من أفضل ما قيل عن الكتاب
راعي بقر ووكر براذرز
منازل مضيئة
صور
شكرا على النزهة
المكتب
العلاج
وقت الموت
يوم الفراشة
صبيان وبنات
بطاقة بريدية
فستان أحمر - 1946
بعد ظهيرة يوم الأحد
رحلة إلى الساحل
سلام أوترخت
رقصة الظلال السعيدة
من أفضل ما قيل عن الكتاب
راعي بقر ووكر براذرز
منازل مضيئة
صور
شكرا على النزهة
المكتب
العلاج
وقت الموت
يوم الفراشة
صبيان وبنات
بطاقة بريدية
فستان أحمر - 1946
بعد ظهيرة يوم الأحد
رحلة إلى الساحل
سلام أوترخت
رقصة الظلال السعيدة
رقصة الظلال السعيدة
رقصة الظلال السعيدة
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
رحاب صلاح الدين
مروة عبد الفتاح شحاتة
مراجعة
ضياء وراد
من أفضل ما قيل عن الكتاب
تحفة فنية ... مقدرة فائقة ... عبقرية فريدة كالماس ... بديعة؛ كلها أوصاف تليق بأليس مونرو.
مجلة «كريستيان ساينس مونيتور»
أليس مونرو هي تشيكوف العصر، وستتفوق على معظم معاصريها.
سينثيا أوزيك
كيف يدرك المرء أنه أمام موهبة عظيمة وفن أصيل يخلب الألباب؟ إنه الفن الذي ينساب من صفحات قصص أليس مونرو.
صحيفة «ذا وول ستريت جورنال»
إلى روبرت إي ليدلو
راعي بقر ووكر براذرز
بعد العشاء يقول أبي: «أتودين الخروج ومشاهدة البحيرة؟» نترك أمي تحيك في ضوء حجرة تناول الطعام، تصنع ملابس لي قبيل بدء العام المدرسي. كانت قد مزقت من أجل ذلك بذلة قديمة وثوبا صوفيا مربع النقش من ثيابها، تقص القماش وتوائمه في براعة شديدة وتجعلني أقف وأستدير لضبط المقاس مرات كثيرة، أتعرق وأشعر بحكة الصوف الساخن، غير ممتنة لذلك. ونترك أخي في سريره في الرواق الصغير المطوق بالستائر والواقع في نهاية الشرفة الأمامية، وأحيانا ما يجثو فوق سريره ويلصق وجهه بالستارة ويصيح في حزن: «أحضرا لي بعض الآيس كريم!» لكنني أجيبه دون أن ألتفت إليه حتى: «ستكون نائما حين نعود.»
نمضي بعدها أنا وأبي شيئا فشيئا عبر شارع طويل حالته متردية نوعا ما، وتظهر على الرصيف لافتات لسيلفروودز آيس كريم أمام متاجر ضيقة مضاءة. نحن في تابر تاون، بلدة عتيقة تطل على بحيرة هورون ، ميناء عريق لتجارة الحبوب. تظلل أشجار القيقب الشارع في بعض أجزائه، والتي صدعت جذورها الرصيف لينبعج سطحه، وانتشرت كالتماسيح في الأفنية الجرداء. يجلس الناس في الخارج، لم يرتد الرجال سوى قمصان ومن تحتها فانلات، وارتدت النساء المآزر. لم نكن نعرفهم، لكن إذا أبدى أي شخص استعدادا للإيماء برأسه وقول «ليلة دافئة»، يومئ أبي برأسه أيضا ويرد بالعبارة نفسها. لا يزال الأطفال يلعبون بالخارج، ولم أكن أعرفهم أيضا؛ إذ لا تسمح أمي لي ولأخي إلا بالبقاء في فناء منزلنا، معللة أن أخي صغير جدا على أن يلعب بالخارج وأنا علي الاعتناء به. لم أشعر بالأسف الشديد وأنا أشاهد ألعاب الأطفال المسائية؛ حيث إن ألعابهم نفسها خلت من النظام والتجديد. يتفرق الأطفال، بمحض إرادتهم، في جزر منعزلة من اثنين أو حتى واحد تحت الأشجار الكثيفة، يشغلون أنفسهم بمثل هذه الطرق الانعزالية كما أفعل طيلة اليوم، يغرسون الحصى في الطين أو يكتبون عليه بالعصي.
نواصل سيرنا متجاوزين تلك الأفنية والمنازل وراءنا، ونمر بمصنع سدت نوافذه بألواح خشبية، كان مخزنا للأخشاب تغلق أبوابه الخشبية العالية ليلا. ثم تنتهي البلدة بمجموعة عشوائية متهدمة من السقائف وبقاع مهملات صغيرة. يصل الرصيف إلى نهايته ثم نسير عبر طريق رملي ويحيط بنا نبات الأرقطيون ولسان الحمل وأعشاب بسيطة لا أعرف لها اسما. نصل إلى قطعة أرض خاوية، أشبه بالمتنزهات حقيقة، فقد كانت تخلو من المهملات، وثمة مقعد واحد كان لوح خشبي مفقودا من مسنده الخلفي، كان مكانا نجلس عليه ونراقب المياه التي تبدو عادة رمادية في المساء، تحت سماء ملبدة بالغيوم قليلا، لا نرى غروب الشمس، ويبدو الأفق معتما. نسمع ضجيجا خافتا للغاية لارتطام المياه بصخور الشاطئ. وبعيدا جدا تجاه الجزء الرئيسي للبلدة، توجد مساحة من الأرض مغطاة بالرمال، وأنبوب تزلج مائي، وعلى سطح منطقة السباحة الآمنة تطفو العوامات، ويطل عليها المقعد الطويل المتداعي الخاص بعامل الإنقاذ. وكذلك ثمة مبنى مرتفع أخضر قاتم، كأنه شرفة مسقوفة، يدعى السرادق، يعج بالمزارعين وزوجاتهم، مرتدين ملابس أنيقة للغاية، أيام الآحاد. كنا نعرف ذلك الجزء من البلدة حينما كنا نعيش في دانجانون، وكنا نأتي ثلاث أو أربع مرات خلال الصيف لنزور البحيرة. كنا نذهب إلى البحيرة وأحواض السفن حيث نراقب مراكب الحبوب العتيقة والصدئة التي تتقاذفها الأمواج؛ مما يجعلنا نتساءل كيف اجتازت حاجز الأمواج، ناهيك عن وصولها إلى فورت ويليام.
يتسكع المتسولون حول أحواض السفن وأحيانا ما يتجولون في تلك الأمسيات على الشاطئ المتضائل ويتسلقون الطريق المعاكس والمتداعي الذي صنعه الصبية، متشبثين بالشجيرات الجافة، ثم يقول المتسول شيئا لأبي - الذي كان يرتعد من المتسولين - لم أفهمه من شدة فزعي. يخبره أبي أنه فقير أيضا ويقول: «سألف لك سيجارة إذا كان ذلك سينفعك بشيء.» ثم يخرج التبغ بعناية فوق إحدى الأوراق الرقيقة المزخرفة، ثم يحركها سريعا فوق لسانه، ويحكم لفها ليقدمها للمتسول الذي يأخذ السيجارة ويمضي بعيدا. يلف أبي أيضا سيجارة لنفسه ويشعلها ويدخنها.
يحدثني عن نشأة البحيرات العظمى، يقول إن منطقة بحيرة هورون الآن كانت أرضا منبسطة، سهلا مسطحا فسيحا، ثم زحف الثلج من الشمال نحوها، وشق طريقه بقوة إلى الأماكن المنخفضة «هكذا»؛ موضحا لي بالضغط بيده مبسوطة الأصابع فوق الأرض الصلبة كالصخر حيث كنا نجلس، لكن أصابعه لا تحدث تأثيرا على الإطلاق، فيقول: «حسنا، كان الغطاء الثلجي القديم يحمل قوة من ورائه أكبر كثيرا من قوة هذه اليد.» ثم انحسر الثلج وتقهقر تجاه القطب الشمالي حيث أتى، وترك أصابعه الثلجية في الأماكن العميقة التي شقها، وتحول الثلج إلى بحيرات، وها هي هنا اليوم. كانت البحيرات جديدة، مع مرور الزمن. وأحاول تصور السهل ممتدا أمامي والديناصورات تسير فوقه، لكنني لم أستطع تخيل شاطئ البحيرة عندما كان يعيش عليه الهنود الحمر، قبل تابر تاون. إن القدر الضئيل من الزمن الذي نعيشه يفزعني، رغم أن أبي يبدو أنه ينظر إلى الأمر بسكينة، حتى أبي، الذي بدا لي أحيانا مطمئنا إلى العالم ما دام باقيا، لم يعش حقا فوق هذه الأرض سوى ما يزيد بقدر ضئيل عني، من منظور زمان العيش كله. لم يشهد أبي زمنا، أكثر مني، لم تكن فيه السيارات والمصابيح الكهربية موجودة على الأقل. لم يكن على قيد الحياة عند بداية هذا القرن، وسأكون على قيد الحياة بالكاد، طاعنة في السن للغاية، عند انتهائه. لا أحب أن أفكر في هذا الأمر. ليت البحيرة تظل دائما بحيرة ليس إلا، تطفو عليها العوامات في مكان السباحة الآمن مميزة إياها، وكذلك حاجز الأمواج وأضواء بلدة تابر تاون. •••
يعمل أبي بوظيفة، فهو بائع بشركة ووكر براذرز، وهي شركة تبيع على مستوى البلد بأسره تقريبا؛ أعني المناطق النائية من البلاد: صانشاين وبوليزبريدج وتيرناروند؛ هذه هي المناطق التي يبيع أبي فيها، لا في دانجانون حيث كنا نعيش؛ فدانجانون بلدة قريبة للغاية، وأمي ممتنة لذلك. يبيع أبي أدوية السعال، ومكملات الحديد، ولاصق مسمار القدم، وملينا للأمعاء، وحبوبا للاضطرابات الأنثوية، وغسولا للفم، وشامبوهات، ومراهم، ودهانات، ومركز الليمون والبرتقال والتوت لصنع مشروبات منعشة، وفانيليا، ومكسبات اللون للأطعمة، وشايا أسود وأخضر، وزنجبيلا، وقرنفلا وغيرها من التوابل، وسما للفئران. كان قد ألف أغنية لبضاعته من هذين السطرين:
لدي كل المراهم والزيوت،
تعالج كل شيء من مسمار القدم إلى البثور ...
لم تكن أغنية مضحكة في رأي أمي، كانت أغنية بائع متجول، وهكذا كان أبي، بائعا متجولا يطرق أبواب المطابخ بالمناطق النائية. حتى الشتاء الماضي كان له مشروعه الخاص: مزرعة ثعالب. ربى أبي الثعالب الرمادية وباع فراءها إلى أناس يصنعون منها العباءات والمعاطف وقفازات الفراء لتدفئة اليدين. انخفضت الأسعار، وثابر أبي آملا أن تتحسن العام التالي، لكنها انخفضت ثانية، فثابر عاما آخر ثم آخر، وأخيرا لم يكن في الإمكان الاستمرار أكثر من ذلك، فأصبحنا مدينين بكل شيء لشركة العلف. سمعت أمي تشرح هذا الأمر، مرات عدة، للسيدة أوليفانت، وهي الجارة الوحيدة التي تتحدث معها أمي. (فقدت السيدة أوليفانت أيضا مكانتها الاجتماعية لكونها معلمة تزوجت بحارس.) أخبرتها أمي أننا وضعنا في التجارة كل ما كنا نملك، ولم نجن منها شيئا. كثير من الناس يقولون الأمر نفسه هذه الأيام، لكن أمي لم يكن لديها وقت للاهتمام بالمأساة الوطنية، فقط مأساتنا نحن. ألقت بنا الأقدار إلى شارع يقطنه الفقراء (بغض النظر عن أننا كنا فقراء من قبل، فقد كان هذا نوعا مختلفا من الفقر)، والسبيل الوحيد للتعامل مع الأمر - حسبما ترى أمي - هو التعامل معه بكبرياء ومرارة ودون تصالح. لن تجد مواساة في حمام به حوض استحمام مزود بأربع أرجل أو مرحاض مزود بصندوق لطرد المياه، أو وجود مياه بالصنبور وأرصفة أمام المنزل ولبن بالزجاجات، أو حتى دوري عرض الأفلام ومطعم فينس ومتجر وولورز البديع للغاية حتى أنه يوجد به طيور تغرد في زواياه المبردة بهواء المراوح، وأسماك صغيرة بحجم الظفر ومضيئة كالأقمار تسبح في الأحواض الخضراء. لا تأبه أمي بذلك.
في فترات بعد الظهيرة غالبا ما تذهب أمي إلى بقالة سايمونز وتأخذني معها لأساعدها في حمل الأشياء. ترتدي ثوبا أنيقا، كحلي اللون منقوشا بزهور صغيرة، وشفافا، ترتديه فوق لباس داخلي كحلي اللون، وكذلك قبعة صيفية من القش الأبيض، تميلها إلى جانب رأسها، وحذاء أبيض كنت قد لمعته توا باستخدام صحيفة على السلم الخلفي. أما شعري فقد صففته لي في تموجات طويلة رطبة سيحلها الهواء الجاف سريعا لحسن الحظ، ووضعت في أعلى رأسي شريطا أبيض كبيرا مشدودا بإحكام. كان الخروج مع أمي مختلفا أيما اختلاف عن خروجي مع أبي بعد العشاء؛ لا نلبث أن نمر بمنزلين حتى أشعر بأننا أصبحنا هدفا للسخرية من الجميع، حتى الكلمات البذيئة المكتوبة بالطباشير أعلى الرصيف تسخر منا، لا يبدو أن أمي تلحظ هذا. تسير في طمأنينة كسيدة مجتمع تتسوق، «كسيدة مجتمع» تتسوق، تمر بربات البيوت اللاتي يرتدين ثيابا فضفاضة بلا حزام وممزقة من تحت آباطهن. أما أنا فصنيعتها، بتموجات الشعر البائسة وشريط الشعر المبهرج وركبتي النظيفتين والجوارب البيضاء؛ كل ما لم أكن أريده. أكره حتى اسمي عندما تقوله على الملأ، بصوت مرتفع للغاية، متعال ورنان، مختلف بتعمد عن صوت أي أم أخرى بالشارع.
أحيانا ما تحضر أمي معها إلى المنزل الآيس كريم، على سبيل الترفيه، الذي يكون بطعوم مختلفة، ولأننا لا نملك ثلاجة في منزلنا نوقظ أخي ونأكله في الحال في حجرة الطعام، التي كان جدار المنزل المجاور يجعلها معتمة على الدوام. أتناول الآيس كريم بالملعقة على مهل وأترك الشكولاتة إلى النهاية على أمل أن يكون لدي ما آكله عندما يفرغ أخي صحنه. تحاول أمي بعد ذلك محاكاة الأحاديث التي كانت تدور بيننا عندما كنا في دانجانون، وتستعيد الأيام الأولى الأكثر رفاهية قبل أن يولد أخي، عندما كانت تقدم لي قليلا من الشاي وكثيرا من اللبن في كوب ككوبها ونجلس في الخارج فوق السلم في مواجهة مضخة المياه وأشجار الليلك وحظائر الثعالب من ورائها، لم يكن بوسعها الامتناع عن ذكر تلك الأيام. «هل تذكرين عندما كنا نضعك في المزلجة ويجذبك ميجور؟» (ميجور كان كلبنا واضطررنا إلى تركه مع الجيران عند انتقالنا)، «هل تذكرين الصندوق الرملي الخاص بك أمام نافذة المطبخ بالخارج؟» أتظاهر بأنني أذكر أقل كثيرا مما أذكره، حذرة من الوقوع في حصار الشفقة أو مشاعر غير مرغوب فيها.
تعاني أمي من نوبات صداع، غالبا ما تضطر إلى الاستلقاء، فترقد فوق سرير أخي الضيق في الرواق المستر الصغير، الذي تظلله الفروع الكثيفة. تقول: «أنظر إلى الشجرة بالأعلى وأفكر أنني في منزلي.»
يخبرها أبي: «إن ما تحتاجين إليه هو تنشق الهواء المنعش وجولة بالسيارة في الريف.» ويقصد أن تأتي معه في جولة عمله بشركة ووكر براذرز.
لم تكن هذه فكرة أمي عن جولة بالسيارة في الريف. «هل يمكنني المجيء؟» «ربما تحتاجك أمك لتجربة الملابس.»
قالت أمي: «لست في حال تسمح لي بالحياكة اليوم.» «سأصحبها معي، سأصحبهما هما الاثنين لتنعمي بقسط من الراحة.»
ما الذي بنا يجعل الناس بحاجة إلى نيل قسط من الراحة منا؟! لا بأس. كنت سعيدة للبحث عن أخي وحثه على الدخول إلى المرحاض، بعد ذلك صعدنا سويا السيارة، دون أن ننظف ركبتينا وشعري غير معقوص. أحضر أبي من المنزل حقيبتيه البنيتين الثقيلتين، المكتظتين بالزجاجات، ثم وضعهما على المقعد الخلفي. كان يرتدي قميصا أبيض، يبرق تحت ضوء الشمس، ورباط عنق، وبنطلون بذلته الصيفية الخفيف (كانت بذلته الأخرى سوداء، خاصة بالجنازات، وقد كانت لعمي قبل وفاته) واعتمر قبعة من القش فاتحة اللون. كان هذا زي عمله كبائع، كما علق أقلاما رصاصية في جيب قميصه. رجع إلى المنزل مرة أخرى، على الأرجح ليودع أمي، وليسألها ما إذا كانت متأكدة أنها لا تود المجيء معنا، وسمعتها تقول: «كلا، كلا، شكرا لك، سأكون أفضل حالا بأن أستلقي هنا وعيناي مغمضتان.» ثم رجع أبي بالسيارة إلى الخلف للخروج من الممر وبداخلنا أمل متصاعد لخوض مغامرة، إنه ذلك الأمل الصغير فحسب الذي يصعد بك فوق المطب ومنه إلى الشارع، بدأ الهواء الساخن في التحرك، وتحول إلى نسيم، وأخذت المنازل تبدو غير مألوفة شيئا فشيئا ونحن نسلك الطريق المختصرة التي يعرفها أبي، المسار السريع للخروج من البلدة. مع ذلك، ماذا كان بانتظارنا ساعات ما بعد الظهيرة كلها سوى ساعات حارة في أفنية المزارع، وربما التوقف عند متجر ببلدة وشراء ثلاثة قراطيس من الآيس كريم أو ثلاث زجاجات مياه غازية، وغناء أبي؟ كانت الأغنية التي ألفها أبي عن نفسه تحمل عنوان «راعي بقر ووكر براذرز»، وتبدأ بهذه السطور:
نيد فيلدز العجوز، قد مات الآن،
وها أنا أتنقل بدلا منه ...
من نيد فيلدز هذا؟ لا بد أنه الرجل الذي حل أبي محله، وإن كان ذلك، فقد مات حقا؛ إلا أن صوت أبي الذي يشوبه الحزن والفرح في الوقت نفسه يجعل من موته لغوا فارغا نوعا ما، مأساة كوميدية. غنى أبي معظم الوقت أثناء القيادة: «صمتا، لقد عدت إلى ريو جراندي، أغوص في الرمال المظلمة.» حتى وهو يتجه خارج البلدة، يعبر الجسر ويسلك المنعطف الحاد إلى الطريق السريع، يهمهم بشيء، ويدمدم بأغنية ما لنفسه، مدخلا بعض التعديلات عليها، مستعدا للارتجال، وعلى امتداد الطريق السريع، نمر بمخيم المعمدانيين، ومخيم مدارس الكنيسة بالإجازات، لينطلق أبي في أغنيته:
أين المعمدانيون، أين المعمدانيون،
أين جميع المعمدانيين اليوم؟
ها هم في المياه، تحت مياه بحيرة هورون،
جميع خطاياهم تزول عنهم.
يأخذ أخي هذا الكلام على محمل الجد وينهض على ركبتيه محاولا أن ينظر إلى البحيرة، ويقول في شك: «لا أرى أي معمدانيين.» فيرد أبي: «ولا أنا أيضا يا بني. لقد أخبرتك أنهم تحت مياه البحيرة.»
لم يعد هناك طرق ممهدة بعد أن تركنا الطريق السريع. اضطررنا إلى رفع زجاج النوافذ لتفادي الغبار. كانت الأرض مسطحة، تسفعها أشعة الشمس سفعا، وخاوية. توفر الشجيرات في نهايات المزارع الظل، أما ظلال الصنوبر السوداء فتبدو كالبرك لا يستطيع أحد الاقتراب منها. ترتفع السيارة لنسير فوق ممر طويل، وفي نهايته، ماذا يمكن أن يبدو أكثر تنفيرا وأكثر وحشة من منزل ريفي مرتفع غير مطلي، وحشائش نامية غير مشذبه عند الباب الأمامي، وستائر معتمة خضراء مسدولة، وباب بالأعلى مفتوح على لا شيء سوى العدم؟ منازل كثيرة بها هذا الباب، ولم أستطع قط اكتشاف السبب. أسأل أبي فيخبرني أنها للسير أثناء النوم. «ماذا؟!» حسنا إذا تصادف أنك سرت أثناء النوم وأردت الخروج من المنزل. أشعر بالاستياء بعد أن تبينت متأخرة أنه يمزح كعادته، لكن أخي يقول في شدة: «إذا فعل شخص ذلك فمن الممكن أن يدق عنقه.»
إنها ثلاثينيات القرن العشرين. إلى أي مدى يبدو لي هذا النمط من المنازل الريفية وهذا النمط من فترات ما بعد الظهيرة أنه ينتمي إلى ذاك العقد من الزمان، شأنه شأن قبعة أبي، ورباطة عنقه العريضة الزاهية، وسيارتنا بدرجها الجانبي العريض (من طراز إسكس، وقد فقدت زهوها منذ زمن بعيد)؟ نرى سيارات تشبه سيارتنا بعض الشيء، كثيرة أقدم منها، وقطعا لم نر إحداها مغطاة بالغبار كسيارتنا، تقف في أفنية المزارع. بعضها لم يعد يعمل، وانتزعت أبوابها وأزيلت مقاعدها لاستخدامها في أروقة المنازل. لا توجد حيوانات في مجال رؤيتنا، دجاج أو ماشية، لا يوجد سوى الكلاب، نرى كلابا ترقد في أي بقعة ظليلة تجدها، تستغرق بالأحلام، جوانبها الهزيلة ترتفع وتنخفض سريعا، تنهض الكلاب عندما يفتح أبي باب السيارة، ويضطر إلى التحدث معها: «كلب لطيف، هذا كلب لطيف، كلب كبير لطيف.» وتهدأ الكلاب، وتعود إلى البقعة الظليلة. لا بد أن أبي يعرف كيفية تهدئة الحيوانات، فقد أمسك بثعالب مستقتلة باستخدام كلابات حول رقابها. صوت رقيق لتهدئة الكلاب وصوت آخر مرتفع ومرح للصياح أمام الأبواب: «مرحبا سيدتي، أنا مندوب شركة ووكر براذرز، ماذا نفد لديك اليوم؟» يفتح الباب، ويتوارى أبي داخل المنزل. محظور علينا الذهاب خلف أبي، أو حتى مغادرة السيارة، لم يكن علينا سوى الانتظار والتساؤل عما يقوله أبي. عندما كان أبي يحاول إضحاك أمي، كان يتظاهر بأداء ما يقوم به في مطابخ أحد المنازل، فينثر حقيبة العينات، ويقول: «الآن يا سيدتي، هل تزعجك الطفيليات (بفروة رأس أطفالك أقصد)؟ تلك الأشياء الصغيرة الزاحفة التي نعف عن ذكرها وتظهر في رءوس من هم من أفضل العائلات؟ إن الصابون وحده عديم الفائدة، والكيروسين ليس بطيب العطر، لكن لدي هنا ...» أو قد يقول: «صدقيني! بسبب جلوسي وقيادتي طيلة اليوم فإني «أعرف» حقا قيمة هذه الأقراص الرائعة، راحة طبيعية، وهي مشكلة شائعة لدى كبار السن أيضا، ما إن تولي أيام النشاط. ماذا عنك يا جدتي؟» وقد يلوح بعلبة الأقراص الوهمية أسفل أنف أمي التي تضحك في النهاية، على مضض. وأتساءل أنا: «هو لا يقول ذلك حقا، أليس كذلك؟» فترد أمي: كلا بالطبع، فهو رجل مهذب للغاية.
مررنا بعد ذلك بمنزل تلو الآخر، سيارات قديمة، مطبات طريق، كلاب، مشاهد لحظائر رمادية وسقائف منهارة، وطواحين هوائية معطلة. الرجال، إذا كانوا يعملون في الحقول، فلا نراهم في أي حقل في مرمى البصر، والأطفال بعيدون للغاية، يجرون على قيعان الجداول المائية الجافة، أو يبحثون عن ثمار العليق، أو يختبئون في المنازل، يراقبوننا من بين فراغات الستائر المعتمة. أصبح كرسي السيارة زلقا جراء العرق. تحديت أخي أن يضغط على بوق السيارة، أريد أن أفعل ذلك بنفسي لكنني لا أريد أن ألام على ذلك، لكنه كان يدرك عاقبة الأمر. نلعب لعبة التخمين، إلا أنه كان من الصعب العثور على ألوان كثيرة. الحظائر والسقائف والمراحيض والمنازل رمادية اللون، والأفنية والحقول بنية، والكلاب سوداء أو بنية. أما السيارات الصدئة فعكست ألوان قوس قزح، أعتصر عيني لأنتقي منها البنفسجي أو الأخضر؛ وبالمثل أدقق النظر في الأبواب بحثا عن طلاء عتيق تقشر، كستنائي أو أصفر. ليس بوسعنا أن نلعب لعبة الحروف، وهو ما كان أفضل؛ نظرا لأن أخي لم يتعلم الهجاء بعد. تفسد اللعبة على أية حال. يدعي أخي أنني ظالمة في اختياري للألوان، ويرغب في أدوار إضافية من اللعب.
عند أحد المنازل، لا ينفتح أي باب، رغم أن هناك سيارة تقف في الفناء. يطرق أبي الباب ويطلق صفيرا، ويصيح: «مرحبا! أنا مندوب شركة ووكر براذرز!» لكن لا يأتي أي رد على الإطلاق من أية جهة. لا يوجد بهذا المنزل رواق، فقط بلاطة أسمنتية منحدرة يقف عليها أبي. يستدير أبي باحثا في فناء الحظيرة، التي لا بد أن مخزن التبن بها فارغ لأنه يمكنك رؤية السماء من خلاله، وفي النهاية انحنى أبي ليلتقط حقيبتيه. وحينئذ انفتحت نافذة بالأعلى، وظهر إناء أبيض عند عتبة النافذة، ثم يميل الإناء لأسفل، وينسكب محتواه خارج الجدار. لم تكن النافذة فوق رأس أبي مباشرة؛ لذا لم يمسسه سوى قطرات شاردة. يلتقط حقيبتيه دون عجلة، ويتجه نحو السيارة وقد توقف عن الصفير. أقول لأخي: «أتعرف ماذا كان ذلك؟ إنه بول.» لينفجر أخي ضاحكا.
يلف أبي سيجارة ثم يشعلها قبل أن يدير محرك السيارة. أغلقت نافذة المنزل بعنف وأرخيت الستارة المعتمة، ولم نر قط يدا أو وجها. يغني أخي في طرب: «بول، بول، سكب أحدهم بولا!» فيقول أبي: «لا تخبر أمك فحسب، فليس من المحتمل أن تراه مزحة.» فيسأل أخي أبي أمرا: «هل هذا الحدث في أغنيتك؟» يجيبه أبي بالنفي لكنه سيرى ما في وسعه لإدخاله في أغنيته.
لاحظت بعد برهة أننا لا ندخل في أي ممرات، بيد أنه لا يبدو لي أننا نتجه إلى المنزل. سألت أبي: «هل هذا الطريق يقودنا إلى صانشاين؟» فأجابني: «لا يا سيدتي، ليس كذلك.» «هل ما زلنا في منطقة عملك؟» يهز رأسه نفيا. يقول أخي في استحسان: «نحن نسير بسرعة.» وفي واقع الأمر كنا نثب فوق حفر طينية جافة بحيث كانت جميع الزجاجات في الحقيبتين تحدث صليلا وقرقرة على نحو وعدنا بتجربة جديدة.
نصل إلى ممر آخر، منزل آخر، غير مطلي أيضا، بدا تحت أشعة الشمس فضي اللون. «خلت أننا خرجنا من منطقة عملك.» «وهو كذلك بالفعل.» «إذن لم جئنا إلى هنا؟» «سترين.»
تقف أمام المنزل امرأة قصيرة القامة وقوية البنية تلتقط الملابس المغسولة، والتي كانت منثورة فوق الحشائش لتبييضها وتجفيفها. عندما توقفت السيارة حدقت فيها بنظرة حادة للحظة، ثم انحنت لتلتقط منشفتين أخريين لتضعهما فوق الكومة الموجودة تحت إبطها، ثم تتجه نحونا وتقول بصوت فاتر، لا هو بمرحب ولا هو بجاف: «هل ضللتم الطريق؟»
يترجل أبي من السيارة بأريحية ويقول: «لا أظن ذلك، أنا مندوب ووكر براذرز.»
تقول المرأة: «إن جورج كولي هو مندوب ووكر براذرز الذي يأتينا، وكان هنا منذ أقل من أسبوع مضى. آه، يا إلهي!» تقول بصوت غليظ: «إنه أنت؟!»
يقول أبي: «أجل، هو كذلك في آخر مرة نظرت فيها في المرآة.» تجمع السيدة جميع المناشف أمامها وتمسك بها جيدا، وتضمها إلى بطنها كما لو أنها تؤلمها. «من بين كافة الأشخاص الذين لم أتوقع رؤيتهم قط، وها أنت تخبرني أنك مندوب ووكر براذرز.»
يقول أبي في تواضع: «آسف إن كنت تتطلعين إلى رؤية جورج كولي.» «يا لمظهري! كنت أستعد لتنظيف حظيرة الدجاج، ستعتقد أن هذه ذريعة، لكنها الحقيقة. لا أتجول بهذا المظهر كل يوم.» كانت ترتدي قبعة مزارعين من القش، تتخلل من ثقوب فيها أشعة الشمس لتطفو على وجهها، وترتدي ثوبا فضفاضا منقوشا ومتسخا، وحذاء رياضيا. وتسألني: «من معك في السيارة، بن؟ ليسا طفليك؟»
فيرد أبي: «إنهما طفلاي بالفعل»، ثم يخبرها باسمينا وعمرينا. «هيا، بإمكانكما الترجل من السيارة، هذه نورا؛ الآنسة كرونين. نورا، عليك أن تخبريني، هل ما زلت آنسة، أم لديك زوج مختبئ في السقيفة الخشبية؟»
تخبره: «إذا كان لدي زوج فلن يكون هذا هو المكان الذي سأضعه فيه.» يضحك الاثنان، كانت ضحكتها حادة وغاضبة بعض الشيء. «ستظنون أنني فظة، هذا إلى جانب مظهري الذي يبدو كالمتسولين. تعالوا إلى الداخل بعيدا عن الشمس، الجو لطيف في المنزل.»
نعبر الفناء. («معذرة لأنني آخذكم من هذا الطريق لكنني لا أعتقد أن الباب الأمامي فتح منذ جنازة أبي، أخشى أن تسقط المفصلات.») نعبر سلم الرواق، ثم إلى المطبخ، الذي كان الجو فيه لطيفا حقا، كان بسقف مرتفع، والستائر المعتمة مسدولة بالطبع، حجرة بسيطة ونظيفة ورثة، مشمع الأرض متآكل، زهور الغرنوقي موضوعة في أصيص، ودلو به مياه للشرب، ومغرفة، وطاولة مستديرة مغطاة بمفرش نظيف. ورغم نظافة الحجرة، والأسطح الممسوحة والمكنوسة، ثمة رائحة كريهة ضعيفة، لعلها منشفة الصحون أو المغرفة الصفيح أو المشمع، أو السيدة العجوز؛ إذ كانت هناك سيدة عجوز تجلس على مقعد وثير تحت رف الساعة. تدير رأسها ببطء تجاهنا وتقول: «نورا، هل معك رفقة؟»
تقول نورا بصوت مفسر سريع لأبي: «إنها ضريرة»، ثم تقول: «احزري من هنا يا أمي، اسمعي صوته.»
يذهب أبي إلى أمام المقعد وينحني ويقول آملا أن تتعرف عليه: «مساء الخير سيدة كرونين.»
تقول السيدة العجوز بلا دهشة: «بن جوردن، لم تأت لرؤيتنا منذ زمن بعيد، هل كنت خارج البلاد؟»
يتبادل أبي ونورا النظرات.
تقول نورا في سرور وقوة: «إنه متزوج يا أمي، متزوج ولديه طفلان وها هما.» تجذبنا للأمام، وتجعل كلا منا يلمس يد السيدة العجوز الجافة والباردة بينما تقول أسماءنا تباعا. ضريرة! إنها أول شخص ضرير أراه عن قرب. كانت عيناها مغمضتين، وجفناها ساقطين لأسفل، بما لا يظهر أي شكل لمقلتي العين، تجويفان فحسب. من أحد التجويفين، تظهر قطرة من سائل فضي، ربما دواء أو عبرة تحدت إصابة عينيها.
تقول نورا: «دعني أرتد ثوبا لائقا. تحدث مع أمي، فهذه مفاجأة سارة لها، نادرا ما نحظى برفقة، أليس كذلك يا أمي؟»
تقول العجوز في هدوء: «لا يمر الكثير من الناس من هذا الطريق، والأشخاص الذين اعتادوا أن يكونوا في الجوار، الجيران القدامى، غادر بعض منهم.»
يقول والدي: «يحدث هذا بالفعل في كل مكان.» «أين زوجتك إذن؟» «بالمنزل ، لا تحب الأجواء الحارة، تصيبها بتوعك.» «حسنا.» من عادات سكان الريف، كبار السن، قول «حسنا» قاصدين بها: «أهذا صحيح؟» بقليل من الاهتمام والأدب الزائدين.
خرجت علينا نورا تخطو بقوة فوق السلم بالردهة في حذاء له عقب عريض متوسط الارتفاع، وكانت ترتدي ثوبا مزينا بالزهور على نحو مفرط أكثر من أي ثوب لدى أمي، كان أخضر اللون وأصفر مائلا إلى البنية، من الكريب الشفاف الطري، وكان الثوب عاري الذراعين. كانت ذراعاها متينتين، وكل جزء مكشوف من بشرتها كان مغطى بنمش داكن صغير كالحصبة. شعرها أسود وقصير، خشن ومجعد، وأسنانها قوية وناصعة البياض.
قال أبي وهو ينظر إلى ثوبها: «إنها المرة الأولى التي أعلم فيها بوجود خشخاش أخضر اللون.»
ردت نورا: «ستدهشك كافة الأشياء التي لم تكن تعلمها قط.» كانت تنثر رائحة الكولونيا هنا وهناك مع تحركها، وتتحدث بصوت مختلف يتماشى مع الثوب، صوت أكثر ودا وشبابا. «إنها ليست نبات الخشخاش، بل زهور فقط. اذهب وضخ لي بعض المياه الباردة لأصنع لهذين الطفلين مشروبا.» تخرج من خزانة المطبخ عصير برتقال ووكر براذرز المركز. «أخبرتني أنك مندوب ووكر براذرز!» «إنها الحقيقة يا نورا، اذهبي وألقي نظرة على حقيبتي العينات في السيارة في حال أنك لم تصدقيني. منطقة عملي في الجزء الجنوبي من هنا مباشرة.» «ووكر براذرز؟ هل هذا صحيح؟ تبيع لصالح ووكر براذرز؟» «أجل يا سيدتي.» «لطالما سمعنا أنك تربي الثعالب في طريق دانجانون.» «هذا ما كنت أفعله، لكن لم يعد يحالفني الحظ في تلك المهنة نوعا ما.» «إذن أين تعيش؟ ومنذ متى تعمل في البيع؟» «انتقلنا إلى تابر تاون، وأعمل في هذه المهنة منذ شهرين أو ثلاثة، إنها تدفع عنا غائلة الجوع، تدفعه بالكاد.»
تضحك نورا. «حسنا أعتقد أنك تعد نفسك محظوظا لعملك بهذه الوظيفة. زوج إيزابيل في برانتفورد عاطل عن العمل منذ مدة طويلة. فكرت في أنه إذا لم يعثر على شيء في القريب فسأدعو أسرتهما للمجيء إلى هنا للعيش، لكن حقيقة لم أتق لذلك، فهذا كل ما أستطيع تدبيره لي ولأمي.»
قال أبي: «أتزوجت إيزابيل؟ هل تزوجت مورييل أيضا؟» «كلا، غادرت لتعمل بالتدريس غربا. لم تعد إلى منزلها منذ خمسة أعوام. أعتقد أنها تجد شيئا أفضل تفعله في عطلاتها. كنت سأفعل ذلك إن كنت محلها.» تخرج نورا بعض الصور الفوتوغرافية من درج الطاولة وتبدأ في عرضها على أبي. «هذا ابن إيزابيل الأكبر، التحق بالمدرسة، وها هي الطفلة الصغيرة تجلس في عربتها، إيزابيل وزوجها، مورييل، هذه رفيقتها التي معها بالسكن، وهذا رجل كانت تواعده، وهذه سيارته، كان يعمل في مصرف هناك، وهذه المدرسة التي تعمل بها، بها ثماني حجرات، تدرس لطلاب الصف الخامس.» يهز أبي رأسه. «لا أستطيع تخيلها إلا وهي في طريقها إلى المدرسة، خجلة للغاية، كنت أقلها أثناء سيرها على الطريق - وأنا في طريقي لرؤيتك - وهي لا تنبس ببنت شفة، ولا حتى توافقني الرأي بأنه يوم جميل.» «لقد تغلبت على ذلك.»
تقول العجوز: «عمن تتحدثان؟» «مورييل، أقول إنها تغلبت على خجلها.» «كانت هنا في الصيف الماضي.» «كلا يا إمي، كانت إيزابيل. إيزابيل وأسرتها كانوا هنا الصيف الماضي. سافرت مورييل غربا.» «قصدت إيزابيل.»
بعد ذلك بوقت وجيز تستغرق السيدة العجوز في النوم، وتميل رأسها جانبا، فاغرة فاها. تقول نورا: «أستميحكم عذرا عن تصرفاتها. إنه كبر السن.» ثم تضع فوقها غطاء صوفيا مغزولا وتقول: «بإمكاننا الجلوس بالحجرة الأمامية بحيث لا يزعجها حديثنا.»
توجه أبي بالحديث إلي وإلى أخي: «أنتما، هل تودان الخروج وتسلية نفسيكما؟»
كيف نسلي أنفسنا؟ على أية حال أردت البقاء. كانت الحجرة الأمامية أكثر تشويقا من المطبخ، رغم أنها لم تكن تحوي الأثاث نفسه. كان هناك فونوغراف وبيانو عتيق، وصورة معلقة على الجدار للسيدة مريم، أم يسوع - هذا كل ما أعرفه - ملونة بدرجات اللونين الأزرق والقرنفلي الزاهية وطوق مدبب من الضوء حول رأسها، أعلم أن هذه الصور لا تتواجد إلا في بيوت الروم الكاثوليك؛ إذن لا بد أن نورا كذلك. لم نعرف أحدا من الروم الكاثوليك على الإطلاق معرفة جيدة بدرجة كافية تجعلنا نزورهم في منازلهم. أفكر فيما اعتادت جدتي والخالة تينا، في دانجانون، قوله دائما للإشارة إلى أن شخصا ما كاثوليكي: «فلان متمسك بالجاروف العتيق.» هكذا كانتا تقولان. «فلانة متمسكة بالجاروف العتيق.» كانتا ستقولان هكذا عن نورا.
تمسك نورا بزجاجة ممتلئة لنصفها من فوق البيانو العتيق، وتصب بعضا منها في كوبها وكوب أبي بعد أن فرغا من عصير البرتقال.
يقول أبي: «أتحتفظين بها في حال مرضت؟» «إطلاقا، أنا لا أمرض أبدا، أحتفظ بها فحسب. زجاجة واحدة تكفيني لوقت لا بأس به، لأنني لا آبه بالشرب وحدي. ها أنا محظوظة!» تحتسي هي وأبي الشراب، أدري ما هو، إنه شراب الويسكي، من بين الأشياء التي أخبرتني بها أمي في أحاديثنا معا أن أبي لا يحتسي الويسكي أبدا. لكنني أراه يفعل ذلك. يحتسي أبي الويسكي ويتحدث عن أناس لم أسمع بأسمائهم قط، لكن بعد برهة يتحدث عن حادثة مألوفة؛ يخبرها عن النونية التي سكبت من النافذة. يقول: «تصوري أنني أقف هناك، وأصيح بأعلى صوتي: «يا سيدتي، أنا مندوب ووكر براذرز، هل يوجد أحد بالمنزل؟»» يصيح بالفعل ويبتسم ابتسامة عبثية في ترقب سار ثم ... ينكس رأسه ويغطيه بذراعيه ويبدو كما لو أنه يستجدي الرحمة (في حين أنه لم يفعل أيا من ذلك، فقد شاهدته)، وتضحك نورا ضحكة مجلجلة كما فعل أخي حينئذ. «هذا ليس صحيحا! لم يحدث أي من هذا!»
يقول في جدية: «بالطبع صحيح يا سيدتي. لدينا أبطال في صفوف ووكر براذرز. سعيد أنك ترينه مضحكا.»
طلبت منه في خجل: «أنشد لنا الأغنية.» «أية أغنية؟ هل تحولت إلى مغن إلى جانب سائر الأشياء الأخرى؟»
يشعر أبي بالإحراج، ويقول: «آه، إنها فقط أغنية ألفتها فيما كنت أتجول بالسيارة، فهي تشغل وقت فراغي بنظم القوافي.»
لكن بعد بعض الإلحاح يغني أبي، ينظر إلى نورا ويرتسم على وجهه تعبير مضحك معتذر، وتنفجر ضاحكة حتى أنه في بعض المقاطع كان يضطر إلى التوقف وانتظارها حتى تنتهي من الضحك كي يستأنف الغناء، لأنها تدفعه إلى الضحك أيضا. ثم يخبرها بأجزاء متعددة من حديثه المنمق كرجل مبيعات . عندما تضحك نورا تضغط بصدرها الكبير أسفل ذراعيها المطويتين. وتخبره: «أنت مجنون، لست سوى مجنون.» ترى أخي يحدق في الفونوغراف فتنهض قافزة وتتجه نحوه. «ها نحن نجلس ونسلي أنفسنا ولا نلقي لك بالا، أليس هذا بشعا؟ هل تود أن أضع أسطوانة لك؟ هل تود سماع أسطوانة جميلة؟ هل تستطيع الرقص؟ لا بد أن شقيقتك تجيد الرقص، أليس كذلك؟»
أجيبها بالنفي. تقول نورا: «فتاة كبيرة وجميلة مثلك ولا تجيد الرقص! آن الأوان لتتعلمي. أؤكد لك أنك ستكونين راقصة رائعة. سأضع أسطوانة اعتدت الرقص على أنغامها مع أبيك، أيام كان يرقص، تعلمين أن أباك كان راقصا، أليس كذلك؟ حسنا، إنه رجل موهوب، أعني أباك!»
