو لا يدل على تدين. لكنها بقيت. كل ما يمكنني قوله عن هذا - كل ما أمكنني أن أفكر فيه على الإطلاق - لتعزية نفسي إنها ربما كانت قادرة على ذلك، بل وربما اختارت أن تعيش بمعزل عن الزمن في حرية تامة متخيلة، كما يفعل الأطفال، مستقبل لا يعبث به أحدهم، حيث كل الخيارات متاحة دائما. •••

يسألني الناس - كي يغيروا الموضوع - عن شعوري حيال العودة إلى جوبيلي، لكنني لا أدري، ما زلت أنتظر شيئا يخبرني بذلك، يجعلني أدرك أنني عدت. ففي اليوم الذي وصلت فيه من تورونتو بصحبة طفلي في المقعد الخلفي للسيارة كنت في غاية التعب في آخر مراحل رحلة طولها ألفان وخمسمائة ميل. كنت مضطرة للسير خلال منظومة معقدة من الطرق السريعة والفرعية، لأن ما من طريق سهل للوصول إلى «جوبيلي» من أي مكان على الأرض. ثم في حوالي الساعة الثانية بعد الظهر رأيت أمامي القبة المبهرجة المقشرة، المألوفة والمفاجأة، لمجلس المدينة، التي لا تمت بأي صلة على الإطلاق إلى معمار أبنية المدينة المبنية على نحو بسيط، بالقرميد الأحمر والرمادي المتسخ. (معلق أسفل هذه القبة جرس هائل الحجم، يقرع في حال حدوث كارثة لن تحدث.) قدت سيارتي نحو الشارع الرئيسي - مركز خدمة جديد، وواجهة زخرفية جديدة لفندق كوينز - وانعطفت نحو الشوارع الجانبية المتهالكة تماما التي تعيش فيها العزبات المسنات، اللائي لديهن في حدائقهن فسقيات الطيور وزهور نباتات العائق الزرقاء. كانت البيوت الكبيرة المبنية بالقرميد التي عرفتها، بشرفاتها الخشبية ونوافذها ذات الأسلاك الداكنة، تبدو لي حقيقية لكن غير واقعية. (كان كل من أتحدث إليه عن الجو العام المقبض الشبيه بجو الأحلام لهذه الشوارع يرغب في أخذي إلى الجانب الشمالي من المدينة حيث يوجد مصنع جديد لتعبئة زجاجات المياه الغازية، وعدد من البيوت على طراز بيوت المزارع وفرع من فروع تيستي فريز.) أوقفت سيارتي في بقعة ظليلة صغيرة أمام المنزل الذي كنت أسكن فيه. تساءلت ابنتي الصغيرة مارجريت بصوت هادئ حمل قدرا من عدم التصديق: «أمي! هل هذا منزلك؟»

شعرت في صوت ابنتي بخيبة أمل مضاعفة - بدت أنها، كعادتها، تصالحت معها، أو فعلت ذلك «سلفا» قبل أن ترى المنزل - احتوت كل فتور وغرابة اللحظة التي انكشفت فيها الحقيقة، المحبطة، المؤسفة، المستعصية لمنبع الأساطير. بدا القرميد الأحمر للبيت قاسيا وحارا تحت الشمس، يعلوه في موضعين أو ثلاثة شقوق طويلة تشوه منظره؛ أما الشرفة، التي كانت دائما فقيرة الزينة، فكانت مائلة متداعية على نحو جلي. كانت هناك - ولا تزال - نافذة وهمية ذات زجاج ملون إلى جانب الباب الأمامي. ظللت أحدق فيها، متحيرة لا أدرك ما أحس به. ظللت أنظر إلى البيت ولم تتحرك مصاريع النوافذ، ولم ينفتح الباب بغتة، ولم يخرج أحد إلى الشرفة؛ لم يكن ثمة أحد بالمنزل. كان هذا ما توقعته، لأن مادي تعمل الآن في مكتب مجلس المدينة، لكنني فوجئت من استحالة البيت إلى هذا المنظر الفقير الأجرد الموصد ، لمجرد عدم وجود أحد به. وأدركت، وأنا أمشي عبر الباحة الأمامية إلى السلالم، أنني قد نسيت، بعد قضائي كل هذه الأصياف على الساحل، ما تتسم به المدن الداخلية من حر قائظ، يجعلك تشعر وكأنك تحمل فوق رأسك السماء المحرقة برمتها.