تغلق غطاء الفونوغراف وتمسكني على نحو مفاجئ من حول خصري، وتمسك بيدي الأخرى وتبدأ في حثي على الرجوع للخلف. «هكذا الآن، هكذا يرقصون، حاكيني، هذه القدم، هكذا. واحد وواحد اثنان. واحد وواحد اثنان. هذا رائع، هذا جميل، لا تنظري إلى قدمك! حاكيني، هذا صحيح، أترين كم هو سهل؟ ستكونين راقصة رائعة! واحد وواحد اثنان. واحد وواحد اثنان. بن، أترى ابنتك وهي ترقص؟!» واستمرت الأغنية: «نهمس حين تضمني إليك، نهمس فيما لا يستطيع أحد آخر سماعنا ...»
أخذنا ندور وندور فوق مشمع الأرض، أشعر بالفخر والعزم، ونورا تضحك وتتحرك بخفة شديدة، تطوقني بفرحتها الغريبة، وأشم منها رائحة الويسكي والكولونيا ورائحة عرقها. ابتلت ثيابها من تحت إبطها، وتتكون قطرات عرق صغيرة بمحاذاة شفتها العليا تعلق بالشعيرات السوداء الناعمة عند زاوية فمها. ثم تلفني سريعا أمام أبي - مما أدى إلى تعثري، فأنا لست بتلميذة سريعة التعلم بأية حال من الأحوال كما تدعي - لتتركني وأنا ألهث. «ارقص معي يا بن.» «أنا أسوأ راقص في العالم يا نورا، وأنت تعلمين ذلك.» «قطعا لم أعتقد ذلك.» «ستعتقدين الآن.»
تقف أمامه وذراعاها مرتخيتان في رجاء، ونهداها اللذان أشعراني بالخجل منذ لحظة لدفئهما وضخامتهما، يعلوان ويهبطان أسفل ثوبها الفضفاض المزدان بالورود، ووجهها يلمع جراء المجهود والبهجة. «بن!»
ينكس أبي رأسه ويقول في هدوء: «ليس أنا يا نورا .»
لذا لا تجد أمامها سوى أن تخرج الأسطوانة، وتقول: «بمقدوري احتساء الشراب وحدي، لكن ليس باستطاعتي الرقص وحدي، ما لم أكن أكثر جنونا مما أظن.»
يقول أبي مبتسما: «لست مجنونة يا نورا.» «امكث حتى العشاء.» «كلا، لن نزعجك بهذا.» «ليس بإزعاج، سأسعد بذلك.» «كما ستقلق أمهما، ستعتقد أن السيارة انقلبت بنا.» «آه، حسنا، أجل.» «لقد أخذنا كثيرا من وقتك الآن.»
تقول نورا في مرارة: «وقتي، هل ستأتي مجددا؟»
يقول أبي: «سآتي إن استطعت.» «أحضر طفليك، أحضر زوجتك.»
يقول أبي: «أجل، سأحضرهم إن استطعت.»
عندما رافقتنا إلى السيارة، قال أبي: «عليك أن تحضري لزيارتنا أيضا يا نورا، نحن نعيش في جروف ستريت، تسيرين على الجانب الأيسر شمالا، منزلنا من تلك الجهة - شرقا - من بايكر ستريت.»
لم تكرر نورا تلك الاتجاهات. تقف بالقرب من السيارة بثوبها الباهر الرقيق. تلمس رفرف السيارة تاركة علامة غامضة على الغبار هناك. •••
في طريق عودتنا إلى المنزل لم يبتع أبي الآيس كريم أو المياه الغازية، لكنه دخل إلى متجر ريفي واشترى عبوة عرقسوس، وتقاسمها معنا. يدور بخلدي عبارة «إنها متمسكة بالجاروف القديم»، وتبدو الكلمات حزينة كما لم تكن من قبل، غامضة وضالة. لم يخبرني أبي بأي شيء حيال عدم ذكر أي مما حدث في المنزل، لكنني أعلم - من شروده في التفكير، وصمته وهو يمرر لنا العرقسوس - أن ثمة أشياء لا يجب ذكرها؛ الويسكي، وربما الرقص. ليس هناك داع للقلق من أخي، فهو لم يلحظ الكثير، على أكثر تقدير ربما يذكر السيدة العجوز وصورة السيدة مريم.
يقول أخي في أمر لأبي: «أنشد أغنية»، لكن أبي يقول في جدية: «لا أدري، يبدو أنني استنفدت جميع الأغاني توا. لتراقب لنا الطريق وأخبرني إن رأيت أي أرانب.»
يقود أبي السيارة ويراقب أخي الطريق بحثا عن أرانب، أشعر أن حياة أبي تنساب خلف السيارة مع نهاية الظهيرة، تزداد قتامة وغرابة، وكأنها منظر طبيعي به سحر، يجعله عاديا ومألوفا على نحو موات عندما تنظر إليه، لكنه يحوله ما إن تدير إليه ظهرك إلى شيء لن تعرفه أبدا، في أجواء وأماكن بعيدة ليس بوسعك تخيلها.
عندما اقتربنا من تابر تاون أضحت السماء ملبدة بالغيوم على نحو طفيف، كما هي الحال دوما، دوما تقريبا، في أمسيات الصيف بجانب البحيرة.
منازل مضيئة
جلست ماري على السلم الخلفي لمنزل السيدة فولرتن، تتحدث - أو تستمع في واقع الأمر - مع السيدة فولرتن، التي تبيع لها البيض. كانت قد مرت بها كي تعطيها ثمن البيض وهي في طريقها إلى حفل عيد ميلاد ديبي ابنة إديث. لم تكن السيدة فولرتن تزورهم أو تدعوهم، لكن ما إن تنشأ حجة عمل، حتى تحب أن تتحدث. وجدت ماري نفسها تستكشف حياة جارتها كما استكشفت من قبل حيوات الجدات والخالات، بادعائها أنها تعرف أقل مما تعرفه في الواقع، وطلبها منهن حكاية بعض القصص التي سمعتها من قبل؛ وبهذه الطريقة، تتذكر أحداثا تظهر في كل مرة مع اختلافات طفيفة في المحتوى أو المغزى أو الصبغة، لكن بواقع خالص عادة ما تصاحبه أشياء أسطورية جزئيا على الأقل. كانت قد نسيت تقريبا أن ثمة أناسا يمكن رؤية حياتهم هكذا؛ فهي لم تعد تتحدث مع كثير من كبار السن، ومعظم الأشخاص الذين عرفتهم لا تختلف حياتهم عن حياتها؛ حياتها التي لم تصنف فيها الأشياء بعد، ولم يعد من المؤكد أن هذا الشيء أم ذاك يجب أخذه على محمل الجد أم لا. لم يساور السيدة فولرتن أية شكوك أو تساؤلات من هذا النوع. على سبيل المثال، كيف كان من الممكن عدم التعامل جديا مع الغياب الطائش تماما للسيد فولرتن، الذي اختفى في يوم من أيام الصيف، ولم يعد مجددا؟
قالت ماري: «لم أكن أعلم ذلك، كنت أعتقد دوما أن السيد فولرتن وافته المنية.»
قالت السيدة فولرتن: «هو ما زال حيا يرزق مثلي.» واستقامت في جلستها. مرت دجاجة كبيرة من فصيلة بليموث روك فوق درجة السلم الأولى، فنهض ابن ماري الصغير، داني، ليلاحقها بحذر. «لقد انطلق في رحلاته فحسب، فهذا ما يفعله. ربما اتجه شمالا، وربما ذهب إلى الولايات المتحدة، لا أدري، لكنه لم يمت، كنت سأشعر بذلك. وهو ليس عجوزا أيضا، ليس عجوزا مثلي؛ فهو زوجي الثاني، وكان يصغرني سنا، لم أخف هذا الأمر. اشتريت هذا المنزل وربيت أطفالي ومات زوجي الأول قبل أن يظهر السيد فولرتن في حياتي بكثير، ففي إحدى المرات ذهبنا إلى مكتب البريد ووقفنا معا بجانب النافذة، ثم توجهت لأضع خطابا في الصندوق وتركت حقيبتي، وتوجه السيد فولرتن ليلحق بي، فنادته فتاة وقالت: «خذ، لقد نسيت أمك حقيبتها!»»
ابتسمت ماري استجابة لضحكة السيدة فولرتن العالية غير الواثقة. كانت السيدة فولرتن متقدمة في العمر، كما قالت، أكثر مما يمكنك اعتقاده، بشعرها الأسود شديد التموج، وملابسها الرمادية بفعل الاتساخ، ودبابيس الزينة الرخيصة المعلقة بسترتها ذات النسيج المنسول. لكن عينيها كانتا تعكسان ذلك، فكانتا سوداوين كلون البرقوق ولهما بريق جامد خافت، تختفي الأشياء فيهما ولا تتغير أبدا. لم ترتسم الحياة في وجهها إلا في أنفها وفمها اللذين كانا دائمي الحركة والاهتزاز، مما جذب خطوط وجهها العابسة أسفل وجنتيها. عندما كانت تأتي كل يوم جمعة لتحضر طلبيات البيض كان شعرها معقوصا، ومجموعة من الزهور القطنية تجذب طرفي بلوزتها، وشفتاها مطليتين بخط أحمر ثقيل غير منتظم، فما كانت لتظهر أمام جيرانها الجدد بأي مظهر فوضوي لسيدة عجوز حزينة.
قالت: «ظنت أنني أمه، لم آبه بذلك، بل ضحكت بشدة. لكن ما أخبرك به أنه في يوم من أيام الصيف، كان زوجي في إجازة من العمل، فارتقى السلم ليجمع بعض ثمار الكرز من شجرة الكرز الأسود. خرجت لأعلق بعض الملابس لتجفيفها لأجد رجلا لم أره من قبل في حياتي، يأخذ دلو الكرز الذي ناوله زوجي إياه، متصرفا دون قيد أو خجل، جلس لتناول الكرز من الدلو خاصتنا. سألت زوجي عمن يكون ذلك الشخص، فأجابني أنه عابر سبيل. أخبرته أنه إذا كان صديقا له، فبإمكانه المكوث ليتناول العشاء معنا، فقال: عم تتحدثين؟ لم أره من قبل. لذا لم أنبس بكلمة أخرى. اتجه السيد فولرتن وتحدث معه وهو يأكل الكرز الذي كنت أنوي استخدامه في صنع كعكة، لكن ذلك الرجل كان يتحدث مع الجميع، متسولا كان أو أحد مبشري شهود يهوه، أي شخص - لم يكن من الضروري أن يعني ذلك شيئا.»
واصلت حديثها: «بعد نصف ساعة، رحل ذلك الرجل. خرج السيد فولرتن بسترته البنية معتمرا قبعته، وأخبرني أنه سيقابل شخصا ما في وسط المدينة، فسألته: هل ستطيل البقاء؟ فقال: لن أتأخر. لذا خرج على الطريق، ومضى جنوبا إلى حيث اتجه المتسول العجوز - كنا جميعا في الجنبة حينها - شيء ما جعلني أتتبعه بناظري. قلت في نفسي لا بد أنه يشعر بالحر وهو يرتدي ذلك المعطف، وحينها عرفت أنه لن يعود. بيد أنني لم أكن أتوقع ذلك؛ فقد كان يحب المكان هنا، وكان يتحدث عن تربية الشنشيلة في الفناء الخلفي. لن تعرفي أبدا ما يجول بخاطر الرجل حتى وإن كنت تعيشين معه.»
قالت ماري: «هل حدث ذلك منذ زمن بعيد؟» «اثني عشر عاما. أراد أولادي أن أبيع بيتي وأنتقل للعيش في الأحياء السكنية، لكنني رفضت، فأنا أربي الدجاج هنا، وكان لدي عنزة حينذاك، كانت حيواني المدلل. كان لدي أيضا راكون مدلل لفترة من الزمان، اعتدت إطعامه العلك. قلت حسنا، يأتي الأزواج ويرحلون، لكن المكان الذي عشت فيه خمسين عاما شيء آخر. جعلت من الأمر مزحة مع عائلتي. إلى جانب هذا، فكرت أنه إذا عاد السيد فولرتن، فسيأتي إلى هنا، فلا يدري مكانا آخر يذهب إليه. بالطبع لن يعرف أين يعثر علي، فالطريق تغير الآن. لكن دائما ما كانت تراودني فكرة أنه ربما أصيب بفقدان الذاكرة، وربما تعود إليه، فهذا يحدث.
أنا لا أتذمر. أحيانا ما يبدو لي أن الرجل الحكيم سيجد ما يجعله يرحل مثلما سيجد ما يجعله يمكث. لا أنزعج من وقوع التغيرات أيضا، فهذا ساعدني في تجارتي في البيض. لكن مسألة مجالسة الأطفال هذه ... طوال الوقت يطلب مني أحدهم مجالسة الأطفال. أخبرهم أنني أملك منزلي الخاص لأجلس به وأخذت نصيبي من تربية الأطفال.»
نهضت ماري عندما تذكرت حفل عيد الميلاد ونادت على ابنها الصغير. قالت السيدة فولرتن: «فكرت في عرض الكرز الأسود لدي للبيع في الصيف القادم. تعالي وانتقي لك منه، سيكون الصندوق بخمسين سنتا. لم يعد بوسعي تعريض عظامي العجوزة للخطر بارتقاء السلم.»
قالت ماري مبتسمة: «هذا سعر غال جدا، إنه يباع بسعر أرخص من ذلك في المتجر الكبير.» كانت السيدة فولرتن قد كرهت بالفعل المتجر الكبير لأنه خفض سعر البيض. أخرجت ماري آخر سيجارة من العلبة وتركتها معها، وقالت إن لديها علبة أخرى في حقيبتها. كانت السيدة فولرتن تعشق السجائر، لكن ما كانت ستقبل بواحدة إلا إذا قدمت إليها على حين غرة. كانت ماري ترى أن مجالسة الأطفال ستغطي ثمنها. في الوقت نفسه أعجبت ماري إلى حد ما بأن السيدة فولرتن لم تكن لينة العريكة للغاية. عندما خرجت ماري من ذلك المكان، دائما ما كانت تشعر كما لو أنها تمر عبر حواجز. كان المنزل والمنطقة المحيطة يوفران الاكتفاء الذاتي بدرجة كبيرة، فكانا يتألفان من ترتيب معقد يبدو أنه غير قابل للتغيير من أحواض الخضراوات والفاكهة، وأشجار الكرز والتفاح، وحظيرة الدجاج المسيجة، وحديقة التوت والممرات الخشبية، وكومة الحطب، وسقائفه الصغيرة المعتمة المبنية على نحو عشوائي للدجاج أو الأرانب أو العنزة. لا يوجد هنا خطة صريحة أو مباشرة، لا وجود لنظام يتسنى لغريب فهمه، مع ذلك ما كان عشوائيا جعله الزمن نهائيا؛ بات المكان ثابتا، ومنيعا، وجميع ما يتكدس به ضروري، حتى بدا أن أوعية الغسيل والماسحات وزنبركات الأرائك وأكوام مجلات الشرطة العتيقة حتى في الرواق الخلفي، قدر لها أن تبقى هناك.
مضى كل من ماري وداني بالطريق الذي كان يدعى في السابق ويكس رود، إبان شباب السيدة فولرتن، لكنه أصبح الآن على خرائط التقسيم السكني يحمل اسم هيذر درايف. كان اسم التقسيم السكني جاردن بليس، وسميت شوارعه على أسماء الزهور. على كل جانب من جانبي الطريق كانت الأرض غير معبدة، ومصارف المياه ممتلئة على آخرها. وضعت ألواح خشبية فوق المصارف المفتوحة، ووضعت ألواح خشبية بالقرب من أبواب المنازل الجديدة. تنتصب المنازل الجديدة البيضاء والمضيئة بعضها إلى جانب بعض في صفوف طويلة على امتداد الطريق. لطالما رأتها ماري على أنها منازل بيضاء، رغم أنها لم تكن بالطبع بيضاء تماما؛ فقد كانت من الجص ومكسوة بالألواح الخشبية، وكان الجص فقط أبيض اللون، أما الكسوة الخارجية فكانت مطلية بدرجات الأزرق والوردي والأخضر والأصفر، جميعها ألوان حديثة وزاهية. في العام الماضي، في هذا الوقت تحديدا، في مارس، جاءت الجرارات لإزالة الجنبات والأشجار التي نمت مرة أخرى بعد قطعها والأشجار الضخمة من غابة الجبل، بعد برهة وجيزة برزت المنازل بين جلاميد الصخور وجذوع الأشجار الضخمة المقطوعة، وتضاريس الأرض البديعة. كانت المنازل واهية في البداية، هياكل خشبية جديدة تقف في الظلام في أيام الربيع الباردة. لكن بنيت بعد ذلك الأسقف، سوداء وخضراء، زرقاء وحمراء، ثم الجص والكسوة، وركبت النوافذ، وألصقت عليها علامات مكتوب عليها: موري للزجاج، وفرنش للأرضيات الخشبية الصلبة. وتسنت رؤيتها كمنازل حقيقية. توافد الأشخاص الذين سيقطنون بالمنازل يسيرون بتثاقل في الوحل أيام الآحاد. كانت المنازل لأناس مثل ماري وزوجها وطفلهما، لا يملكون الكثير من المال لكن لديهم تطلعات كبيرة، استقرت جاردن بليس، في أذهان الأشخاص الذين يفسرون العناوين، على أنها أقل ترفا من باين هيلز، لكن أكثر جاذبية من ويلنجتون بارك. كانت الحمامات جميلة، بها مرايا من ثلاثة أجزاء، وبلاط خزفي، ولوازم ملونة، وكانت خزانات المطابخ من الماهوجني أو خشب البتولا الفاتح، وكان هناك تركيبات إضاءة نحاسية في المطبخ وفي زوايا تناول الطعام، كما تفصل أحواض نباتات من القرميد - تتوافق مع المدفآت - بين حجرات المعيشة والردهات. والغرف جميعها رحبة وفاتحة اللون، وكانت الأقبية جافة، ظهرت كل هذه المتانة والامتياز في وضوح وفخر في واجهة كل منزل، تلك المنازل المتشابهة على نحو خلا من الإبداع، ينظر بعضها إلى بعض في هدوء، على امتداد الشارع.
ولما كان اليوم هو يوم السبت، كان جميع الرجال بالخارج يعملون حول منازلهم؛ يحفرون قنوات لتصريف المياه، ويصنعون حدائق صخرية، ويزيلون الأغصان والشجيرات المقطوعة ويحرقونها. عملوا بجد وجهد تنافسيين لم يألفوهما، حيث إنهم لم يكونوا رجالا يكسبون قوت يومهم بالجهد البدني. عملوا طوال اليوم في أيام السبت والآحاد على هذا المنوال، بحيث يكون لديهم في غضون عام أو عامين حدائق خضراء، وجدران صخرية، وأحواض زهور وشجيرات زينة بهية المنظر. لا بد أن الأرض صعبة الحفر الآن، فقد كانت تمطر اللية الماضية وهذا الصباح، لكن اليوم يزداد إشراقا، وانقشعت السحب كاشفة عن مثلث رفيع طويل من السماء، زرقتها لا تزال باردة ورقيقة؛ إنه لون الشتاء. وقفت خلف المنازل على أحد جانبي الطريق أشجار الصنوبر، بتماثلها الرتيب الذي لم تهزه الرياح كثيرا. ستتم إزالتها في أي يوم الآن لإخلاء مساحة لإقامة مركز تسوق كان هناك وعد بإنشائه عندما بيعت المنازل.
وأسفل هيكل هذا التقسيم السكني الجديد، كان هناك شيء آخر يمكن تبينه؛ المدينة القديمة؛ المدينة القديمة في البرية، والتي كانت تقع على جانب الجبل. كان من الضروري أن يطلق عليها مدينة إذ تمر بها خطوط الترام إلى الغابات، وكانت المنازل تحمل أرقاما، وبها كافة المباني العامة التي تتواجد في المدن، تقف إلى جانب المسطح المائي، لكن المنازل التي تشبه منزل السيدة فولرتن انفصل أحدها عن الآخر بغابة غير مقطوعة الأشجار وأيكة من ثمار العليق البري وشجيرات العليق الشوكي. كانت هذه هي المنازل المتبقية، التي ينبعث دخان كثيف من مداخنها، وجدرانها غير مطلية ومرقعة وتعكس درجات مختلفة من القدم والظلمة، وسقائفها بدائية والحطب وكومات السماد متكدسة حولها، وسياجها الخشبي رمادي اللون. وكثيرا ما كانت هذه المنازل تظهر بين المنازل الجديدة الكبيرة في ميموزا وماريجولد وهيذر درايف. كانت مظلمة ومطوقة وتوحي بشيء من الهمجية في فوضويتها، وزوايا أسطحها المنحدرة غير المتجانسة المستحيل تواجدها في شوارع كهذه. كانت موجودة هناك وحسب. •••
قالت إديث وهي تصب المزيد من القهوة: «ماذا يقولون؟» كانت محاطة في مطبخها ببقايا حفل عيد الميلاد؛ قالب الحلوى والهلام المقولب والكعك الذي يحمل وجوه الحيوانات، ويتدحرج بالون على الأرض. كان الأطفال قد تناولوا طعامهم، ووقفوا لالتقاط الصور الفوتوغرافية لهم، ولعبوا ألعاب عيد الميلاد، والآن يلعبون في غرف النوم الخلفية والقبو، فيما يحتسي الآباء القهوة. قالت إديث: «ترى ماذا يقولون هناك؟»
ردت ماري، وهي تحمل وعاء القشدة الفارغ: «لم أسترق السمع.» ثم توجهت نحو النافذة أعلى حوض المطبخ، انقشعت السحب وتباعدت أكثر وكانت الشمس بارقة، وبدا المنزل حارا للغاية.
قالت إديث وهي تسرع عائدة إلى حجرة المعيشة: «منزل السيدة فولرتن.» كانت ماري تعلم عما يتحدثون؛ فجيرانها - الذين لا يتحدثون في العموم في موضوعات مزعجة - قد يخوضون في أية لحظة في هذا الموضوع ويدور الحوار بشكل خطير في دوائر مألوفة من الشكوى، مما يقودها إلى النظر في يأس خارج النافذة، أو في حجرها، في محاولة للعثور على كلمة تعليلية رائعة تنهي الحديث، لكنها لم تنجح في ذلك. كان عليها العودة، فهم في انتظار القشدة.
جلس لفيف من سيدات الحي في حجرة المعيشة، يحملن دون اكتراث البالونات التي أعطاهن إياها أطفالهن. ولما كان الأطفال الذين يلعبون في الشارع حديثي السن، ولما كان أي تجمع للأشخاص الذين يعيشون هناك يعد أمرا إيجابيا في حد ذاته، كان معظم حضور حفلات أعياد الميلاد هم الأمهات والأطفال أيضا. ارتدت الآن الأمهات اللاتي يقابل بعضهن بعضا بصفة يومية الأقراط وجوارب النايلون والجونلات، وصففن شعرهن وتبرجن. حضر بعض الرجال أيضا؛ على غرار ستيف زوج إديث، وآخرين ممن دعاهم لاحتساء الجعة، وكانوا جميعهم بملابس العمل. كان موضوع الحديث الذي طرح توا واحدا من الموضوعات القليلة التي تحوز اهتمام الرجال والنساء على حد سواء.
قال ستيف: «سأخبركم ماذا سأفعل إن كنت أعيش بجوار ذلك المنزل.» وتعلو وجهه ابتسامة عريضة دمثة متوقعا إضحاكهم، «سأرسل أطفالي إلى هناك ليلعبوا بالثقاب.»
قالت إديث: «هذا مضحك، لقد تجاوز الأمر حد المزاح، أنت تمزح وأنا أحاول فعل شيء، حتى إنني هاتفت المجلس المحلي.»
قالت ماري لو روس: «وماذا أخبروك؟» «حسنا قلت لهم أليس بوسعكم حملها على طلاء منزلها، على الأقل، أو إزالة بعض من أكواخها؟ لكنهم قالوا إنهم ليس بوسعهم ذلك. قلت لهم أعتقد أنه يوجد شيء من قبيل قانون محلي يطبق على أناس مثلها، وقالوا إنهم يتفهمون «شعوري» وإنهم في غاية «الأسف» ...» «لكن لم يفعلوا شيئا؟» «لم يفعلوا شيئا.» «لكن ماذا عن الدجاج، فكرت ...» «آه، لن يسمحوا لك أو لي بتربية الدجاج، أما هي فتحظى بإعفاء خاص حيال ذلك أيضا، نسيت كيف تسير الأمور.»
قالت جاني إنجر: «سأتوقف عن شراء البيض منها، فالمتجر الكبير يبيعه بثمن أرخص، ومن يعبأ كثيرا بكونه طازجا؟ رباه! والرائحة أيضا. أخبرت كارل أنني مدركة أننا سننتقل إلى منطقة نائية، لكنني لم أتصور أن نعيش بطريقة أو بأخرى بجوار حظيرة.» «العيش على الجهة المقابلة من الشارع أسوأ كثيرا من العيش بجانبها، أتساءل لم تكبدنا صنع نافذة كبيرة تطل على المنظر بالخارج، في حين أنه إذا حضر أي شخص لزيارتنا فإنني أرغب في إسدال الستار كي لا يرى ما يوجد في الجهة المقابلة؟!»
قال ستيف: «حسنا، حسنا.» مقاطعا بصعوبة تلك الأصوات النسائية. «ما شرعنا أنا وكارل في إخباركن إياه هو أنه إذا نجحنا في مسألة الممر تلك، فستضطر إلى الرحيل؛ فالأمر بسيط وقانوني، وهنا روعة الأمر.» «أي ممر؟» «سنشرح الأمر. لقد كنت أنا وكارل نخطط لهذا الأمر منذ عدة أسابيع، لكننا لم نود أن نذكر شيئا عن الأمر في حال لم يفلح ذلك. تول أنت الحديث يا كارل.»
كان كارل وكيل عقارات ناجحا، قصيرا وقوي البنية، فقال: «حسنا، لقد تعدت على المساحة المسموح بها للممرات، هذا كل ما في الأمر. طرأت لي فكرة أن يكون هذا هو الحل؛ لذا توجهت إلى المجلس المحلي وبحثت في الأمر.»
قالت جاني بطريقة عفوية محبة: «ماذا يعني ذلك يا عزيزي؟»
قال كارل: «هذا كل ما في الأمر، هناك أماكن مخصصة للممرات، لطالما كان الأمر كذلك، تتلخص الفكرة في أنه إذا شيدت منطقة ما يخططون لممر بها، لكنهم لم يعتقدوا أبدا أن هذا ما سيحدث، فالناس تبني منازلها حيث يحلو لها، وهي بنت جزءا من منزلها وستة أكواخ فوق المكان الذي ينبغي أن يجتازه الممر؛ لذا سنجعل المجلس المحلي يضع ممرا، فنحن بحاجة إلى ممر على أية حال؛ ومن ثم ستضطر إلى الرحيل، فهذا هو القانون.»
قال ستيف ووجهه يشع بالإعجاب: «إنه القانون، يا لك من رجل ذكي! إن وكلاء العقارات هؤلاء رجال أذكياء.»
قالت ماري لو: «هل ستحصل هي على أي شيء؟ لقد سئمت المنظر لكنني لا أود أن أرى أي شخص يعيش في ملجأ للفقراء.» «أوه، ستحصل على مبلغ مالي، أكبر مما يستحقه المكان. انظري، إن الأمر لصالحها. ستحصل على مبلغ مالي، فليس بوسعها بيعه، وليس بوسعها وهبه.»
وضعت ماري قدح القهوة قبل أن تتحدث وتمنت أن يبدو صوتها منطقيا، ليس عاطفيا أو مرتعدا. فقالت: «لكن تذكروا أنها تعيش هنا منذ زمن بعيد، عاشت هنا قبل أن يولد معظمنا.» حاولت باستماتة التفكير في كلمات أخرى، كلمات تبدو سليمة ومنطقية أكثر من هذه، فليس بمقدورها طرح أية فكرة، ربما ينظرون إليها على أنها واهية ورومانسية أمام هذا المد الإيجابي، وإلا فستهدم حجتها. لكن لم يكن لديها حجة، لن تتمكن حتى وإن فكرت طوال الليل من إيجاد كلمات تواجه كلماتهم، والتي انهالت عليها الآن من جميع الاتجاهات بصورة لا يمكن دحضها: «كوخ، منظر قبيح، مشهد قذر، ملكية، قيمة.»
قالت جاني وهي تشعر أن خطة زوجها تتعرض للهجوم: «هل تظنين بصدق أن أولئك الأشخاص الذين يدعون ممتلكاتهم تتعرض للإهمال على هذا النحو جديرون بأن ننظر إليهم بعين الاعتبار؟»
قال كارل: «لقد عاشت هنا لأربعين عاما، والآن نحن هنا. هكذا تسير الأمور، وسواء أدركت الأمر أم لا، فإن وجود ذاك المنزل هنا فحسب يخفض قيمة إعادة البيع لكل منزل بالشارع. أنا أعمل في هذا المجال وأؤكد لك ذلك.»
انضمت إليهما أصوات أخرى، لم يهم كثيرا ماذا قالوا ما دام أنه كان مشبعا بالآراء الشخصية وبالغضب. كان ذلك موطن قوتهم، برهانا على رشدهم، على أنفسهم وعلى جديتهم. ارتفعت روح الغضب بينهم، تشجع أصواتهم الشابة، وتجتاحهم جميعا كطوفان سكر، وأعجب بعضهم ببعض في هذا السلوك الجديد بوصفهم أصحاب ملكية مثلما يعجب بعض الناس ببعضهم لكونهم سكارى. •••
قال ستيف: «ربما يتعين علينا أيضا أن ندعو الجميع الآن، سنوفر على أنفسنا عناء الذهاب إلى الكثير من المنازل.»
حان وقت العشاء، والظلام يسدل أستاره على المكان. تهيأ الجميع للعودة إلى المنزل، تغلق الأمهات معاطف الأطفال بالأزرار، بينما يمسك الأطفال، دون سعادة كبيرة، ببالوناتهم وصفاراتهم والدلاء الورقية تمتلئ بالحلوى الهلامية. توقفوا عن العراك، توقفوا تقريبا عن ملاحظة بعضهم، وتفرق الحفل، كما ازداد الكبار صمتا وشعروا بالتعب. «إديث، إديث، هل لديك قلم؟»
أحضرت إديث قلما وبسطوا عريضة المطالبة بممر - التي كتبها كارل - على طاولة تناول الطعام، بعد إزالة الأطباق الورقية التي تحمل آثار آيس كريم جاف. بدأ الناس في التوقيع دون تفكير أثناء توديع بعضهم بعضا. كان ستيف لا يزال متجهما قليلا، ووقف كارل واضعا إحدى يديه على الورقة، متخذا هيئة رجل الأعمال، ولكن بفخر. جثت ماري على ركبتيها وحاولت بصعوبة غلق سحاب بنطال داني، ثم نهضت وارتدت معطفها، وهذبت من شعرها، وارتدت قفازها ثم خلعته مرة أخرى. وعندما لم يعد بمقدورها التفكير في شيء آخر لفعله، مرت بجانب طاولة تناول الطعام في طريقها إلى الباب، فلوح كارل بالقلم نحوها.
قالت ماري: «لا أستطيع التوقيع على هذا.» احمر وجهها في الحال، وكان صوتها مرتعدا، فوضع ستيف يده على كتفها. «ما الأمر يا عزيزتي؟» «لا أظن أننا نملك هذا الحق. نحن لا نملك هذا الحق.» «ماري، ألا تكترثين بالشكل الذي تبدو عليه الأشياء؟ أنت تعيشين هنا أيضا.» «كلا، أنا ... أنا لا أكترث.» أليس هذا غريبا؟ كيف أنه في مخيلتك؟ عندما تدافع عن شيء ما، يكون صوتك مجلجلا، ويشعر الناس بالصدمة والخجل، لكن في الواقع يبتسم الجميع بطريقة خاصة إلى حد ما، وتدرك أن ما فعلته حقا هو أنك قد جعلت من نفسك موضوع حديث ممتع في حفل القهوة القادم.
قالت جاني: «لا تقلقي يا ماري، فهي لديها مال في البنك، لا بد أنها كذلك، لقد طلبت منها أن تجالس أطفالي لكنها نهرتني فعليا؛ فهي ليست سيدة محبوبة، أنت تعلمين هذا.»
قالت ماري: «أعلم أنها سيدة عجوز غير محبوبة.»
قال ستيف وهو لا يزال واضعا يده فوق كتف ماري: «كيف تريننا يا ماري، مجموعة من الوحوش؟»
قال كارل: «لا يود أحد رحيلها على سبيل اللهو، فالأمر قاس، ندرك جميعا ذلك، لكن علينا أن نفكر في مجتمعنا.»
قالت ماري: «أجل.» لكنها وضعت يدها في جيب معطفها والتفتت لتوجه الشكر لإديث على حفل عيد الميلاد. جال في خاطرها أنهم على حق، لأنفسهم، لأي شيء كانوا عليه. والسيدة فولرتن امرأة عجوز، عيناها فاترتان، لن يؤثر فيها شيء. خرجت ماري وسارت مع داني على امتداد الطريق. رأت الستائر وهي تسدل فوق نوافذ حجرة المعيشة، ومتتاليات من الزهور والأغصان، مصممة بطريقة هندسية، تعزل تلك الحجرات ليلا. كان الجو معتما تماما بالخارج، وازدادت المنازل المضيئة قتامة، وأخذت السحب تنقشع أكثر فأكثر، والدخان يتصاعد من مدخنة السيدة فولرتن. بدا الشكل الذي يتخذه جاردن بليس، والذي كان واضحا ومحدد المعالم وقت النهار، أنه يتقلص ليلا إلى سفح الجبل القفر المعتم. •••
أخذت ماري تفكر في أن الأصوات بحجرة المعيشة تبددت. ليتها تتبدد ويطوي خطتهم النسيان، ليت شيئا واحدا يمكن تركه على حاله. لكن أولئك أشخاص يفوزون، وهم أناس طيبون، يرغبون في منازل لأطفالهم، يساعد أحدهم الآخر وقت الضيق، يقيمون مجتمعا، قائلين هذه الكلمة كما لو أنهم يجدون سحرا حديثا مناسبا تماما، لا يوجد احتمال فيه على الإطلاق لوقوع خطأ.
لا شيء يمكن فعله حاليا سوى أن تضع يديها في جيبيها وتشعر بالسخط.
صور
حضرت ماري ماكويد الآن، لكني تظاهرت بأني لا أتذكرها. بدا أنه من أحكم الأمور فعل ذلك. فقد قالت هي نفسها: «إذا كنت لا تذكرينني، فأنت لا تذكرين الكثير.» لكن دعنا من هذه المسألة، وأضافت ذات مرة: «لا بد أنك لم تحضري إلى بيت جدتك قط الصيف الماضي. لا بد أنك لا تذكرين ذلك أيضا.»
كان يسمى، حتى ذاك الصيف، منزل جدتي، رغم أن جدي كان لا يزال على قيد الحياة حينها. كان قد اعتزل الحياة في إحدى الحجرات؛ حجرة النوم الأمامية الكبرى . بها مصاريع خشبية في الجهة الداخلية من النوافذ، مثل حجرة المعيشة وحجرة الطعام، أما حجرات النوم الأخرى فلم يكن بها سوى ستائر معتمة. كما أن الشرفة كانت تحجب الضوء بحيث كان جدي يرقد طوال اليوم في شبه ظلام، بشعره الأبيض - المغسول والمصفف والناعم كشعر طفل رضيع - ومنامته البيضاء على الوسائد البيضاء، فبدا كجزيرة داخل الحجرة، يقترب منها الناس على استحياء، لكن بإصرار. كانت ماري ماكويد بزيها تمثل الجزيرة الأخرى في الحجرة، جلست بلا حراك في أغلب الأحيان، حيث كانت المروحة، كما لو كانت تعبة، تحرك الهواء كالحساء. لا بد أن الجو كان مظلما للغاية بما لا يسمح بالقراءة أو الغزل، على فرض أنها أرادت فعل هذه الأشياء، ومن ثم انتظرت وأخذت تتنفس فحسب، محدثة صوتا كالذي تصدره المروحة، مشبعا بشكوى قديمة لا تفصح عنها.
كنت صغيرة جدا حينها، وكان يتم وضعي في مهد للخلود إلى النوم - ليس بمنزلي لكن هذا المهد كان مخصصا لي بمنزل جدتي - في حجرة في الجهة المقابلة من الردهة. لم يكن بها مروحة، وصنع الضوء المتلألئ بالخارج - جميع الحقول المنبسطة حول المنزل أضحت تتلألأ تحت ضوء الشمس كالمياه - تشققات مضيئة في الستائر المعتمة المنسدلة. من عساه يستطيع النوم؟ تناهت أصوات أمي وجدتي وخالاتي وهن يتحدثن حديثهن المعتاد المتكرر، في الشرفة أو في المطبخ أو في حجرة الطعام (حيث كانت أمي تنظف بفرشاة مقبضها من النحاس المفارش البيضاء، والثريا غير المضاءة ذات الفروع المصنوعة من الزجاج السميك البني الفاتح التي تعلو الطاولة المستديرة.) إن كل الوجبات والطهي والزيارات والأحاديث حتى عزف إحداهن على البيانو (كانت عمتي الصغرى - إديث - غير المتزوجة، تغني وتعزف بيد واحدة، «نيتا، جوانيتا، يقترب قمر الجنوب في هدوء».) في هذا المنزل، كل هذا مستمر دون توقف. إلا أن أسقف الحجرات كانت عالية للغاية، وأدناها جزء كبير من المساحة المهدرة المعتمة، وعندما أرقد في مهدي شاعرة بالحر الشديد بدرجة تجعل النوم يجافي عيني، أنظر إلى أعلى وأرى ذلك الفراغ من حولي، الزوايا الملطخة، وأشعر - دون أن أدرك ما هو هذا الشعور - بما لا بد وأن شعر به جميع من في المنزل؛ تحت الحرارة الشديدة لاحت حقيقة الموت، ذلك المكعب الصغير من الثلج السحري. كانت ماري ماكويد تنتظر في ثوبها الأبيض المتيبس، ضخمة الحجم وعابسة، كأنها جبل جليدي عنود، تنتظر وتتنفس. حملتها مسئولية ذلك الشعور.
لذا تظاهرت بعدم تذكرها، لم تكن ترتدي زيها الأبيض، وهو ما لم يجعلها حقيقة أقل خطورة، لكن ربما يعني - على أقل تقدير - أن وقت سيطرتها لم يحن بعد. في ضوء النهار بالخارج، وهي لا ترتدي زيها الأبيض، اتضح أن جسدها كله مغطى بالنمش، بجميع الأجزاء المكشوفة التي يمكنك أن تراها من جسدها، كما لو أن شوفانا منثور عليها، وكان شعرها مجعدا لامعا بني اللون بصورة طبيعية. صوتها مرتفع وأجش، والشكوى على لسانها يوميا. صاحت علي في الفناء: «هل سأضطر إلى تعليق الملابس المغسولة كلها وحدي؟» فتتبعتها إلى مكان أحبال الغسيل حيث وضعت سلة الملابس المبتلة على الأرض وهي تتأوه. «أعطيني هذه المشابك. واحدا في كل مرة، أعطيني إياها من ناحية جانبها الأيمن. لا ينبغي لي الخروج وسط هذه الرياح على الإطلاق، فأنا أعاني مرضا بالشعب الهوائية.» أخذت أناولها المشابك ورأسي معلق كحيوان مقيد إلى جانبها. خارج المنزل، في هواء شهر مارس البارد، فقدت شيئا من ضخامتها ورائحتها. استطعت في المنزل دائما اشتمام رائحتها، حتى في الحجرات التي نادرا ما كانت تدخلها. كيف كانت رائحتها؟ كانت تشبه رائحة المعدن ورائحة نوع من البهار الأسود (القرنفل؛ فقد كانت تعاني بالفعل من آلام الأسنان)، ومثل المستحضر الذي يدلك به صدري عندما أصاب بالبرد. ذكرت الأمر ذات مرة لأمي، التي أخبرتني: «كفاك سخفا، أنا لا أشم أي شيء.» لذا لم أخبرها عن المذاق، فقد كان لها مذاق أيضا. كان مذاق ماري ماكويد في كافة الأطعمة التي تعدها، وربما كافة الأطعمة التي تؤكل في حضورها: العصيدة في فطوري، والبطاطا المقلية في الظهيرة، وشريحة الخبز والزبد والسكر البني التي كانت تعطيني إياها في الفناء؛ مذاق غريب ورملي وكئيب. كيف لم يدرك أبي وأمي ذلك؟ لكن لأسباب خاصة بهما، ربما يتظاهران بذلك؛ فهذا أمر لم أعرفه منذ عام مضى.
بعد أن علقت الملابس كان عليها أن تنقع قدمها. أخرجت ساقيها مباشرة - مستديرتين كأنابيب الصرف - من الحوض الذي ينبعث منه البخار، ووضعت يدا على كل ركبة، ثم انحنت في البخار وأطلقت صيحات الألم والرضى.
قلت في جرأة كبيرة: «هل أنت ممرضة؟» رغم أن أمي أخبرتني أنها كذلك. «نعم، وأتمنى لو لم أكن كذلك.» «هل أنت خالتي أيضا؟» «لو كنت خالتك، لكنت ناديتني بالخالة ماري، أليس كذلك؟ حسنا أنت لا تنادينني كذلك، أليس صحيحا؟ أنا قريبة لك، أنا قريبة أبيك؛ لذا أتوا بي بدلا من الإتيان بممرضة عادية، فأنا ممرضة عملية، ودائما ما يمرض أحد أفراد هذه العائلة وأضطر إلى الذهاب إليه؛ لا أنعم براحة أبدا.»
ارتبت في هذا الأمر. ارتبت في أنه طلب منها المجيء. كانت تأتي وتطهو ما يحلو لها وتعيد ترتيب الأشياء بما يناسبها، وتشكو من لعب الداما، وتطلق العنان لسيطرتها على المنزل. لو لم تأت قط، لما اضطرت أمي إلى ملازمة الفراش قط.
وضع سرير أمي في حجرة تناول الطعام، كي لا تضطر ماري إلى صعود السلم. صفف شعر أمي في ضفيرتين طويلتين سوداوين، وكانت وجنتاها شاحبتين، ورقبتها دافئة وتنبعث منها رائحة الزبيب كما الحال دوما، لكن باقي جسدها أسفل الأغطية تحول إلى شيء متضخم وهش وغامض، من الصعب أن يتحرك. كانت تتحدث عن نفسها بحزن بضمير الغائب فتقول: «احترسي، لا تؤذي الأم، لا تجلسي فوق ساق الأم.» وفي كل مرة تقول فيها «الأم» تنتابني قشعريرة، ويغمرني شيء من البؤس والخزي، كما أشعر عند سماع اسم يسوع. إن هذه «الأم» التي جعلتها أمي الحقيقية المطمئنة، الحادة المزاج، ذات الرقبة الدافئة بيننا كانت طيفا مجروحا بصورة أبدية، حزينا مثل يسوع حيال كافة الشرور التي لم أعرف بعد أنني سأرتكبها.
غزلت أمي نسيجا على شكل مربعات لصنع غطاء صوفي، بجميع درجات اللون البنفسجي. كانت القطع المغزولة تسقط بين أغطية السرير دون أن تهتم بذلك. وما إن تنتهي منها حتى تنسى أمرها. لقد نسيت جميع قصصها التي كانت تدور حول أمراء البرج، والملكة التي قطع رأسها فيما كان كلب صغير يختبئ تحت ثوبها، وملكة أخرى مصت السم من جرح زوجها، وأيضا قصص أخرى عن طفولتها، وهو وقت لا أراه أسطوريا شأنه شأن غيره من الأوقات. بعد أن تولت ماري رعايتها، كانت تئن على نحو طفولي: «ماري، أتوق شوقا لأن تدلكي لي ظهري.» «ماري، هل من الممكن أن تصنعي كوبا من الشاي لي؟ أشعر أنني إذا احتسيت مزيدا من الشاي فسأثب من مكاني إلى السقف، كبالون ضخم، لكن تعلمين أن هذا كل ما أريد.» قالت ماري: «أنت لن تثبي إلى أي مكان. نحتاج إلى رافعة لتحريكك. هلمي الآن، انهضي، ستسوء حالتك قبل أن تتعافي!» ثم أبعدتني عن السرير وبدأت في جذب الملاءات بحركات عنيفة. «أنت ترهقين أمك. ماذا تريدين إزعاج أمك به في هذا اليوم الجميل؟» قالت أمي في دفاع واهن وغير صادق: «أظن أنها تشعر بالوحدة.» قالت ماري بأسلوبها المهيب الغامض المتوعد: «ستشعر بالوحدة في الفناء تماما كما تشعر هنا. ارتدي ملابسك واذهبي إلى الخارج!»
تغير أبي أيضا منذ أن جاءت ماري. عندما كان يأتي إلى الحجرة ليتناول وجباته كانت تنتظره دائما، فمزحة مع أبي تجعلها تتورم كضفدع كبير، فتبدو بمظهر شرس ويحمر وجهها. كانت تضع حبات الفاصوليا البيضاء غير المطهوة في حسائه، قاسية كالحصى، وتترقب لترى هل ستجعله آداب الطعام يأكلها أم لا. كانت تلصق شيئا بقاع كوبه الزجاجي كي يبدو كالذبابة، وتعطيه شوكة بسن ناقص وتتظاهر أنه من قبيل الصدفة. فيقذفها عليها، دون أن تصيب الهدف، مما أفزعني على نحو هائل. كان أمي وأبي يتحدثان بهدوء وبجدية عندما يتناولان العشاء، لكن في عائلة أبي حتى الراشدون يمارسون الحيل بالديدان والخنافس المطاطية، ودائما ما تدعى العمات السمينات للجلوس على مقاعد متداعية، والأعمام يخرجون الريح على الملأ ويقولون: «ووه! إلى أين؟» فخورين بأنفسهم كما لو أنهم عزفوا بالصفير لحنا مركبا. لا أحد قد يسأل عن عمرك دون إغاظتك بلغو فارغ؛ لذا كان أبي يعود إلى السلوكيات العائلية مع ماري ماكويد، مثلما عاد إلى تناول أكوام من البطاطا المقلية ولحم الخنزير المملح وفطائر الطحين السميكة، واحتساء الشاي السادة والمركز كالدواء من إبريق الشاي المعدني، وهو يقول في امتنان: «ماري، تعلمين ما يجب على الرجل تناوله!» مضيفا: «ألا تظنين أنه آن الأوان ليكون لك رجل تطعمينه؟» وهو ما جلب عليه، ليس شوكة مقذوفة، بل منشفة تنظيف الأطباق.
دوما ما تتركز إغاظته لماري على الأزواج. كان يقول: «فكرت في زوج لك هذا الصباح! أنا لا أخدعك الآن يا ماري، عليك أن تفكري في الأمر.» يبدأ ضحكها أولا في صورة نفخات غاضبة بسيطة وزمجرات من بين شفتيها المغلقتين، فيما يزداد احمرار وجهها أكثر مما يمكن توقعه، وينتفض جسدها، وتهمهم في توعد وهي جالسة على كرسيها. ليس ثمة شك أنها استمتعت بكل ذلك، كل هذه الزيجات المتخيلة المستحيلة، رغم أن أمي كانت ستقول بالطبع إنه أمر قاس، قاس وغير لائق مضايقة امرأة عانس بالرجال. في عائلة أبي بالطبع كان هذا محور المضايقات لها على الدوام، ماذا كان هنالك بخلاف ذلك؟ وكلما ازدادت ماري فظاظة وخشونة وصعوبة، ازدادت المضايقات الموجهة إليها أكثر. كان من قبيل السبة في هذه العائلة أن يوصف المرء بأنه «مرهف الحس»، كما وصفت أمي. وجميع العمات والأقارب والأعمام ترعرعوا على أن يكونوا منيعين بصورة هائلة أمام أي نوع من القسوة الشخصية، وطائشين وحتى فخورين - على ما يبدو - بأي نوع من الفشل أو العاهات قد يكون من شأنه أن يتسبب في إضحاك الجميع.
في وقت العشاء، كان الجو معتما في المنزل، رغم أوقات النهار الطويلة. لم يكن لدينا حينها كهرباء بالمنزل بعد. وصلتنا الكهرباء سريعا بعدها، ربما في الصيف التالي، لكن حينها كان لدينا مصباح على الطاولة. وعلى ضوئه شكل أبي وماري ماكويد ظلالا ضخمة، تأرجح رأساهما على نحو أخرق أثناء حديثهما وضحكهما. أخذت أراقب الظلال بدلا من الأشخاص. قالا: «بماذا تحلمين ؟» لكنني لم أكن أحلم، كنت أحاول استيعاب الخطر وقراءة إشارات الهجوم. •••
قال أبي: «هل تودين المجيء معي ورؤية المصائد؟» كان لديه مجموعة من مصائد فئران المسك على امتداد النهر. عندما كان أصغر سنا اعتاد قضاء أيام وليال وأسابيع بين الأجمة، مسافرا على امتداد الجداول شمال وجنوب مقاطعة واواناش، لم يصطد فقط فئران المسك حينئذ بل الثعالب الحمراء والمنك البري والسمور، وجميع الحيوانات التي يبلغ فراؤها أوجه فصل الخريف. أما فأر المسك فهو الحيوان الوحيد الذي يمكن صيده في الربيع. وبعدما تزوج أبي وامتهن مهنة الزراعة، احتفظ بمجموعة مصائد واحدة؛ وهذا لبضع سنوات فقط، ربما كان هذا آخر عام يمتلكها.
عبرنا الحقل الذي حرث الخريف الماضي. كان هناك قليل من الثلج يغطي الأخاديد، لكنه لم يكن ثلجا حقيقيا، كان قشرة رفيعة تشبه الزجاج المثلج أستطيع تحطيمها بعقبي. أخذ الحقل ينحدر ببطء نحو سطح النهر. كان السياج متهدما في بعض الأماكن من وطأة الثلوج، استطعنا أن نخطو من فوقه.
سار أبي أمامي منتعلا حذاءه طويل الرقبة. كان حذاء أبي بالنسبة لي فريدا ومألوفا كسمة مميزة له مثل وجهه. وعندما يخلع حذاءه ويضعه في زاوية المطبخ، تنبعث منه رائحة معقدة من السماد، وزيت الماكينات، والكتل الطينية السوداء، والمادة كريهة الرائحة المتناثرة الملتصقة بالنعل. كان حذاؤه جزءا منه، يقف منبوذا بصفة مؤقتة في انتظاره. كان مظهره عنيدا، بل وقاسيا، فرأيته جزءا من مظهر أبي، الجزء المتمم لوجهه، بجاهزيته لإلقاء النكات وكياسته. كما لم تفاجئني تلك القسوة أيضا؛ فقد كان أبي يأتينا دائما، أنا وأمي، من مواضع لا نستطيع أن نكون آراء إزاءها.
ذات مرة، كان هناك فأر مسك في المصيدة. في بادئ الأمر رأيته يتموج عند ضفة المياه، ككائن استوائي، كالسرخس الأسود. جذبه أبي فتوقف شعره عن التموج، والتصق ببعضه، اتضح أن ما بدا كالسرخس هو ذيل الفأر الزلق الذي يتقطر منه الماء. كانت أسنانه ظاهرة، وعيناه مبتلتين من أعلى، وكانتا متبلدتين وفاقدتين للحياة، وتلمعان كحصوات مغسولة. هزه أبي ولفه لينزل منه رذاذ قليل من مياه النهر الجليدية. قال: «إنه فأر عجوز جيد، إنه ملك عجوز كبير، انظري إلى ذيله!» ثم لعله ظن أنني أشعر بالقلق، أو لعله أراد أن يريني سحر الآلات الميكانيكية المثالية البسيطة، رفع المصيدة من المياه وشرح لي آلية عملها، جاذبا رأس الفأر إلى أسفل مرة واحدة وأغرقه بلا رحمة. لم أفهم أو أهتم. لم أرغب إلا في لمس الجسد المتيبس المبتل، حقيقة الموت، لكنني لم أجرؤ.
وضع أبي الطعم في المصيدة مجددا مستخدما قطعا من التفاح الأصفر الذي تجعد في فصل الشتاء. ووضع جثمان الفأر في كيس أسود وعلقه على كتفه، كأنه بائع متجول في إحدى اللوحات. عندما قطع التفاحة رأيته ممسكا بسكين السلخ، بنصله الرفيع اللامع.
ثم سرنا على امتداد النهر، نهر واواناش، الذي ارتفع منسوبه وزخر بالماء عن آخره، واكتسى باللون الفضي في منتصفه حيث صفعته أشعة الشمس، وحيث تتسارع حركة المياه في أقصى درجاتها. حسبت أنه التيار المائي، تصورت أن التيار شيء منفصل عن المياه، مثلما أن الرياح منفصلة عن الهواء ولها شكلها الخاص الذي تهب به. كانت ضفتا النهر منحدرتين وزلقتين وتصطف بطولهما شجيرات الصفصاف، التي ما زالت جرداء ومنحنية وتبدو واهنة كالحشائش. لم يكن هدير مياه النهر عاليا لكنه كان عميقا، وبدا أنه يأتي من بعيد من منتصفه، من مكان خفي حيث تخرج المياه من تحت الأرض محدثة زئيرا.
اتخذ النهر مسارا منحنيا، وفقدت أنا حس الاتجاه. وجدنا في المصائد مزيدا من الفئران، فأخرجها أبي وهزها وخبأها في الكيس، واستبدل الطعم. ازداد شعوري بالبرودة في وجهي ويدي وقدمي، لكنني لم أخبر أبي بذلك، لم أستطع. وهو لم يخبرني قط بأن أتوخى الحذر، وأن أبتعد عن حافة المياه، فقد افترض جدلا أنني أتمتع بحس كاف يجعلني لا أسقط في المياه. لم أسأله إلى أي مدى سنبتعد، أو ما إذا كان لمجموعة المصائد نهاية ما. بعد برهة كانت هناك شجيرات من خلفنا، واقتربت الظهيرة من نهايتها. لم يطرأ على ذهني، إلا بعد فترة طويلة من ذلك ، أنها الشجيرات نفسها التي يمكن رؤيتها من فناء منزلنا، برزت من بينها تلة على شكل مروحة بأشجار جرداء وقت الشتاء، بدت كأغصان صغيرة هزيلة تتجه نحو السماء.
في ذلك المكان الآن نما على ضفة النهر، بدلا من الصفصاف، شجيرات كثيفة بارتفاع يفوق رأسي. مكثت أنا على الطريق، في منتصف المسافة تقريبا أعلى ضفة النهر، فيما نزل أبي إلى النهر. عندما انحنى فوق المصيدة، لم يعد باستطاعتي رؤيته. نظرت حولي ببطء ورأيت شيئا آخر. بعيدا على امتداد ضفة النهر، ظهر رجل يشق طريقه باتجاهنا. كان يتحرك بخفة ولم يصدر أي صوت أثناء مروره من بين الشجيرات، كما لو أنه يتتبع مسارا لم أتمكن من رؤيته. في بادئ الأمر لم أر سوى رأسه والجزء العلوي من جسده. كان أسمر البشرة، بجبهة صلعاء طويلة، وشعر طويل خلف أذنيه، وتجاعيد عمودية غائرة بوجنتيه، وحيثما قلت كثافة الشجيرات استطعت تبين باقي هيئته: ساقيه الطويلتين الرشيقتين، نحافته، ملابسه المموهة باهتة اللون، وما كان يحمله في يده، كان ما يحمله يلمع تحت أشعة الشمس - فأس صغيرة أو بلطة.
لم أتحرك قيد أنملة لأحذر أبي أو أنادي عليه. اجتاز الرجل الطريق الذي كنت أقف عليه ومضى قدما، وهبط باتجاه النهر. يقول الناس إنهم أصيبوا بالشلل من شدة الخوف، لكنني تسمرت في مكاني، وكأن البرق صعقني، وما انتابني لم يكن شعورا بالخوف بقدر ما كان إدراكا. لم أتفاجأ؛ فهذا المنظر الذي لا يفاجئك، الشيء الذي طالما عرفت أنه موجود ويأتي بصورة طبيعية للغاية، يتحرك برفق ورضى وعلى مهل، وكأنه جاء في المقام الأول لأمنية تمنيتها، أو أمل في شيء ختامي ومرعب. طيلة حياتي عرفت أن هناك رجلا مثل هذا الرجل يقبع خلف الأبواب وفي الزوايا في النهاية المظلمة بالردهة؛ لذا أراه الآن وأترقب فحسب، كطفل في صورة سلبية قديمة، مصعوق تحت سماء الظهيرة القاتمة، بشعر متوهج وعينين مرهقتين كعيني آني اليتيمة. تسلل الرجل بين الشجيرات باتجاه أبي، ولم أتوقع قط - أو أملت حتى - في حدوث أي شيء سوى الأسوأ .
لم يعرف أبي بوجوده. عندما اعتدل واقفا، كان الرجل على بعد ثلاثة أقدام منه وحجبه عني. سمعت صوت أبي بعد لحظة، بهدوء وود: «مرحبا جو. حسنا جو. لم أرك منذ مدة طويلة.»
لم ينبس الرجل ببنت شفة، لكنه تحرك ببطء حول أبي ليدقق النظر فيه. قال أبي: «جو! أنت تعرف من أكون، بن جوردن، كنت بالخارج أتفقد المصائد. هناك الكثير من الفئران السمينة في النهر هذا العام يا جو.»
رمق الرجل المصيدة التي وضع أبي بها الطعم بنظرة سريعة مرتابة. «عليك أن تنصب مصائد لنفسك أيضا.»
لم تأت أية إجابة. أمسك الرجل ببلطته وحركها بخفة في الهواء. «لكن الوقت تأخر هذا العام، فقد بدأت مياه النهر في التراجع بالفعل.»
قال الرجل في دهشة كبيرة، وبجهد جهيد، كشخص يتجاوز تلعثمه: «بن جوردن!» «ظننت أنك ستعرفني يا جو.» «لم أعرف قط أنه أنت يا بن، ظننت أنك أحد السيلاسيس.» «أخبرتك مرارا أنه أنا.» «إنهم يأتون إلى هنا طوال الوقت يقطعون أشجاري ويخلعون سياجي. تعلم أنهم أشعلوا بي النيران يا بن؟ كانوا هم من فعلوا ذلك.»
قال أبي: «سمعت بذلك.» «لم أعلم أنه أنت يا بن، لم أعلم أنه أنت. جئت بهذه الفأس، أحملها معي لأرعبهم قليلا. ما كنت سأحملها معي لو علمت أنه أنت. لتأت معي وتر أين أعيش الآن.»
ناداني أبي. «لقد أحضرت طفلتي الصغيرة معي اليوم.» «حسنا، لتأت أنت وهي وتستدفئا قليلا.»
تبعنا ذاك الرجل، الذي كان لا يزال يحمل فأسه ويؤرجحها في طيش، وصعدنا المنحدر ومنه إلى الشجيرات. زادت الأشجار من برودة الجو، وأدناها كان يوجد ثلج حقيقي خلفه فصل الشتاء، يصل عمقه لقدم أو اثنين، وجذوع الأشجار تطوقها في حلقات، صانعة مساحة مظلمة غريبة كالدفء الذي تصنعه بأنفاسك.
وصلنا إلى حقل من الأعشاب الهالكة، واتخذنا طريقا عبره ووصلنا إلى حقل آخر أفسح حيث يوجد شيء يبرز من الأرض. كان سقفا يميل في اتجاه واحد وليس له قمة، وخرج من السقف أنبوب يعلوه غطاء، والدخان يتصاعد منه. نزلنا درجات سلم قادتنا إلى قبو؛ وكان هذا كل شيء؛ قبو له سقف. قال أبي: «يبدو أنك هيئت الأمور تماما لنفسك يا جو.» «الجو دافئ، هذا هو حال العيش تحت الأرض، يكون الجو دافئا بطبيعة الحال. فكرت في الجدوى من بناء منزل مجددا، فقد حرقوا لي منزلا مرة، وسيحرقونه مجددا. ولماذا أحتاج إلى منزل على أية حال؟ لدي المساحة التي أحتاج إليها هنا، لقد صممته بحيث يبعث على الراحة.» ثم فتح الباب عند قاع السلم قائلا: «خذ في اعتبارك يا بن أنني لا أقول إن على الجميع العيش في حفرة تحت الأرض، رغم أن الحيوانات تفعل ذلك، وما يفعله الحيوان، على وجه الإجمال، يحمل معنى ومغزى. لكن إذا كنت متزوجا، فهذا أمر مختلف.» ثم ضحك الرجل واستطرد: «أما أنا فلا أخطط للزواج.»
لم يكن المكان مظلما تماما. كانت هناك نوافذ القبو العتيق، تسمح بدخول قليل من الضوء المشبع بالسخام. إلا أن الرجل أشعل مصباحا يعمل بالكيروسين ووضعه فوق الطاولة. «هكذا تستطيع رؤية مكانك.»
لم يحو المكان سوى حجرة واحدة، حجرة أرضية بها ألواح خشبية غير مثبتة بمسامير، لكنها ممتدة على الأرض لتصنع ممرات للسير، وضع موقد على شيء أشبه بمنصة، وتوجد طاولة، وأريكة، وكراسي، بل وخزانة مطبخ، وعدة أغطية سميكة متسخة للغاية من النوع المستخدم في زلاجات الجليد لتغطية الخيول. ربما لولا تلك الرائحة المريعة التي تفوح من المكان - رائحة الكيروسين، والبول، والهواء الثقيل الراكد - لكنت عرفت أنه المكان الذي أود العيش فيه، مثل البيوت التي أصنعها بركام الثلوج في الشتاء، مستخدمة عصيا من الحطب كأثاث، مثل المنزل الذي صنعته منذ مدة طويلة أسفل الشرفة، صنعت أرضيته من التراب العجيب الذي لا تطوله شمس أو مطر.
لكنني توخيت الحذر، جلست فوق الأريكة المتسخة، وتظاهرت بعدم النظر إلى أي شيء. قال أبي: «تنعم بالدفء والسكينة هنا يا جو، أليس كذلك؟» وجلس بجانب الطاولة حيث وضع الفأس. «كان حريا بك أن تراني قبل بدء ذوبان الثلوج. لم يظهر شيء من المنزل سوى المدخنة.» «ولا تشعر بالوحدة أيضا؟» «ليس أنا. لم أحبذ الوحدة قط. لدي هنا هر يا بن. أين ذاك الهر؟ ها هو ذا خلف الموقد. إنه لا يستمتع بالصحبة، ربما.» ثم جذب الهر، كان هرا ضخما رمادي اللون بعينين عابستين. «سأريك ما بإمكانه فعله»، ثم أخذ صحن فنجان من فوق الطاولة، وأخرج برطمانا من الخزانة وصب شيئا منه في الصحن، ثم وضعه أمام القط. «جو، هذا القط لا يحتسي الويسكي، أليس كذلك؟» «انتظر وسترى.»
نهض القط وتمدد بصعوبة، ثم ألقى نظرة شريرة حوله ونكس رأسه ليشرب من الصحن.
قال أبي: «ويسكي غير مخفف!» «من المؤكد أنك لم تر مثل هذا المشهد من قبل. وليس من المحتمل أن تراه مرة أخرى. فهذا الهر يحتسي الويسكي قبل اللبن كل يوم. في واقع الأمر لم يعد يحصل على اللبن، لقد نسي شكله. أتريد شرابا يا بن؟» «لا أعلم من أين حصلت على هذا، ليس لدي معدة كمعدة هرك.»
بعد أن انتهى الهر سار على غير هدى بعيدا عن الصحن، وانتظر للحظة، ثم وثب بمخالبه وهبط بغير ثبات، لكنه لم يسقط. تأرجح الهر، وضرب الهواء بمخالبه عدة مرات، وماء في يأس، ثم اندفع نحو الأمام وانزلق تحت طرف الأريكة. «جو، إن تماديت في هذا الأمر، فلن يعود لديك هر.» «أنا لا أؤذيه، فهو يستمتع بالأمر. لنر ماذا لدينا للفتاة الصغيرة لتناوله» لا شيء، هكذا تمنيت، لكنه أحضر علبة من حلوى الكريسماس، والتي بدا أنها ذابت ثم تجمدت ثم ذابت مرة أخرى؛ لذا اختفت الخطوط الملونة من عليها، وكان لها مذاق المسامير. «إن السيلاسيس يضايقونني يا بن. يأتون ليلا ونهارا. الناس لا تكف عن مضايقتي أبدا. أستطيع سماعهم عند السطح ليلا. إذا رأيتهم يا بن، فلتخبرهم بما أعددت لهم.» ثم التقط الفأس وضرب بها على الطاولة، فتمزق المفرش المتعفن. «لدي بندقية صيد أيضا.» «ربما لن يعودوا لمضايقتك مجددا يا جو.»
تأوه الرجل وهز رأسه نافيا: «لن يتوقفوا أبدا. كلا، لن يتوقفوا أبدا.» «حاول ألا تعيرهم أي اهتمام، سيسأمون ويرحلون.» «سيحرقونني في سريري، لقد حاولوا من قبل.»
لم يقل أبي شيئا، لكنه فحص نصل الفأس بإصبعه. أما أسفل الأريكة، فأخذ الهر يضرب بمخالبه ويموء في تشنجات متوهمة واهية أكثر. بعد أن استبد بي التعب، وشعرت بالدفء بعد البرودة، وقد تجاوز شعوري بالحيرة حد الاحتمال، بدأ النعاس يغلبني وعيناي مفتوحتان. •••
أجلسني أبي: «استيقظي الآن. قفي. أترين؟ لا أستطيع حملك وحمل كيس ممتلئ بالفئران معا.»
وصلنا إلى قمة تلة مرتفعة وهناك استيقظت. كان الليل يرخي سدوله. كان حوض البلدة بأكمله الذي نضب بفعل نهر واواناش ماثلا أمامنا؛ آثار شجيرات بنية مائلة إلى الخضرة أوراقها لم تنم بعد، والنباتات دائمة الخضرة الداكنة التي أنهكها فصل الشتاء تظهر في حقول بنية؛ وأخرى لا تزال قاتمة اللون بعد حرثها العام الماضي، بها طبقات رقيقة من الثلج تكونت عليها هنا وهناك (مثل الحقل الذي مررنا عبره قبل ساعات عديدة بالنهار)، وسياج ضئيلة ومستعمرات من الحظائر الرمادية، ومنازل متفرقة تبدو منخفضة وصغيرة.
سأل أبي وهو يشير بإصبعه: «منزل من هذا؟»
كان منزلنا، أدركت ذلك بعد دقيقة. لقد اتخذنا في سيرنا نصف دائرة، وكان هناك جانب المنزل الذي لا يراه أحد في فصل الشتاء، والباب الأمامي الذي لم يفتح من شهر نوفمبر إلى إبريل، ولا يزال محشوا بقطع القماش البالية حول حوافه لتقينا الريح الشرقية. «إنه لا يبعد أكثر من نصف ميل نحو سفح التلة. يمكنك السير بيسر إلى المنزل. سرعان ما سنرى الضوء في حجرة تناول الطعام حيث تمكث أمك.»
قلت في طريقنا إلى المنزل: «لماذا يحمل معه فأسا؟»
قال أبي: «أنصتي إلي، أتسمعينني؟ هو لا يقصد إيذاء أحد بتلك الفأس. إنها عادته فحسب، أن يحملها معه في تجواله. لكن لا تذكري شيئا عن الأمر في المنزل. لا تذكريه لأمك أو ماري، لأي منهما؛ لأنه من الممكن أن تشعرا بالفزع حيال ذلك الأمر. أنا وأنت لا نشعر بذلك، لكن ربما تشعران هما بالخوف. ولن نجني شيئا من ذلك.»
بعد برهة قال: «ما الشيء الذي لن تذكريه هناك؟» قلت: «الفأس.» «لم ينتبك الخوف، أليس كذلك؟»
قلت وأنا مفعمة بالأمل: «بلى، ولكن من سيحرقه ويحرق سريره؟» «لا أحد، إلا إذا فعلها بنفسه مثلما فعلها في المرة الماضية.» «من هو سيلاسيس؟»
قال أبي: «لا أحد، لا أحد فحسب.» ••• «لقد وجدت الرجل المناسب لك اليوم يا ماري. ليتني أحضرته معي إلى المنزل.»
قالت ماري ماكويد بحنق: «ظننا أنك سقطت في نهر واواناش.» وقامت بخلع حذائي وجواربي المبتلة على الفور. «إنه جو فيبن العجوز الذي يعيش في العراء خلف الشجيرات.»
انفجرت ماري صائحة: «هو، إنه الرجل الذي أحرق منزله، أعرفه!» «صحيح، والآن هو يتدبر أموره جيدا بدون منزله، يعيش في حفرة في الأرض. ستشعرين بالدفء يا ماري مثل خنزير الأرض.» «من المؤكد أنه يعيش في الطين، حسنا.» قدمت العشاء لأبي وأخبرها قصة جو فيبن، والقبو المسقف، والألواح الخشبية فوق الأرضية الطينية، وذكر الويسكي والهر لكنه أغفل ذكر الفأس. كان ذلك كافيا لماري. «إن المرء الذي يقدم على شيء كهذا يجب حبسه.»
قال أبي: «ربما. أتمنى ألا يقبضوا عليه إلا بعد فترة. جو العجوز.»
قالت ماري وهي تنحني فوقي: «تناولي عشاءك.» لم أدرك لبعض الوقت أنني لم أعد أخشاها. قالت: «انظر إليها، تكاد عيناها تخرجان من محجريهما، جراء كل ما مرت به وشاهدته. هل قدم إليها الويسكي أيضا؟»
قال أبي: «ولا قطرة منه.» وظل متطلعا إلي عبر الطاولة. ومثل الأطفال في القصص الخيالية، الذين رأوا آباءهم يعقدون معاهدات مع غرباء مروعين، والذين اكتشفوا أن مخاوفهم لا ترتكز على شيء سوى الحقيقة، لكن عادوا مجددا من هروب مثير للعجب، وأمسكوا بالسكين والشوكة بتواضع وتهذيب، مستعدين للعيش بسعادة من ذلك الحين فصاعدا؛ شأني شأنهم، أشعر بالانبهار والقوة بما أحمل من الأسرار - لم أنبس ببنت شفة.
شكرا على النزهة
جلست أنا وابن خالتي جورج في مطعم يدعى «كافيه بوب»، يقع في بلدة صغيرة بالقرب من البحيرة. بدأ الظلام يخيم على المكان بالداخل، دون أن يشعلوا الإضاءة، مع ذلك كان لا يزال بوسعك قراءة اللافتات الملصقة على المرآة بين قطع مثلجات الفراولة المصفرة قليلا وشطائر الطماطم التي يقف عليها الذباب.
قرأ جورج: «لا تسأل عن معلومات، لو كنا ندري أي شيء لما مكثنا هنا.» و«إذا لم يكن لديك ما تفعله، فقد انتقيت مكانا جيدا للغاية للقيام بذلك.» لطالما قرأ جورج كل شيء بصوت مرتفع: الملصقات واللوحات الإعلانية، ولافتات كريم الحلاقة بورما شيف، «ميشن كريك، التعداد السكاني 1700، بوابة للوصول إلى بروس. نحن نحب أطفالنا.»
تساءلت: من ذاك صاحب حس الدعابة الذي كتب لنا هذه اللافتات؟ ظننت أنه الرجل الذي يجلس خلف ماكينة تسجيل النقود. أيكون هو بوب؟ كان يمضغ عود ثقاب، وينظر إلى الشارع بالخارج، لا يترقب أحدا سوى شخص تزل قدمه في صدع في الرصيف أو ينفجر إطار سيارته، أو يجعل من نفسه أضحوكة بطريقة لا يحتمل مطلقا حدوثها معه هو، بوب الذي يقبع في رسوخ خلف ماكينة تسجيل النقود، ضخم الجثة وساخر وغير مبال. بل ربما لا يكون الأمر كذلك، ربما يثبت باقي العالم سخافته عبر التجول شمالا وجنوبا، وقيادة السيارة شمالا وجنوبا وارتياد مختلف الأماكن ليس إلا؛ إذ تتبين عندها ذلك الحكم على وجوه الناس وهم ينظرون من النوافذ، أو يجلسون على السلالم الأمامية للمنازل في بعض البلدات الصغيرة، تتبدى لامبالاتهم شديدة الترسخ، كما لو كان لديهم منابع للإحباط يبقونها سرا، بقدر من الرضى.
لم يكن في المكان سوى نادلة واحدة؛ فتاة قصيرة وبدينة انحنت فوق المنضدة الطولية تخدش طلاء أظافرها. وعندما قشرت معظم أجزاء الطلاء من ظفر الإبهام وضعت إبهامها في مواجهة أسنانها وأخذت تحك الظفر للخلف وللإمام في انهماك. سألناها عن اسمها لكنها لم تجبنا. بعد دقيقتين أو ثلاث أخرجت إبهامها من فمها وقالت وهي تتفحصه: «هذا ما عليك اكتشافه، فأنا أحتفظ به لنفسي.»
قال جورج: «حسنا، هل تمانعين في مناداتك بميكي؟» «لا أبالي.»
قال جورج: «لأنك تذكرينني بميكي روني، قولي لي أين يذهب الناس في هذه البلدة؟ أين يذهب الجميع؟» أدارت ميكي ظهرها وبدأت في صب القهوة وبدا كأنها لم تعد ترغب في التحدث أكثر؛ لذا شعر جورج بالتوتر قليلا، كما يشعر عندما يواجه تهديدا بضرورة التزام الصمت أو البقاء وحده. قال في شبه أسى: «انتظري، ألا توجد أية فتيات في هذه البلدة؟ ألا توجد أية فتيات أو قاعات رقص أو أي شيء؟ نحن غريبان عن البلدة. ألا ترغبين في مساعدتنا؟»
قالت ميكي في برود: «إن قاعة الرقص عند الشاطئ تغلق أبوابها في عيد العمال.» «ألا توجد قاعات رقص أخرى؟»
قالت ميكي: «هناك حفل راقص الليلة في مدرسة ويلسون.»
قال جورج في حنق مبهم: «ذاك الرقص عتيق الطراز؟ كلا، كلا، أنا لا أحبذ ذلك الرقص العتيق. من نوع «جميع الرجال جهة اليسار» وتلك الأمور، اعتدت الرقص هكذا في قبو الكنيسة. أجل، على طريقة «فليتمايل الجميع»، لا أحبذ هذا. فقط في قبو الكنيسة.» ثم قال لي: «أنت لا تذكر هذا، كنت صغيرا للغاية.»
كنت قد أنهيت توا دراستي الثانوية في ذاك الوقت، وكان جورج يعمل منذ ثلاثة أعوام في قسم الأحذية الرجالي بمتجر متعدد الأقسام بوسط المدينة؛ لذا كان هناك ذلك الفارق بيننا. بيد أننا لم نهتم أحدنا بالآخر قط حين كنا في المدينة. نحن الآن معا لأننا تقابلنا على نحو غير متوقع في مكان غريب، ولأني أملك القليل من المال، فيما كان جورج مفلسا. كما كنت أقود سيارة أبي، وكان جورج في إحدى الفترات التي لا يمتلك أثناءها سيارة، وهو الأمر الذي جعله دائما ناقما وسريع الغضب قليلا. لكنه كان مضطرا إلى إعادة ترتيب تلك الحقائق بعض الشيء، فقد جعلته مضطربا. استشعرت أنه يصطنع قدرا كافيا من المشاعر الطيبة، ومشاعر الصداقة القديمة، ويجعلني أظهر بمظهر صديق العمر، ديك؛ الفتى الطيب، صاحب الشخصية المميزة، وهو ما لم يهمني بطريقة أو بأخرى، رغم أني لم أعتقد - بينما كنت أتطلع إلى وسامته الشقراء الفجة واللطيفة في ذات الوقت، وفمه الوردي الجذاب، وتجعيدات الغضب والدهشة التي بدأت الحيرة المتكررة في طبعها على جبهته - أنني سأتكمن من إثارة حماسة شخصية مثل شخصية جورج.
كنت قد ذهبت بالسيارة إلى بحيرة هورون لإحضار أمي إلى المنزل من منتجع شاطئي للنساء، وهو مكان يتناولن فيه عصائر الفاكهة والجبن القريش لخفض الوزن، ويمارسن السباحة بالصباح الباكر في البحيرة، ويؤدين بعض الشعائر الدينية - على ما يبدو - إذ كان هناك كنيسة صغيرة ملحقة بالمنتجع. كانت خالتي - والدة جورج - تمكث هناك في الوقت نفسه، ووصل جورج بعد ساعة تقريبا من حضوري، لا ليأخذ أمه إلى المنزل، بل ليحصل على بعض المال منها. لم تكن الأمور على ما يرام بينه وبين أبيه، ولم يجن الكثير من المال من العمل بمتجر الأحذية؛ لذا كان مفلسا في أغلب الأحيان. أخبرته أمه أن بمقدورها إقراضه المال إذا مكث وذهب إلى الكنيسة معها في اليوم التالي، أخبرها جورج بموافقته. ثم لذنا بالفرار معا وقدت السيارة لنصف ميل على امتداد البحيرة إلى تلك البلدة الصغيرة التي لم يرها أي منا من قبل، والتي أخبرني جورج أنها ستكون ممتلئة بالفتيات ومهربي المشروبات الكحولية الممنوعة.
كانت بلدة بشوارع فسيحة رملية غير ممهدة وأفنية جرداء. لم ينم في أرضها المتصدعة سوى النباتات قوية التحمل كنبات أبي خنجر الأحمر والأصفر، أو شجيرات الليلك بأغصان بنية متجعدة. كانت المنازل متباعدة عن بعضها، ملحقة بها من الخلف مضخات وسقائف ومراحيض خارجية؛ معظمها بني من الخشب ومطلي بالأخضر أو الرمادي أو الأصفر. كانت الأشجار التي نمت هناك أشجار الصفصاف أو الحور الضخمة، تحولت أوراقها الجميلة إلى اللون الرمادي بفعل الثرى. لم يكن هناك أشجار على امتداد الشارع الرئيسي، لم يوجد سوى مساحات من الأعشاب الطويلة والهندباء البرية ونبات الشوك المتطاير، ومساحات خضراء شاسعة تفصل بين مباني المحال التجارية. كان مجلس البلدة كبيرا على نحو غير متوقع، ويضم برجا يحوي جرسا ضخما، وكان القرميد الأحمر للمبنى يلمع إلى حد ما بين جدران البلدة الخشبية الذابلة وبين الطلاء الباهت. كانت اللافتة بجوار الباب تقول إنه نصب تذكاري للجنود الذين لقوا حتفهم في الحرب العالمية الأولى. وقد شربنا مياها من سبيل أمام هذا النصب التذكاري.
قدنا السيارة ذهابا وإيابا طوال الشارع الرئيسي لبرهة، بينما كان جورج يعلق قائلا: «يا له من مكان قذر! يا إلهي، يا له من مكان قذر!» و«انظر، انظر هناك! لا، لا داعي، ليس مكانا جيدا!» عاد الناس بالشارع إلى منازلهم لتناول العشاء بينما كانت ظلال المتاجر تمتد عبر الشارع عندما دخلنا إلى مطعم بوب.
قال جورج: «قل لي، هل هناك مطعم آخر بالبلدة؟ هل رأيت أي مطعم آخر؟»
قلت: «كلا.»
قال جورج: «في أية بلدة أذهب إليها، تكون الخنازير معلقة خارج نوافذ المحلات، تتدلى فعليا من الأشجار. لكن ليس هنا. يا إلهي! أعتقد أننا في وقت متأخر من الموسم.» «هل تود الذهاب لمشاهدة استعراض فني؟»
فتح الباب ودخلت فتاة، سارت بالداخل ثم جلست فوق كرسي صغير، بينما تجمعت معظم تنورتها أسفلها. كان لها وجه طويل ناعس، ونهد صغير للغاية، وشعر متجعد. كانت شاحبة الوجه، قبيحة تقريبا، لكن تتمتع بتلك الهالة من الجاذبية الجنسية التي يتعذر تفسيرها. ابتهج جورج - لكن ليس كثيرا - ثم قال: «لا بأس، هذه ستفي بالغرض. هذه ستفي بالغرض إذا اقتضت الضرورة، صحيح؟ إذا اقتضت الضرورة.»
اتجه جورج إلى نهاية المنضدة الطولية وجلس بجانبها وبدأ يتحدث معها. وفي غضون خمس دقائق عادا معا إلي، كانت الفتاة تحتسي زجاجة من عصير البرتقال.
قال جورج: «أقدم إليك أديليد، أديليد، أديلين ... أديلين الجميلة. سأناديها بالجميلة إيه، الجميلة إيه.»
مصت أديليد من العصير بقصبة الشرب، دون أن تعيره الكثير من الانتباه.
قال جورج: «ليس معها رفيق، ليس معك رفيق، أليس كذلك يا حبيبتي؟»
هزت أديليد رأسها قليلا بمعنى: بلى.
قال جورج: «هي لا تسمع نصف ما تقوله لها. أديليد، الجميلة إيه، هل لديك أية صديقات؟ هل تعرفين أية فتاة صغيرة جميلة لتخرج مع ديكي؟ أنا وأنت وهي وديكي؟»
قالت أديليد: «هذا يتوقف على المكان الذي تريدان الذهاب إليه.» «أي مكان تختارينه. هل تودين الذهاب في نزهة بالسيارة، والذهاب حتى مدينة أوين ساوند، إذا أحببت؟» «هل لديك سيارة؟» «أجل، أجل، لدينا سيارة. بربك، لا بد أن لديك صديقة صغيرة جميلة تصلح لديكي.» ثم لف ذراعه حول الفتاة، وبسط أصابعه فوق بلوزتها. «هيا بنا إلى الخارج وسأريك السيارة.»
قالت أديليد: «أعرف فتاة يمكن أن تأتي معنا. الرجل الذي تخرج معه خاطب، وقد حضرت خطيبته وتمكث في منزله عند الشاطئ، الذي هو منزل والديه، و...»
قال جورج: «هذا أمر شائق جدا بالطبع، ما اسمها؟ هيا بنا، لنذهب إليها ونحضرها. هل تودين الجلوس هنا واحتساء العصير طوال الليل؟»
قالت أديليد: «لقد انتهيت من شرابي. ربما لا تأتي، لا أدري.» «لماذا؟ ألا تسمح لها أمها بالخروج ليلا؟»
قالت أديليد: «لا، هي تفعل ما يحلو لها، لكن ثمة أوقات لا تود الخروج فيها. لا أدري.»
خرجنا وركبنا السيارة، وجلس جورج وأديليد بالمقعد الخلفي. وبينما نتحرك في الشارع الرئيسي بعد بناية واحدة من المقهى مررنا بفتاة نحيلة، شقراء، ترتدي بنطالا فضفاضا، صاحت أديليد: «توقف! إنها هي! إنها لويس!»
أوقفت السيارة وأخرج جورج رأسه من النافذة وأطلق صفيرا. صاحت أديليد وجاءت الفتاة بغير تردد، وعلى مهل إلى السيارة. ابتسمت، في برود وأدب إلى حد ما، عندما شرحت لها أديليد الأمر. وطوال الوقت ردد جورج: «أسرعي، هلمي بنا، اصعدي إلى السيارة! بإمكاننا التحدث في السيارة.» ابتسمت الفتاة، ولم تنظر حقا إلى أي منا، وفي غضون لحظات قليلة، ولدواعي دهشتي، فتحت الباب ودخلت السيارة. قالت: «ليس لدي ما أفعله، فرفيقي خارج البلدة.»
قال جورج: «أحقا؟» ورأيت أديليد، في مرآة الرؤية الخلفية، تحذره بتعبير متجهم من وجهها، لكن لم يبد أن لويس قد سمعته.
قالت: «يجدر بنا الذهاب إلى منزلي، فقد خرجت توا لأشتري بعض الكولا، لهذا السبب أرتدي بنطالي الفضفاض؛ لذا يجدر بنا الذهاب إلى هناك وسأرتدي ثوبا آخر.»
قالت: «إلى أين سنذهب كي أعرف ماذا سأرتدي؟»
قلت: «إلى أين تودين الذهاب؟»
قال جورج: «حسنا، حسنا. الأهم فالمهم، علينا شراء زجاجة خمر، وبعدها سنقرر. أتعرفان مكانا لشراء الخمر؟» قالت أديليد ولويس: أجل. ثم أخبرتني لويس: «بمقدورك الدخول معي إلى المنزل وانتظاري فيما أبدل ملابسي، إذا أردت ذلك.» ألقيت نظرة خاطفة على مرآة الرؤية الخلفية وفكرت أنه ربما يوجد اتفاق ما بينها وبين أديليد.
على الشرفة الأمامية بمنزل لويس كانت توجد أريكة عتيقة وبعض السجاجيد الصغيرة المعلقة فوق سور المنزل. سارت أمامي عبر الفناء. كان شعرها الطويل الباهت مربوطا خلف رقبتها، وبشرتها يتناثر عليها النمش، لكنها لم تكن مسمرة، حتى عيناها كانتا فاتحتي اللون. كانت فاترة ونحيلة وشاحبة. ثمة سخرية، وجاذبية كبيرة أيضا، في فمها. اعتقدت أنها في نفس سني أو تكبرني قليلا.
فتحت لويس الباب الأمامي ثم قالت بصوت واضح ورسمي للغاية: «أود أن أعرفك على عائلتي.»