ثمة لافتة، مكتوبة بخط مادي المنمق والطفولي بعض الشيء، معلقة على الباب الأمامي تقول: «مرحبا بالزوار، الأطفال مجانا، والأسعار سنتفق عليها لاحقا (ستندمون) تفضلوا بالدخول.» فوق طاولة الردهة توجد باقة من زهور الفلوكس الوردية، عبقت بعبيرها الناعم الهواء الحار لمنزل مغلق بعد ظهيرة يوم صيفي. قلت للطفلين: «إلى الدور العلوي!» آخذة بيد طفلتي وأخيها الأصغر، الذي كان قد نام في السيارة، وأخذ يتمسح في، ناشجا، وهو يسير. ثم توقفت، وإحدى قدمي على أولى درجات السلم، واستدرت لأستقبل، دونما قصد مني، صورة امرأة على وجهها علامات طول السهر، مسمرة، نحيلة، لها ملامح أم شابة، شعرها معقود فوق قمة رأسها، لها صدغان لم يعودا لحيمين انسيابيين، ورقبة سمراء تطل بمنظر مشدود من العقد العظمية الحادة للترقوة؛ كان هذا في مرآة الردهة التي كنت قد طالعت فيها، آخر مرة نظرت إليها، صورة فتاة عادية الجمال، وجهها غير متأثر بما يجيش داخلها، وناعم كثمرة التفاح، مهما كان ما يخبئ وراءه من ذعر أو اضطراب.

لكنني لم أكن قد استدرت لهذا الغرض؛ أدركت أنني ربما كنت أنتظر أن تنادي أمي، من فوق أريكتها في غرفة الطعام، حيث ترقد والستائر مسدلة لحجب حر الصيف، تحتسي فناجين الشاي التي لم تنه أيا منها قط، وتأكل - كانت، كطفل سقيم، ليس لها مواعيد للوجبات على الإطلاق - سلطانيات صغيرة فيها فاكهة محفوظة وفتات الكعك. تراءى لي أنني لا يمكن أن أغلق الباب ورائي دون أن أسمع صوت أمي الضعيف ينادي، فأشعر بنفسي متثاقلة تماما وأنا أهم بإجابتها. كانت تصيح: «من هناك؟»

أخذت طفلي إلى غرفة النوم الكبيرة في خلفية المنزل، حيث كنت أنام أنا ومادي. كانت تحوي فوق نوافذها ستائر بيضاء رقيقة، تكاد تكون ناحلة بالية، ومشمعا مربعا فوق الأرضية ؛ كان بالحجرة سرير يتسع لشخصين، وطاولة عليها حوض وإبريق للاغتسال كنت أنا ومادي نستخدمها كطاولة حينما كنا في المدرسة الثانوية، ودولاب للملابس ذو مرايات صغيرة في الجوانب الداخلية لأبوابه. وأنا أتحدث إلى طفلي كنت أفكر - لكن بإمعان، ودون استعجال - فيما كانت تفكر فيه أمي وهي تصيح «من هناك؟» كنت أسمح لنفسي - وكأنني لم أجرؤ على فعل ذلك من قبل - بأن أسمع التماس المساعدة - السافر، آه، السافر والفج والمتضرع على نحو مهين - في نبرة صوتها. كانت الصيحة تتردد كثيرا، ولا يتغير شيء، دون أي جدوى، حتى صرت أنا ومادي نعتبرها مجرد صوت من الأصوات التي يصدرها المنزل ويتعين معالجة سببها، كي لا تنتهي إلى ما هو أسوأ. كانت إحدانا تقول للأخرى: «اذهبي لتتعاملي مع أمي» أو «علي أن أتعامل مع أمي، لن أستغرق أكثر من دقيقة.»