كانت الحجرة الأمامية الصغيرة مغطاة بمشمع الأرضية، بينما تنسدل ستائر ورقية مزينة بالزهور على النوافذ. احتوت الغرفة كذلك على أريكة لامعة تحمل وسادة منقوشة عليها شلالات نياجرا وأخرى منقوشا عليها «إهداء إلى أمي»، وموقد أسود صغير مطوق بغطاء لحمايته من حرارة الصيف، وزهرية كبيرة تحوي أزهار التفاح الورقية. دخلت امرأة طويلة القامة وهزيلة إلى الحجرة وهي تجفف يدها بمنشفة صحون قذفتها فوق أحد الكراسي. كان فمها مليئا بأسنان من البورسلين بيضاء مائلة إلى الزرقة، بينما تهتز سلاسل طويلة حول رقبتها. قلت لها: كيف حالك؟ وأنا أستشعر الحرج من إعلان لويس المفاجئ للغاية والتقليدي على نحو متعمد لحضورنا. تساءلت إن كان لديها أية تصورات خاطئة عن هذا الموعد الغرامي، الذي دبره جورج لأغراض معينة؟! لكني استبعدت ذلك. فلم يحمل وجهها أية سذاجة ظاهرة، بل كان ينم عن سعة معرفة وهدوء وعدائية. ربما فعلت ذلك، إذن، لتستهزئ بي، لتجعلني أظهر في صورة كاريكاتورية ساخرة «للرفيق»، الصبي الذي يبتسم ابتسامة واسعة ويمشي متثاقلا في الردهة الأمامية منتظرا تقديمه إلى أسرة الفتاة الجميلة. لكن ذلك بعيد الاحتمال قليلا، لماذا سترغب في إحراجي في حين أنها وافقت على الخروج معي دون أن تنظر إلى وجهي حتى؟ لماذا ستهتم بهذا الأمر لهذا الحد؟
جلست أنا ووالدة لويس على الأريكة. وبدأت تتجاذب معي أطراف الحديث؛ مما جعل الموقف يتفق مع سيناريو «الرفيق» الكاريكاتوري. لاحظت الرائحة المنتشرة بالمنزل؛ رائحة الحجرات الصغيرة العتيقة، أغطية الأسرة، والقلي، والغسيل، والمراهم الطبية، ورائحة القذارة، رغم أن البيت لم يبد قذرا. قالت أم لويس: «إنها سيارة جميلة تلك التي تقف بالخارج. هل هي سيارتك؟» «إنها سيارة أبي.» «أليس هذا رائعا! أن يمتلك أبوك مثل هذه السيارة الجميلة؟ لطالما اعتقدت أنه من الرائع أن يقتني الناس الأشياء. لا أحتمل التعامل مع أولئك الناس الذين يملؤهم الحقد والحسد. إنه لأمر رائع. من المؤكد أن أمك، في كل مرة ترغب في أي شيء، تتجه إلى المتجر فحسب وتشتريه، سواء كان معطفا جديدا، ملاءة سرير، مقلاة أو وعاء. ماذا يعمل أبوك؟ أهو محام أم طبيب أم شيء من هذا القبيل؟» «هو محاسب قانوني.» «آه، يعمل لدى مكتب، أليس كذلك؟» «أجل.» «شقيقي - خال لويس - يعمل في فرع شركة سي بي آر في لندن. إنه يتولى منصبا رفيعا هناك. حسب علمي.»
ثم بدأت في إخباري عن ملابسات مقتل والد لويس في حادث عند الطاحونة. لاحظت وجود امرأة عجوز - الجدة على الأرجح - تقف عند مدخل الحجرة. لم تكن نحيلة مثلهم، لكنها كانت رخوة وبلا قوام مثل طبق من حلوى البودنج المنسكبة، تنتشر على وجهها وذراعها بقع بنية شاحبة متداخلة، وتنمو شعيرات قصيرة خشنة حول الجزء المبتل المحيط بفمها. بدا أن جزءا من الرائحة في المنزل ينبعث منها. كانت رائحة تعفن خفي، كما لو كان هناك حيوان ما صغير ميت أسفل الشرفة. الرائحة، والصوت اللامبالي والمفعم بالثقة أعطياني انطباعا بأن ثمة خطبا ما في هذه الحياة لم أعهده من قبل، ثمة خطب ما بهؤلاء الناس. خطر ببالي أن أمي وأم جورج ساذجتان. حتى جورج، جورج ساذج. لكن أولئك الآخرين، ولدوا ماكرين وحزانى وواسعي الخبرة.
لم أسمع الكثير عن والد لويس فيما عدا أن رأسه قطع. «انفصل رأسه تماما، لك أن تتخيل، وتدحرج فوق الأرض! لم أستطع فتح النعش. كان ذلك في شهر يونيو، كان الجو حارا. وقد جرد جميع من في البلدة حدائقهم، جردوها من أجل الجنازة، قطفوا زهور شجيرات الزينة وورود الفاوانيا والياسمين البري المتسلق. أعتقد أنه كان أسوأ حادث وقع في هذه البلدة على الإطلاق. كان للويس رفيق لطيف هذا الصيف. اعتاد اصطحابها للخارج وأحيانا ما كان يمكث للمبيت عندما لا يكون أهله في الكوخ الصغير وهو لا يرغب في قضاء الوقت هناك وحده. كان يحضر الحلوى للأطفال وحتى أنا كان يحضر لي هدايا. هذا الفيل المصنوع من البورسلين بالأعلى هناك، يمكن زراعة زهور به، لقد اشتراه لي. كما أصلح الراديو لنا ولم أضطر إلى أخذه إلى محل التصليحات. هل يملك أهلك كوخا صيفيا هنا؟»
أجبتها بالنفي، دخلت لويس، ترتدي ثوبا ملونا بالأخضر والأصفر، مشدودا ولامعا كأوراق تغليف هدايا الكريسماس، وحذاء ذا كعب عال، وحليا من الماس الزائف، بينما نثرت الكثير من البودرة الداكنة فوق النمش. تحمست أمها لرؤيتها.
قالت: «أنت تحبين هذا الثوب، لقد قطعت المسافة إلى لندن كاملة وابتاعت ذاك الثوب، لم تشتره من أي مكان من هنا!»
اضطررنا إلى المرور بجانب السيدة العجوز أثناء خروجنا. نظرت إلينا بإدراك مفاجئ، واستقرت عيناها الشاحبتان الهلاميتان. ارتعد فمها فاغرا، ودفعت وجهها في مواجهتي.
ثم قالت بصوت عجوز قوي، صوت المرأة الريفية الأجش: «افعل ما يحلو لك مع حفيدتي، لكن عليك توخي الحذر. أنت تعي ماذا أقصد!»
دفعت أم لويس الجدة خلفها، وهي تبتسم في تزمت وحاجباها مرفوعان وبشرتها مشدودة فوق صدغها، ثم أخبرتني وهي عابسة الوجه في شرود ذهن: «لا عليك. لا عليك. خرف الشيخوخة.» ظلت الابتسامة تعلو وجهها، وارتخت بشرتها، وبدا أنها تستمع طيلة الوقت إلى جلبة وضجة مستمرة برأسها. ثم أمسكت بيدي أثناء سيري خلف لويس وهمست: «إن لويس فتاة طيبة، فلتحظ بوقت طيب، لا تدعها تكتئب! عمتم مساء!» بينما اختلج حاجباها وجفونها في حركة سريعة غريبة يبدو على ما أظن أن غرضها الأصلي هو المغازلة.
مضت لويس متخشبة أمامي، بينما تصدر تنورتها الرقيقة للغاية حفيفا. قلت: «هل تريدين الذهاب إلى حفل راقص أو شيء من هذا القبيل؟»
قالت: «كلا، لا أهتم.» «لكنك تأنقت في ملبسك ...»
قالت لويس بصوت خفيض ساخر: «دوما ما أتأنق في أمسيات السبت.» ثم بدأت في الضحك، ورأيت لمحة من أمها بها، ذاك الطابع الفظ الهيستيري. همست: «يا إلهي!» فأدركت أنها تقصد ما جرى في المنزل، فضحكت أيضا، إذ لم أدر شيئا آخر أفعله. وهكذا عدنا إلى السيارة ونحن نضحك كما لو كنا أصدقاء، لكننا لم نكن كذلك. •••
خرجنا من البلدة بالسيارة ووصلنا إلى منزل ريفي حيث باعت لنا امرأة زجاجة ويسكي تمتلئ بخمر منزلية الصنع متعكرة، شيء لم نحتسه - أنا وجورج - من قبل قط. أخبرتنا أديليد أن هذه المرأة ربما تسمح لنا باستخدام الحجرة الأمامية في بيتها، لكنها لم تسمح لنا في النهاية بسبب لويس. فعندما حدقت المرأة بي من أسفل القلنسوة الرجالي التي كانت ترتديها فوق رأسها وقالت للويس: «إن التغيير يجدد النشاط مثله مثل الراحة، أليس كذلك؟» لم تجبها لويس، ونظرت إليها في برود. بعد ذلك أخبرتنا المرأة أنه إذا كنا متعالين لهذا الحد هكذا فإن حجرتها الأمامية لن تليق بمقامنا، وأحرى بنا العودة إلى الأجمة. وطوال الطريق على امتداد الممر أمام المنزل أخذت أديليد تردد: «بعض الأشخاص لا يقبلون المزاح، أليس كذلك؟ أجل، إن التعالي ...» حتى أعطيتها زجاجة الخمر لإبقائها صامتة. نظرت إلى جورج، فوجدت أنه لا يبالي، ظنا منه أن هذا الأمر سيصرف ذهنها عن التفكير في الذهاب إلى أوين ساوند.
أوقفنا السيارة عند نهاية الممر وجلسنا فيها نحتسي الخمر. احتسى جورج وأديليد أكثر مما احتسينا. لم يتحدثا، فقط كانا يمدان يديهما لأخذ الزجاجة ثم يعيدانها مرة أخرى. كان هذا الصنف مختلفا عن أي شيء تذوقته من قبل؛ كان ثقيلا ويثير الغثيان في معدتي، ولم يكن له أي تأثير آخر، وبدأ يتملكني شعور كئيب بأني لن أثمل. وكانت لويس كلما ناولتني الزجاجة تقول: «شكرا لك.» بطريقة مهذبة تحمل احتقارا خفيا. وضعت ذراعي حولها، دون أن يكون لدي رغبة كبيرة في ذلك، بل كنت أتساءل ما خطبها، هذه الفتاة التي تستلقي على ذراعي، متهكمة ومذعنة وغاضبة وغامضة ، وبعيدة المنال. أردت التحدث معها أكثر مما أردت لمسها، لكن ذلك مستحيل، فالحديث ليس أمرا تافها في نظرها كما اللمس. في تلك الأثناء أدركت أنه علي تخطي هذا؛ تخطي المرحلة الأولى والدخول مباشرة في المرحلة الثانية، (إذ كان لدي دراية، رغم أنها لم تكن شاملة تماما، بتتابع المراحل المنهجي، وبطقوس الإغواء المتبعة في المقاعد الأمامية والخلفية للسيارات). تمنيت إلى حد بعيد أني قد رافقت أديليد.
قلت: «هل ترغبين في الذهاب في نزهة على الأقدام؟»
قال جورج من المقعد الخلفي: «هذه هي أول فكرة نيرة تقولها طيلة الليل.» ثم أخبرني أثناء خروجنا: «لا تتعجلا.» كان هو وأديليد متدثرين ويضحكان معا. «لا تتعجلا في العودة!»
سرت أنا ولويس بمحاذاة طريق للعربات بالقرب من الأجمة. كانت الحقول مضاءة بضوء القمر، باردة والنسيم يهب. شعرت الآن برغبة في الانتقام، فقلت بصوت خفيض: «حظيت بحديث شائق مع أمك.»
قالت لويس: «أتصور ذلك.» «حدثتني عن الشاب الذي كنت تواعدينه الصيف الماضي.» «هذا الصيف.» «لقد أصبح الآن الصيف الماضي، كان خاطبا أو شيئا من هذا القبيل، أليس كذلك؟» «أجل.»
لم أنو تركها وشأنها. قلت: «هل أحبك أكثر من خطيبته؟ هل كان الأمر كذلك؟ هل أحبك أكثر؟»
أجابت: «كلا، لن أقول إنه أحبني.» ظننت - مع اشتداد النبرة التهكمية في صوتها - أنها بدأت تثمل. ثم قالت: «أحب أمي والأطفال أيضا لكنه لم يحبني. يحبني! ما هذا الذي تقوله؟» «حسنا، ألم يكن يخرج معك ...» «كان يتسكع معي فترة الصيف فحسب. هذا ما يفعله أولئك الشبان من منطقة الشاطئ على الدوام. يأتون إلى هنا إلى الحفلات الراقصة ويصادقون فتاة يتسكعون معها لفترة الصيف. يفعلون هذا دائما.»
ثم أضافت: «أما كيف عرفت أنه لا يحبني، فقد أخبرني أنني أتذمر دائما. إذ عليك التعامل بامتنان مع أولئك الشبان، كما تعلم، وإلا فسيخبرونك أنك تتذمر.»
تملكني قليل من الفزع لأنني جعلتها تفصح عن كل هذه الأمور. قلت: «هل أحببته؟» «آه، بالطبع! يجدر بي هذا، أليس كذلك؟ يجدر بي أن أجثو على ركبتي وأشكره. هذا ما تفعله أمي. فقد ابتاع لها فيلا عتيقا ملطخا ورخيصا ...»
قلت: «هل كان ذاك الشاب هو العلاقة الأولى؟» «العلاقة الأولى الجادة. أهذا ما تعنيه؟»
لم يكن ذلك ما أعنيه. سألتها: «كم عمرك؟»
فكرت وقالت: «سبعة عشر عاما تقريبا. لكني أبدو في الثامنة أو التاسعة عشرة، وأستطيع دخول الحانات، فعلت ذلك مرة.» «في أية مرحلة دراسية تدرسين؟»
تأملتني، متعجبة بعض الشيء. «هل ظننت حقا أنني ما زلت أرتاد المدرسة؟ لقد تركتها منذ عامين. أعمل بوظيفة الآن في مصنع القفازات بالبلدة.» «لا بد أن هذا مخالف للقانون. أعني عندما تركت الدراسة.» «لا، بمقدورك الحصول على تصريح إذا كان أبوك ميتا أو شيئا من هذا القبيل.»
قلت: «ماذا تفعلين في مصنع القفازات؟» «أدير ماكينة، ماكينة تشبه ماكينة الحياكة. سأحصل على أعمال بالقطعة عما قريب. سأجني المزيد من المال.» «هل تحبين عملك؟» «لن أقول إني أعشقه، لكنه مجرد وظيفة ... أنت تطرح الكثير من الأسئلة.» «هل تمانعين في ذلك؟»
عاد صوتها فاترا وخافتا وقالت: «لست مضطرة للإجابة عن تساؤلاتك، إلا إذا أردت ذلك.» رفعت تنورتها وبسطتها فوق يدها قائلة: «يوجد نبتات شائكة بتنورتي.» ثم انحنت وأخذت تنزعها واحدة تلو الأخرى وهي تكرر: «يوجد نبتات شائكة في ثوبي. إنه ثوبي الأنيق. هل ستترك أثرا؟ إذا جذبتها جميعا - ببطء - فلن أنزع أية خيوط من الثوب.»
قلت: «ما كان يجدر بك ارتداء هذا الثوب؟ لماذا ارتديت هذا الثوب؟»
هزت تنورتها، فطرحت نبتة شائكة أرضا، مجيبة: «لا أدري.» وأخذت تستعرض قماش الفستان المشدود واللامع برضى تشوبه آثار الثمل، ثم قالت في نوبة حقد صغيرة ومباغتة: «أردت التباهي أمامكم أيها الشبان!» أصبح الآن ذلك الشعور بالرضى الذي يشوبه الازدراء وفقدان الاتزان من أثر الثمل واضحا وضوح الشمس؛ إذ وقفت في سخف واستهزاء وتنورتها منبسطة مضيفة: «أملك كنزة مقلدة من الكاشمير بالمنزل. كلفتني اثني عشر دولارا. ولدي معطف من الفراء، ما زلت أسدد ثمنه للشتاء القادم. أملك معطفا من الفراء ...»
قلت: «هذا رائع، أعتقد أنه من الرائع أن يقتني الناس الأشياء .»
تركت تنورتها وصفعتني براحة يدها على وجهي، فاستشعرت براحة، كلانا شعر بذلك. إذ كنا طيلة الوقت نستشعر صراعا يتزايد داخلنا. وقفنا بمواجهة أحدنا الآخر بحذر قدر استطاعتنا مدركين أننا ثملان بعض الشيء. كانت تستعد كي تصفعني مجددا، بينما كنت أستعد لأمسكها أو أرد لها الصفعة، كانت فرصة لنسوي الأمور بيننا، ونفصح عما نحمل داخلنا من ضغائن تجاه أحدنا الآخر، لكن هذه اللحظة الاندفاعية مرت، والتقطنا أنفاسنا؛ إذ لم نتحرك في الوقت المناسب. وفي اللحظة التالية - دون أن نعبأ بإزالة العداوة بيننا، أو نفكر في التسلسل المنطقي للأشياء - تبادلنا القبلات. كانت أول مرة - بالنسبة لي - أقبل فيها أحدا دون تدبر، أو تردد، أو تعجل زائد، ودون أن أشعر بالإحباط المبهم المعتاد الذي يلي القبلة. شرعت لويس في الحديث ثانية وهي تضحك في انعدام ثقة قبالتي، وعادت إلى الجزء الأسبق من حديثنا وكأن شيئا لم يقطعه.
قالت: «أليس الأمر مضحكا؟ أتعرف، طيلة الشتاء كل ما تفعله الفتيات هو التحدث عن الصيف الماضي، يتحدثن ويتحدثن عن أولئك الفتية، وأراهنك أن أولئك الفتية لا يذكرون حتى أسماءهن ...»
لكنني لم أرغب في التحدث أكثر، بعد أن تجلى لي موطن قوة آخر بها يكمن جنبا إلى جنب مع عدائيتها، والذي كان - في واقع الأمر - لا يقل تغلغلا وجمودا. بعد برهة همست إليها: «أليس هناك مكان يمكننا الذهاب إليه؟»
أجابتني: «ثمة حظيرة في الحقل التالي.»
كانت على دراية بالريف؛ فقد ذهبت إلى هناك من قبل. •••
بعد منتصف الليل قدنا السيارة في طريق العودة إلى البلدة. كان جورج وأديليد مستغرقين في النوم بالمقعد الخلفي. لم أعتقد أن لويس كانت نائمة، على الرغم من أنها أبقت عينيها مغلقتين ولم تنطق بكلمة. كنت قد قرأت في مكان ما عن العبارة اللاتينية: كل حيوان يشعر بالحزن بعد الجماع، وكنت سأخبرها بها، لكنني فكرت بعد ذلك أنها لا تعرف كلمات لاتينية وستظن أنني مدع ومتعال كما هو متوقع. بعد ذلك تمنيت لو أنني أخبرتها بها. كانت ستفهم معناها.
إنه ذلك الشعور بارتخاء الجسد ثم البرودة يليها الافتراق. عندما أخذنا نزيل بقايا القش عنا ونهندم أنفسنا بحركات ثقيلة عشوائية، عندما خرجنا من الحظيرة لنجد القمر قد غاب، لكن الحقول المسطحة بعد الحصاد وأشجار الحور والنجوم لا تزال هناك، أن نجد ذاتينا كما هي، باردة ومرتعشة، ذواتنا التي ذهبت في تلك الرحلة الطائشة ولم تزل موجودة، أن نعود إلى السيارة ونجد الآخرين متمددين ومستغرقين في النوم. هذا هو ما تعنيه حقا عبارة كل حيوان يشعر بالحزن بعد الجماع.
تلك الرحلة الطائشة، هل كانت هكذا لأنها كانت المرة الأولى لي، أم لأني كنت ثملا قليلا على نحو غريب؟ كلا. كانت كذلك بسبب لويس. ثمة أشخاص لا يسعهم سوى التمادي قليلا في علاقة الحب وآخرون بإمكانهم التمادي كثيرا، وتقديم إذعان أكبر، كالزاهدين. ولويس - زاهدة الحب تلك - جلست الآن في الجانب البعيد من مقعد السيارة، تبدو باردة وشعثة الشعر، ومنغلقة تماما داخل نفسها. كل الأشياء التي أردت إخبارها بها أخذت تضطرب في رأسي بلا معنى: سأحضر لرؤيتك مجددا ... اذكريني ... أحبك، لكني لم أنطق بأي كلمة من هذا. لن تبدو هذه الكلمات حتى شبه صادقة عبر المسافة التي تفصل بيننا. كنت أفكر: سأتحدث إليها قبل أن نصل إلى الشجرة التالية، قبل الهاتف التالي، لكنني لم أفعل. كل ما فعلته هو قيادة السيارة أسرع فأسرع مقتربا أكثر من البلدة.
ومضت أنوار الشوارع من خلف الأشجار المظلمة أمامنا؛ كان هناك حراك بالمقعد الخلفي.
قال جورج: «كم الساعة الآن؟» «الثانية عشرة وعشرون دقيقة.» «لا بد أننا أفرغنا تلك الزجاجة. لا أشعر بأنني على ما يرام. يا إلهي، لا أشعر أنني على ما يرام. كيف تشعر؟» «بخير.» «بخير، أليس كذلك؟ تشعر أنك أنهيت دراستك اليوم، أليس كذلك؟ أهذا ما تشعر به؟ هل فتاتك نائمة؟ إن فتاتي نائمة.»
قالت أديليد في نعاس: «لست نائمة. أين حزامي؟ جورج ... يا إلهي. والآن أين فردة حذائي؟ ما زال الوقت باكرا بالنسبة لليلة سبت، أليس كذلك؟ بإمكاننا الذهاب وإحضار شيء نأكله.»
قال جورج: «لست في مزاج يسمح لي بالأكل. أريد أن أنال قسطا من الراحة، علي النهوض باكرا غدا لأذهب إلى الكنيسة مع أمي.»
قالت أديليد في ريبة، لكن دون غضب كبير: «أجل، أعلم هذا. كان بإمكانك على أية حال ابتياع شطيرة هامبرجر لي!»
قدت السيارة حتى منزل لويس، التي لم تفتح عينيها حتى توقفت السيارة.
جلست ساكنة للحظة، ثم مررت يدها فوق تنورة ثوبها، لفردها. لم تنظر إلي. تحركت لتقبيلها، لكن بدا أنها تبتعد قليلا للوراء، وشعرت بوجود شيء مخادع ومصطنع حيال تلك اللفتة الأخيرة رغم كل شيء. فليس ذلك من طبعها.
قال جورج لأديليد: «أين تسكنين؟ هل تسكنين بالقرب من هنا؟» «أجل، على بعد بنايات قليلة.» «حسنا، هل يمكنك النزول هنا أيضا؟ علينا العودة إلى المنزل الليلة.»
قبلها، وترجلت الفتاتان من السيارة.
أدرت المحرك وبدأنا نبتعد بالسيارة، استقر جورج في المقعد الخلفي لينام، حينها تناهى إلى سمعنا صوت أنثوي ينادي، صوت أنثوي غليظ ومرتفع، يهتف بنبرة مهينة وبائسة: «شكرا على النزهة!»
لم تكن أديليد، بل كانت لويس.
المكتب
لاح في خاطري - ذات مساء، فيما كنت أكوي قميصا - الحل لحياتي. كان حلا بسيطا لكنه جريء. دخلت إلى حجرة المعيشة، حيث كان زوجي يشاهد التلفاز، وقلت: «أعتقد أنني بحاجة إلى مكتب.»
بدت الفكرة عجيبة، حتى بالنسبة لي. لماذا أنا بحاجة إلى مكتب؟ فلدي منزل جميل ورحب، ومطل على البحر، كما أنه يضم أماكن ملائمة لتناول الطعام والنوم والاستحمام وتجاذب أطراف الحديث مع الأصدقاء، وبه حديقة؛ إنه منزل لا يفتقر إلى الرحابة.
هذا صحيح. لكني ها هنا أكشف لكم سرا، وهو ليس بالأمر الهين علي: أنا كاتبة. لا يبدو هذا القول ملائما، يبدو غاية في العجرفة والزيف، أو على الأقل غير مقنع. فلأحاول مرة أخرى: أنا أكتب. هل هذا أفضل؟ «أحاول» أن أكتب. هذا يزيد الطين بلة. تواضع زائف. ماذا إذن؟
لا يهم. بغض النظر عن الصياغة، تخلق الكلمات مساحتها من الصمت، تخلق لحظة المجاهرة الهشة تلك. لكن الناس طيبون، فسرعان ما يبتلع الصمت اهتمام الأصوات الودودة، التي تصيح بأشياء مختلفة من قبيل: يا له من أمر رائع! هنيئا لك، وهذا مثير للاهتمام. يسألونني في حماس: ماذا تكتبين؟ فأجيبهم بأنني أكتب الأدب القصصي، حاملة خزيي حينئذ بهدوء، بل وبشيء من جسارة لم تكن يوما من سماتي؛ ومجددا، تكسر مثل هذه الأصوات المهيأة اللبقة - والتي، مع ذلك، تكون قد استنفدت ذخيرتها من العبارات المشجعة، ولم يعد بوسعها سوى قول: «أجل!» - دوائر الهلع الملموسة.
قلت لزوجي: ها هو السبب الذي أود امتلاك مكتب من أجله؛ لأكتب فيه. أدركت على الفور أن هذا بدا مطلبا صعبا، شيئا من ترف استثنائي. كي أكتب - كما يعلم الجميع - أحتاج إلى آلة كاتبة أو على الأقل قلم رصاص وبعض الأوراق وطاولة وكرسي؛ وأنا لدي كل هذه الأشياء في ركن بغرفة نومي، لكنني الآن أريد مكتبا أيضا.
إذا ما تطرقنا إلى هذا الأمر، لم أكن واثقة حتى أنني سأمارس الكتابة فيه. لعلي سأجلس هناك وأحدق في الجدار؛ وحتى هذا الاحتمال لم يكن سيئا بالنسبة لي. في حقيقة الأمر، إن وقع كلمة «مكتب» هو ما أعجبني، وقعها الذي يوحي بالوقار والسلام، والعزم والأهمية. لكنني لم أهتم بذكر هذا الجانب لزوجي؛ لذا شرعت بدلا من ذلك في شرح بلاغي منمق دار - على ما أذكر - على هذا النحو:
المنزل مكان ملائم ليعمل به الرجل؛ فهو يحضر عمله إلى المنزل، فتخلى له مساحة ليعمل بها، ويعيد المنزل تنظيم نفسه على أفضل نحو ممكن حوله. يدرك الجميع أنه يعمل؛ فليس من المنتظر منه أن يجيب على الهاتف، أو يبحث عن أشياء مفقودة، أو يتحقق من سبب بكاء الأطفال، أو يطعم القطة. بإمكانه غلق بابه. (قلت) تخيل لو أن أما أغلقت باب حجرتها، وأطفالها يعلمون أنها خلف ذلك الباب؛ يا إلهي! إن الفكرة في حد ذاتها مثيرة لحنقهم. أيضا تبدو المرأة التي تجلس محدقة في الفراغ، في مكان ليس به زوجها أو أولادها، مخالفة للطبيعة تماما. من ثم، المنزل لا يعني الشيء نفسه للمرأة، فهي ليست بشخص يأتي إلى المنزل، يحقق منه نفعا، ثم يغادره مرة أخرى. إنها «هي» المنزل، يستحيل الفصل بينهما. (وهذا حقيقي، بالرغم من أنني كعادتي حين أجادل حول شيء أخشى أنني لا أستحقه، أصوغ حديثي بمصطلحات تأكيدية وعاطفية أكثر مما ينبغي. في أوقات بعينها - ربما في أمسيات الربيع الطويلة، بينما الجو لا يزال مطيرا وكئيبا، وقد أزهرت بصيلات النبات الباردة، والضوء خافت للغاية بما لا يمني بالسباحة في البحر - أفتح النوافذ وأشعر بالمنزل يتقلص عائدا إلى الخشب والجص وتلك المواد البسيطة المصنوع منها، والحياة بداخله تهمد، فيتركني في العراء، خالية الوفاض، لكنني أشعر حينها برجفة من الحرية عنيفة وجامحة، أشعر بوحدة غاية في القسوة والمثالية لدرجة لا أتحملها في تلك اللحظة. ثم أدرك كم أنني طيلة الوقت محمية ومثقلة بالأعباء، وكم أنني مستدفئة ومقيدة بإصرار.)
كل ما قاله زوجي: «إذن، لتمضي قدما، إذا ما استطعت العثور على مكان رخيص بالحد الكافي.» إنه ليس مثلي، هو لا يرغب حقا في سماع تفسيرات. كثيرا ما تسمعه يردد - ودون أدنى شعور بالندم: إن قلوب الآخرين كتب مغلقة.
حتى ذلك الوقت لم أعتقد أن رغبتي هذه شيء يمكن تنفيذه. ربما - في الواقع - بدا لي أنها أمنية غير ملائمة إلى حد يتعذر معه تحقيقها. كان من الأيسر كثيرا أن أطلب معطفا من المنك أو عقدا من الألماس؛ فهذه أشياء تحصل عليها النساء. استقبل أولادي مخططاتي، عندما علموا بها، بأكثر أساليب اللامبالاة والارتياب إثارة، ومع ذلك ذهبت إلى مركز التسوق الذي يبعد شارعين عن منزلي؛ حيث لاحظت على مدى عدة شهور، ودون أن أعتقد أن هذا يمكن أن يمت لي بصلة، بضع لافتات مكتوب عليها «للإيجار» معلقة على نوافذ الأدوار العليا لمبنى به صيدلية وصالون تجميل. تملكني شعور بالانعدام التام للواقعية وأنا أصعد الدرج؛ إن الاستئجار بالتأكيد عملية معقدة، هذا في حالة استئجار المكاتب؛ فالمرء لا يطرق باب العقار الشاغر ببساطة وينتظر السماح له بالدخول، فالأمر ينبغي أن يتم عن طريق وسطاء، بالإضافة إلى ذلك، قد يطلبون مبلغا طائلا.
حسبما جرت الأمور، لم أضطر حتى إلى طرق الباب. خرجت امرأة من إحدى المكاتب الفارغة وهي تجر مكنسة كهربائية، وتدفعها بقدمها نحو الباب المفتوح على الناحية الأخرى من الردهة، والذي كان من الواضح أنه يؤدي إلى شقة في الجزء الخلفي من البناية. كانت المرأة تعيش مع زوجها في هذه الشقة، وكان لقب العائلة «مالي»، وكانا بالطبع من يمتلكان البناية ويؤجران المكاتب. أخبرتني المرأة أن الغرف التي كانت تنظفها للتو مجهزة لتلائم عيادة طبيب أسنان، ومن ثم لن تثير اهتمامي، لكنها ستأخذني لأتفقد مكانا آخر. دعتني إلى شقتها في حين وضعت المكنسة الكهربائية جانبا وجلبت مفتاحها. أخبرتني - بتنهد لم أستطع تفسيره - أن زوجها ليس بالمنزل.
كانت السيدة مالي امرأة سوداء الشعر رقيقة المظهر، ربما كانت في أوائل الأربعينيات، متسخة لكنها لا تخلو من مسحة جاذبية، مع تلك اللمسات العشوائية للأنوثة؛ كالخط الرفيع من طلاء الشفاه اللامع، والخفين المكسوين بالريش الوردي اللذين يغطيان قدمين ناعمتين متورمتين. كانت تتسم بالسلبية المتأرجحة، مع ذلك المظهر الموحي بالإرهاق والخوف الصامت، مما يعكس حياة أفنيت في الاعتناء الشديد برجل قوي وسريع الغضب ومتواكل. من المستحيل تحديد مقدار ما رأيته من هذه الملاحظات منذ الوهلة الأولى، ومقدار ما قررت بشأنه لاحقا، لكني اعتقدت بالفعل أن ليس لديها أطفال، فضغوط حياتها - أيا كانت - لم تسمح بذلك. وفي هذا الأمر لم أكن مخطئة.
كان واضحا أن الحجرة التي كنت منتظرة فيها مزيج ما بين حجرة معيشة ومكتب. كان أول الأشياء التي لاحظتها نماذج لسفن - من طراز الغليون، وسفن شراعية سريعة، وعابرات محيطات ضخمة - مرصوصة فوق الطاولات وأعتاب النوافذ والتلفاز. وفي الأماكن التي لا تتواجد بها نماذج السفن يوجد أصص نباتات ومجموعة مما يسمى في بعض الأحيان بالتحف «الذكورية»؛ رءوس غزلان من البورسلين، وخيول برونزية، وطفايات سجائر ضخمة من مادة معرقة براقة. وعلى الجدران، علقت صور فوتوغرافية وأشياء ربما كانت شهادات علمية موضوعة في براويز. في إحدى الصور يظهر كلب بودل وكلب بول دوج، يرتديان ملابس ذكورية وأنثوية، متخذين وقفة عاطفية بخجل حزين، ومكتوب على الصورة «أصدقاء العمر». مع ذلك، كانت ثمة صورة تستحوذ على الحجرة بإضاءتها وبروازها المطلي بالذهب؛ كانت الصورة لرجل وسيم أشقر في منتصف العمر، يجلس وراء مكتب، يرتدي بذلة عمل رسمية وتشع منه سيماء النجاح والتفاؤل واللطف. وأيضا، ربما بالنظر للأمر الآن، اتضح لي أن في الصورة شعورا واضحا بالارتباك كذلك، شيئا من فقدان الثقة تملك الرجل في هذا الدور الذي يؤديه، لديه تلك النزعة للانبساط بإسهاب وإصرار بالغين، وهذا - برغم كل شيء - ربما يؤدي إلى كارثة كما يعلم الجميع.
دعنا من آل مالي. ما إن رأيت ذلك المكتب حتى رغبت في استئجاره. كان أفسح مما أردت ومقسما بطريقة تلائم عيادة طبيب. (أخبرتني السيدة مالي بأسلوبها النادم الذي يضن بالمعلومات أن إخصائي تقويم العمود الفقري بالمعالجة اليدوية كان يعمل في هذا المكتب، لكنه غادره.) كانت الجدران باردة وجرداء، بيضاء مع شيء من اللون الرمادي، لتقليل أثر حدة اللون على العين. وبما أنه لا يوجد أطباء في المشهد، ولم يكن هناك لبعض الوقت، كما أخبرتني السيدة مالي بصراحة، عرضت عليها دفع خمسة وعشرين دولارا شهريا، فأخبرتني أن عليها التحدث مع زوجها.
عند قدومي في المرة التالية كان عرضي قد حظي بالقبول، والتقيت السيد مالي شخصيا. شرحت له - كما فعلت مع زوجته سابقا - أنني لست بحاجة إلى استخدام مكتبي أثناء ساعات العمل الاعتيادية، بل أثناء العطلات، وفي المساء أحيانا. سألني عن سبب احتياجي للمكتب، فأخبرته دون أن أتساءل أولا عما إذا كان يتعين علي قول إنني أمارس الكتابة الاختزالية.
استوعب الرجل المعلومة بروح مرحة وقال: «آه، أنت كاتبة.» «حسنا. نعم، أنا أكتب.»
قال بأسلوب ودود: «إذن سنبذل قصارى جهدنا لنضمن لك الشعور بالراحة هنا، فأنا رجل أعشق الهوايات أيضا، فكل نماذج السفن التي ترينها هذه أصنعها بنفسي في أوقات الفراغ، إنه أمر رائع لتهدئة الأعصاب؛ فالناس بحاجة إلى شغل أنفسهم بشيء لتهدئة أعصابهم. أحسب أن الأمر نفسه ينطبق عليك.» «شيء من هذا القبيل.» قلتها له موافقة إياه في تصميم، بل وشاعرة بالارتياح لأنه نظر إلى تصرفي في هذا الضوء المبهم المتسامح. على الأقل لم يسألني مثلما توقعت إلى حد ما عمن سيعتني بالأطفال، وعما إذا كان زوجي قد وافق. عشرة أعوام - أو ربما خمسة عشر عاما - أوهنت ذلك الرجل الذي يظهر بالصورة وزادته بدانة وهزمته بدرجة بالغة؛ فالآن تتراكم على أردافه وفخذيه كمية هائلة من الدهون، مما يجعله يتحرك متأوها حاملا كومة من الشحم اللين ومتثاقل الخطى في إرهاق أمومي، وقد بهت لون عينيه وشعره، وانطمست ملامحه، وتهافت التعبير اللطيف النهم إلى تعبير يعكس هوانا مزعجا وارتيابا مزمنا. لم أنظر إليه، ولم أخطط عند تفكيري في استئجار مكتب أن أحمل على عاتقي عبء التعرف إلى مزيد من الأشخاص. •••
انتقلت إلى المكتب في العطلة، دون مساعدة من عائلتي التي كان من الممكن أن تكون من اللطف لتقدم لي المساعدة. أحضرت آلتي الكاتبة وطاولة صغيرة قابلة للطي وكرسيا، إضافة إلى طاولة خشبية صغيرة وضعت فوقها موقدا كهربيا، وغلاية، ووعاء به قهوة سريعة التحضير، وملعقة وكوبا أصفر كبيرا بيد. هذا كل شيء. تأملت في رضى الجدران الجرداء، وقطع الأثاث الأساسية زهيدة القيمة، والغياب الملحوظ للأشياء التي تحتاج إلى التنظيف أو الغسل أو التلميع.
لم يكن المنظر سارا للغاية للسيد مالي، الذي طرق باب مكتبي بعد أن استقررت على الفور، وقال إنه يود شرح بعض الأمور لي؛ أمور تتعلق بفك المصباح في الحجرة الخارجية، التي لن أحتاجها، وعن جهاز التدفئة، وكيفية التعامل مع مظلة النافذة. تطلع في الأشياء حوله بأسى وحيرة وقال إن المكان غير مريح إطلاقا لسيدة.
قلت: «إنه يناسبني تماما.» ليس بأسلوب رادع كما أردت، لأنني دائما ما أميل إلى استرضاء الناس الذين لا أحبهم بغير سبب وجيه، أو ببساطة لسبب لا أود معرفته. في بعض الأحيان أقدم لهم قرابين منمقة من المجاملات، على أمل - ينم عن حماقة - أنهم سيرحلون ويتركونني وشأني. «إن ما تحتاجينه هو مقعد جميل مريح تجلسين عليه، فيما تنتظرين الوحي ليأتيك. لدي مقعد في القبو، لدي شتى الأشياء هناك منذ أن توفيت أمي العام الماضي. هناك أيضا سجادة صغيرة مطوية في زاوية ما، لا أحد يحتاج إليها. بإمكاننا إجراء بعض التحسينات في هذا المكان بحيث يكون أكثر راحة ودفئا لك.»
قلت له: لكن حقا، حقا أنا أحب هذا المكان على هذه الحال. «إذا أردت أيضا وضع مزيد من الستائر، فسأسدد لك ثمن لوازمها. إن المكان بحاجة إلى لمسة مبهجة، أخشى أن تصبحي سوداوية بجلوسك هنا.»
قلت: كلا، أنا واثقة من أن هذا لن يحدث. وضحكت. «لو كنت رجلا، لكان الأمر مختلفا؛ فالمرأة ترغب الأشياء أكثر دفئا قليلا.»
نهضت، وسرت باتجاه النافذة، ونظرت من بين شرائح الستارة المعدنية إلى الشارع الخاوي كعادته أيام الآحاد، لأتحاشى الضعف الاتهامي الذي يطل من وجهه السمين؛ وجربت الحديث بنبرة باردة كثيرا ما أسمعها تتردد في ذهني لكنها تواجه صعوبة بالغة في الخروج من فمي الجبان. «سيد مالي، من فضلك لا تزعجني بهذا الأمر أكثر من ذلك. أخبرتك أن المكان يلائمني. لدي كل ما أحتاج إليه. شكرا لك على إخباري بأمر المصباح.»
كان أثر كلامي مدمرا بما يكفي ليشعرني بالخجل. رد بكلمات مقتضبة وبحزن متحفظ: «بالطبع لم أتصور أنني أضايقك. لم أرغب عند تقديم تلك المقترحات إلا في راحتك الشخصية. لو أدركت أنني أشكل عائقا لك، لغادرت قبل ذلك.» عندما غادر شعرت بأنني أفضل حالا، بل وبقليل من البهجة لما حققته من نصر على الرغم من شعوري بالخجل للسهولة التي جرى بها الأمر. قلت في نفسي إنني كنت سأردعه عاجلا أو آجلا، وكان من الأفضل حدوث ذلك في البداية.
في عطلة نهاية الأسبوع التالية، طرق بابي، وقد تعاظم تعبير الإهانة على وجهه بدرجة كافية تقريبا ليبدو تعبيرا ساخرا - مع ذلك - من جانب آخر كان تعبيرا حقيقيا فشعرت بانعدام الثقة في نفسي.
قال: «لن آخذ سوى دقيقة من وقتك. لم أقصد أبدا أن أكون مصدرا للإزعاج. أنا لم أرد سوى إخبارك أنني آسف لمضايقتك في المرة الماضية وأعتذر لك. ليتك تقبلين هذه الهدية البسيطة.»
كان يحمل نبتة لم أعرف اسمها؛ كانت لها أوراق سميكة ولامعة، ومزروعة في أصيص ملفوف بإسراف في ورق قصديري وردي وفضي.
قال وهو يضع النبتة بتنسيق في إحدى زوايا الحجرة: «إذن، لا أريد أن يكون هناك أية مشاعر سلبية بيننا. أعترف بمسئوليتي عما حدث. وفكرت في أنك قد لا تقبلين قطع أثاث، لكن ما المانع من نبتة صغيرة جميلة، إنها ستضفي البهجة على المكان من حولك.»
كان من المستحيل في تلك اللحظة أن أخبره أنني لا أريد نباتا؛ إنني أكره النباتات المنزلية. أخبرني كيفية الاعتناء بها، وكم مرة ينبغي ريها وما إلى ذلك؛ شكرته. لم يكن بوسعي فعل شيء آخر، وترسخ لدي شعور منفر بأن وراء ما يقدمه من اعتذارات وهدايا إدراكا جيدا لموقفي هذا، وأن هذا بطريقة ما أشعره بالرضى. واصل حديثه، مستخدما كلمات «مشاعر سلبية»، «مستاءة»، «أعتذر». حاولت مرة مقاطعته، بنية أن أوضح له أنني قد أعددت لمنطقة في حياتي لا تدخلها مشاعر سلبية أو إيجابية، وأن بيني وبينه - في واقع الأمر - لا داعي لأية مشاعر من الأساس؛ لكن جال بخاطري أن هذه خطوة مستحيلة. كيف سأواجه علانية هذا التوق للتودد؟ هذا إلى جانب أن النبتة في ورقها اللامع تثير في شعورا بالحيرة.
قال لي بأسلوب من يضع كافة الاختلافات التعيسة بيننا وراء ظهره: «كيف تبلين في الكتابة؟» «أبلي فيها كالمعتاد.» «حسنا، إذا نفدت ذخيرتك من الأشياء التي تريدين الكتابة عنها يوما، فلدي مخزون هائل منها.» صمت برهة ثم قال بشيء من الابتهاج الأليم: «لكن أعتقد أنني أستنفد وقتك هنا.» كان ذلك اختبارا لي، لكني لم أجتزه. ابتسمت، محدقة في تلك النبتة، وقلت إنه لا بأس. «كنت أفكر توا في الرجل الذي مكث هنا قبلك. اختصاصي المعالجة اليدوية. كان بإمكانك تأليف كتاب عنه.»
اعتدلت متخذة وضعية إنصات، وتوقفت يدي عن الحوم فوق المفاتيح؛ حيث إنه إذا كان الجبن وعدم الصدق أسوأ عيوبي، فالفضول بالتأكيد عيب آخر. «لقد أسس عيادة ناجحة هنا، لكن المشكلة الوحيدة أنه كان يجري تقويمات أكثر من تلك المدرجة في كتاب تقويم العمود الفقري بالمعالجة اليدوية. أوه، كان يقوم جميع أجزاء الجسم. جئت إلى هنا بعد أن رحل وماذا وجدت في ظنك؟ أجهزة عازلة للصوت! كانت هذه الحجرة بكاملها مزودة بأجهزة عازلة للصوت، كي يجري عمليات التقويم دون أن يزعج أحد. هذه الحجرة التي تجلسين فيها لكتابة قصصك.
علمنا بالأمر للمرة الأولى عندما طرقت سيدة بابنا ذات يوم، وطلبت أن أعطيها المفتاح الرئيسي لعيادته؛ فقد أغلق الباب في وجهها.
أعتقد أنه قد سئم من معالجة حالتها. أعتقد أنه أدرك أنه أخذ يدق على عظامها لوقت طويل. كانت سيدة متقدمة في العمر، وهو لا يزال شابا. كانت له زوجة شابة جميلة وطفلان من أجمل الأطفال الذين يمكنك رؤيتهم. هذا جزء قذر من الأشياء التي تجري في هذا العالم.»
استغرقت بعض الوقت كي أدرك أنه لم يخبرني بتلك القصة من قبيل النميمة ببساطة، بل باعتبارها شيئا سيهتم أي كاتب بالاستماع إليه. كانت ثمة صلة لذيذة غامضة بين الكتابة والفسق في ذهنه. مع ذلك، حتى هذه الفكرة، بدت كئيبة للغاية، وطفولية للغاية، حتى إنه خطر ببالي أن في انتقادها إهدارا للطاقة. أدركت حينئذ أنني يجب أن أتحاشى إيذاء مشاعره إكراما لي، وليس له. لقد كان خطأ جسيما اعتقادي أن قليلا من الغلظة سيسوي الأمور. •••
كانت الهدية التالية إبريق شاي. أصررت على أنني لا أحتسي سوى القهوة، وطلبت منه أن يعطيه لزوجته. قال إن الشاي أفضل لتهدئة الأعصاب، وإنه قد أدرك على الفور أنني شخص عصبي، مثله. كان إبريق الشاي مطليا بالذهب ومزخرفا بالورود، أدركت أنه ليس زهيد الثمن، على الرغم من قبحه الشديد، واحتفظت به فوق الطاولة. كذلك واظبت على الاعتناء بالنبتة التي ترعرعت إلى حد مثير للاشمئزاز في زاوية حجرتي. لم أستطع تحديد ما يمكنني فعله أكثر من ذلك. ابتاع لي سلة مهملات، سلة فاخرة نقشت فاكهة اليوسفي الصينية على جهاتها الثماني، وأحضر لي وسادة مطاطية لأضعها على مقعدي. ازدريت نفسي لأنني استسلمت لهذا الابتزاز. إنني حتى لم أشفق عليه في الحقيقة؛ كل ما في الأمر أنني لم أستطع صده، لم أستطع صد ذاك الاشتهاء الذليل. وقد أدرك بنفسه أنه قد اشترى قدرتي على الاحتمال، بطريقة كان يجب أن يمقتني بسببها.
في ذلك الوقت، حينما كان يتلكأ في مكتبي، كان يخبرني قصصا عن نفسه، وتبادر إلى ذهني أنه يكشف لي عن حياته على أمل أن أكتبها. بالطبع، ربما يكون قد كشف عنها أمام كثيرين من الناس دون سبب معين، لكن في حالتي بدا أن ثمة ضرورة خاصة، بل وملحة. كانت حياته سلسلة من النكبات، كما هي حياة الناس في الغالب؛ فقد خذله أشخاص وضع ثقته بهم، ورفض مساعدته أشخاص اعتمد عليهم، وخانه نفس الأشخاص الذين أحسن إليهم وقدم لهم مساعدات مادية. وحمل آخرون - ممن لم يكونوا سوى غرباء وعابري سبيل - على عاتقهم تعذيبه بلا مبرر بأساليب جديدة ومبتكرة. بين الحين والآخر، تعرضت حياته للتهديد، فضلا عن ذلك، كانت زوجته إحدى صعوبات حياته، مع صحتها المعتلة ومزاجها المتقلب؛ فماذا كان بيده أن يفعل؟ قال لي وهو يرفع يده: «ها أنت ترين كيف تجري الأمور، لكني على قيد الحياة رغم كل شيء.» ونظر إلي لأوافقه الرأي.
بدأت ألجأ لصعود الدرج على أطراف أصابعي، محاولة إدخال المفتاح دون إصدار صوت؛ كان تصرفا أحمق بالطبع لأنني لا أستطيع كتم صوت الآلة الكاتبة. فكرت بالفعل في الكتابة بخط اليد، وتمنيت مرارا وجود ذلك الجهاز العازل للصوت الذي كان يملكه إخصائي المعالجة اليدوية البارع. أخبرت زوجي بالمشكلة، فقال إنها ليست بمشكلة على الإطلاق. قال لي: أخبريه بأنك منشغلة. في واقع الأمر أخبرته بذلك فعلا؛ في كل مرة كان يأتي إلى بابي - مسلحا على الدوام بهدية صغيرة أو عذر ما - ويسألني كيف حالي، أخبره أنني اليوم منشغلة، وحينها كان يقول وهو يجتاز الباب في سلاسة إنه لن يأخذ من وقتي أكثر من دقيقة. وطيلة الوقت - كما قلت - كان يعلم ما يدور بخلدي، وكم كنت أتوق في وهن إلى التخلص منه. كان يدرك ذلك لكنه لم يكن يعبأ بالأمر . •••
ذات مساء بعد أن عدت إلى المنزل اكتشفت أنني تركت في المكتب خطابا أنوي إرساله بالبريد؛ لذا عدت إلى المكتب لأحضره. من الشارع رأيت النور مضاء في الحجرة التي أعمل بها، ثم رأيته منحنيا فوق الطاولة القابلة للطي. بالطبع كان يأتي ليلا ويقرأ ما أكتبه!
سمع خطواتي عند الباب، وعندما دخلت كان يلتقط سلة المهملات خاصتي، وقال إن كل ما هنالك أنه فكر في ترتيب الأشياء هنا من أجلي، ثم خرج على الفور. لم أنبس ببنت شفة، لكنني وجدت نفسي أرتجف في غضب ورضى. كان عثوري على سبب عادل أعجوبة، بل كان نجدة لا تحتمل.
في المرة التالية التي أتى فيها عند بابي كنت قد أغلقته من الداخل. عرفت وقع أقدامه، وطرقته المتزلفة الودودة. واصلت الكتابة على الآلة الكاتبة بصوت مرتفع، مع التوقف بين لحظة وأخرى، كي يعلم أنني سمعته. ناداني باسمي، كما لو كنت أمارس عليه حيلة؛ عضضت على شفتي كي لا أجيبه. لكن، كما الحال دوما، سطا علي ذلك الشعور غير العقلاني بالذنب، لكنني واصلت الكتابة. في ذلك اليوم رأيت التربة قد جفت حول جذور النبتة؛ لكني تركتها.
لم أكن مهيأة لما حدث بعد ذلك. وجدت ورقة ملصقة على بابي، مكتوبا بها أن السيد مالي سيكون ممتنا كثيرا إذا حضرت إلى مكتبه. ذهبت على الفور لأنتهي من هذه المسألة. كان جالسا إلى مكتبه محاطا بدلائل مبهمة على نفوذه؛ تطلع إلي من بعيد، كما لو أنه مضطر إلى رؤيتي في ضوء جديد غير محبب إلى حد مؤسف، وبدا أن الحرج الذي ظهر عليه ليس لنفسه، بل لي أنا. بدأ حديثه قائلا - بتردد مصطنع إلى حد ما - إنه علم بالطبع عندما أجر لي المكتب أنني كاتبة. «لم أدع هذا الأمر يقلقني. على الرغم من أنني سمعت أمورا عن الكتاب والفنانين ومثل أولئك الأشخاص لم تبد لي مبشرة كثيرا. تعلمين هذه الأشياء التي أقصدها.»
كان هذا كلاما جديدا؛ لم أستطع التفكير إلى ما سيقود إليه. «لقد جئت إلي وقلت: سيد مالي أنا أريد مكانا أكتب فيه. صدقتك، وأعطيتك إياه. لم أطرح عليك أية أسئلة؛ فهذه طبيعة شخصيتي، لكن أتدرين كلما فكرت في الأمر - حسنا - زاد ميلي للتساؤل.»
قلت: «عم التساؤل؟» «وكذلك طريقة تعاملك، التي لم تسهم في بث الطمأنينة في قلبي؛ فأن تغلقي الباب على نفسك وترفضي الرد عمن يطرق باب مكتبك ليس بسلوك طبيعي يسلكه الشخص، ذلك إذا لم يكن هناك ما يخفيه. وليس بسلوك طبيعي بالمثل لشابة - تقول إن لديها زوجا وأطفالا - أن تمضي وقتها في القرع فوق آلة كاتبة.» «لكنني لا أعتقد أن ...»
رفع يده بإشارة عفو. «كل ما أطلبه الآن أن تتحلي بالوضوح والصراحة معي - أعتقد أنني أستحق هذا القدر منك - وإذا كنت تستخدمين هذا المكتب لأية أغراض أخرى، أو في أية أوقات أخرى غير معروفة، وتستضيفين أصدقاءك أو أيا من كانوا يأتون لزيارتك ...» «لا أدري ماذا تقصد.» «ثمة أمر آخر، أنت تدعين أنك كاتبة. إنني أقرأ كثيرا، لكني لم أر اسمك منشورا قط. ربما تكتبين تحت اسم آخر؟»
قلت: «كلا.»
قال بأسلوب ودود: «حسنا، لا أشك في أن هناك كتابا لم أسمع بأسمائهم. دعينا من هذا الأمر. كل ما عليك أن تعديني به هو ألا يكون ثمة مزيد من الخداع أو الحماقات، أو ما إلى ذلك، في ذلك المكتب الذي تشغلينه ...»
تأخر غضبي بعض الشيء، أعاقه حالة عدم التصديق الحمقاء التي كنت عليها. سمعت ما يكفي لأنهض وأسير عبر الردهة، بينما صوته يلاحقني، وأغلقت الباب. فكرت أن لا بد أن أرحل. لكن بعد أن جلست في حجرتي، ورأيت عملي أمامي، فكرت مجددا كم أحببت هذه الحجرة، وكيف أديت فيها عملا جيدا، وقررت ألا يجبرني أحد على الرحيل. شعرت، رغم كل شيء، أن الصراع بيننا وصل إلى طريق مسدود. بإمكاني رفض فتح الباب، ورفض النظر في الرسائل القصيرة التي يتركها لي، ورفض التحدث معه عندما نلتقي. لقد دفعت الإيجار مقدما وإذا رحلت الآن فمن المستحيل أن أسترد أي مبلغ متبق. عزمت على عدم الاكتراث. كنت أصطحب معي مخطوطتي كل ليلة، لأمنعه من قراءتها، والآن بدا أيضا أن هذا الإجراء الاحترازي تافه. ما الضير إذا قرأ المخطوط، هل هذا يزيد أهمية عن مرور فأر فوقه في الظلام؟ •••
وجدت رسائل قصيرة منه عند بابي عدة مرات بعد ذلك. اعتزمت عدم قراءتها، لكني دائما ما كنت أقرؤها. أضحت اتهاماته أكثر تحديدا. يقول إنه سمع أصواتا بحجرتي، وإن سلوكي يسبب الإزعاج لزوجته عندما تحاول أخذ قيلولة في فترة الظهيرة، (لم أحضر قط في فترات الظهيرة سوى في العطلة الأسبوعية!) وإنه عثر على زجاجة ويسكي في قمامتي.
تساءلت كثيرا حيال أمر إخصائي المعالجة اليدوية ذاك؛ فرؤية الكيفية التي تتشكل بها أساطير حياة السيد مالي ليست مريحة.
مع ازدياد نبرة الشر في الرسائل، توقفت مصادفات التقائنا. مرة أو مرتين رأيت ظهره المنحني - مكتسيا بإحدى كنزاته - يتوارى عند دخولي إلى الردهة. شيئا فشيئا تحولت علاقتنا إلى شيء خيالي تماما. الآن يتهمني، عبر رسائله القصيرة، بأنني أقيم علاقات مع أشخاص من «نوميرو سينك»؛ وهو مقهى يقع في الجوار، أعتقد أنه استحضر هذا المكان لأغراض رمزية. شعرت بأن لا شيء أكثر من ذلك سيحدث في الوقت الحالي، ستستمر الرسائل، سيصير محتواها أكثر بشاعة وعلى الأغلب أقل تأثيرا في.
وفي صبيحة أحد أيام الأحد، طرق بابي، في الحادية عشرة صباحا تقريبا. كنت قد وصلت توا وخلعت معطفي ووضعت الغلاية فوق الموقد الكهربي.
هذه المرة كان وجهه مختلفا - باردا ومتعاليا - يشع منه ذلك الضوء البارد للفرحة العارمة باكتشافه دلائل الخطيئة.
قال بانفعال: «ترى هل تمانعين أن تتبعيني إلى الناحية الأخرى من الردهة؟»
تبعته. كان النور مضاء في الحمام، كان هذا الحمام خاصا بي، ولم يكن أحد آخر يستخدمه، لكن السيد مالي لم يعطني مفتاحه، وكان الحمام مفتوحا على الدوام. توقف أمام الحمام ودفع الباب ووقف وهو ينظر إلى الأسفل، ويخرج زفيره بهدوء.
قال بصوت خالص الأسف: «الآن من فعل هذا؟»
كانت الجدران أعلى المرحاض وأعلى حوض الاستحمام مغطاة برسومات وتعليقات من قبيل تلك التي تراها في الحمامات العامة على الشواطئ، وفي مراحيض المجلس المحلي في البلدات المضمحلة الصغيرة كتلك التي نشأت فيها. كانت الرسوم والتعليقات مكتوبة بأحمر شفاه، كالعادة. دار بخلدي أن لا بد من أن شخصا صعد إلى هنا الليلة السابقة، ربما يكون شخصا من المجموعة التي تتسكع وتتجول دائما حول المركز التجاري في ليالي السبت.
قلت في برود وثبات كما لو أنني بذلك أتنصل من المشهد: «كان من المفترض أن يغلق، يا لها من فوضى!» «إنه مغلق بالفعل. إنها لغة بذيئة بالنسبة لي. ربما هي ليست سوى مزحة بالنسبة لأصدقائك، لكنها ليست كذلك لي. ناهيك عن الرسوم. يا له من منظر جميل ترينه عندما تفتحين أحد الأبواب في عقارك في الصباح!»
قلت: «أعتقد أن أحمر الشفاه سيزول بالغسيل.» «إنني مسرور لأن زوجتي لم تر شيئا كهذا. إنه أمر يثير حنق امرأة حظيت بتربية حسنة. الآن لم لا تطلبين من أصدقائك أن يقيموا حفلا هنا بالدلاء والفرش؟ أود أن أرى الأشخاص الذين يتمتعون بهذا الحس الفكاهي.»
استدرت لأمضي بعيدا، فتحرك أمامي بثقل. «لا أظن أن ثمة شكا حول الكيفية التي وصلت بها هذه النقوش إلى جدراني.»
قلت في فتور وضجر: «إذا كنت تريد أن تقول إن لي صلة بهذا الأمر، فلا بد أنك مجنون.» «كيف وصلت هذه النقوش إلى هنا إذن؟ لمن هذا المرحاض؟ لمن؟» «إنه بلا مفتاح. أي شخص بإمكانه الصعود إلى هنا ودخوله. ربما صعد بعض الصبية من الشارع إلى هنا وفعلوا ذلك الليلة الماضية بعد أن غادرت إلى المنزل، كيف لي أن أعرف؟» «إنه لشيء مؤسف أن نلقي باللوم على الصبية في كل شيء بهذه الطريقة، في حين أن الكبار هم من يفسدونهم. يمكنك تأمل هذا الأمر قليلا. هناك قوانين. قوانين مكافحة الفحشاء. تسري على مثل هذه الأمور، وعلى المطبوعات أيضا حسبما أظن.»
هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أذكر أنني تنفست فيها بعمق وبتعمد، لأغراض تتعلق بضبط النفس. لقد أردت قتله حقا. أذكر كم بدا وجهه رخوا ومثيرا للاشمئزاز، وعيناه مغلقتين تقريبا ، ومنخاره منفوشا مستنشقا رائحة الاستقامة المطمئنة، رائحة النصر. لو لم يحدث ذلك الشيء الأحمق، ما انتصر أبدا. لكنه انتصر. ربما رأى شيئا في وجهي أوهن عزيمته - رغم لحظة الانتصار هذه - إذ تراجع إلى الجدار، وبدأ يقول إنه حقيقة، في واقع الأمر، لم يشعر أنني يمكن أن أفعل مثل هذه الأشياء شخصيا، بل ربما يفعلها أصدقاء معينون لي - فما كان مني إلا أن دخلت حجرتي وأغلقت الباب.
كانت الغلاية تصدر ضجيجا مخيفا، فقد غلى الماء بها حتى تبخر كله تقريبا. جذبتها سريعا بعيدا عن الموقد، وجذبت القابس ووقفت لبرهة أختنق من فرط الغضب. مرت نوبة الانفعال هذه وفعلت ما توجب علي فعله من قبل؛ وضعت آلتي الكاتبة وأوراقي فوق المقعد وطويت الطاولة. أغلقت غطاء القهوة السريعة الذوبان بإحكام، ووضعت الوعاء والكوب الأصفر وملعقة الشاي في الحقيبة التي أحضرتها فيها؛ كانت لا تزال مطوية فوق الرف. تمنيت على نحو طفولي أن آخذ بثأري من أصيص النبات الموضوع بالركن بجانب البراد المزخرف بالزهور وسلة المهملات والوسادة، وأيضا - نسيت ذلك - مبراة أقلام بلاستيكية صغيرة موضوعة خلفه.
وفيما كنت أنزل الأشياء إلى السيارة جاءت السيدة مالي. لم أرها كثيرا منذ أول يوم جئت فيه إلى هنا. لم تبد منزعجة، بل بدت عملية ومذعنة.
قالت: «إنه مستلق. هو ليس على طبيعته.»
حملت الحقيبة التي بها القهوة والكوب. كانت هادئة للغاية لدرجة جعلتني أشعر بغضبي يغادرني، ليحل محله كآبة غامرة. •••
لم أعثر على مكتب آخر بعد. أظن أنني سأحاول مجددا يوما ما، لكن ليس الآن. علي الانتظار على الأقل حتى تنزوي تلك الصورة التي أراها بوضوح شديد في ذهني، رغم أنني لم أرها قط في الواقع: السيد مالي يحمل قطع قماش وفرشا ودلوا ممتلئا بالماء والصابون، ينظف بطريقته الخرقاء، طريقته الخرقاء المتعمدة، جدران المرحاض، وينحني بصعوبة، ويتنفس في أسى، ويرتب في ذهنه روايته الغريبة - التي لن يرضى عنها تماما بطريقة أو بأخرى - عن شخص آخر خان ثقته. وفي الوقت نفسه أنظم أنا كلماتي، بينما يدور بخلدي أن من حقي التخلص منه.
العلاج
لم يحتس والداي الشراب، لكنهما لم يكونا متشددين حيال الأمر، بل أذكر حين وقعت على عهد الامتناع عن الشراب وأنا في الصف السابع، مع بقية ذاك الصف الملقن على نحو ممتاز وإن كان مؤقتا؛ قالت أمي: «إنه محض هراء وتعصب أن يقوم بذلك أطفال في ذلك العمر.» كان من الممكن أن يحتسي أبي الجعة في يوم حار، لكن أمي لم تكن تنضم إليه في ذلك، إلى جانب أنه دائما ما كان يحتسي هذا الشراب «خارج» المنزل، سواء كان ذلك عن غير قصد أو لدلالة رمزية. أغلب الناس الذين عرفناهم كانوا على هذا المنوال، في البلدة الصغيرة حيث عشنا. لن أقول إن هذا الأمر هو ما أوقعني في صعوبات؛ إذ إن الصعوبات التي واجهتها كانت تعبيرا صادقا عن طبيعتي المثيرة للإزعاج؛ الطبيعة نفسها التي دفعت أمي للنظر إلي، في أية مناسبة تستدعي على نحو تقليدي مشاعر الفخر والشعور بإنجاز الأم (أقصد عند مغادرتي لأداء أول رقصة رسمية لي، أو التحضيرات المتعنتة للالتحاق بالكلية)، بتعبير يعكس يأسا يطاردها ولا تستطيع الفكاك منه، كما لو أنه لم يكن بإمكانها أن تتوقع - ولم تتمن - أن تصير الأمور معي مثلما صارت مع الفتيات الأخريات؛ فما تحلم به الفتيات من مغانم - أزهار الأوركيد، الشباب الجذابين، الخواتم الماسية - هي أشياء من الممكن أن يحملها بنات صديقاتها إلى منازلهن في الوقت المناسب، وليس أنا؛ كل ما بوسعها فعله هو تمني وقوع كارثة أخف وطأة من كارثة كبرى، على سبيل المثال، هروبي مع شاب لن يستطيع أبدا كسب قوت يومه، بدلا من اختطافي للاتجار بي في تجارة الرقيق البيض.
قالت أمي: لكن الجهل، أو السذاجة إن شئت، ليس شيئا طيبا على الدوام كما يعتقد الناس، ولست واثقة من أنه قد يكون مأمون العواقب لفتاة مثلك. ثم أكدت وجهة نظرها، كعادتها، باقتباس اتسم بتفاخر ساذج وطابع عتيق. لم أبد أية ردة فعل، مدركة تماما كيف أن أثر ذلك لا بد وأنه كان بالغا على السيد بيريمان.
لا بد أن الأمسية التي جالست فيها أطفال آل بيريمان كانت في شهر إبريل. كنت أمر بقصة حب طيلة العام، أو على الأقل منذ الأسبوع الأول من شهر سبتمبر، عندما ابتسم لي فتى يدعى مارتن كولينجوود ابتسامة إعجاب متفاجئة، تنم عن رضى مبالغ فيه على نحو ينذر بسوء، وذلك أثناء الاجتماع المدرسي. لم أعرف قط ما فاجأه، لم أكن بغير مظهري العادي؛ كنت أرتدي قميصا قديما، وتصفيفة شعري المموجة الثابتة كانت سيئة للغاية. بعد بضعة أسابيع من ذلك خرجت معه للمرة الأولى، وقبلني في الجانب المظلم من الشرفة الأمامية، يتعين علي قول إنه قبلني في فمي، أنا واثقة من أن هذه كانت المرة الأولى التي يقبلني فيها أحدهم بمثل هذه الطريقة المؤثرة على الإطلاق، وأعلم أيضا أنني لم أغسل وجهي تلك الليلة أو في صباح اليوم التالي، كي أحافظ على آثار تلك القبلات كما هي. (أظهرت أكثر السخافات إيلاما في سير هذه العلاقة برمتها، كما سترى.) بعد شهرين، وبعد بضع مراحل غرامية قطعناها، هجرني؛ فقد وقع في غرام الفتاة التي لعبت دور البطولة معه في مسرحية عيد الميلاد «كبرياء وتحامل».
قلت إنني لن أشارك في الإعداد لتلك المسرحية، وأتيت بفتاة أخرى لوضع مساحيق التجميل بدلا مني، ومع ذلك ذهبت لمشاهدة المسرحية بالطبع، وجلست في الصف الأمامي مع صديقتي جويس، التي كانت تشد على يدي عندما ينتابني الألم والبهجة لرؤية السيد دارسي في بنطاله الأبيض الضيق، والصديري الحريري، وسالفتيه الطويلتين. كانت رؤية مارتن يؤدي دور السيد دارسي ما أثر في بالتأكيد؛ فجميع الفتيات تحب السيد دارسي على أية حال، كما أضفى الدور على مارتن غرورا ورونقا ذكوريا في عيني، الأمر الذي جعل من المستحيل تذكر أنه ليس سوى فتى في السنة النهائية من المدرسة الثانوية، وسيم إلى حد مقبول، متوسط الذكاء (وله سمعة تشوبها بعض الشوائب، بسبب تفضيله لنادي الدراما والفرقة الموسيقية العسكرية للمبتدئين)، تصادف أنه أول فتى، أول فتى حسن المظهر حقيقة، يظهر اهتماما بي. في الفصل الأخير يحظى بفرصة لعناق إليزابيث (ماري بيشوب، ذات البشرة الباهتة والقوام الدميم، ولكن لها عينين كبيرتين نابضتين بالحياة)، وخلال ذلك اللقاء الواقعي غرست أظافري بمرارة في راحة جويس التي كانت ممسكة بيدي.
مثلت تلك الليلة البداية لشهور من البؤس الحقيقي، الذي ألحقته بنفسي بطريقة أو بأخرى. لماذا ننجذب إلى الإشارة إلى هذا الضرب من الأمور باستخفاف وتهكم بل وبدهشة، لدى اكتشاف أن المرء مثقل بتلك المشاعر السخيفة في الماضي غير المسئول عنه؟ هذا ما ننزع إلى فعله عند الحديث عن الحب؛ أما حب المراهقة، فبالطبع الأمر حتمي غالبا؛ ستظن أننا كنا نجلس في فترات ما بعد الظهيرة المثيرة للضجر، نسلي أنفسنا بتلك الذكريات المثيرة من الألم. لكن لا يشعرني بالسعادة حقيقة - بل والأسوأ، لا يدهشني فعلا - أن أتذكر تلك الأشياء الحمقاء والحزينة والمخجلة إلى حد ما التي فعلتها، والتي يفعلها من يقع في الحب دوما. تسكعت حول الأماكن التي ربما يوجد بها، ثم تظاهرت بعدم رؤيته، وفي محادثاتي اقتربت عدة مرات بطرق غير مباشرة على نحو سخيف من ذكر اسمه عرضا، مستمتعة بما يصاحب ذلك من لذة مريرة. رأيته في أحلام اليقظة مرات لا حصر لها، في واقع الأمر إذا أردت التعبير عن المسألة حسابيا، فربما أمضيت من الساعات الطوال في التفكير في مارتن كولينجوود عشرة أمثال الوقت الذي أمضيته معه على الإطلاق. أجل، أمضيتها أتحرق شوقا إليه وأذرف الدموع من أجله. هيمنت فكرة وجوده على فكري بضراوة، وبعد برهة، رغما عني. فإذا كنت بالغت بشدة في مشاعري في البداية، فقد أتى الوقت الذي سأشعر بسعادة الفرار من تلك المشاعر، فقد أضحت أحلام اليقظة المبتذلة محزنة ولم تعد حتى تواسيني بصفة مؤقتة. وفيما أحل المسائل الرياضية كنت أعذب نفسي - بصورة روتينية تماما وأنا مغلوبة على أمري - بذكرى مارتن بتفاصيلها وهو يقبل عنقي. كانت لدي ذكرى تفصيلية عن «كل شيء». ذات ليلة اجتاحتني رغبة ملحة لابتلاع كافة أقراص الأسبرين الموجودة بخزينة الحمام، لكنني توقفت بعد أن ابتلعت ستة أقراص. •••
لاحظت أمي أن ثمة خطبا ما وأعطتني بعض أقراص الحديد. قالت: «هل أنت واثقة أن كل شيء على ما يرام بالمدرسة؟» المدرسة! وعندما أطلعتها بشأن انفصالي أنا ومارتن، كل ما قالته كان: «حسنا، هذا أفضل كثيرا. لم أر مطلقا فتى مفتونا بنفسه هكذا.» قلت متجهمة: «إن مارتن يملك من الغرور ما يكفي لإغراق سفينة حربية.» ثم صعدت إلى أعلى وأخذت أبكي.
كانت الليلة التي ذهبت فيها إلى آل بيريمان ليلة سبت. عملت كجليسة أطفال لديهم مرات كثيرة ليالي السبت لأنهما أحبا التنزه بالسيارة إلى بايلي فيل - وهي بلدة أكبر كثيرا ونابضة بالحياة أكثر، تبعد ما يقرب من عشرين ميلا - وربما تناولا العشاء وشاهدا عرضا فنيا. عاش آل بيريمان في بلدتنا منذ عامين أو ثلاثة أعوام فقط؛ أحضر السيد بيريمان للعمل كمدير وحدة بمصنع الأبواب الجديد، ومكث هو وأسرته، باختيارهم على حد اعتقادي، وعاشوا غرباء على المجتمع؛ أغلب أصدقائهما كانوا أزواجا صغار السن مثلهما، ولدوا في أماكن أخرى، وعاشوا في منازل على طراز منازل المزارع فوق تلة خارج البلدة حيث اعتدنا الذهاب للتزلج. في ليلة السبت تلك كانا قد دعوا زوجين آخرين لاحتساء الشراب قبل أن يتوجهوا معا إلى بايلي فيل لحضور افتتاح نادي عشاء جديد، كانوا جميعا مبتهجين إلى حد ما. جلست أنا في المطبخ وتظاهرت بأنني أستذكر دروس اللاتينية. في الليلة الماضية كان «حفل الربيع الراقص» بالمدرسة الثانوية. لم أذهب إلى الحفل، بما أن الفتى الوحيد الذي طلب مرافقتي كان ميلارد كرومبتون، والذي طلب كذلك من الكثير من الفتيات مرافقته، حتى إننا شككنا في أنه يتقرب إلى فتيات الصف بأكمله بترتيب الحروف الأبجدية. أقيم الحفل الراقص في أرموريز، والذي كان لا يبعد سوى نصف شارع عن منزلنا، استطعت رؤية الأولاد وهم يرتدون البذلات الداكنة، والفتيات يرتدين ثياب المناسبات الطويلة الفاتحة اللون تحت المعاطف، وهم يمرون برزانة أسفل مصابيح الشارع، ويتجنبون آخر ندف الثلج. بل إنني تمكنت من سماع الموسيقى ولم أنس حتى هذا اليوم أنهم عزفوا أغنية «راقصة الباليه»، وكذلك - أغنية قلبي المتألم - «قارب بطيء إلى الصين». هاتفتني جويس هذا الصباح وأخبرتني بطريقتها السرية (كما لو كنا نتحدث عن داء مستعص أعاني منه) أن إم كيه كان بالفعل برفقة إم بي بالحفل، وكانت ترتدي ثوب مناسبات لا بد وأنه مصنوع من مفرش مائدة أحدهم بلونه الأصفر الباهت، وكان متهدلا عليها ليس إلا.
عندما خرج آل بيريمان وأصدقاؤهم، دخلت أنا إلى حجرة المعيشة وقرأت مجلة. كنت يائسة على نحو قاتل. كانت الحجرة الفسيحة خافتة الإضاءة، بألوانها الخضراء والبنية كأوراق الشجر، خلفية بسيطة لتطور المشاعر، وكأنك ستصعد إلى خشبة المسرح مثلا. في المنزل كانت المشاعر على ما يرام، لكن بدا دائما أنها تدفن تحت أكوام الملابس التي بحاجة إلى رتق، إضافة إلى الكي، وترتيب أحجيات الصور وجمع الصخور مع الأطفال. كان المنزل من النوع الذي يحتك فيه الأفراد دائما أحدهم بالآخر عند الدرج، ويستمعون إلى مباريات الهوكي وحلقات سوبرمان في المذياع.
نهضت من مكاني ووجدت نسخة من «رقصة الموت» خاصة بآل بيريمان، فوضعتها على مشغل الموسيقى وأطفأت ضوء حجرة المعيشة. كانت الستائر مسدلة جزئيا. لمع ضوء من الشارع على نحو مائل على زجاج النافذة، مشكلا مستطيلا ذهبيا رفيعا خافت اللون، تتحرك داخله ظلال الأغصان العارية التي أدركتها رياح الربيع العليلة القوية. كانت ليلة متوسطة العتمة حين تذوب آخر الثلوج. منذ عام مضى كانت كل هذه الأشياء - الموسيقى، والرياح والظلمة، وظلال الأغصان - تمدني بسعادة هائلة، لكنها لا تفعل ذلك الآن، بل تستدعي داخلي أفكارا مألوفة مللت منها، وشخصية على نحو مهين، فيتملكني اليأس، وأدخل إلى المطبخ وأقرر أن أثمل.
كلا، لم يكن الأمر كذلك. دخلت إلى المطبخ لأبحث عن مشروب الكولا أو شيء من هذا القبيل في الثلاجة، لأجد هناك فوق مقدمة الطاولة ثلاث زجاجات طويلة جميلة، جميعها ممتلئة إلى نصفها تقريبا بمشروب أصفر، لكن حتى بعد أن نظرت إليها ورفعتها لاستشعار وزنها لم أكن قد قررت أن أثمل بعد؛ وهنا قررت أن أحتسي شرابا.
في تلك اللحظة ظهر جهلي، سذاجتي الكارثية. صحيح أنني رأيت آل بيريمان وأصدقاءهم يحتسون الخمر كما أحتسي أنا المشروبات الغازية، لكنني لم أطبق هذا السلوك على نفسي، بل نظرت إلى المشروبات الكحولية باعتبارها شيئا يشرب في أوقات المحن، ويوكل إليه الوصول إلى نتائج متهورة، بطريقة أو بأخرى. وما كان موقفي ليكون أقل عفوية حتى لو كنت الحورية الصغيرة التي تحتسي الإكسير الشفاف الذي أعطته إياها الساحرة. وبعد نظرة إلى وجهي العازم بالنافذة السوداء أعلى الحوض، صببت القليل من الويسكي من كل زجاجة (أعتقد الآن أن الزجاجات كانت تحوي نوعين من ويسكي الجاودار ونوعا من الويسكي الاسكتلندي باهظ الثمن) حتى امتلأت كأسي، ولما لم أر في حياتي أحدا يصب الخمر، لم تكن لدي فكرة أن الناس في العادة يخففون الشراب بالماء أو الصودا وغير ذلك، وقد رأيت الكئوس التي يحملها ضيوف آل بيريمان ممتلئة تقريبا عندما كنت أمر بحجرة المعيشة.
احتسيت الكأس كلها بأسرع ما يمكن، ثم وضعت الكأس ووقفت أنظر إلى وجهي في النافذة، في شبه توقع أن أراه مختلفا. شعرت بحرقة في حلقي، لكنني لم أشعر بأي شيء آخر. كانت خيبة أملي كبيرة، بعد أن هيأت نفسي للأمر، لكنني لم أكن لأدع الأمر يقف عند هذا الحد. صببت كأسا ممتلئة أخرى، ثم ملأت كل زجاجة بالماء حتى المستوى الذي رأيتها عنده تقريبا عندما أتيت. احتسيت الكأس الثانية على نحو أبطأ قليلا من المرة السابقة. أنزلت الكأس الفارغة فوق الطاولة بعناية، ربما شعرت في رأسي بمجموعة متداخلة من الأشياء تحدث، فذهبت وجلست فوق كرسي بحجرة المعيشة. مددت ذراعي وأشعلت ضوء أباجورة أرضية بجانب الكرسي، وشعرت بأن الحجرة تنقلب فوقي. •••
عندما قلت إنني توقعت نتائج متهورة لم أقصد أنني توقعت هذا. فكرت في حدوث تغير عاطفي عارم، زيادة مفاجئة في الشعور بالسعادة وانعدام المسئولية، شعور بالجموح والانصراف عن الواقع، يصاحبه دوار خفيف وربما رغبة في الضحك بصوت عال. لم يطرأ بذهني أن السقف سيدور كأنه صحن ضخم قذفه أحدهم تجاهي، ولا أن تنتفخ البقع ذات اللون الأخضر الفاتح بالكرسي وتلتقي لتتفتت، فتلعب معي لعبة حافلة بقدر هائل من العداء الجامد العديم المعنى. تراجع رأسي إلى الخلف وأغلقت عيني. فتحتهما على الفور، فتحتهما محملقة بهما، ودفعت نفسي من فوق الكرسي وعبرت الردهة ووصلت - حمدا لله! حمدا لله! - إلى حمام آل بيريمان، حيث شعرت بالإعياء في كل أجزاء جسدي، في كل أجزاء جسدي، وسقطت على الأرض كالحجر.
ومنذ تلك اللحظة فصاعدا، لم يكن لدي تصور ثابت عما حدث؛ فذكرياتي عن الساعة أو الساعتين التاليتين انقسمت إلى أجزاء حية وأخرى غير محتملة الحدوث، ولا شيء سوى ضبابية وريبة بينهما. أتذكر بالفعل استلقائي فوق أرضية الحمام أنظر بزاوية جانبية إلى البلاط الأبيض السداسي الجوانب، والذي امتد في نمط منطقي وجذاب للغاية، أنظر إليه بامتنان متقطع مقتضب وبسلامة شخص مزقه القيء إلى أشلاء توا. ثم أذكر جلوسي أمام هاتف الردهة، أطلب بوهن رقم هاتف جويس. لم تكن جويس بالمنزل. أخبرتني أمها (امرأة حمقاء إلى حد ما، لم يبد أنها لاحظت أي شيء؛ الأمر الذي جعلني أشعر بامتنان تلقائي وواهن) أنها تمكث بمنزل كاي سترينجر. لم أعرف رقم كاي لذا طلبته من عامل الهاتف؛ شعرت أنني لا أستطيع المجازفة بالنظر في دليل الهاتف.
لم تكن كاي سترينجر صديقة لي، لكنها كانت صديقة جديدة لجويس. كانت لها سمعة غامضة عن سلوكها الجامح، وكانت تضع ضفيرة طويلة ملونة، على نحو غريب للغاية، وإن كان طبيعيا، بصفرة الصابون وبنية الكراميل. كانت تعرف الكثير من الشباب ممن هم أكثر إثارة من مارتن كولينجوود، شباب انقطعوا عن الدراسة أو استقدموا إلى البلدة للعب ضمن فريق الهوكي. ركبت هي وجويس في سيارات هؤلاء الشبان، وأحيانا ما ذهبتا برفقتهم - بعد أن كذبت كلتاهما على أمهما بالطبع - إلى قاعة رقص «جاي لا» التي تقع على الطريق السريعة شمال البلدة.
تحدثت مع جويس على الهاتف، كانت متوترة للغاية، كما هي دوما عندما يكون هناك شباب من حولها، وبدت أنها تسمع بالكاد ما أقول.
قالت: «لا أستطيع الليلة. بعض الشباب هنا. سنلعب الورق. تعرفين بيل كلاين؟ إنه هنا . روس أرمور ...»
قلت وأنا أحاول أن أنطق الكلمات بوضوح: «أنا «مريضة».» لكنها خرجت كحشرجة غير آدمية، «أنا ثملة يا جويس!» ثم تهاويت من فوق المقعد الصغير وسقطت سماعة الهاتف من يدي، وأخذت ترتطم على نحو بائس بالجدار لبرهة.
لم أخبر جويس بمكاني؛ لذا بعد أن فكرت جويس في الأمر للحظة هاتفت أمي، وبعد استخدامها لحيلة متقنة غير ضرورية تستمتع بها الفتيات الصغار، عرفت بمكاني. خرجت هي وكاي والفتية - كان هناك ثلاثة فتيان - وأخبروا والدة كاي بقصة ما حول المكان الذي سيذهبون إليه وصعدوا إلى السيارة وانطلقوا. عثروا علي ممددة فوق السجاد الواسع النسيج بالردهة. شعرت بالغثيان مجددا، وفي تلك المرة لم أنجح في الوصول إلى الحمام.
اتضح أن كاي سترينجر، التي لم تصل إلى المكان إلا من قبيل المصادفة، هي الشخص الذي احتجت إليه بالضبط. كانت تحب الأزمات، لا سيما الأزمات من هذا القبيل، التي تحمل سمة الشبهة والفضيحة والتي يجب إخفاؤها عن الكبار. أضحت متحمسة وجريئة وفعالة، تلك الطاقة التي اصطلح على تسميتها بالجموح كانت ببساطة فيضا لغريزة أنثوية هائلة لإدارة الأمور والمواساة والتحكم. استطعت سماع صوتها موجها نحوي من الاتجاهات كافة، تخبرني بألا أقلق، وتخبر جويس بأن تعثر على أكبر إبريق قهوة بالمنزل وتملأه بالقهوة (قهوة مركزة كما أخبرتها)، وأخبرت الفتية بأن يمسكوا بي ويحملوني إلى الأريكة. فيما بعد، في ضبابية الأحداث التي تتجاوز إدراكي، كانت تصيح في طلب فرشاة تنظيف.
بعد ذلك كنت مستلقية فوق الأريكة، ومغطاة بشيء يشبه الوشاح مصنوع من النسيج المحبوك وجدوه بحجرة النوم. لم أرغب في رفع رأسي. امتلأ المنزل برائحة القهوة. دخلت جويس شاحبة الوجه؛ قالت إن الأطفال استيقظوا لكنها أعطتهم الكعك المحلى وأمرتهم بالعودة إلى فراشهم، وسار الأمر على ما يرام، كما لم تدعهم يخرجون من حجرتهم، ولا تعتقد أنهم سيتذكرون. قالت إنها وكاي نظفتا الحمام والردهة إلا أنها تخشى من وجود بقعة على السجاد.
أصبحت القهوة جاهزة. لم أع شيئا بصورة جيدة. شغل الفتية المذياع وكانوا يقلبون في مجموعة أسطوانات آل بيريمان، بعد أن وضعوها فوق الأرضية. شعرت بأن هناك شيئا غريبا حيال هذا الأمر، لكنني لم أستطع التفكير في ماهيته.
أحضرت كاي كوبا كبيرا ممتلئا بالقهوة.
قلت: «لا أدري إن كان باستطاعتي احتساء القهوة. شكرا لك.»
قالت في حماسة وكأن التعامل مع أشخاص ثملين أمرا روتينيا «اجلسي.» ولم أكن بحاجة إلى الشعور بالأهمية. (سمعت نبرة الصوت تلك وميزتها بعد سنوات في جناح الولادة.) وقالت: «اشربي الآن.» شربت القهوة، وأدركت في الوقت نفسه أنني كنت أرتدي لباسي الداخلي فقط؛ فقد نزعت جويس وكاي قميصي وتنورتي، ونظفتا التنورة وغسلتا القميص، لما كان قميصي من النايلون، علقتاه في الحمام. جذبت الوشاح لأعلى تحت ذراعي فضحكت كاي. قدمت القهوة للجميع. أحضرت جويس إبريق القهوة، وبأمر من كاي أخذت تملأ كوبي كلما شربت منه. أخبرني أحدهم باهتمام: «لا بد أنك أردت أن تثملي.»
قلت بطريقة عابسة إلى حد ما وأنا أحتسي القهوة في إذعان: «كلا، لقد احتسيت كأسين فقط.»
ضحكت كاي: «حسنا لا بد أنهما أثرا فيك. أؤكد ذلك. متى تتوقعين عودتهما؟» «في وقت متأخر، بعد الساعة الواحدة حسبما أظن.» «ستكونين على ما يرام حينها. احتسي المزيد من القهوة.»