قد يتضمن الأمر أن نقوم ببعض الخدمات البسيطة والكريهة التي لا تكف عن احتياجها، أو أن نضطر لمنحها خمس دقائق من حديث مبهج على نحو مقتضب، وكنا نفعل ذلك بعدم اكتراث لا يعرف الرحمة لدرجة أننا لم نكن ندرك للحظة حقيقة الأوضاع، من دون أية بارقة شفقة تفك ولو لمرة حصار دموعها المضني الطويل. لكن الشفقة لم تعرف طريقها إلى قلبينا، والدموع كانت لتسيل على أية حال، بحيث كنا ننهزم، فنضطر - رغبة في إيقاف هذه الضوضاء - للتظاهر بإبداء الحب. لكننا صرنا أكثر دهاء، وصرنا نقدم العناية الفاترة؛ فنزعنا غضبنا وفراغ صبرنا واشمئزازنا، نزعنا كل المشاعر من تعاملنا معها، كما يحدث عندما يمنع اللحم عن سجين رغبة في إسقامه، حتى الموت.

كنا نأمرها أن تقرأ، أن تستمع إلى الموسيقى وتستمتع بتعاقب الفصول وتشعر بالامتنان لأنها لم تصب بالسرطان، وأنها أيضا لا تعاني من أية آلام، وهذا صحيح؛ إن لم يكن الحبس في حد ذاته ألما من الآلام. في الوقت نفسه كانت هي تطلب حبنا بكل طريقة تخطر على بالها، دون خجل أو حساسية، بتشبث كتشبث الأطفال. قلت في نفسي: كيف لنا أن نحبها، كانت منابع الحب داخلنا شحيحة، وكان قدر الحب المطلوب منا هائلا أكثر مما يمكن. ثم إن هذا لم يكن ليغير أي شيء.

كانت تقول: «لقد سلب مني كل شيء.» كانت تقولها للغرباء، ولأصدقائنا الذين كنا نفشل دائما في محاولاتنا أن نعزلهم عنها، ولصديقاتها القديمات اللائي كن يأتين، مدفوعات بالشعور بالذنب، لرؤيتها على فترات متباعدة، كانت تتكلم بنفس الطريقة، بنفس الصوت الثقيل الحزين الذي لم يكن مفهوما أو لم يكن بشريا تماما؛ وكنا نضطر لترجمة ما تقول. كانت هذه السلوكيات المسرحية تشعرنا بإذلال يكاد يقتلنا، لكني الآن أرى أنها لولا إصرارها على تغذية تلك الأنانية حتى وهي على شفا كارثة، كانت ستغرق سريعا في حياة مضجرة كئيبة. ظلت تجعل نفسها على صلة بالعالم قدر ما استطاعت، دون أن تعبأ بمدى تقبل الناس لها؛ كانت لا تكف عن الطواف في المنزل وفي شوارع جوبيلي. أوه، لم تكن تستسلم؛ لا بد أنها ذرفت الدمع وكافحت حتى النهاية في ذلك المنزل الحجري (كما أستطيع أن أتخيل، لكني لن أفعل).

لكني لا أزال أرى الصورة ناقصة؛ صورة أمنا الغريبة الأطوار، وراء ما يمثله الشلل الرعاش من قناع مريع بارد جاثم فوق ملامحها، بتثاقلها وبكائها وشرهها لأن تحظى بالاهتمام متى تسنى لها أن تناله، بعينيها الميتتين الحمراوين، المطلتين بثبات على داخل نفسها؛ وليس هذا كل شيء. فهذا المرض عشوائي وبطيء في تدهوره، فقد كانت في بعض الأصباح (التي أخذت تقل شيئا فشيئا وتتباعد فيما بينها) تصحو في حال أفضل، وتخرج للفناء وتسوي نبتة من النباتات بالطريقة البسيطة لربة المنزل، وتقول لنا كلاما رصينا وواضحا ومفهوما، وتنصت في اهتمام إلى الأخبار. وتحاول، كمن استيقظ من حلم مزعج، أن تعوض ما ضاع من الوقت، فترتب المنزل، وتجبر يديها المتيبستين المرتجفتين على العمل قليلا على ماكينة الخياطة، وتصنع لنا أحد أطباقها المميزة؛ كعك الموز أو فطيرة كريمة الليمون. منذ أن ماتت، أحلم بها من آن لآخر (لم أكن أحلم بها قط حينما كانت على قيد الحياة) وأراها تفعل شيئا من هذا القبيل ، وأفكر: لماذا أضخم لنفسي الأمر؟ انظري، إنها على ما يرام، جل ما هنالك أن يديها ترتجفان ...

Bilinmeyen sayfa