بدأت كاي ترقص مع أحد الفتية على أنغام المذياع. رقصت كاي بطريقة مثيرة للغاية، لكن اعتلت وجهها تلك النظرة المتساهلة والمتفوقة على نحو رقيق، والتي كانت باردة حين كانت ترفعني لاحتساء القهوة. كان الفتى يهمس إليها فتبتسم وتهز رأسها. قالت جويس إنها تشعر بالجوع، واتجهت نحو المطبخ لترى ماذا يوجد به؛ رقائق بطاطس أو مقرمشات، أو شيء من هذا القبيل، مما يمكن تناوله دون ترك أثر ملحوظ. اتجه بيل كلاين نحوي وجلس فوق الأريكة إلى جانبي، وربت على ساقي من فوق الوشاح المحبوك. لم ينطق بكلمة، فقط ربت فوق ساقي ونظر إلي بما بدا لي تعبيرا أحمق للغاية، ومقززا إلى حد ما، وسخيفا ومفزعا. شعرت بالانزعاج للغاية؛ وتساءلت كيف يقال إن بيل كلاين جذاب للغاية، بذلك التعبير على وجهه. حركت ساقي في توتر فرمقني بنظرة ازدراء، دون أن يتوقف عن التربيت. جاهدت لأقوم من فوق الأريكة بعد ذلك، وجذبت الوشاح حولي، عازمة على الذهاب إلى الحمام لأرى ما إذا كانت جفت سترتي. ترنحت قليلا عندما بدأت السير، ولسبب ما - ربما لأظهر لبيل كلاين أنه لم يثر ذعري - بالغت في الأمر على الفور، وصحت: «انظروا إلي وأنا أسير في خط مستقيم!» ترنحت وتعثرت تجاه الردهة، تصاحبني ضحكات الجميع. كنت أقف بالمدخل بين الردهة وحجرة المعيشة عندما استدار مقبض الباب بنقرة مقتضبة مألوفة، وساد الصمت كل شيء من خلفي باستثناء المذياع بالطبع، وانزلق الوشاح المحبوك بإيعاز من خبث، من تلقاء نفسه، حتى قدمي، وهناك - أوه، لحظة جذل في مسرحية هزلية محبوكة جيدا! - وقف آل بيريمان، السيد والسيدة بيريمان، يعلو وجهيهما تعبير ملائم للموقف، كما سيتمنى أي مخرج عتيق الطراز للمسرحيات الهزلية أن يراه على وجوه ممثليه. لا بد أنهما كانا متأهبين بتلك التعبيرات، فمن المؤكد أنهما لن يظهرا تلك التعبيرات في لحظة الصدمة الأولى، فمع الضجيج الذي كنا نصدره، لا شك أنهما سمعونا حالما ترجلا من السيارة، وهو السبب نفسه الذي حال دون سماعنا لهما. لا أظن أنني علمت قط سبب حضورهما إلى المنزل في وقت مبكر للغاية - شعورهما بالصداع، نشوب شجار! - ولم أكن حقيقة في موقف يؤهلني لسؤالهما. •••
أقلني السيد بيريمان بسيارته إلى منزلي. لا أذكر كيف دخلت إلى السيارة، أو كيف عثرت على ملابسي وارتديتها، أو كيف قلت طابت ليلتك، إن كنت قلتها في الأساس، للسيدة بيريمان. لا أذكر ما حدث لأصدقائي، رغم ذلك أتصور أنهم جمعوا معاطفهم ولاذوا بالفرار، ويخفون مهانة رحيلهم بأن عمدوا إلى الزوم في تحد. أذكر جويس وهي تحمل علبة المقرمشات في يدها، تقول إنني أصبت بإعياء شديد من الطعام - أذكر أنها قالت الملفوف اللاذع - على العشاء، وإنني اتصلت بها لنجدتي. (عندما سألتها فيما بعد ماذا فهموا من ذلك قالت: «كان بلا جدوى، كان ينبعث منك «رائحة كريهة».») أذكر أيضا أنها قالت: «أوه، لا، سيد بيريمان، أتوسل إليك، إن أمي شخص حاد المزاج بدرجة هائلة، لا أدري ماذا يمكن أن تسبب لها الصدمة. سأركع لك إذا شئت لكن «لا تتصل بأمي».» لا أذكر أنها ركعت على ركبتيها - وكانت لتفعل ذلك على الفور - لذا يبدو أن هذا التهديد لم ينفذ.
أخبرني السيد بيريمان: «حسنا، أعتقد أنك تدركين أن سلوكك الليلة هو أمر غاية في الخطورة.» جعل الأمر يبدو وكأنني سأتهم بالإهمال الجنائي أو شيئا أسوأ من ذلك. وقال: «سأكون مخطئا للغاية إن غضضت الطرف عما حدث.» أعتقد أنه إلى جانب شعوره بالغضب والاشمئزاز مني، كان قلقا حيال أخذي إلى المنزل في هذه الحالة إلى والدي المتزمتين، اللذين سيقولان إنني كنت أحتسي الخمر دوما بمنزله. الكثير من أرباب الاعتدال في شرب الخمر سيظنون هذا ويلقون باللوم على السيد بيريمان، وكانت البلدة تعج بأرباب الاعتدال في شرب الخمر. كانت العلاقات الطيبة مع أهل البلدة أمرا مهما للغاية له من الناحية العملية.
قال: «أفكر في أنها ليست المرة الأولى، فإذا كانت المرة الأولى، فهل ستتمتع أي فتاة بالذكاء الكافي لملء الزجاجات الثلاث بالماء؟ كلا. حسنا، في هذه الحالة، كانت ذكية بما يكفي، لكن ليس بالقدر الكافي لمعرفة أنني سأكتشف الأمر. ما رأيك في هذا؟» فتحت فمي للإجابة، ورغم شعوري بأنني في كامل وعيي، فإنه لم يخرج من فمي سوى صوت قهقهة عالية بطنين بائس. توقف أمام منزلنا. قال: «الأضواء مشتعلة بالمنزل. الآن ادخلي وأخبري والديك بالحقيقة الكاملة. وإذا لم تفعلي، فتذكري أنني سأفعل ذلك.» لم يذكر شيئا يتعلق بدفع النقود مقابل خدمات مجالسة الأطفال عن هذه الأمسية، ولم يطرأ الأمر بذهني أيضا.
دخلت المنزل وحاولت أن أصعد مباشرة إلى الطابق العلوي، لكن أمي نادتني. دلفت إلى الردهة الأمامية، حيث لم أشعل الضوء. لا بد وأنها اشتمت رائحتي على الفور لأنها هرعت إلى الأمام مطلقة صرخة اندهاش تام، كما لو أنها رأت شخصا يسقط، وأمسكتني من كتفي حيث كنت سأسقط بالفعل من فوق درابزين الدرج، وأنا يغمرني الشعور بتعاسة حظي العجيبة، وأخبرتها بكل شيء من البداية ، دون أن أغفل ذكر اسم مارتن كولينجوود ومحاولة انتحاري غير الجدية بالأسبيرين، والتي كانت خطأ.
في صباح يوم الإثنين استقلت أمي الحافلة المتجهة إلى بايلي فيل، وسألت عن متجر خمور وابتاعت لي زجاجة من الويسكي الاسكتلندي، ثم اضطرت إلى انتظار حافلة تعيدها إلى المنزل، والتقت ببعض الناس الذين تعرفهم ولم تكن قادرة تماما على إخفاء الزجاجة في حقيبتها؛ شعرت بالحنق من نفسها لأنها لم تحضر حقيبة تسوق ملائمة. وبمجرد أن عادت، ذهبت إلى منزل آل بيريمان؛ لم تتناول وجبة الغداء حتى. لم يكن السيد بيريمان قد عاد إلى المصنع. دخلت أمي وتحدثت مع كليهما وتركت انطباعا ممتازا لديهما، ثم أقلها السيد بيريمان إلى المنزل بسيارته. تحدثت معهما بأسلوبها الهادئ والصريح، والذي دائما ما كان يثير الدهشة على نحو مستحب لدى أشخاص مهيئين للتعامل مع أم، كما أخبرتهما أنه رغم أنني فيما يبدو أبلي بلاء حسنا في المدرسة، فقد كنت متأخرة للغاية - أو ربما غريبة الأطوار - في تطوري العاطفي. تصورت أن هذا التحليل لسلوكي كان فعالا على نحو استثنائي للسيدة بيريمان، التي كانت قارئة نهمة لكتب توجيه الأطفال. توطدت العلاقة بين أمي وآل بيريمان إلى الحد الذي جعلها تثير مثالا محددا للصعوبات التي أمر بها، فروت على نحو استرضائي قصة مارتن كولينجوود كاملة.
في غضون بضعة أيام انتشر خبر أنني حاولت الانتحار حزنا على مارتن كولينجوود في أرجاء البلدة والمدرسة، وانتشرت بالفعل كذلك قصة حضور السيد بيريمان وزوجته إلى المنزل ليلة سبت، وأنهما وجداني ثملة ومترنحة، ولا أرتدي شيئا سوى لباسي الداخلي، في حجرة بها ثلاثة فتية، كان بيل كلاين من ضمنهم. أخبرتني أمي أنني سأسدد ثمن زجاجة الخمر التي أخذتها إلى آل بيريمان من دخلي من مجالسة الأطفال، لكن عملائي تلاشوا كما تلاشت آخر ثلوج إبريل، وما كنت سأسدد ثمنها إلى الآن لولا أن الوافدين الجدد إلى البلدة انتقلوا للسكنى قبالتنا في الشارع في شهر يوليو، واحتاجوا جليسة أطفال قبل أن يتحدثوا إلى أي أحد من جيرانهم.
قالت أمي أيضا إنها ارتكبت خطأ فادحا بالسماح لي بالخروج برفقة الفتية، وإنني لن أخرج مجددا حتى أتجاوز عامي السادس عشر بفترة طويلة. تبين أن ذلك لم يكن بمأزق حقيقي مطلقا؛ نظرا لأنه لم يطلب أحد الخروج معي طيلة تلك الفترة على الأقل. إذا خلت أن أخبار مغامرة آل بيريمان جعلت مني شخصا مطلوبا في حفلات اللهو والحفلات الماجنة التي كانت تقام في البلدة ومن حولها، فأنت مخطئ للغاية، فالشهرة الاستثنائية التي صاحبت حفلتي الماجنة الأولى ربما جعلتني أبدو موسومة بنوع خاص من سوء الحظ، مثل الفتاة التي تبين أنها حبلى على نحو غير شرعي في ثلاثة توائم؛ فلا يود أحد أن تجمعه علاقة بها. على أية حال لم يتصل أحد بي على الإطلاق، واكتسبت السمعة الأكثر إثما بالطبع في المدرسة الثانوية بأكملها. اضطررت إلى تحمل الأمر حتى فصل الخريف التالي، عندما فرت فتاة شقراء سمينة في الصف العاشر مع رجل متزوج، وشوهدت بعد شهرين وهي تعيش في الخطيئة - لكن ليس مع الرجل نفسه - في مدينة سو سانت ماري. بعد ذلك نسي الجميع قصتي.
بيد أنه كان لذلك الشأن نتيجة إيجابية، وغير متوقعة على نحو رائع؛ تغلبت تماما على مارتن كولينجوود. لم يكن الأمر فحسب أنه قال ذات مرة، على الملأ، إنه كان يعتقد دوما أنني مختلة العقل؛ فمتى أتى ذكره لم أكن أشعر بالفخر، وكان بإمكان خيالي الرقيق إيجاد سبيل للتغاضي عن ذلك قبلها بشهر أو بأسبوع. ماذا كان ذلك الذي أعادني إلى العالم مجددا؟ كان الواقع المريع والمذهل للكارثة التي حلت بي؛ كان «الطريقة التي تجري بها الأمور». لا أعني أنني استمتعت بما حدث، فقد كنت فتاة خجولة وعانيت كثيرا من تلك الفضيحة، لكن تطور الأحداث في ليلة السبت تلك هو ما أثار اهتمامي؛ شعرت أنني أدركت لمحة من العبثية السافرة والساحرة والمتشظية التي ترتجل بها الحبكات الدرامية للحياة، ولم تكن في الأدب القصصي. لم أستطع التوقف عن تأمل هذا الأمر.
وبالطبع تقدم مارتن كولينجوود في شهر يونيو من ذلك العام للقبول في الجامعة، ورحل إلى المدينة ليحضر دروة تدريبية عن دفن الموتى - كما أظن أنه اسمها - وعندما عاد عمل مع عمه في دفن الموتى. عشنا في البلدة نفسها واستطعنا معرفة معظم الأمور التي وقعت لكل منا، لكنني لا أعتقد أننا التقينا وجها لوجه أو رأى أحدنا الآخر، إلا من مسافة بعيدة، لسنوات. ذهبت إلى حفل هدايا عرس الفتاة التي تزوج منها، ولكن بعدها ذهب كل منا إلى حفلات هدايا العرس لأناس لم تجمعنا المعرفة بهم. كلا، لا أعتقد أنني رأيته فعلا مرة أخرى، حتى عدت إلى بلدتي بعد أن تزوجت بعدة سنوات لحضور جنازة أحد أقاربي. ثم رأيته، لم يكن يشبه السيد دارسي تماما، لكن كان وسيما للغاية مع ذلك في تلك الملابس السوداء. ورأيته ينظر تجاهي بتعبير يشبه ابتسامة حافلة بالذكريات في حدود ما تسمح به المناسبة؛ علمت أنه اندهش بذكرى، إما ذكرى وفائي أو كارثتي الصغيرة المدفونة. رمقته بنظرة رقيقة حائرة في المقابل. أنا امرأة يافعة الآن؛ دعه يكشف هو عن كوارثه الخاصة.
وقت الموت
بعد فترة، تمددت الأم، ليونا باري، فوق الأريكة، ملفوفة بلحاف، وأخذت النساء في وضع مزيد من الحطب في المدفأة على الرغم من أن المطبخ كان ساخنا للغاية، ولم يشعل أحد الضوء. احتست ليونا بعض الشاي ورفضت تناول أي طعام، وقالت بادئة حديثها كما يلي، بصوت أجش ومصر، لكن ليس هيستيريا بعد: لم أكد أخرج من المنزل، لم أغب عن المنزل سوى عشرين دقيقة ... (قالت آلي ماكجي في نفسها: ثلاثة أرباع الساعة على الأقل. لكنها لم تنطق بذلك؛ ليس في هذا الوقت. لكنها تذكرت ذلك؛ إذ كانت هناك ثلاثة مسلسلات يبثها المذياع تحاول الإصغاء إليها، والتي كانت تتابعها كل يوم، لكنها لم تتمكن من سماع نصفها؛ فقد كانت ليونا هناك في مطبخها تتحدث عن باتريشيا. كانت ليونا تحيك زي راعية بقر من أجل باتريشيا على ماكينة خياطة آلي، سرعت من حركة الماكينة وجذبت الخيط بشكل مباشر إلى الخارج لقطعه بدلا من أن تجذبه إلى الخلف، على الرغم من أن آلي أخبرتها بألا تفعل ذلك حتى لا تتسبب في كسر الإبرة. كان من المفترض أن ترتدي باتريشيا هذا الزي في الليلة التي ستغني بها في حفل بأعلى الوادي؛ فقد كانت تنشد الأغاني الغربية الخاصة برعاة البقر. كانت باتريشيا تغني مع فرقة ميتلاند فالي إنترتينرز التي كانت تجوب أرجاء البلاد لتقدم فقرات في الحفلات الموسيقية والراقصة، وكان يتم تقديمها في تلك الحفلات على أنها «محبوبة ميتلاند فالي الصغيرة»، و«الشقراء الصغيرة»، و«الطفلة ذات الجسم الصغير والصوت القوي». كانت تملك صوتا قويا بالفعل، مفزعا إلى حد ما لأن يخرج من طفلة ضعيفة للغاية كباتريشيا. جعلتها ليونا تغني أمام الناس عندما بلغت الثالثة من عمرها.
قالت ليونا وهي تنحني للأمام ضاغطة بقدميها على دواسة الماكينة: لا تخاف أي شيء قط، فكان من السهل عليها أن تغني أمام الناس. فتحت بلوزتها الشفافة عن غير قصد، فانكشف صدرها الهزيل، ونهداها الذابلان، بعروقهما الزرقاء الكبيرة التي تنحدر داخل القميص الداخلي الرمادي المائل للون الوردي. لا يهمها أي شيء، حتى وإن كان ملك إنجلترا نفسه يشاهدها، ستقف وتغني، وعندما تنتهي من الغناء، ستجلس، هذا كل ما يحدث فحسب. حتى إن لها اسما ملائما لمغنية، باتريشيا باري، ألا يبدو لك كاسم سمعته يذكر بالمذياع؟ هناك أمر آخر وهو شعرها الأشقر الطبيعي، يتعين علي أن أعقص شعرها كل ليلة، لكن ذلك الشعر الأشقر الطبيعي ليس من المفترض أن يتم عقصه، كما أنه لا يتغير لونه للون الداكن أبدا؛ لدينا هذا النوع من الشعر الأشقر الطبيعي في بعض أفراد عائلتنا والذي لا يصير داكنا أبدا؛ فقريبتي التي أخبرتك عنها، التي فازت بلقب ملكة جمال سانت كاثرينز لعام 1936، كانت من بين هؤلاء، وكذلك خالتي التي توفيت ...)
لم تقل آلي ماكجي أي شيء، والتقطت ليونا أنفاسها ثم قالت باندفاع: عشرون دقيقة. كان آخر شيء قلته لها أثناء خروجي من الباب هو: عليك الاعتناء بالأطفال! إنها في التاسعة من عمرها، أليس كذلك؟ سأذهب فقط إلى الجهة المقابلة من الطريق لأحيك لك هذا الزي، اعتني بالأطفال. وخرجت من الباب ونزلت الدرج ووصلت حتى نهاية الحديقة، وما إن نزعت الخطاف من البوابة، حتى أوقفني شيء ما، وحدثتني نفسي: «هناك خطب ما!» قلت في نفسي: ما الأمر؟ وقفت هناك وتطلعت خلفي إلى الحديقة، وكل ما استطعت رؤيته هو سيقان الذرة والكرنب المتجمد، واللذين تأخرنا في حصدهما هذا العام، ونظرت عبر الطريق ولم أر سوى كلب ماندي العجوز يتمدد أمام منزله، لا توجد سيارات آتية من أي اتجاه، وجميع الأفنية خالية، وكان الجو باردا حسبما أظن، ولم يكن هناك أطفال يلعبون بالخارج - وقلت في نفسي: يا إلهي! ربما اختلطت الأيام في ذهني وهذا ليس صباح يوم السبت، ربما هو يوم خاص لا أستطيع تحديده - ثم فكرت في أن كل ما في الأمر هو أن الثلوج على وشك التساقط؛ استشعرت ذلك في الهواء، وتعلمون كم يكون الجو باردا حينئذ، كانت البرك الصغيرة في الطريق قد تجمدت وتباعدت - لكن الثلوج لم تبدأ في التساقط، أليس كذلك؟ لم تتساقط الثلوج بعد - فركضت عبر الطريق، ثم توجهت نحو منزل ماكجي وصعدت الدرج الأمامي وقالت لي آلي: ليونا، ماذا بك؟ تبدين شاحبة للغاية ...
سمعت آلي ماكجي ذلك أيضا دون أن تنطق بشيء؛ فلم يكن الوقت مناسبا لأي نوع من التدقيق. ارتفع صوت ليونا أكثر فأكثر أثناء حديثها، وفي أية لحظة الآن من الممكن أن تتوقف عن الحديث وتبدأ في الصراخ: لا تجعلوا هذه الطفلة تقترب مني، لا تدعوني أراها، لا تجعلوها تقترب مني فحسب.
تحتشد النساء في المطبخ حول الأريكة، وقد أضحى من المتعذر تمييز أجسامهن الضخمة في شبه الظلام السائد، وتبدو وجوههن كأطياف شاحبة وثقيلة، يرتدين أقنعة الحداد والتعاطف الطقسية. يقلن لها: استريحي الآن، بالنبرات المهيبة للتهدئة والعزاء. استريحي يا ليونا، هي ليست هنا، لا بأس.
وتقول الفتاة العضوة في جماعة جيش الخلاص الخيرية الدينية بصوتها الرقيق الرزين: يجب أن تغفري لها سيدة باري، إنها مجرد طفلة صغيرة. أحيانا كانت هذه الفتاة تقول: إنها إرادة الرب، نحن لا نفطنها. تقول المرأة الأخرى العضوة أيضا في جماعة جيش الخلاص، والتي كانت أكبر سنا، وذات وجه دهني باهت وصوت ذكوري إلى حد بعيد: في جنات النعيم يتفتح الأطفال كالزهور. احتاج الرب إلى زهرة أخرى، فأخذ طفلك. يا أختاه، عليك أن تشكريه وتفرحي.
أصغت النساء الأخريات في انزعاج حينما كانت تتحدث تلك الفتاة والمرأة؛ ارتسمت على وجوههن لدى سماع تلك الكلمات نظرة إجلال طفولية مرتبكة. صنعن الشاي ووضعن فوق الطاولة الفطائر وكيك الفواكه والكعك المحلى الذي أرسله الناس والذي صنعوه بأنفسهم، لم يأكل أحد أي شيء لأن ليونا كانت ترفض الأكل. كان كثير من النساء يبكي، لكن لم تبك عضوتا جماعة جيش الخلاص، بكت أيضا آلي ماكجي. كانت امرأة بدينة، ذات وجه هادئ وصدر كبير، ولم يكن لديها أطفال. ثنت ليونا ركبتيها أسفل اللحاف وأخذت تهز نفسها للأمام والخلف وهي تنتحب، وتحرك رأسها لأسفل ثم للخلف (مظهرة، كما لاحظت بعض النساء بشعور من الخزي، الخطوط المتسخة برقبتها)، ثم هدأت وقالت بطريقة أشبه بالمفاجأة: لقد أرضعته حتى بلغ عشرة أشهر، كان طفلا رائعا للغاية، أيضا، ما كنت أشعر بوجوده في المنزل قط، لطالما قلت إنه أفضل أطفالي على الإطلاق.
شعرت النساء في المطبخ المظلم شديد الحرارة بمهابة هذا الحزن من منظورهن كأمهات؛ كن متواضعات أمام ليونا القذرة وغير المحبوبة والبائسة. عندما حضر الرجال - الأب وأحد الأقارب وأحد الجيران، حاملين كومة من الحطب أو طالبين في استحياء شيئا يأكلونه - أدركوا على الفور أن هناك شيئا يردعهم، ويوبخهم. خرجوا وقالوا للرجال الآخرين: أجل، ما زلن على حالهن. وقال الأب - الذي بدا منفعلا وثملا قليلا؛ لأنه شعر بأن الناس كانوا يتوقعون منه أن يتصرف بشكل معين في موقف كهذا، لكنه لم يفعل، ولم يكن هذا منصفا: أجل، لن يفيد هذا بيني بأي شيء، حتى وإن بكين للأبد. •••
كان جورج وآيرين يلعبان لعبة القص واللصق، يقصان الأشكال من أحد الكتالوجات، كانا قد قصا صورا لأسرة: الأم والأب والأبناء، والآن يقصان لهم الثياب. شاهدتهما باتريشيا وهما يقصان وقالت: انظرا إلى الطريقة التي تقصان بها! انظرا إلى كل هذه المساحة البيضاء الزائدة حول الأطراف! كيف ستتناسب هذه الملابس مع الصور، ولم تقصا أي أجزاء زائدة مكافئة لها؟! أمسكت هي بالمقص وقصت بدقة كبيرة، ولم تترك أية مساحات زائدة بيضاء حول الأطراف؛ كان وجهها الصغير الشاحب والفطن مائلا إلى أحد الجانبين، وشفتاها مضمومتين معا. كانت تقوم بالأشياء كما يقوم بها الكبار؛ لم تكن تدعي شيئا، لم تدع أنها مغنية، على الرغم من أنها كانت تنوي أن تكون مغنية عندما تكبر، ربما في الأفلام، أو في الإذاعة. أحبت مطالعة مجلات الأفلام والمجلات التي توجد بها صور الملابس والحجرات، أحبت النظر في نوافذ بعض المنازل في الجزء العلوي من المدينة.
حاول بيني التسلق أعلى الأريكة، انتزع الكتالوج فضربته آيرين على يده؛ بدأ في البكاء، فأمسكته باتريشيا بمهارة وحملته إلى النافذة، أوقفته فوق كرسي لينظر إلى الخارج، وقالت له: باو-واو، بيني، أترى باو-واو؟ - كان هذا هو كلب ماندي الذي نهض وهز نفسه وانطلق بعيدا في الطريق.
قال بيني بأسلوب استفهامي: باو-واو؟ وهو يبسط يديه وينحني في مقابل النافذة ليرى أين ذهب الكلب. كان بيني يبلغ ثمانية عشر شهرا من العمر والكلمات الوحيدة التي كان يعرف أن ينطقها هي باو-واو وبرام، ويقصد ببرام شاحذ المقصات والسكاكين الذي كان يمر من على الطريق أحيانا؛ كان اسمه براندون، يتذكره بيني، ويركض إلى الخارج ليقابله عندما يحضر. كان الأطفال الآخرون الأصغر ممن يبلغون ثلاثة عشر أو أربعة عشر شهرا يعرفون كلمات أكثر من بيني، وكان بإمكانهم القيام بحركات أكثر منه، كالتلويح عند الوداع، والتصفيق، ومعظمهم كانوا أجمل وأذكى منه. كان بيني طويلا ونحيفا وهزيلا، ووجهه مثل وجه أبيه - شاحب، وصامت، وغير آمل - لم يكن ينقصه سوى قبعة مدببة متسخة. لكنه كان طفلا مطيعا؛ كان يقف لساعات ينظر فقط من النافذة ويقول باو-واو، باو-واو، بنبرة استفهامية خافتة، وبدندنة، يضرب بيده على اللوح الزجاجي للنافذة. كان يحب أن يرفعه الناس ويحملوه، وكأنه طفل رضيع؛ كان يستلقي ناظرا لأعلى ومبتسما، بشيء من الحياء أو الريبة. علمت باتريشيا أنه أحمق؛ كانت تكره الحماقة، كان هو الشيء الأحمق الوحيد الذي لم تكرهه. كانت تذهب وتمسح له أنفه ببراعة وجدية، كانت تحاول أن تجعله يتحدث، وأن يكرر الكلمات وراءها، وتلصق وجهها بوجهه، وتقول بلهفة: أهلا يا بيني، أهلا. فكان ينظر إليها ويبتسم بطريقته البطيئة المرتابة. كان يجعلها ذلك تشعر بشيء ما، شيء من الحزن والسأم، ثم كانت تنصرف وتتركه، تذهب لتتصفح إحدى المجلات السينمائية.
كانت قد تناولت كوبا من الشاي وقطعة من كعكة محلاة بالسكر في الإفطار؛ والآن شعرت بالجوع. فتشت بين الصحون المتسخة وخليط اللبن والعصيدة فوق طاولة المطبخ؛ التقطت كعكة، لكنها كانت غارقة في اللبن، فتركتها مرة أخرى. قالت: إن هذا المكان مذر. لم يكترث جورج وآيرين. خطت فوق كمية من العصيدة جفت فوق مشمع الأرضية. قالت: انظروا! انظروا! لماذا يبدو المكان فوضويا هكذا دائما؟ تحركت في المكان وهي تخطو فوق الأشياء بلامبالاة، ثم أحضرت الدلو المعدني والفرشاة من أسفل الحوض ومغرفة، وبدأت في غرف المياه من صهريج الموقد.
قالت: سأنظف هذا المنزل جيدا؛ فهو لا يحظى بالنظافة اللائقة أبدا كبقية المنازل الأخرى. إن أول شيء سأفعله هو دعك الأرضية بالفرشاة، وعليكما يا أطفال مساعدتي ...
وضعت الدلو فوق الموقد.
قالت آيرين: بداية، هذه المياه ساخنة جدا.
ليست ساخنة بما يكفي، يجب أن تكون مياها مغلية ونظيفة؛ فقد رأيت السيدة ماكجي وهي تدعك «أرضيتها» بالفرشاة. •••
مكثوا في منزل السيدة ماكجي طيلة الليل، كانوا هناك منذ أن وصلت سيارة الإسعاف. رأوا ليونا والسيدة ماكجي وجيرانا آخرين يبدءون في نزع ملابس بيني عنه، وبدا أن أجزاء من جلده تخرج من جسمه، وكان بيني يصدر صوتا ليس كصوت البكاء، بل صوت يشبه صوتا سمعوا كلبا يصدره بعد أن داست سيارة على رجليه الخلفيتين، لكن كان أسوأ، وأعلى، لكن السيدة ماكجي رأتهم؛ فصاحت: ابتعدوا، ابتعدوا من هنا! اذهبوا إلى منزلي. بعد ذلك حضرت سيارة الإسعاف وأخذت بيني إلى المستشفى، وجاءت السيدة ماكجي وأخبرتهم أن بيني سيمكث في المستشفى لفترة وأنهم سيبيتون في منزلها. أعطتهم قطعة خبز بزبدة الفول السوداني وأخرى بمربى الفراولة.
كان الفراش الذي ناموا عليه له مرتبة من الريش وملاءات ناعمة مكوية؛ كانت البطانيات فاتحة اللون وناعمة وتفوح منها قليلا رائحة النفتالين، فضلا عن ذلك كان يوجد لحاف نجم بيت لحم؛ علموا أنه يسمى كذلك لأنه عندما كانوا يستعدون للخلود إلى النوم قالت باتريشيا: يا إلهي، يا له من لحاف جميل! فبدت السيدة ماكجي مندهشة وحائرة إلى حد ما، وقالت: أوه، أجل، إنه نجم بيت لحم.
كانت باتريشيا مهذبة للغاية بمنزل السيدة ماكجي. لم يكن المنزل جميلا مثل بعض المنازل الموجودة في الجزء العلوي من المدينة، لكنه كان مكسوا من الخارج بطوب زخرفي وبداخله كان يوجد مدفأة ديكورية، إضافة إلى نبات سرخس موضوع في سلة؛ لم يكن مثل المنازل الأخرى الممتدة بمحاذاة الطريق السريع. لم يكن السيد ماكجي يعمل في المصنع كباقي الرجال الآخرين، بل في أحد المتاجر.
كان جورج وآيرين خجولين وخائفين للغاية في هذا المنزل حتى إنهما لم يستطيعا الإجابة عندما كان يوجه الحديث إليهما.
استيقظوا جميعا في ساعة مبكرة للغاية؛ استلقوا على ظهورهم، وهم يشعرون بالانزعاج على الملاءات النظيفة، وشاهدوا الحجرة وهي تزداد نورا، كانت الحجرة بها ستائر معدنية وستائر حريرية لونها بنفسجي زاه، وتوجد نقوش على هيئة زهور بنفسجية زاهية وصفراء على ورق الحائط؛ كانت حجرة الضيوف. قالت باتريشيا: نحن ننام بحجرة الضيوف.
قال جورج: يجب أن أتبول.
قالت باتريشيا: سأرشدك إلى مكان الحمام، إنه عبر الردهة.
لكن جورج رفض النزول إلى الحمام، لم يحب المنزل. حاولت باتريشيا إقناعه، لكنه رفض.
قالت آيرين: لنر ما إذا كانت هناك مبولة أسفل السرير.
قالت باتريشيا في غضب: إن لديهم حماما هنا وليست لديهم أية مباول، لماذا سيحتفظون بمبولة عتيقة كريهة الرائحة هنا؟
قال جورج في تبلد إنه لن يذهب إلى الأسفل.
نهضت باتريشيا وسارت على أطراف أصابعها إلى التسريحة وأحضرت زهرية كبيرة . عندما تبول جورج، فتحت النافذة بحرص بالغ بلا صوت تقريبا وأفرغت الزهرية وجففتها بسروال آيرين التحتي.
قالت: لتصمتا الآن أيها الطفلان وترقدا في هدوء، لا تتحدثا بصوت عال، اهمسا فقط.
همس جورج: هل بيني لا يزال في المستشفى؟
قالت باتريشيا بفظاظة: أجل، هو كذلك.
هل سيموت؟
أخبرتك مئات المرات، كلا.
هل «سيموت»؟
كلا! لقد احترق جلده فحسب، لم يحترق من الداخل، لن يموت بسبب حرق صغير بجلده، أليس كذلك؟ لا تتحدث بصوت عال هكذا.
بدأت آيرين في إخفاء رأسها في الوسادة.
قالت باتريشيا: ما خطبك؟
قالت آيرين ووجهها في الوسادة: كان يبكي على نحو مريع.
حسنا، ألمه شديد، ولهذا السبب كان يبكي. عندما وصل إلى المستشفى، أعطوه شيئا لتسكين الألم.
قال جورج: كيف علمت بذلك؟
أعلم ذلك.
صمتوا لبرهة ثم قالت باتريشيا: لم أسمع بحياتي قط عن شخص مات لاحتراق جلده، من الممكن أن يحترق جلدك كله، إن هذا لن يهم؛ فسينمو لك جلد آخر. توقفي عن البكاء يا آيرين، وإلا ضربتك.
رقدت باتريشيا في سكون، تنظر إلى أعلى نحو السقف، ينعكس جانب وجهها الشاحب على الستائر الحريرية البنفسجية بحجرة الضيوف بمنزل السيدة ماكجي.
تناولوا في الإفطار عصير جريب فروت، الذي لم يتذكروا أنهم تذوقوه من قبل، ورقائق الذرة والتوست والمربى. راقبت باتريشيا جورج وآيرين ثم أخبرتهما في حدة: قولا رجاء! قولا شكرا! قالت للسيد والسيدة ماكجي: يا له من جو بارد اليوم! لن يكون من المدهش أن تتساقط الثلوج اليوم، أليس كذلك؟
لكنهما لم يجيبا عليها. كان وجه السيدة ماكجي متجهما. بعد الإفطار قالت: لا تنهضوا يا أطفال، أعيروني السمع، إن شقيقكم الأصغر ...
شرعت آيرين في البكاء ودفع هذا جورج إلى البكاء أيضا؛ قال لباتريشيا وهو ينتحب، وعلى نحو منتصر: لقد مات! لقد مات! لم تجب باتريشيا. قال جورج في نحيب: «هي المذنبة!» فقالت السيدة ماكجي: أوه، كلا، أوه، كلا! لكن باتريشيا جلست في هدوء، بوجه حذر ومهذب، لم تنبس ببنت شفة حتى هدأ البكاء قليلا ونهضت السيدة ماكجي وهي تتنهد وبدأت في تنظيف الطاولة، ثم أبدت باتريشيا رغبتها في مساعدتها في غسل الصحون.
اصطحبتهم السيدة ماكجي إلى وسط المدينة لتشتري لهم أحذية جديدة من أجل الجنازة، لن تذهب باتريشيا إلى الجنازة لأن ليونا قالت إنها لا ترغب في رؤيتها ثانية طيلة حياتها، لكنها ستحصل على حذاء جديد أيضا؛ سيبدو الأمر فظا إن لم يشتر لها آل ماكجي حذاء. أخذتهم السيدة ماكجي إلى المتجر وجعلتهم يجلسون وشرحت الموقف للرجل الذي يملك المتجر؛ وقفا معا يومئان برأسيهما ويهمسان في جدية، طلب منهم الرجل أن يخلعوا أحذيتهم وجواربهم؛ فخلع جورج وآيرين أحذيتهما وجواربهما وبدت أقدامهما، بأظافر سوداء شديدة القذارة. همست باتريشيا إلى السيدة ماكجي لتخبرها بأنها تود الذهاب إلى الحمام، فأخبرتها السيدة ماكجي أنه في نهاية المتجر، فاتجهت إلى هناك وخلعت حذاءها وجوربها، ونظفت قدمها قدر استطاعتها بالمياه الباردة والمناشف الورقية، وعندما عادت، سمعت السيدة ماكجي وهي تقول بصوت خافت لصاحب المتجر: كان عليك أن ترى الملاءات التي ناموا عليها. مرت باتريشيا من جانبهما ولم تتظاهر بأنها سمعتهما.
حصل آيرين وجورج على حذاءين خفيضين برباط، في حين حصلت باتريشيا على حذاء من اختيارها، بشريط. نظرت إلى حذائها في المرآة المنخفضة، وسارت جيئة وذهابا وهي تنظر إليه حتى قالت السيدة ماكجي: يا باتريشيا لا يهم الحذاء الآن! قالت لصاحب المتجر بنفس الصوت الخافت أثناء خروجهم: هل تصدق هذا؟
بعد انتهاء الجنازة، عادوا إلى المنزل. كانت النساء قد نظفن المنزل ونحين جميع متعلقات بيني جانبا. أصاب الأب الإعياء نتيجة لتناول الكثير من الجعة في السقيفة الخلفية بعد الجنازة ومكث بعيدا عن المنزل. أما الأم، فقد وضعت بالفراش، مكثت بالفراش ثلاثة أيام واعتنت شقيقة الأب بالمنزل.
أخبرتهم ليونا بألا يسمحوا لباتريشيا بالاقتراب من حجرتها. صاحت: لا تدعوها تقترب من هنا، لا أريد أن أراها، لن أنسى ولدي الصغير. لكن باتريشيا لم تحاول الصعود إلى الطابق العلوي، لم تكترث بأي من ذلك؛ فكانت تتصفح المجلات السينمائية وتعقص شعرها بقطع القماش، وإذا بكى أحد، لم تكن تهتم؛ شعرت في داخلها وكأن شيئا لم يحدث.
حضر الرجل الذي كان يعمل مديرا لفرقة ميتلاند فالي إنترتينرز لمقابلة ليونا، أخبرها أنهم يعدون برنامجا لحفل موسيقي وراقص ضخم بروكلاند، ويريدون أن تغني باتريشيا به، إن لم يكن الأمر متعجلا للغاية بعد كل ما حدث. قالت ليونا إنه يتعين عليها التفكير في الأمر. نهضت من الفراش وذهبت إلى الطابق السفلي، كانت باتريشيا تجلس على الأريكة تتصفح إحدى مجلاتها، أبقت رأسها منخفضا.
قالت ليونا: إن شعرك يبدو جميلا، أرى أنك كنت تصففينه بنفسك، أحضري لي الفرشاة والمشط!
قالت لأخت زوجها: أليست هذه هي الحياة؟ إنها لا تتوقف أبدا.
ذهبت إلى وسط المدينة واشترت النوتة الموسيقية لأغنيتين: «ليت الدائرة لا تنكسر»، و«ليس خفيا: ما يمكن أن يفعله الرب». جعلت باتريشيا تحفظهما، وغنت باتريشيا هاتين الأغنيتين في الحفل الموسيقي بروكلاند. بدأ بعض الحضور من الجمهور في التهامس، لأنهم سمعوا بما حدث لبيني؛ فقد نشر الخبر في الصحف. أشاروا إلى ليونا، التي ارتدت الملابس الرسمية وجلست فوق المسرح، وأبقت رأسها منخفضا، وأخذت تبكي. بكى بعض الناس من الحاضرين أيضا، لكن باتريشيا لم تبك. •••
في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (والذي لم تبدأ الثلوج فيه في التساقط بعد) حضر شاحذ المقصات والسكاكين بعربته وسار بمحاذاة الطريق السريع، كان الأطفال يلعبون في الأفنية وسمعوا صوته يقترب؛ على الرغم من أنه كان لا يزال بعيدا على الطريق، فإنهم سمعوا نداءه غير المفهوم، الذي كان حزينا ورنانا، وغريبا للغاية لدرجة أنك قد تتصور - إن لم تكن تعرف صاحبه - أن ثمة رجلا مجنونا طليقا يعوي في الطريق. كان يرتدي المعطف البني المتسخ ذاته، والذي كانت حاشيته تتدلى مهترئة، ونفس القبعة المصنوعة من اللباد؛ اقترب على الطريق، يصيح بصوته، فركض الأطفال إلى منازلهم لإحضار السكاكين والمقصات، أو ركضوا في الطريق يصيحون في بهجة: براندون العجوز، براندون العجوز (إذ كان ذلك اسمه).
بعد قليل في فناء آل باري، بدأت باتريشيا في الصراخ: أكره هذا الرجل العجوز! ثم صرخت بصوت عال: أكرهه ! أكره هذا الرجل العجوز، أكرهه! صرخت، ووقفت بلا حراك في الفناء ووجهها يبدو ذابلا وشاحبا. تسبب هذا الصراخ العالي المرتعش في أن جاءت ليونا تركض نحو الخارج، وكذلك الجيران؛ جذبوها داخل المنزل، وكانت لا تزال تصرخ، لم يتمكنوا من إقناعها بأن تخبرهم بما بها؛ ظنوا أنها تعاني من نوبة ما. كانت عيناها مثبتتين لأعلى وفمها مفتوحا على آخره، وأسنانها الصغيرة المدببة بارزة بالكامل تقريبا، ومتآكلة على نحو طفيف عند نهاياتها؛ جعلها هذا تبدو أشبه بالنمس، حيوان صغير بائس ومجنون في نوبة غضب أو ذعر. حاولوا هزها، وصفعها، وإلقاء الماء البارد على وجهها، وفي النهاية نجحوا في جعلها تبتلع جرعة كبيرة من شراب مهدئ به الكثير من الويسكي، ثم وضعوها في الفراش.
قال الجيران بعضهم لبعض أثناء خروجهم من المنزل: هذه ابنة ليونا الغالية. قالوا: هذه «المطربة»، ولأن الأمور عادت إلى ما كانت عليه الآن وعادوا يبغضون ليونا كما كانوا من قبل، ضحكوا في كآبة وقالوا: أجل، نجمة السينما المستقبلية هذه، عندما تراها تصرخ في الفناء، تظن أنها فقدت صوابها. •••
كان هناك هذا المنزل، والمنازل الخشبية الأخرى التي لم تطل من قبل، بأسقفها المرقعة المنحدرة وشرفاتها الضيقة المائلة، والتي ينبعث من مداخنها الدخان الناتج عن حرق الحطب، ووجوه الأطفال الشاحبة وهي تلمس نوافذها، وخلفها مساحة صغيرة من الأرض، محروثة في بعض الأماكن، وفي أماكن أخرى ينمو العشب، وتمتلئ بالصخور، ومن ورائها كانت توجد أشجار الصنوبر، والتي ليست شديدة الارتفاع. في المقدمة كانت توجد الأفنية، الحدائق الهالكة، والطريق السريع الكئيب يمر عبر البلدة. بدأت الثلوج تتساقط ببطء، وبانتظام، بين الطريق السريع والمنازل وأشجار الصنوبر، في ندفات كبيرة في البداية ثم في ندفات أصغر فأصغر، والتي لم تذب فوق الأخاديد الصلبة وصخور الأرض.
يوم الفراشة
لا أذكر متى حلت مايرا سايلا بالبلدة، لكنها كانت - ولا شك - في صفنا في المدرسة منذ سنتين أو ثلاث سنوات. بدأت أتذكرها في العام الماضي، حينما كان أخوها الصغير جيمي سايلا في الصف الأول. لم يكن جيمي سايلا معتادا على الذهاب إلى الحمام بمفرده، وكان يأتي إلى باب الصف السادس ينشد مايرا، فكانت تأخذه إلى الطابق السفلي. وفي كثير من الأحيان كان يأتي إلى مايرا - بعد فوات الأوان - وبقعة داكنة كبيرة تغطي سرواله القطني المزرر. حينئذ كانت مايرا تضطر لأن تسأل المعلمة: «إذا سمحت، هل لي أن آخذ أخي إلى المنزل، لقد بلل نفسه؟»
كان هذا ما قالته أول مرة وسمعه جميع الجالسين في المقاعد الأمامية - رغم أن صوت مايرا كان رخيما ومنخفضا للغاية - فصدرت منهم ضحكات مكتومة جذبت انتباه بقية تلاميذ الصف. كتبت معلمتنا - فتاة رقيقة رزينة ترتدي نظارات يحدها إطار ذهبي رقيق، وتبدو في بعض اللحظات من فرط الكبرياء التي تنم عنها وضعيات معينة كزرافة - شيئا ما على ورقة ثم أرتها لمايرا. قرأت مايرا ما في الورقة في ارتباك: «من فضلك يا معلمتي، تعرض أخي لطارئ.»
كان الجميع يعرف فضيحة جيمي سايلا، وفي وقت الراحة (إذا لم يحدث ما كان يحدث في أكثر الأحيان ومنع من الخروج لفعله أمرا لم يكن ينبغي له أن يفعله في المدرسة) لم يكن جيمي يجرؤ على الخروج إلى فناء المدرسة حيث كان غيره من الأولاد الصغار، وبعض الأولاد الأكبر سنا، ينتظرونه كي يطاردوه ويحاصروه قبالة السور الخلفي ليشرعوا في ضربه بفروع الشجر؛ لذا كان عليه أن يظل مع مايرا. لكن في مدرستنا كان للفناء ناحيتان؛ ناحية للأولاد وأخرى للبنات، وكان يعتقد أنك إذا خطوت فقط إلى الناحية المخالفة لناحيتك فستعرض نفسك للعقاب. ومن ثم؛ لم يكن بمقدور جيمي الخروج إلى ناحية البنات، ولم يكن بمقدور مايرا الخروج إلى ناحية الأولاد، ولم يكن يسمح لأي من التلاميذ بالمكوث داخل المدرسة إلا في حالة هطول المطر أو تساقط الجليد؛ لذا كان الأخوان دائما ما يقضيان أوقات الراحة واقفين داخل رواق خلفي صغير يتوسط الناحيتين. ربما كانا يرقبان مباريات البيسبول، والملاحقة والقفز وبناء منازل من ورق الشجر في الخريف وبناء قلاع من الجليد في فصل الشتاء، وربما لم يرقبا أي شيء على الإطلاق . كلما نظرت إليهما ترى رأسيهما مائلين قليلا، وجسديهما النحيلين منحنيين نحو الأمام، لا يحركان ساكنا. كان لهما وجهان بيضاويان أملسان يشوبهما نوع من الحزن والتكتم، أما الشعر فكان دهنيا لامعا قاتم السواد. كان شعر الصبي الصغير طويلا، يقص في المنزل، وكان شعر مايرا معقوصا في ضفائر غليظة ملفوفة حول قمة رأسها على نحو كان يجعلها تبدو - من بعيد - كما لو كانت ترتدي عمامة كبيرة للغاية بالنسبة لحجم رأسها. تعلو أعينهما السوداء أجفان لا تنفتح بالكامل قط، لهما نظرة منهكة. كان الأمر أكثر من ذلك. لقد كانا كأطفال لوحات القرون الوسطى، كتمثالين منحوتين من الخشب - لممارسة العبادة أو السحر - لهما وجهان ناعمان ومسنان، وديعان، يتميزان بصمت يشوبه الغموض. •••
كان معظم المعلمين في مدرستنا يدرسون منذ وقت طويل، وفي وقت الراحة كانوا يختفون في غرفة المعلمين ولا يضايقوننا. لكن معلمتنا نحن - الشابة ذات النظارات المؤطرة بإطار ذهبي رقيق - كانت تقف لترقبنا من النافذة، وكانت أحيانا تخرج وعليها علامات الغضب والانزعاج كي تنهي عراكا بين الفتيات الصغيرات، أو تستهل لعبة «حقيقة أم أسرار» بين الفتيات الكبار، اللائي يتجمعن معا للعب. ذات يوم خرجت صائحة: «يا فتيات الصف السادس، أود التحدث إليكن!» وابتسمت ابتسامة مشجعة، جدية، يشوبها قلق يثير التوجس، كاشفة عن حواف ذهبية رفيعة تحيط بأسنانها. قالت: «ثمة فتاة في الصف السادس تدعى مايرا سايلا، إنها في صفكم أنتم، أليست كذلك؟»
صدرت منا غمغمة. لكن جلاديس هيلي قالت بصوت ناعم: «بلى يا آنسة دارلينج!» «حسنا، لماذا لا أراها تلعب أبدا معكن؟ أراها يوميا تقف في الرواق الخلفي، لا تلعب أبدا. هل تعتقدن أنها تبدو سعيدة للغاية بوقوفها هناك؟ هل تعتقدن أنكن ستسعدن للغاية إذا ما تركتن وحيدات هناك؟»
قوبل سؤالها بالصمت. كنا نقف قبالة الآنسة دارلينج، في منتهى الاحترام والهدوء، شاعرات بالضجر من غرابة سؤالها. عندئذ قالت جلاديس: «إن مايرا لا تستطيع الخروج معنا يا آنسة دارلينج؛ لأن عليها أن تعتني بأخيها الصغير!»
ردت الآنسة دارلينج متسائلة: «أوه، حسنا، ينبغي أن تحاولن أن تكن أكثر لطفا معها على أية حال، ألا تعتقدن ذلك؟ ستحاولن أن تكن أكثر لطفا معها، أليس كذلك؟ أعلم أنكن ستفعلن.» يا للآنسة دارلينج المسكينة! سرعان ما اضطربت مناشداتها، وتحولت محاولاتها لإقناعنا إلى ثغاء سخيف واستعطاف مرتبك.
حينما ذهبت همست جلاديس هيلي بصوت خافت: «ستحاولن أن تكن أكثر لطفا، أليس كذلك؟ أعلم أنكن ستفعلن!» ثم مطت شفتها كاشفة عن أسنانها الكبيرة وصاحت في انفعال: «لا آبه إذا كان المطر يهطل أو الجليد يتساقط.» ومضت تكمل بقية المقطع إلى آخره، واختتمته بدورة استعراضية بتنورتها الاسكتلندية الصوفية ذات المربعات. كان والدها السيد هيلي يدير متجرا للأقمشة وملابس السيدات، وكان السبب فيما نالته ابنته من زعامة في صفنا يعزى جزئيا إلى ما ترتديه من تنورات زاهية ذات نقوش مربعة، وقمصان من «الأورجانزا»، وسترات مخملية ذات أزرار نحاسية، ويعزى - إلى جانب ذلك - إلى النضج المبكر لنهديها، وإلى قوة شخصيتها التي تتميز بالصرامة والرقي في الوقت نفسه. بعد ذلك ما لبثنا أن بدأنا جميعا نقلد الآنسة دارلينج.
قبل ذلك لم نكن نعير كثيرا من الانتباه لمايرا. لكن الآن، ظهرت لعبة جديدة، كانت تبدأ بقول: «فلنكن لطيفات مع مايرا!» ثم نبدأ في السير نحوها في مجموعات منظمة من ثلاث أو أربع فتيات ونردد معا على إثر إيماءة ما من إحدانا: «مرحبا مايرا، مرحبا مايرا!» ثم نتبع ذلك بشيء مثل: «بم تغسلين شعرك يا مايرا، إنه جميل ولامع يا ماي-را.» «أوه، إنها تغسله بزيت كبد الحوت، أليس كذلك مايرا؟ إنها تغسله بزيت كبد الحوت، ألا تشمون رائحته؟»
وبصراحة كانت تنبعث من مايرا رائحة ما، لكنها كانت رائحة عفنة تميل إلى الحلاوة كرائحة الفاكهة العطبة. كان هذا هو مصدر رزق عائلتها؛ متجر متواضع للفاكهة. كان والدها يجلس طوال النهار فوق كرسي بلا ظهر بجانب النافذة، مرتديا قميصا مفتوحا يبرز كرشه الضخم وخصلات الشعر الفاحم التي تؤطر سرته، ويلوك فصوصا من الثوم. لكن إذا دخلت المتجر فستجد السيدة سايلا هي التي تقوم على خدمتك، وكانت تبرز في هدوء من بين الستائر المطبوعة المتهدلة التي تغطي خلفية المتجر. كان شعرها جعدا مموجا أسود اللون، وكانت تبتسم وشفتاها مطبقتان تماما وممطوطتان إلى أقصى مدى لهما، وكانت تخبرك بالسعر بصوت مقتضب، وكأنها تتحداك أن تتجرأ وتتحداها، وعندما لا تفعل، تسلمك كيس الفاكهة وعيناها تشيان باستهزاء صريح. •••
ذات صبيحة شتوية، وبينما كنت أرتقي الربوة التي تقبع فوقها المدرسة في وقت مبكر للغاية، عرض علي أحد الجيران أن يقلني إلى داخل البلدة، التي كنت أسكن في مزرعة تبعد عنها نصف ميل تقريبا. لم يكن يفترض أن أذهب إلى مدرسة البلدة على الإطلاق، وإنما إلى مدرسة ريفية مجاورة يرتادها عدد من التلاميذ لا يتجاوز أصابع اليدين ومعلمة مصابة بشيء من الخبل إثر بلوغها سن اليأس. لكن أمي - التي كانت امرأة طموحة - أقنعت أولي الأمر في البلدة بقبولي شرط أن يدفع والدي مصروفات دراسية إضافية، فالتحقت بمدرسة البلدة. كنت التلميذة الوحيدة التي تحمل معها علبة غداء وتأكل شطائر زبدة الفول السوداني في حجرة إيداع الملابس الخالية ذات الجدران العالية واللون الخردلي، والوحيدة التي كانت تضطر لارتداء حذاء مطاطي ذي رقبة في فصل الربيع، حينما تكون الطرق موحلة. كنت أشعر أنني أواجه خطرا ما جراء ذلك، لكنني لم أستطع أن أدرك تحديدا ما هو.
رأيت مايرا وجيمي وقد سبقاني على الربوة، كانا دائما يذهبان إلى المدرسة في وقت مبكر للغاية، إلى حد أنهما كانا في بعض الأحيان يضطران للوقوف خارج المدرسة في انتظار أن يفتح لهما البواب. كانا يمشيان على مهل، وكانت مايرا تلتفت نصف التفاتة من آن إلى آخر. كنت في كثير من الأحيان أتباطأ بتلك الطريقة آملة أن تلحق بي أي فتاة مهمة فأمشي بصحبتها، لكن لم أجرؤ يوما على التوقف والانتظار. في هذه اللحظة خطر لي أن مايرا ربما تفعل الشيء نفسه معي. لم أدر ما ينبغي لي فعله. لم أكن لأتحمل أن تراني الفتيات وأنا أمشي بصحبتها، ولم أكن راغبة في ذلك أيضا، لكن من ناحية أخرى، لم تكن نفسي منيعة أمام هذا الالتماس الذي تشي به التفاتاتها الآملة الذليلة. وكأن دورا ما كان يصاغ لي لم يكن بوسعي أن أحجم عن أدائه. فقد غمرتني دفعة ممتعة من الرغبة في عمل الخير نابعة من إحساسي بذاتي، وقبل أن أفكر فيما أنا مقدمة على فعله صحت: «مايرا! مرحى، مايرا، تمهلي، معي بعض الفشار المغطى بالكراميل!» وأسرعت الخطو بينما توقفت هي عن السير.
انتظرت مايرا لكنها لم تنظر إلي، كانت في انتظاري ولكن بنفس الطريقة المنطوية المتحفظة التي كانت تقابلنا بها دائما. ربما كانت تظن أنني سأحتال عليها، ربما كانت تتوقع أن أركض بجانبها وألقي بعلبة الفشار خاوية في وجهها! فتحت العلبة ومددت بها يدي إليها. أخذت القليل. توارى جيمي وراءها ولم يأخذ أي شيء من العلبة حين قدمتها له.
قلت في نبرة متفهمة مطمئنة: «إنه خجول. هذا حال كثير من الأولاد الصغار، لكنه سيكبر ويتخلص من خجله هذا ولا شك.»
ردت مايرا: «أجل.»
قلت: «لي أخ في الرابعة. إنه خجول للغاية.» لم يكن كذلك في حقيقة الأمر. ثم قلت: «خذي بعض الفشار. كنت لا أكف عن تناول الفشار المغطى بالكراميل طوال الوقت، ولكني لم أعد أفعل. أظن أنه يضر البشرة.»
خيم الصمت ... ثم سألتني مايرا بصوت ضعيف: «هل تحبين الرسم؟» «لا، أنا أحب الدراسات الاجتماعية والتهجئة ومادة التوعية الصحية.» قالت مايرا: «أنا أحب الرسم والحساب.»
كانت مايرا أسرع من تستطيع إجراء عمليات الجمع والضرب في عقلها في الفصل.
قلت: «كم أتمنى أن أكون بمهارتك في الحساب!» وغمرني شعور بالنبل.
قالت مايرا: «لكنني لست ماهرة في التهجئة، فأنا أخطئ كثيرا جدا، ربما أرسب.» لم تبد حزينة حيال ذلك، وإنما سعيدة لأن لديها ما تقوله. ظلت معرضة برأسها عني تحدق في تلال الجليد المتسخة على جانبي شارع فيكتوريا، وكانت تصدر صوتا وهي تتكلم يوحي بأنها تبلل شفتيها بلسانها.
قلت: «لن ترسبي، فأنت ماهرة للغاية في الحساب. ماذا ستصبحين حين تكبرين؟»
بدت حائرة، ثم قالت: «سأساعد أمي وأعمل في المتجر.»
قلت: «حسنا، أنا سأصبح مضيفة طيران ، لكن لا تذكري هذا لأحد. أنا لم أخبر بهذا أشخاصا كثيرين.» قالت مايرا: «لا، لن أفعل. هل تقرئين لستيف كانيون في الجريدة؟» «نعم.» من الغريب التفكير في أن مايرا، أيضا، تقرأ القصص الهزلية المصورة، أو تفعل أي شيء أصلا، عدا دورها الذي تضطلع به في المدرسة. «هل تقرئين قصص ريب كيربي؟» «هل تقرئين لأورفان آني؟» «هل تقرئين «بيتسي والأولاد»؟»
قلت: «لم تأخذي شيئا يذكر من الفشار المحلى. تناولي المزيد. خذي ملء قبضتك.»
نظرت مايرا داخل العلبة وقالت: «ثمة هدية في الداخل.» ثم جذبتها إلى الخارج. كانت الهدية عبارة عن «بروش» على شكل فراشة معدنية صغيرة، مذهبة ومرصعة بقطع من الزجاج الملون المثبت عليها كي تبدو كالمجوهرات. أمسكته بيدها السمراء، وابتسمت ابتسامة صغيرة.
قلت: «هل يعجبك؟»
قالت مايرا: «أحبه مرصعا بالأحجار الزرقاء؛ الياقوت الأزرق.» «أعرفه. إنه حجر يوم ميلادي. ما حجر يوم ميلادك؟» «لا أدري.» «متى يحين عيد ميلادك؟» «إنه في شهر يوليو.» «إذن، فحجرك هو الياقوت الأحمر.»
قالت مايرا: «أفضل الياقوت الأزرق. يعجبني حجرك أنت.» وناولتني البروش.
قلت: «يمكنك الاحتفاظ به. الشيء لمن يعثر عليه أولا.»
ظلت مايرا مادة يدها به وكأنها لم تفهم ما عنيت. فقلت: «الشيء لمن يعثر عليه أولا.»
قالت في رهبة ووجل: «لكن العلبة كانت علبتك. أنت اشتريتها.» «حسنا، وأنت عثرت على الهدية.»
قالت مايرا: «لا.»
قلت: «هيا، خذيه! هاك، سأعطيه لك.» وتناولت البروش من يدها ثم دفعته إليها مجددا.
كان كلانا يشعر بالدهشة. نظرنا إحدانا إلى الأخرى، وتورد وجهي لكن وجه مايرا لم يتورد. شعرت بالالتزام مع تلامس أصابعنا؛ كنت مذعورة، لكن لا بأس. وفكرت في أنني يمكن أن آتي مبكرا وأمشي بصحبتها ثانية في صبيحة أيام أخرى. ويمكن أيضا أن أذهب وأتحدث إليها في وقت الراحة. لم لا؟ ماذا يمنع؟
دست مايرا البروش داخل جيبها ثم قالت «أستطيع أن أضعه فوق فستاني الأثير. إنه أزرق اللون.»
كنت أعلم أنه كذلك. فقد كانت مايرا ترتدي فساتينها الأثيرة في المدرسة. حتى في منتصف الشتاء وسط التنانير الصوفية ذات المربعات والسترات الصوفية، كانت تظهر بشكل حزين بقماش تافتا سماوي اللون، أو كريب فيروزي مغبر، في ثوب نسائي جرى تعديله ليلائم مقاسها، محاط عند فتحة العنق برباط كبير منعقد في ارتخاء فوق صدر مايرا الهزيل.
سعدت لأنها لم تضع البروش؛ إذ ماذا كنت سأقول لو سألها سائل من أين أتت به فأخبرته أنني من أعطيتها إياه؟
ثم حدث بعد يوم، أو بعد أسبوع، أن تغيبت مايرا عن المدرسة. كانت كثيرا ما تستبقى في المنزل كي تساعد أبويها. لكنها لم تعد مجددا هذه المرة. ظلت متغيبة لأسبوع، ثم لأسبوعين، وظل مقعدها خاويا. ثم حل يوم انتقلنا فيه إلى غرفة صف آخر في المدرسة، فأخذت كتب مايرا من درج مقعدها ووضعت فوق أحد أرفف خزانة الصف. قالت الآنسة دارلينج: «سنجد لها مقعدا حينما تعود.» وتوقفت عن مناداة اسم مايرا عند تسجيل الحضور.
لم يكن جيمي سايلا يأتي إلى المدرسة هو الآخر، لا سيما وأنه لن يجد من يأخذه إلى الحمام. •••
في الأسبوع الرابع أو الخامس من غياب مايرا، جاءت جلاديس هيلي إلى المدرسة وقالت: «هل تدرون ... مايرا سايلا ترقد مريضة في المستشفى.»
كان ذلك صحيحا. كانت لجلاديس عمة تعمل ممرضة في المستشفى. رفعت جلاديس يدها في منتصف حصة التهجئة وقالت للآنسة دارلينج: «اعتقدت أنك ربما ترغبين في معرفة الخبر.» قالت الآنسة دارلينج: «آه، نعم، أنا أعرف بالفعل.»
سألنا جلاديس «ما خطبها؟»
وردت جلاديس: «أكيميا أو شيء من هذا القبيل. إنها تخضع لعمليات نقل دم.» ثم قالت للآنسة دارلينج: «إن عمتي ممرضة.»
أمرت الآنسة كل تلاميذ الصف أن يكتبوا رسالة لمايرا، يقولون فيها: «العزيزة مايرا، إننا جميعا نكتب إليك هذه الرسالة. نتمنى أن تتحسن صحتك سريعا وتعودي إلى المدرسة، المخلص/المخلصة ...» وقالت الآنسة دارلينج: «فكرت في أمر ما. من منكم يود الذهاب إلى المستشفى وزيارة مايرا يوم العشرين من مارس، كي نحتفل بعيد ميلادها؟»
قلت: «إن عيد ميلادها في يوليو.»
قالت الآنسة دارلينج: «أعرف ذلك، إنه في العشرين من يوليو. لكن يمكنها أن تحتفل به هذا العام في العشرين من مارس؛ لأنها مريضة.» «لكن عيد ميلادها يحين في شهر يوليو.»
قالت الآنسة دارلينج في نبرة حادة منذرة: «لأنها مريضة؛ سيصنع طاهي المستشفى كعكة ويمكنكم جميعا أن تقدموا لها هدية صغيرة، بتكلفة خمسة وعشرين سنتا أو نحو ذلك. ينبغي أن تكون الزيارة بين الثانية والرابعة؛ لأن هذه هي ساعات الزيارة. لكن لا يمكننا أن نذهب جميعا، سيكون عددنا كبيرا للغاية. إذن من يود الذهاب ومن يود المكوث هنا وقراءة مواد إضافية؟»
رفعنا جميعا أيدينا. فأخرجت الآنسة دارلينج سجل درجات التهجئة واختارت أول خمسة عشر تلميذا في القائمة، اثنتي عشرة فتاة وثلاثة فتيان. عندئذ لم يرغب الفتيان الثلاثة في الذهاب، فوقع الاختيار على الفتيات الثلاث التاليات في السجل. لا أدري متى حدث ذلك، لكني أعتقد أنه في هذه اللحظة على الأرجح صار حفل عيد ميلاد مايرا سايلا موضة رائجة.
ربما كان ذلك لأن جلاديس هيلي كانت لها عمة ممرضة، وربما لما ينطوي عليه المرض والمستشفيات من إثارة، أو ربما لمجرد أن مايرا قد تحررت تماما وعلى نحو مثير من كل القواعد والأوامر التي تحكم حياتنا. بدأنا نتحدث عنها كما لو كانت ملكا لنا، وصار حفلها يشكل قضية، ناقشناها بجدية نسوية في وقت الراحة، وقررنا أن مبلغ خمسة وعشرين سنتا متواضع للغاية. •••
توجهنا جميعا إلى المستشفى بعد ظهر يوم مشمس حين كان الجليد يذوب، حاملات هدايانا، وقادتنا إحدى الممرضات إلى الدور العلوي، مصطفات في طابور مفرد، حيث مررنا عبر رواق على جانبيه أبواب مواربة تسمع منها أحاديث خافتة. ظلت الممرضة والآنسة دارلينج تقولان لنا: «ششش صه.» لكننا كنا نتحرك على أطراف أصابعنا على أية حال، وكان سلوكنا في المستشفى مثاليا.
في هذا المستشفى الريفي الصغير لم يكن يوجد جناح للأطفال، ولم تكن مايرا طفلة في حقيقة الأمر، فوضعوها بصحبة امرأتين مسنتين ذواتي شعر رمادي. كانت الممرضة تشد حولهما الستائر أثناء دخولنا.
كانت مايرا تجلس منتصبة في السرير، في لباس مستشفيات ضخم مضجر. كان شعرها منسدلا، تتدلى الضفيرتان الطويلتان على كتفيها وتمتدان حتى أسفل غطائها. لكن وجهها كان على حاله، دائما على حاله.
كانت الآنسة دارلينج قد أخبرتها بشيء ما عن الحفل، حتى لا تزعجها المفاجأة، لكن كان يبدو أنها لم تصدق، أو لم تستوعب ما سيحدث. كانت ترقبنا كما اعتادت أن تفعل في فناء المدرسة حينما نلعب.
قالت الآنسة دارلينج: «حسنا، نحن هنا! ها قد أتينا!»
وقلنا في صوت واحد: «عيد ميلاد سعيد يا مايرا! مرحى يا مايرا! عيد ميلاد سعيد!» فقالت مايرا: «عيد ميلادي في شهر يوليو!» كان صوتها واهنا أكثر من أي وقت مضى، هائما، يخلو من كل تعبير.
قالت الآنسة دارلينج: «لا يهم ميعاده الحقيقي، تظاهري أنه الآن! كم عمرك يا مايرا؟»
قالت مايرا: «أحد عشر عاما ... في شهر يوليو.»
ثم خلعنا جميعا معاطفنا وبدونا في ثياب الاحتفال، ثم وضعنا هدايانا، ذات الأغلفة المزهرة الباهتة على سرير مايرا. كانت بعض أمهاتنا قد تفنن في صنع ربطات بارعة من أشرطة الساتان الفخم، وبعضهن ثبتن باقات صغيرة من الزهور والزنابق الصناعية. قلنا: «تفضلي يا مايرا» «تفضلي يا مايرا، عيد ميلاد سعيد.» لم تكن مايرا تنظر إلينا، وإنما إلى الأشرطة، وردية وزرقاء ومرقطة باللون الفضي، وباقات الزهور المصغرة، وقد سرتها، كما سرتها الفراشة من قبل. علت وجهها نظرة بريئة، وابتسامة بسيطة متوارية.
قالت الآنسة دارلينج: «افتحيها يا مايرا؛ إنها لك!»
جمعت مايرا الهدايا حولها، وجعلت تتحسسها، وعلى وجهها هذه الابتسامة، وإدراك حذر، وكبرياء غير متوقعة. قالت: «سأذهب يوم السبت إلى مستشفى «سان جوزيف» في لندن.»
هتفت إحداهن: «كانت أمي في هذا المستشفى. ذهبنا ورأيناها هناك. كل العاملات هناك راهبات.» قالت مايرا في هدوء: «أخت أبي راهبة.»
شرعت تفض أغلفة الهدايا، في خيلاء لم تكن جلاديس نفسها لتفوقها فيها، وتطوي الورق الرقيق والأشرطة، فتخرج كتبا وأحاجي من الصور المجزأة وأشكالا مقطوعة، وكأن هذه الأشياء جوائز ربحتها. أخبرتها الآنسة دارلينج أنه ربما ينبغي أن تشكر كل شخص باسمه مع كل هدية تفتحها، كي تتحقق من شخصية مقدم الهدية، فقالت مايرا: «شكرا لك ماري لويز، شكرا لك كارول ...» وحينما أتت على هديتي قالت: «شكرا هيلين.» راحت كل منا تعرض لها هديتها؛ فسرى حديث وحلت إثارة وغمر الجو شيء من البهجة التي تصدرتها مايرا، مع أنها لم تكن مبتهجة. ثم جيء بكعكة نقش عليها: «عيد ميلاد سعيد يا مايرا» باللونين الوردي والأبيض، وثبتت فيها إحدى عشرة شمعة. أشعلت الآنسة دارلينج الشمع وأنشدنا جميعا: «عيلاد ميلاد سعيد.» ثم هتفنا: «هيا يا مايرا، تمني أمنية، تمني أمنية.» ونفخت مايرا في الشمع فأطفأته. ثم تناولنا جميعا من الكعكة، كما أكلنا آيس كريم الفراولة. •••
في الرابعة دوى صوت أزيز فجاءت الممرضة وحملت ما تبقى من الكعكة، فضلا عن الأطباق المتسخة، وارتدينا معاطفنا كي نعود إلى منازلنا. قال الجميع مودعا: «إلى اللقاء يا مايرا.» وجلست مايرا في الفراش ترقبنا بينما كنا نغادر، وظهرها منتصب من دون أن تسنده أي وسادة، ويداها رابضتان فوق هداياها. لكن عند الباب سمعتها تنادي: «هيلين!» لم يسمع نداءها إلا اثنتان من الفتيات الأخريات، ولم تسمعه الآنسة دارلينج؛ لأنها كانت قد تقدمت الفتيات إلى الخارج، فعدت إلى فراشها.
قالت مايرا: «لقد حصلت على أشياء كثيرة للغاية. خذي بعضا منها.» قلت: «ماذا؟ إنها هدايا عيد ميلادك. والمرء دائما ينال أشياء كثيرة في عيد ميلاده.»
قالت مايرا: «حسنا، خذي شيئا.» والتقطت حقيبة جلدية بها مرآة ومشط ومبرد أظافر وأحمر شفاه طبيعي اللون ومنديل صغير مؤطر بخيط ذهبي. كنت قد لاحظته قبل ذلك. قالت: «خذي هذا.» «ألا تريدينه؟» «بل خذيه أنت.» ثم وضعته في يدي. وتلامست أصابعنا ثانية.
قالت مايرا: «حينما أعود من لندن، يمكنك أن تأتي وتلعبي في منزلي بعد المدرسة.»
قلت: «حسنا.» ومن خارج نافذة المستشفى تناهى صوت واضح لشخص ما يلعب في الشارع، ربما يلاحق آخر ما تبقى من كرات الثلج في هذا العام. هذا الصوت غمر مايرا - بهجتها وكرمها، والأهم من كل ذلك، مستقبلها الذي أوجدت لي فيه مكانا - بالكآبة والقتامة. كل الهدايا الموضوعة فوق فراشها، والأوراق والشرائط المطوية، تلك العطايا المشوبة بالإحساس بالذنب، غمرتها هذه الكآبة، وما عادت أشياء بريئة يمكن لمسها وتبادلها وقبولها دون خطر. لم أعد أرغب في أخذ الحقيبة، لكنني لم أستطع أن أفكر كيف يسعني أن أتملص، وأي كذبة يمكن أن أختلق. فكرت أن أهبها لأي شخص، لن ألهو بها أبدا. سأدع أخي الصغير يمزقها.
عادت الممرضة، حاملة كوبا من الحليب بالشوكولاتة.
قالت: «ما الأمر، ألم تسمعي أزيز الجرس؟»
هكذا أطلق سراحي، حررتني الحوائل التي باتت مغلقة حول مايرا، حررني عالم المستشفى الجليل المجهول الذي يفوح برائحة الأثير المخدر، وحررني غدر قلبي. قلت: «حسنا، شكرا لك، شكرا لك على هذا. وداعا.»
هل حدث أن قالت مايرا وداعا؟ على الأرجح لا. جلست في فراشها المرتفع، وعنقها الأسمر النحيل يطل من لباس المستشفى الواسع جدا عليها، بينما وجهها الأسمر المنحوت غافل عن غدري، وقد صارت هداياها - بعد أن دبر لها أن تستخدم استخدامات نبيلة - منسية مثلما كانت هي تقبع منسية في الرواق الخلفي في المدرسة.
صبيان وبنات
كان والدي مربي ثعالب؛ فكان يربي الثعالب الفضية في أقفاص، وفي الخريف وبواكير الشتاء، حينما يغزر فراؤها، يقتلها ويسلخها ثم يبيع فراءها إلى شركة «هدسون باي» أو شركة «مونتريال فير تريدرز». كانت هاتان الشركتان تقدمان لنا تقويمات عليها مشاهد بطولية كنا نعلقها، واحدة على كل جانب من جانبي باب المطبخ. أمام خلفية من السموات الزرقاء الباردة وغابات الصنوبر السوداء والأنهار الشمالية الغادرة، يقف مغامرون يرتدون قبعات مزينة بالريش وهم يغرسون علم إنجلترا أو فرنسا، بينما ينحني أشخاص همج ضخام الجثث أمام عربات الجر.
كان والدي يظل يعمل لعدة أسابيع قبل حلول «عيد الميلاد» في قبو منزلنا بعد وقت العشاء. كان القبو مطليا باللون الأبيض، ومضاء بمصباح قوته مائة وات معلق فوق طاولة الشغل. وكنت أنا وأخي ليرد نجلس على درجة السلم العليا ونراقبه. كان والدي يسلخ الفرو من فوق جثة الثعلب، الذي كان يتبين حينئذ صغير الحجم على نحو غير متوقع، هزيلا كالجرذ، بعد أن ينزع عنه فراؤه الذي يختال به. كانت الجثث الزلقة العارية تجمع في جوال وتدفن عند المزبلة. حدث ذات مرة أن دفع الأجير الذي يعمل لدينا - هنري بيلي - الجوال نحوي مازحا وهو يقول: «هدية عيد الميلاد!» ظنت أمي أن هذا أمر لا يبعث على الضحك. في الواقع كانت تكره عملية السلخ برمتها - أعني القتل والسلخ وتجهيز الفراء - وكم تمنت ألا يكون ثمة اضطرار لأن تجرى هذه العملية في المنزل. كانت تنبعث رائحة ما جراء ذلك. فبعد أن يسلخ والدي الفراء ويفرده فوق لوح طويل، كان يكحته في حرص ليزيل تجمعات الدم المتخثر عليه، وكتل الدهن، كانت رائحة الدم والدهن الحيواني - مصحوبة بالرائحة الأصلية للثعلب نفسه - تنفذ إلى كل أرجاء المنزل. بالنسبة لي كانت هذه الرائحة رائحة موسمية، شأنها شأن رائحة البرتقال وأوراق شجر الصنوبر.
كان هنري بيلي يعاني مرضا صدريا. فكان يظل يسعل ويسعل حتى يستحيل وجهه النحيل إلى اللون القرمزي، وتمتلئ عيناه الساخرتان السماويتان بالدموع، فيرفع غطاء الموقد، ثم يقف على مبعدة مناسبة منه، ثم يسدد كتلة عظيمة من البلغم مباشرة إلى قلب اللهب، فيسمع هسيس انطفائها. كنا نعجب بأدائه هذا وبقدرته على جعل معدته تقرقر متى شاء ذلك، وبضحكه الذي كان يضج بصوت صفير وقرقرة مرتفع، ويدل على البنية المتهالكة لصدره المريض. أحيانا كان من الصعب معرفة سبب ضحكه، ودائما كان من الممكن أن نكون نحن السبب.
كنا نستطيع شم رائحة الثعالب وسمع ضحك هنري حتى بعد أن نؤمر بالذهاب إلى الفراش، لكن هذه الأمور، التي تذكرنا بعالم القبو الدافئ الآمن ساطع الضوء، تبدأ في التلاشي والاضمحلال طافية فوق هواء الطابق العلوي البارد العطن. كنا نشعر بالخوف في ليالي فصل الشتاء. لم نكن نخاف مما هو في «الخارج» رغم أنه في هذا الوقت من العام كان الجليد يتكدس حول منزلنا فيبدو كحيتان جاثمة، وكانت الريح تزعجنا طوال الليل، آتية من الحقول المدفونة، والمستنقع المتجمد، يصاحبها «كورس» التهديدات والبؤس العتيق «البعبعي» المخيف. كنا نخاف مما هو في «الداخل»، من الغرفة التي ننام فيها . ففي ذلك الوقت لم يكن الطابق العلوي من منزلنا قد اكتمل بناؤه. كانت توجد مدخنة من الطوب ذات جدار واحد، وكانت توجد في منتصف الأرضية حفرة مربعة، يحيط بها سور خشبي، ويبرز منها الدرج إلى الأعلى. وعلى الجانب الآخر من بئر السلم كانت توجد الأشياء المهملة التي لم يعد يستخدمها أحد؛ لفة مشمع من أيام الجندية واقفة على طرفها، عربة أطفال من الخيزران، وسلة من نبات السرخس، وأباريق وأحواض خزفية مشروخة، وصورة لمعركة «بالاكلافا»، كئيبة المنظر للغاية. كنت قد أخبرت ليرد، بمجرد أن صار كبيرا كفاية بحيث يفهم أمورا كهذه، أن ثمة خفافيش وهياكل عظمية تعيش هناك، وكنت كلما هرب رجل من سجن المقاطعة، الذي يبعد عشرين ميلا، أتخيل أنه دخل من النافذة واختبأ خلف لفة المشمع. لكن كانت هناك قواعد للحفاظ على سلامتنا. فحينما يكون النور مضاء نكون بأمان طالما لا نتخطى محيط السجادة البالية التي تغطي مساحة غرفة نومنا، وحينما يكون النور مطفأ لم يكن أي مكان آمنا سوى الفرش نفسها. كنت أضطر لإضاءة المصباح المتدلي فوق طرف فراشي، فأمط جسدي بأقصى قدر ممكن كي أطال السلك.
في الظلام كنا نستلقي فوق فرشنا، أطواف نجاتنا الضيقة، ونثبت أعيننا على الضوء الخافت المنبعث من بئر السلم، ونتغنى بأغان. كان ليرد يغني أغنية «جينجل بيلز»، كان يحب غناءها في أي وقت، سواء وقت «أعياد الميلاد» أو غيره، وكنت أغني أغنية «داني بوي». كنت أحب وقع صوتي، الذي كان ناعما مبتهلا يرتفع في الظلام. في هذا الوقت كنا نستطيع أن نتبين الأشكال السامقة داكنة اللون التي يعلوها الجليد من خلف زجاج النافذة. وحينما كنت آتي على غناء المقطع الذي يقول: «حينما أموت، لأنني سأموت بالضرورة.» تنتابني رعشة ليست ناجمة عن برودة الأغطية وإنما عن شعور الغبطة الذي يكاد يسكت صوتي. «ستركع فوقي وتلقي صلاة العذراء مريم.» ما صلاة العذراء مريم؟ كان اليوم يمر تلو الآخر وأنا أنسى السؤال عما تعنيه الكلمة.
كان ليرد ينتقل من الغناء إلى النوم مباشرة. كنت أستطيع سماع تردد أنفاسه الطويلة المطمئنة العالية. وفيما تبقى لي من وقت، هو الأكثر خصوصية وربما الأفضل في يومي كله، كنت أحكم شد الأغطية فوق جسدي وأشرع في رواية إحدى القصص التي كنت أرويها لنفسي من ليلة إلى أخرى. كانت قصصا عني حينما أكبر، أكبر أكثر قليلا، تقع أحداثها في عالم يدور حولي بالأساس، لكنه عالم يمنحني فرصا أظهر فيها الشجاعة والجرأة والتضحية بالنفس، وهي فرص لم أكن أنالها في عالمي الحقيقي قط. في هذه القصص أنقذت حياة أشخاص من مبنى مفخخ بالقنابل (لخيبة أملي كانت الحرب الحقيقية قد اشتعلت بعيدا جدا عن بلدتي «جوبيلي»)، وأطلقت الرصاص على ذئبين مسعورين هاجما فناء المدرسة (كان المدرسون منكمشين ذعرا من خلفي)، وامتطيت في شجاعة جوادا بديعا سرت به عبر الشارع الرئيسي في «جوبيلي»، كي أتلقى شكر سكان البلدة على عمل بطولي سوف أنجزه (لم يحدث أن قاد أحد جوادا هناك سوى الملك بيلي في المسيرة الاحتفالية بيوم «البرتقاليين»). كانت هذه القصص دائما ما تتضمن امتطاء أحصنة وإطلاق رصاص، رغم أنني لم أمتط جوادا من قبل سوى مرتين - ومن دون سرج لأننا لم نكن نملك واحدا - وفي المرة الثانية انزلقت وسقطت تحت أرجل الحصان، الذي خطا فوقي برفق. أما إطلاق الرصاص فكنت أتدرب عليه في الحقيقة، لكنني لم أكن أستطيع أن أصيب أي هدف بعد، ولا حتى علب الصفيح فوق أعمدة السياج. •••
كانت الثعالب الحية تسكن عالما من صنع أبي، محاطا بسياج مرتفع، كبلدة من العصور الوسطى، له بوابة توصد بقفل عند حلول الليل، تتراص في شوارع هذه البلدة أقفاص محكمة ضخمة، لكل منها باب حقيقي يتسع لمرور رجل، ومنحدر خشبي بطول أسلاك القفص، كي يتسنى للثعالب أن تتقافز وتجري صعودا وهبوطا عليه، ووجار - شيء يشبه دولاب الملابس ومزود بفتحات تهوية - تلجأ إليه عند نومها وفي الشتاء وتحمي فيه صغارها. كانت توجد أطباق للطعام والسقاية مثبتة إلى أسلاك القفص على نحو يتيح إفراغها وتنظيفها من خارج القفص. كانت الأطباق مصنوعة من الصفيح القديم، وكانت المنحدرات الخشبية والأوجرة مصنوعة من فضلات الخشب القديم وسقط المتاع. كان كل شيء مرتبا ومنظما بإحكام؛ كان أبي يبدع دون كلل، وكان أفضل كتاب في العالم بالنسبة له هو كتاب «روبنسون كروزو». كان قد أعد برميلا من الصفيح وتحايل بحيث نجح في تركيبه على عربة يدوية، كي يستخدم في جلب الماء إلى الأقفاص. كانت هذه وظيفتي في الصيف حيث تحتاج الثعالب لأن تشرب مرتين يوميا. فكنت أملأ البرميل عند الطلمبة مرتين، بين الساعة التاسعة والعاشرة صباحا ثم مرة أخرى بعد العشاء، ثم أدفعه عبر فناء الحظيرة إلى الأقفاص حيث كنت أركن العربة وأملأ وعاء السقاية الذي أستخدمه أنا، وأمضي عبر الشوارع الفاصلة بين الأقفاص. كان ليرد يأتي هو الآخر، حاملا وعاءه الصغير ذا اللونين الأخضر والقشدي مملوءا عن آخره، يصطدم بساقيه فتنسكب دفقات من الماء فوق حذائه القماشي. أما أنا، فكان معي وعاء السقاية الفعلي، الذي يستخدمه أبي، ولو أنني لم أكن أستطيع ملأه إلا بمقدار ثلاثة أرباعه فقط.
كانت للثعالب أسماء، تطبع على لوحة من الصفيح تعلق بجانب أبواب الأقفاص. لم تكن تمنح أسماءها تلك وهي حديثة الولادة، وإنما بعد أن تفلت من موسم السلخ في عامها الأول فتلحق بثعالب سلالة التربية. كانت الثعالب التي يختار أبي أسماءها تحمل أسماء مثل «برينس» و«بوب» و«والي» و«بيتي». والثعالب التي أختار أنا أسماءها تحمل أسماء مثل «ستار» أو «ترك» أو «مورين» أو «ديانا». ثمة ثعلبة أسماها ليرد «مود» تيمنا باسم فتاة كانت تعمل لدينا حينما كان صغيرا، وثعلب أسماه «هارولد» على اسم صبي في المدرسة، وآخر أسماه «مكسيكو» ولم يذكر سبب ذلك.
لم تكن تسمية الثعالب تحيلها إلى حيوانات أليفة، أو أي شيء من هذا القبيل؛ إذ لم يكن أحد يدخل إلى الأقفاص قط سوى والدي، الذي أصيب بتسمم في الدم مرتين جراء ما ناله من عضاتها. أما أنا فكنت أراها حين أجلب لها الماء تجوس جيئة وذهابا على طول الدروب التي صنعتها داخل الأقفاص، ولا تصدر ضباحا إلا نادرا - كانت تدخر ذلك لليل، حينما تشكل جوقة تجمعها نوبة اهتياج - لكنها كانت دائما تراقبني، بأعينها المتوقدة، الصافية صفاء الذهب، فوق وجوهها الحاقدة المدببة. كانت جميلة بأرجلها الرقيقة وذيولها الأرستقراطية الأنيقة، وفروها الفضي البراق المنتثر فوق أسافل ظهورها الغامقة - سبب وصفها بالفضية - لكن جمالها كان يتجلى على نحو خاص في أعينها الذهبية ووجوهها المسحوبة بحدة متقنة والتي توحي بعداء صرف.
إلى جانب حمل الماء، كنت أساعد والدي عندما يجز العشب الطويل، ويحش نبتات الزربيح الأبيض والمسك المكسيكي المزهرة، التي كانت تنمو بين الأقفاص. كان هو يحش بالمنجل وأنا أجمع ما يحشه في أكوام. ثم يأخذ مذراة وينشر العشب المقصوص لتوه فوق أسقف الأقفاص، كي تكون الثعالب في جو ألطف ويحمي معاطفها الطبيعية التي كانت تستحيل إلى اللون البني من كثرة التعرض للشمس. لم يكن أبي يتحدث إلي إلا في شيء يتعلق بالشغل الذي نقوم به. وهو في هذا يختلف كل الاختلاف عن أمي التي كانت - حين تشعر بالابتهاج - تتحدث إلي عن كل شيء - اسم الكلب الذي اقتنته حينما كانت فتاة صغيرة، أسماء الفتيان الذين خرجت بصحبتهم حينما كانت صبية يافعة، وأشكال فساتين معينة كانت لديها - لكن لم يكن يسعها أن تتصور إلام وصل حال كل هذه الأشياء. في المقابل، كانت كل أفكار أبي وقصصه خصوصية، وكنت أستحي منه فلا أطرح عليه أية أسئلة. مع ذلك، كنت أعمل تحت ناظريه عن طيب خاطر، شاعرة بالفخر. حدث ذات مرة أن جاء بائع علف إلى الأقفاص كي يتحدث إلى والدي، وسمعت والدي يقول: «أود أن أعرفك بعاملي الجديد.» استدرت وجعلت أجمع العشب في همة، ووجهي يتورد سرورا.
قال البائع: «لا بد أنك تمزح، اعتقدت أنها مجرد فتاة.»
بعد أن قمنا بجز العشب، بدا فجأة أن السنة قد مر منها وقت طويل. كنت أسير فوق بقايا العشب في وقت مبكر من المساء، بينما السماء مخضبة بالحمرة وسكون الخريف يعم الأرجاء. وحينما انتهيت من دفع وعاء المياه إلى خارج البوابة وسكرتها بالقفل، كان الظلام على وشك أن يخيم. في إحدى الليالي في هذا التوقيت، رأيت أمي وأبي واقفين يجمعهما حديث عند الممر الترابي القصير الذي كنا ندعوه الممشى، أمام الحظيرة. كان والدي عائدا لتوه من المجزر، مرتديا مريلته الفظة المخضبة بالدماء، يحمل في يده ملء دلو من قطع اللحم.
كان من غير المعتاد رؤية أمي في الأسفل عند الحظيرة؛ فهي لم تكن تخرج من المنزل إلا لأداء أمر ما؛ نشر الغسيل أو استخراج ثمار البطاطا من بطن تربة الحديقة. بدت في غير مكانها الصحيح، بساقيها العاريتين المكتنزتين اللتين لم تريا الشمس من قبل، وهي ما تزال مرتدية مريلة المطبخ المبتلة حول بطنها من أثر غسل أطباق طعام العشاء. كان شعرها مربوطا تحت وشاح تنفلت خارجه شعيرات بسيطة. كانت تربط شعرها على هذا النحو في الصباح، قائلة إنها لم يسعها تصفيفه لضيق الوقت، فيظل مربوطا طوال اليوم. كان هذا صحيحا، أيضا، فقد كان الوقت ضيقا بالفعل. في تلك الأيام كان رواقنا الخلفي يعج بأكوام من سلال الدراق والعنب والكمثرى، جرى شراؤها من البلدة، إلى جانب البصل والطماطم والخيار الذي نزرعه في منزلنا، كل ذلك في انتظار أن يتحول إلى جيلي ومربى ومحفوظات أخرى كالمخلل وصوص الفلفل. كانت نار الموقد تظل موقدة طوال النهار، تعلوها أوعية يبقبق فيها الماء المغلي، وفي بعض الأحيان كان الكيس القماشي المستخدم في صنع الجبن يعلق فوق عصا قائمة على كرسيين، وفيه العنب الأزرق يصفي ماءه لنصنع منه الجيلي. كانت تحدد لي مهام معينة، فكنت أجلس إلى الطاولة أقشر ثمار الدراق الذي سبق غمره في الماء الساخن، أو أقطع حبات البصل، فتلتمع عيناي وتدمعان. وبمجرد أن أنتهي من عملي كنت أنطلق إلى خارج المنزل، محاولة أن أختفي من أمام ناظري أمي قبل أن تفكر في المهمة التالية التي ستكلفني بها. كنت أكره المطبخ المعتم الحار في فصل الصيف، والستائر الخضراء والورق الصمغي المخصص لصيد الذباب، والطاولة القديمة المكسوة بالقماش «المزيت» التي لا تتغير، والمرآة المموجة والمشمع ذا الفقاعات. كان التعب والانشغال ينالان من أمي كل منال بحيث لا تقوى على الحديث إلي، ويفتر فؤادها عن أن تحكي لي عن حفل التخرج الراقص الذي أقامته كلية المعلمين. كانت حبات العرق تسيل فوق وجهها، وكانت دائما تحصي عدد الأوعية هامسة وهي تشير إليها بسبابتها، ثم تفرغ بعددها أكوابا من السكر. كنت أرى أن عمل البيت لا ينتهي، كئيب بدرجة استثنائية وممل، وأن العمل خارج المنزل، وفي خدمة أبي، مقدس الأهمية.
وبينما كنت أدفع العربة أمامي وفوقها وعاء المياه متجهة إلى الحظيرة حيث كانت توضع، سمعت أمي تقول: «انتظري ريثما يكبر ليرد قليلا، وعندئذ سيتوفر لك عون حقيقي.»
لم أسمع ما قاله أبي. كنت مسرورة من طريقة وقوفه منصتا، بالاحترام الذي قد ينصت به لبائع أو لشخص غريب، لكن بشيء من الرغبة في متابعة عمله الحقيقي. شعرت أنه لا عمل لأمي في هذا المكان في الأسفل ورغبت أن يراوده نفس الشعور. ماذا كانت تعني بما قالته عن ليرد؟ إن ليرد لم يشكل أدنى عون لأي شخص. أين هو الآن؟ يتأرجح فوق الأرجوحة حتى يصاب بالغثيان، أو يجول في دوائر، أو يحاول التقاط يرقات الفراشات. لم يحدث قط أن مكث معي حتى أفرغ من عملي.
سمعتها تقول: «وحينئذ يمكنني أن أستعين بها أكثر في المنزل.» كانت طريقتها في التحدث عني متناهية الفتور، تنم عن الشعور بالحسرة ودائما تصيبني بالضيق. أضافت قائلة: «لقد انقصم ظهري وهي تعاف شغل المنزل. وكأنني لم أنجب بنتا في هذه الأسرة.»
ذهبت وجلست فوق كيس من أكياس العلف عند زاوية الحظيرة، غير راغبة في الظهور أثناء استمرار هذه المحادثة. كنت أشعر أن أمي ليست أهلا للثقة. كانت أكثر حنانا من أبي ويسهل التحايل عليها، لكن لا يمكن الاعتماد عليها، ولم يكن من الممكن معرفة الأسباب الحقيقية وراء ما تقوله وما تفعله. كانت تحبنا، وتظل حتى وقت متأخر من الليل تحيك لي ثوبا ذا قصة صعبة كنت أرغبه، كي أرتديه عندما يبدأ العام الدراسي، لكنها كانت عدوتي أيضا، كانت تكيد وتتآمر دائما. كانت تتآمر الآن بهدف أن تجعلني أقبع في المنزل لفترة أطول، رغم أنها تعرف أنني أكره ذلك (بل ربما لأنها تعرف أنني أكره ذلك)، وتمنعني من العمل لدى والدي. خطر لي أنها تفعل ذلك لمجرد المعاندة، ولكي تختبر سطوتها. لم يخطر لي أنها ربما كانت تشعر بالوحدة، أو الغيرة. لم أتصور أن يشعر بهذا أي شخص من الكبار، الكبار محظوظون للغاية. جلست أركل كيس العلف بعقبي قدمي في حركة رتيبة، تثير الغبار، ولم أخرج إلا بعد أن ذهبت.
لم أكن أتوقع بأية حال أن يعير أبي أي اهتمام لما قالته. من يتصور أن ليرد يستطيع أن يؤدي عملي؟ هل يستطيع ليرد أن يتذكر وضع القفل أو أن ينظف أوعية السقاية من القاذورات بليفة من السعف مربوطة في نهاية عصا طويلة، أو حتى أن يجر وعاء الماء دون أن يسقطه من فوق العربة؟ بين لي هذا الموقف إلى أي مدى تفتقر أمي أي دراية تذكر بحقيقة الأمور. •••
نسيت أن أخبركم عن طعام الثعالب. ذكرتني به مريلة أبي الملوثة بالدم. كنا نطعم الثعالب لحم الجياد. ففي ذلك الوقت، كان معظم المزارعين لا يزالون يحتفظون بجياد في مزارعهم، وحينما كان يشيخ أي جواد بحيث لا يعود قادرا على العمل، أو تنكسر رجله، أو تتدهور حالته ولا يستعيد عافيته، كما كان يحدث في بعض الأحيان، كان صاحبه يستدعي والدي، فيذهب هو وهنري إلى المزرعة بالشاحنة. كان المعتاد أن يطلقا النار على الجواد ويذبحاه هناك، مقابل مبلغ يدفعانه للمزارع يتراوح بين خمسة دولارات واثني عشر دولارا. لكن عندما يكون لدينا بالفعل كمية كبيرة من اللحم، كانا يأتيان بالجواد حيا، ويستبقيانه لبضعة أيام أو أسابيع في الإسطبل، حتى ينتهي مخزون اللحم الموجود. عقب الحرب، صار الفلاحون يشترون الجرارات الزراعية وبدءوا يستغنون شيئا فشيئا عن الجياد، ومن ثم، كان يحدث في بعض الأحيان أن نحصل على جواد قوي معافى، لا عيب فيه إلا أنه لم تعد هناك حاجة إليه. إذا حدث شيء كهذا في الشتاء، كان من الممكن أن نستبقي الجواد في الإسطبل حتى حلول الربيع؛ لأن العشب يكون موفورا، وإذا سقطت كميات كبيرة من الجليد - لم تكن الجرافة تنجح دائما في إزالة الجليد من طريقنا - كان من الملائم الذهاب إلى البلدة بجواد وزلاجة.
في شتاء العام الذي كنت فيه في الحادية عشرة من عمري كان لدينا جوادان في الإسطبل. لم نكن نعلم اسميهما الأصليين، فأسميناهما ماك وفلورا. كان ماك حصان شغل مسنا، حالك السواد وفاتر الطبع. أما فلورا فكانت فرسا صهباء تستخدم في جر العربات. أخذناهما معا بغرض الذبح. كان ماك بطيئا تسهل السيطرة عليه. أما فلورا فانتابتها نوبات من الذعر العنيف، وراحت تجنح نحو السيارات أو حتى الجياد الأخرى، لكننا أعجبنا بسرعتها وخطواتها الشماء، وما لها من طابع عام يتسم بالنبل والترفع. يوم السبت نزلنا إلى الإسطبل، وما إن فتحنا الباب على عتمته الدافئة العبقة برائحة حيوانية، حتى نفضت فلورا رأسها، وأدارت عينيها، وصهلت في قنوط، وانتابتها حالة عصبية في موضعها. لم يكن من المأمون الدخول إلى حجيرتها، فربما ترفس.
في هذا الشتاء أيضا بدأت أسمع ما هو أكثر بكثير عن الموضوع الذي أثارته أمي حينما كانت تتحدث أمام الحظيرة. لم أعد أشعر بالأمان. كان يبدو أن في عقول كل الأشخاص من حولي تيارا ثابتا من الأفكار المتعلقة بهذا الموضوع، والتي لا سبيل لإثنائهم عنها. كانت كلمة «بنت» تبدو لي من قبل بريئة خالية من أي مدلول، ككلمة «طفل»؛ لكن الآن تبين لي أنها ليست كذلك. لم تكن صفة «بنت» تنطبق على الحال التي كنت عليها، كما كنت أعتقد، وإنما على الحال التي يجب أن أصبح عليها. كانت تعريفا، دائما تقال بنبرة مؤكدة تنضح بالتوبيخ وخيبة الأمل. كانت أيضا أداة للاستهزاء بي. فقد حدث ذات مرة أن كنا نتعارك أنا وليرد، حينئذ اضطررت لأول مرة على الإطلاق أن أستجمع كل ما أملك من قوة كي أواجهه، ومع ذلك، قبض على ذراعي وشل حركتها لوهلة، شعرت فيها بألم حقيقي. كان هنري يراقب ما يحدث، فضحك قائلا: «أوه ، ها هو ليرد سيريك، يا له من يوم!» كان ليرد يزداد كبرا في الحجم. لكنني كنت أكبر أيضا.
جاءت جدتي لتمكث معنا لبضعة أسابيع، فسمعت أشياء أخرى. «البنت لا ينبغي لها أن تصفق الباب هكذا.» «البنت ينبغي أن تضم ركبتيها معا عندما تجلس.» كان هناك ما هو أسوأ، كنت حينما أطرح بعض الأسئلة يقال لي: «هذا أمر لا شأن للبنات به.» ظللت أصفق الأبواب وأجلس بأخرق طريقة ممكنة، ظنا مني أنني سأستطيع من خلال هذه التصرفات أن أحافظ على حريتي.
حينما حل الربيع، بات يسمح للجوادين أن يخرجا إلى فناء الحظيرة. وقف ماك قبالة جدار الحظيرة محاولا حك عنقه وفخذيه، لكن فلورا هرولت جيئة وذهابا واشرأبت من السور، وجعلت تركل السياج بحوافرها. سرعان ما تضاءل الجليد، كاشفا عن الأرض الصلبة السمراء الرمادية، وعن وهادها ومرتفعاتها المألوفة، عارية مكشوفة عقب زوال المشهد الشتوي الرائع. كان ثمة شعور بالانبساط والتحرر. لم نعد نرتدي فوق نعالنا إلا حذاء مطاطيا طويل الرقبة، وبتنا نشعر بأرجلنا خفيفة على نحو لا يصدق. وفي أحد أيام السبت خرجنا إلى الإسطبل فوجدنا كل الأبواب مفتوحة، على نحو جعل قدرا غير معتاد من أشعة الشمس والهواء المنعش يدخل إلى الداخل. كان هنري موجودا هناك، يضيع الوقت في النظر إلى مجموعة التقاويم التي كانت معلقة خلف حجيرات الجياد في جزء من الإسطبل لا أظن أن أمي رأته قط من قبل.
صاح هنري: «أجئت لتودع صديقك العجوز ماك؟ هيا أعطه بعضا من الشوفان.» ثم سكب بعض الشوفان في يدي ليرد الذي ضمهما إلى بعضهما، وراح يطعم ماك. كانت حالة أسنان ماك مزرية. كان يأكل على مهل، ويحرك الشوفان متأنيا في أنحاء فمه، محاولا أن يجد جذر ضرس كي يطحن به ما يأكل. قال هنري في رثاء: «يا لماك العجوز المسكين! إن الحصان ينتهي أمره ما إن يفقد أسنانه، هكذا هي الحال.»
سألت: «هل ستطلق عليه النار اليوم؟» كان ماك وفلورا قد ظلا لفترة طويلة في الإسطبل إلى درجة أنني نسيت أنهما سيقتلان.
لم يرد هنري على سؤالي، وإنما راح يغني بصوت ساخر متهدج مرتفع: «أوه، لم يعد هناك عمل إضافي للعم نيد المسكين، لقد ذهب إلى حيث يذهب الزنوج الطيبون.» كان ماك يحرك لسانه الغليظ المائل إلى السواد بهمة في يد ليرد. خرجت قبل أن تنتهي الأغنية وجلست عند الممشى.
لم يسبق أن رأيتهما يطلقان النار على حصان، لكنني كنت أعرف أين يجري ذلك. في الصيف الماضي عثرت أنا وليرد على أمعاء حصان لم تدفن بعد. للوهلة الأولى ظنناها حية ضخمة سوداء، ملفوفة تحت أشعة الشمس. كان ذلك بالقرب من الحقل الممتد بجانب الحظيرة. فكرت أننا إذا دخلنا الحظيرة وعثرنا على شق أو ثقب ننظر من خلاله، فسيتسنى لنا أن نراهما وهما يقتلانه. لم يكن ذلك أمرا أحب رؤيته. مع ذلك، كنت أعتقد أنه إذا كان هناك أمر ما يحدث حقا، فمن الأفضل أن أراه وأن أعرف.
خرج والدي من المنزل، حاملا البندقية.
سأل: «ماذا تفعل هنا؟»
أجاب: «لا شيء.» «هيا اصعد والعب في المنزل.»
وأخرج ليرد من الإسطبل. قلت لليرد: «هل تود أن تراهما يطلقان النار على ماك؟» ودون أن أنتظر ردا منه جذبته نحو باب الحظيرة الأمامي، وفتحته حذرة ودلفت إلى الداخل. قلت: «ابق هادئا وإلا فسيسمعوننا.» كان باستطاعتنا أن نسمع هنري وأبي يتحدثان في الإسطبل، ثم صوت الجلبة الثقيلة لخطوات ماك وهو يسحب من حجيرته.
في مخزن التبن، كان الجو باردا معتما رقيقا، وكانت خيوط من نور الشمس تدخل عبر الشقوق وتتقاطع. كان التبن منخفضا. كانت الأرضية كأرض الريف غير الممهدة، التي تتخللها الوهاد والهضاب، تنزلق تحت أقدامنا. على ارتفاع أربعة أقدام تقريبا كانت ثمة عارضة خشبية تحيط بالجدران من الداخل. كومنا التبن في أحد الأركان وقمت أنا برفع ليرد عاليا ثم رفعت نفسي. لم تكن العارضة الخشبية عريضة، زحفنا فوقها وأيدينا منبسطة فوق جدران الحظيرة. كانت هناك ثقوب عديدة، عثرت بينها على واحد من شأنه أن يمنحني المنظر الذي أردت؛ زاوية من فناء الحظيرة والبوابة وجزءا من الحقل. لم يعثر ليرد على أي ثقب وبدأ يتذمر.
أريته شقا متسعا بين لوحين. وقلت له: «اهدأ وانتظر، إذا سمعاك فستوقعنا في مشكلة.»
ظهر أبي في المشهد حاملا البندقية. كان هنري يسوق ماك ممسكا زمامه. أسقط الزمام وأخرج ورق لف السجائر والتبغ، وراح يلف سيجارتين واحدة له والأخرى لوالدي. في تلك الأثناء كان ماك يمط أنفه ويتشمم العشب الميت القديم الموجود بجانب السياج. حينئذ فتح أبي البوابة وأخرج ماك. ثم ساق هنري ماك بعيدا عن الممر إلى رقعة من الأرض وهما يتحدثان سويا بصوت لم يكن مرتفعا بحيث نستطيع سماعه. بدأ ماك يبحث ثانية عن عشب طازج يلوكه في فمه، ولكنه لم يكن ليجده هناك. مشى أبي مبتعدا في خط مستقيم، ثم توقف على مسافة قصيرة، بدت مناسبة له. كان هنري يبتعد هو الآخر عن ماك، لكن في اتجاه جانبي، وهو ما يزال ممسكا في إهمال بالزمام. رفع أبي البندقية ثم رفع ماك ناظريه إلى الأمام كأنه لاحظ شيئا ما، ثم أطلق والدي النار عليه.
لم ينهر ماك على الفور، وإنما ترنح وتمايل من جانب إلى آخر ثم سقط أولا على جانبه، ثم انقلب على ظهره، وللمفاجأة، ظل يرفس بأرجله في الهواء لبضع ثوان. أثار هذا ضحك هنري كما لو كان ماك يؤدي حيلة لإضحاكه. أما ليرد، الذي سحب نفسا مفجوعا طويلا لدهشته عندما أطلقت الرصاصة، فقال بصوت عال: «إنه لم يمت.» ظننت أن ذلك ربما يكون حقيقيا لكن أرجله توقفت، وعاد فانقلب على جانبه ثانية، وانتابت عضلاته رجفة ثم خمد جسده تماما. تحرك الرجلان نحوه وألقيا عليه نظرة عملية، ثم انحنيا وتفحصا جبهته حيث اخترقت الرصاصة رأسه، حينئذ رأيت دمه على العشب البني.
قلت: «الآن سيسلخانه ويقطعانه، هيا نذهب.» كانت رجلاي ترتعشان قليلا، وقفزت في إثارة إلى الأسفل فوق التبن. قلت لليرد بنبرة مهنئة: «ها قد رأيت كيف يقتلون جوادا.» وكأنني قد رأيت هذا المشهد مرات كثيرة من قبل. ثم أردفت: «دعنا نر إذا كانت أي من قطط الحظيرة قد خبأت قططا صغيرة في التبن.» قفز ليرد ورائي، وبدا صغيرا ومطيعا من جديد. حينئذ تذكرت فجأة كيف، حينما كنت صغيرة، جلبته إلى الحظيرة وطلبت منه أن يتسلق السلم الخشبي إلى العارضة العلوية. كان هذا أيضا في الربيع، حينما كان كوم التبن منخفضا. كنت قد فعلت ذلك رغبة في الإثارة، رغبة في حدوث شيء ما يمكن أن أحكي عنه. كان ليرد يرتدي معطفا واسعا بالنسبة إليه إلى حد ما، ذا مربعات باللونين الأبيض والبني. كان المعطف لي قبل أن يجري تصغيره كي يرتديه. أخذ يتسلق ليرد صاعدا إلى الأعلى كما طلبت منه، وجلس فوق العارضة. كان التبن في الأسفل بعيدا عنه في أحد جانبي الحظيرة، وكانت الأرضية وبعض الماكينات القديمة في الجانب الآخر. عندئذ ركضت أنادي أبي صارخة: «ليرد صعد فوق عارضة الحظيرة!» جاء أبي وجاءت أمي، ثم صعد أبي درجات السلم وهو يتحدث في هدوء وأنزل ليرد حاملا إياه تحت ذراعه، بينما اتكأت أمي إلى السلم وأجهشت بالبكاء. قالا لي: «لماذا لم تحرصي على مراقبته؟» لكن لم يعرف أحد حقيقة ما حدث. ولم يكن ليرد يعرف ما يكفي لأن يحكي ما حدث. لكنني كنت كلما رأيت المعطف ذا المربعات البنية والبيضاء معلقا في دولاب الملابس، أو في قاع كيس الملابس البالية حيث انتهى أمره، أشعر بثقل في معدتي، ندما على ذنب لم أتطهر منه.
نظرت إلى ليرد الذي كان لا يتذكر ذلك أصلا، لم أكن أحب تلك النظرة التي تعلو هذا الوجه النحيل الشاحب شحوبا شتويا. لم يبد مذعورا أو متكدرا، وإنما بدا شاردا مركزا تفكيره في أمر ما. قلت بصوت مرح وودود على غير المعتاد: «اسمع، لن تخبر أحدا، أليس كذلك؟»
قال ذاهلا: «بلى!» «أتعدني بهذا؟»
قال: «أعدك.» جذبت اليد التي خلف ظهره كي أضمن أنه لم يضع إصبعه الوسطى فوق السبابة (دلالة على أنه لن يفي بالوعد). مع ذلك، ربما ينتابه كابوس، فينفضح الأمر بهذه الطريقة. قررت أنني من الأفضل أن أعمل بهمة على انتزاع كل الأفكار المتعلقة بما رآه من عقله، الذي بدا لي أنه لا يستطيع أن يستوعب قدرا كبيرا من الأشياء معا. كان لدي بعض النقود التي كنت قد ادخرتها فأخذته ذلك المساء وذهبنا إلى «جوبيلي» وشاهدنا عرضا، للممثلة جودي كانوفا، ضحكنا منه كثيرا. بعد ذلك فكرت أن الأمر سيكون على ما يرام.
بعد أسبوعين علمت أنهم سيقتلون فلورا. علمت ذلك في الليلة السابقة لقتلها، حينما سمعت أمي تسأل أبي عما إذا كان مخزون التبن كافيا وعلى ما يرام، فقال أبي: «حسنا، بعد الغد لن يكون لدينا إلا البقرة، وغالبا سنتمكن من إخراجها لترعى الكلأ الطازج بعد أسبوع.» فأدركت أن دور فلورا سيحين في الصباح.
هذه المرة لم أفكر في مشاهدة ما سيحدث، فقد كان هذا أمرا ينبغي ألا يرى سوى لمرة واحدة. وكنت مذ رأيت قتل ماك لا أفكر فيما رأيت كثيرا، لكن في بعض الأحيان حينما أكون منشغلة، في المدرسة، أو واقفة أمام المرآة أمشط شعري وأتساءل عما إذا كنت سأصبح جميلة حين أكبر، كان المشهد برمته يبرق في ذهني؛ فأرى طريقة أبي المسترخية المتمرسة في رفع البندقية، وأسمع هنري يضحك لمرأى ماك يرفس بأرجله في الهواء. لم يترك هذا في نفسي قدرا كبيرا من الشعور بالرعب والاعتراض، كالذي كان سيصيب أي طفل تربى في المدينة، فقد كنت معتادة جدا على رؤية قتل الحيوانات مدركة أن ذلك ضرورة بالنسبة لمصدر رزقنا. ومع ذلك، كنت أشعر بالعار إلى حد ما، وطرأ على موقفي من أبي وعمله شعور جديد بالتحفظ، وربما بالإحجام والاتقاء.
كان جو اليوم التالي صحوا معتدلا، وكنا نمشي في أنحاء الفناء نلتقط أفرع الشجر التي كانت عواصف الشتاء قد مزقتها. كانت هذه مهمة قيل لنا أن نقوم بها، فضلا عن أننا كنا نريد استخدام الأفرع في صنع «تيبة» (خيمة مخروطية تشبه خيام الهنود الحمر). سمعنا صهيل فلورا، ثم صوت أبي وصراخ هنري، فركضنا نحو فناء الحظيرة لنرى ما الأمر.
كان باب الإسطبل مفتوحا، وكان هنري قد أخرج فلورا للتو، فهربت منه . كانت تنطلق حرة في فناء الحظيرة، من ناحية إلى أخرى. تسلقنا السياج. كان من المثير رؤيتها تركض وتصهل وترتفع على رجليها الخلفيتين، تتبختر وتتوعد كخيل أفلام الغرب الأمريكي، الخيل البرية، مع أنها لم تكن سوى فرس عجوز من خيل جر العربات، فرس صهباء عجوز. راح أبي وهنري يركضان ليلحقا بها وحاولا أن يقبضا على زمامها المتدلي. حاولا أن يحاصراها في إحدى الزوايا، وكادا ينجحان لولا أنها ركضت مفلتة من بينهما، يلوح في عينيها هياج، واختفت خلف زاوية الحظيرة. سمعنا صوت طقطقة أعمدة السياج إثر اجتيازها السور، وصرخ هنري: «إنها في الحقل الآن!»
كان هذا يعني أنها في الحقل الممتد على شكل حرف
L
باللغة الإنجليزية بجانب المنزل. كانت إذا وصلت بالقرب من المنتصف، واتجهت نحو الممر الضيق، فستجد البوابة مفتوحة، فقد أدخلت الشاحنة إلى الحقل صباح ذلك اليوم. صرخ أبي في لأنني كنت على الجانب الآخر من السور، في أقرب بقعة من الممر الضيق: «أسرعي وأغلقي البوابة!»
كان باستطاعتي أن أجري بسرعة، جريت عبر الحديقة، بجانب الشجرة المعلقة عليها أرجوحتنا، ووثبت عابرة قناة الماء إلى الممر الضيق. ووصلت إلى البوابة المفتوحة. لم تكن فلورا قد خرجت بعد، ولم أكن ألمحها في الطريق، لا بد أنها ركضت إلى الجانب الآخر من الحقل. كانت البوابة ثقيلة. رفعتها من الحصى ودفعتها كي أغلقها. كنت قد أغلقتها حتى المنتصف حين ظهرت في المشهد، تعدو مباشرة نحوي. كان لدي من الوقت ما يكفي لوضع الجنزير، وجاء ليرد يستبق عبر قناة الماء كي يساعدني.
لكن بدلا من أن أغلق البوابة، فتحتها بأوسع ما استطعت. لم أتخذ قرارا بأن أفعل ما فعلت، وإنما كان هذا ما فعلته وحسب. لم تبطئ فلورا قط، وجرت سريعا مارة من أمامي، بينما ليرد يتقافز ويصيح: «أغلقيها، أغلقيها!» حتى بعد أن فات أوان ذلك. ظهر أبي وهنري في الحقل بعد ذلك بدقيقة واحدة فلم يدركا ما فعلت. رأيا فقط فلورا تتجه صوب طريق البلدة. كانا يظنان أنني لم أدرك البوابة في الموعد المناسب .
لم يضيعا أي وقت في سؤالي عن ذلك، وعادا إلى الحظيرة وأحضرا البندقية والسكاكين، ووضعا هذه الأشياء في الشاحنة، ثم اتجها بها صوبنا وتقدما بسرعة ناحيتنا عبر الحقل. ناداهما ليرد: «دعاني أذهب معكما، دعاني أذهب!» فأوقف هنري الشاحنة وأخذاه. أغلقت البوابة بعد أن ذهب ثلاثتهم.
خمنت أن ليرد سيحكي ما حدث، وتساءلت عما سيحل بي. لم يسبق لي قط أن عصيت والدي، ولم يسعني أن أفهم لماذا فعلت ذلك. لا سيما أن فلورا لن تتمكن من الهرب فعلا؛ فهم يستطيعون اللحاق بها بالشاحنة. وحتى إذا لم يستطيعوا الإمساك بها هذا الصباح، فسيراها أحدهم ويتصل بنا عصرا أو في الغد، فليست هناك منطقة برية هنا لتهرب إليها، لا شيء سوى المزارع. إلى جانب أن أبي قد دفع ثمنها، ونحن بحاجة إلى اللحم كي نطعم الثعالب، ونحن بحاجة إلى الثعالب كي نكسب عيشنا. كل ما فعلته هو أنني ألقيت بمزيد من الشغل على كاهل أبي الذي كان على كاهله الكثير من الشغل بالفعل. ثم إنه حالما يكتشف أمر ما حدث لن يثق في بعد ذلك، وسيعلم أنني لست إلى جانبه تماما. كنت إلى جانب فلورا، وهذا جعلني عديمة النفع لأي شخص، حتى لها. رغم ذلك، لم آسف على ما فعلت حينما جاءت تعدو نحوي وفتحت لها البوابة؛ إذ لم يكن يسعني أن أفعل غير ذلك.
عدت أدراجي إلى المنزل. سألتني أمي: «لم كل هذه الجلبة؟» أخبرتها أن فلورا حطمت السياج وهربت. قالت: «يا لأبيك المسكين! الآن سيضطر لملاحقتها في كل أنحاء الريف. حسنا، لا جدوى من تحضير طعام العشاء قبل الواحدة.» ونصبت طاولة الكي. أردت أن أخبرها، لكنني ظننت أن هذه ليست فكرة سديدة، فصعدت إلى الأعلى وجلست على فراشي.
كنت في الآونة الأخيرة أعمل على تنميق الشطر الخاص بي من الغرفة، أفرش الفراش بستائر «الدانتيل» القديمة، وأهيئ لنفسي منضدة للزينة فرشت فوقها بعضا من قماش الكريتون الذي تبقى من حياكة تنورة. وخططت لأن أنصب ما يشبه الحاجز بين فراشي وفراش ليرد ، كي أجعل شطري منفصلا عن شطره. تحت ضوء الشمس، لم تكن قطع ستائر «الدانتيل» سوى أسمال متربة. لم نعد نغني ليلا مثلما كنا نفعل. فقد حدث ذات ليلة بينما كنت أغني أن قال لي ليرد: «تبدين حمقاء وأنت تغنين»، فلم أحفل بما قال وواصلت الغناء، لكن في الليلة التالية لم أبدأ الغناء. لم يكن هناك ما يستدعي ذلك على أية حال، فنحن لم نعد نشعر بالخوف. بتنا نعلم أن الأشياء الموجودة في الركن ليست سوى أثاث قديم، ركام عتيق وفوضى. لم نعد نلتزم بالقواعد، لكنني كنت أظل مستيقظة بعد أن ينام ليرد وأحكي لنفسي القصص، لكن حتى هذه القصص كان يحدث فيها شيء مختلف، لقد طرأ عليها تغير غامض. كان من الممكن أن تبدأ القصة على النحو المعتاد بخطر محدق، كحريق أو حيوانات متوحشة، ثم أشرع في إنقاذ أشخاص لبعض الوقت، ثم يتغير كل شيء، ويأتي من ينقذني بدلا من أن أكون أنا من ينقذ. يمكن أن يكون المنقذ صبيا من صفنا في المدرسة، أو حتى السيد كامبل معلمنا، الذي كان يدغدغ البنات تحت إبطهن. عند هذه المرحلة كانت القصة تتمحور بقدر أكبر حول شكلي، مثلا، كم كان شعري طويلا وأي نوع من الفساتين كنت أرتدي، وما إن تبدأ هذه التفاصيل في التطور حتى تتلاشى الإثارة الأصلية للقصة.
كانت الساعة قد تعدت الواحدة حينما عادت الشاحنة. وكان ثمة مشمع مفروش في خلفيتها، ما يعني أن هناك لحما بداخلها. اضطرت أمي لتسخين الطعام ثانية، وكان أبي وهنري قد غيرا رداءي العمل المخضبين بالدماء بآخرين خاصين بالعمل المعتاد في الحظيرة، وغسلا أذرعهما ورقبتيهما ووجهيهما عند الحوض، ونثرا الماء على شعريهما ومشطاهما. رفع ليرد ذراعه متباهيا بخط دقيق من الدم كان عليها وقال: «قتلنا فلورا، وقطعناها إلى خمسين قطعة.»
قالت أمي: «حسنا، لا أريد أن أسمع شيئا عن ذلك، ولا تأت لمائدتي بهذه الحال.»
أمره أبي أن يذهب ويغتسل من الدم.
جلسنا جميعا وشرع أبي يتلو صلاة ما قبل الأكل، وألصق هنري العلكة التي كان يلوكها على نهاية شوكته كما اعتاد أن يفعل. كان حينما يخلعها يجعلنا نستحسن الطريقة التي يؤدي بها ذلك. بدأنا نمرر سلطانيات الخضار المطبوخ أكثر من اللازم، التي يتصاعد منها البخار. صوب ليرد نظره إلي عبر المائدة وقال في غطرسة ظاهرة: «على أية حال كان هروب فلورا غلطتها هي.»
قال أبي: «ماذا!» «كان بوسعها أن تغلق البوابة ولم تفعل، بل فتحتها على مصراعيها وهربت فلورا.»
تساءل أبي: «هل هذا صحيح؟»
كان جميع الجالسين إلى الطاولة ينظرون إلي. أطرقت، ورحت أزدرد الطعام في صعوبة بالغة. ولخزيي الشديد، انهمرت الدموع من عيني.
ند من أبي صوت يوحي بالازدراء، وسألني: «لم فعلت ذلك؟»
لم أجب، ووضعت شوكتي وظللت جالسة في انتظار أن أصرف عن المائدة وأنا لا أزال أنظر إلى الأسفل.
لكن هذا لم يحدث. لم ينبس أحد بكلمة لبعض الوقت، ثم قال ليرد بنبرة تخلو من أي عاطفة: «إنها تبكي.»
قال أبي: «لا بأس.» ثم تحدث بنبرة تنم عن التسليم بالأمر الواقع، وربما بشيء من المرح، فقال الكلمات التي أعفتني من مهامي إلى الأبد. قال: «ليست سوى فتاة.»
لم أحتج، حتى في نفسي. لعل ما قاله صحيح.
بطاقة بريدية
بعد ظهر البارحة، بالأمس، كنت في طريقي إلى مكتب البريد، أفكر كم سقمت من الجليد، ومن التهابات الحلق، ومن التثاقل الذي يجرجر به الشتاء أذياله، وتمنيت لو كنت أستطيع أن أشد الرحال إلى فلوريدا، مثل كلير. كان ذلك بعد ظهر يوم الأربعاء، اليوم الذي أعمل فيه لمنتصف النهار فقط. أنا أعمل في متجر كينج الشامل، الذي - بالرغم من اسمه - لا يزيد على كونه متجرا للأقمشة والملبوسات الجاهزة. من قبل، كانوا يبيعون مواد البقالة، لكنني بالكاد أتذكر ذلك. كانت ماما تأخذني إلى هناك وتجلسني على الكرسي المرتفع، وكان السيد كينج العجوز يعطيني حفنة من الزبيب ويقول لي: «أنا لا أعطيها إلا للبنات الجميلات.» وحينما مات السيد كينج العجوز أزالوا قسم البقالة، بل إن المتجر لم يعد متجر كينج، وإنما صار ملكا لشخص يدعى كروبرج. لكن آل كروبرج أنفسهم لا يقربون المتجر أبدا، فقد اكتفوا بإرسال السيد هوز مديرا له. أنا مسئولة عن الدور العلوي، قسم ملابس الأطفال، وعن نصب «أرض الألعاب» وقت عيد الميلاد. طوال أربعة عشر عاما وأنا في ذلك المكان، وهوز لا يضايقني، لعلمه أنني ما كنت لأتقبل ذلك.
ولما كان اليوم هو الأربعاء، كانت نوافذ مكتب البريد مغلقة، لكن كان معي مفتاحي. فتحت قفل صندوقنا وأخرجت صحيفة جوبيلي، المرسلة باسم ماما، وفاتورة الهاتف وبطاقة بريدية كدت لا أراها. نظرت إلى الصورة التي عليها أولا، فرأيت نخيلا وسماء زرقاء وشمسا دافئة، وواجهة فندق صغير عليها لافتة على شكل امرأة ضخمة شقراء، أظن أنها تضاء بأنوار النيون في الليل. كانت اللافتة تقول «اقض ليلتك عندي.» كان هذا مكتوب على بالون حوار يخرج من فم المرأة. قلبت البطاقة وقرأت ما هو مكتوب: «مع ذلك لم أقض الليلة عندها، فقد كان الفندق غاليا جدا. الطقس هنا غاية في الروعة. درجة الحرارة تتراوح حول منتصف السبعينيات بمقياس فهرنهايت. ترى ما حال الشتاء معك في جوبيلي؟ أرجو ألا يكون سيئا. كوني فتاة عاقلة. كلير» كان تاريخ البطاقة يعود لعشرة أيام مضت. حسنا، أحيانا تتأخر البطاقات البريدية في الوصول، لكنني أراهن أن ما حدث هو أنه ظل يحملها في جيبه لبضعة أيام قبل أن يتذكر إرسالها بالبريد. كانت هذه البطاقة الوحيدة التي أتسلمها منذ رحيله إلى فلوريدا منذ ثلاثة أسابيع، بينما كنت أنا هنا أتوقع عودته شخصيا يوم الجمعة أو السبت. كان يذهب في هذه الرحلة كل شتاء مع أخته بوركي وزوجها هارولد، اللذين يعيشان في مدينة ويندسور. كان لدي شعور بأني لا أعجبهما، لكن كلير قال إنني أتصور ذلك فحسب. كنت كلما جمعني حديث ببوركي ارتكبت خطأ ما، كأن أقول مثلا إن «كذا لا علاقة بي له» بالرغم من علمي أن العبارة الصحيحة هي «كذا لا علاقة له بي»، فلا تدع ذلك يمر قط دون أن تثرثر بشأنه، لكنني كنت أظل أفكر في ذلك فيما بعد وأتميز غيظا. مع أنني أعرف أن في صالحي أن أحاول التحدث بالطريقة التي لا يمكن أن أتحدث بها عادة في جوبيلي، وأن أحاول نيل إعجابها لأنها من آل ماكواري، بالرغم من كل المحاضرات التي ألقيها على مسامع أمي لأفهمها أننا لا نقل عنهم وجاهة ونبلا.
كنت أقول لكلير: اكتب لي رسالة حينما تكون مسافرا. فكان يقول: «ماذا تريدينني أن أكتب لك؟» فطلبت أن يصف المناظر التي يراها والأشخاص الذين يقابلهم، أي شيء يمكن أن يكون مسليا بالنسبة لي أن أعرفه، بما أنني لم يسبق لي قط أن أخرج لأبعد من بافالو للمتعة (لن أضع في حسباني رحلة القطار التي اصطحبت فيها ماما إلى وينيبج لزيارة بعض الأقارب). لكن كلير قال: «أستطيع أن أخبرك بكل ما تريدين معرفته حين أعود.» لكنه لم يكن يفعل ذلك قط. كنت حينما أراه ثانية أقول: «حسنا، احك لي كل شيء عن رحلتك»، فكان يقول: «ماذا تريدينني أن أحكي؟» كان هذا يغيظني جدا؛ إذ كيف لي «أنا» أن أدري؟
رأيت ماما في انتظاري، تراقبني عبر النافذة الصغيرة في الباب الأمامي. فتحت الباب حينما أصبحت في الممشى وصاحت: «احترسي لنفسك، الأرض زلقة. لقد كاد بائع الحليب يسقط على رأسه هذا الصباح.»
قلت: «ثمة أيام أظن أنني لا أبالي فيها أن تنكسر لي رجل.» فقالت: «لا تتفوهي بأشياء كتلك، كأنك تستنزلين لنفسك العقاب.»
قلت: «كلير أرسل لك بطاقة بريدية.» «أوه، لا يمكن!» قلبت البطاقة على وجهها الآخر وقالت: «إنها موجهة إليك، كما توقعت تماما.» لكنها تجاوزت ذلك بابتسامة. «أنا لا آبه للصورة التي اختارها، لكن ربما لا يتسنى للمرء مجال واسع للاختيار هناك.»
على الأرجح كان كلير محل إعجاب السيدات المتقدمات في السن منذ أن استطاع المشي. كان في نظرهم ما يزال ولدا سمينا ظريفا، دمث الخلق، ولا يبدي أي غرور مع أنه من آل ماكواري، وله طريقة في الممازحة ترفع معنوياتهن وتحمر لها وجناتهن خجلا. كان لماما وكلير طرق كثيرة للمزاح لم أستطع أبدا أن أجاريها. منها أنه كان يأتي فيطرق الباب ويقول شيئا مثل: «عمت مساء سيدتي، كنت أتساءل فقط إن كان يمكنني أن أقنعك بدورة لتحسين لياقة الجسم أسوق لها كي يتسنى لي دفع مصاريف الكلية.» فتتظاهر أمي بكظم غيظها وتعبس في وجهه وتقول: «اسمع أيها الشاب، هل أبدو بحاجة إلى دورة لتحسين لياقتي البدنية؟» أو يمكن أن يبدو محزونا ويقول: «سيدتي، أنا هنا لأنني قلق على روحك.» فكانت أمي تنفجر ضاحكة وتقول: «يجدر أن تقلق على روحك أنت.» ثم تطعمه كفتة الدجاج وفطيرة مارينج الليمون، وهما من أكلاته المفضلة. كان يقول لها على المائدة نكتا لم أكن أتصور أن تستمع لها؛ مثل «هل سمعت عن ذلك الرجل المحترم المسن الذي تزوج من زوجة شابة ثم ذهب إلى الطبيب؟ دكتور أواجه بعض المتاعب ...» فتقول أمي «لا تكمل.» لكنها كانت تنتظر إلى أن يتم النكتة، وتقول: «أنت تحرج هيلين لويز.» كنت قد تخلصت من اسم لويز الذي يلتصق باسمي في كل مكان ما عدا في المنزل. علم به كلير من ماما، أخبرته أنني لا أحب هذا الاسم لكنه ظل يناديني به. أحيانا كنت أشعر بأنني صغيرتهما، حينما كنت أجلس بينه وبين ماما بينما يمزحان ويستمتعان بطعامهما ويخبرانني بأنني أسرف في التدخين وأنني إذا لم أستقم في جلستي فسيتحدب كتفاي للأبد. كان كلير - ولا يزال - يكبرني باثني عشر عاما، ولا أذكره أبدا إلا في صورة رجل كبير. •••
كنت أراه في الشارع وكان يبدو كبيرا بالنسبة لي حينئذ، على الأقل كما كان كل الكبار يبدون بالنسبة لي. إنه من أولئك الذين يبدون أكبر سنا وهم صغار ويبدون أصغر سنا وهم كبار. كان دائما يوجد في فندق كوينز. فلأنه من آل ماكواري لم يكن مضطرا لأن يعمل بجد. وكان له مكتب صغير ويعمل أحيانا كموثق عقود، أو يؤدي بعض مهام التأمين أو العقارات. وهو ما يزال يملك هذا المكان، الذي دائما ما ترى نافذته الأمامية غائمة ومتربة، ويوجد نور متقد في خلفيته، صيفا وشتاء، حيث تجلس سيدة في الثمانين من عمرها تقريبا، تدعى الآنسة ميتلاند، تقوم بما يأمرها به من الطباعة على الآلة الكاتبة أو غيرها من المهام التي يكلفها بها. وحينما لا يكون في فندق كوينز، يكون برفقة صديق أو اثنين من أصدقائه يجلسون حول المدفأة الكهربائية ويلعبون بأوراق اللعب، بينما يحتسون الشراب في هدوء، وغالبا يتحدثون فحسب. ثمة نوع من الرجال في جوبيلي، وفي كل بلدة صغيرة على ما أظن، يمكنك أن تصفه بأنه مشهور. لا أعني بذلك «شخصيات» بارزة عامة، ذات شأن يؤهلها للترشح لانتخابات البرلمان أو حتى لمنصب العمدة (مع أن كلير يستطيع ذلك إن أراد أن يأخذ الأمر على محمل الجد)، وإنما أعني رجالا موجودين دائما في الشارع الرئيسي ولهم وجوه معروفة. إن كلير وأصدقاءه من هذا النوع.
قالت ماما: «أهو هناك برفقة أخته؟» وكأنني لم أخبرها بذلك من قبل. إن كثيرا من حديثي مع ماما يكون معادا. سألت: «ما ذلك الاسم الذي ينادونها به؟»
أجبت: «بوركي.» «نعم، أذكر أنني ظننت أن هذا اسم امرأة كبيرة. وأذكر أن اسمها عند التعميد كان إيزابيل. كان هذا قبل أن أتزوج بوقت طويل، كنت لا أزال أنشد في جوقة الكنيسة. حينئذ ألبسوها أحد أثواب التعميد المستحدثة «المجرجرة»، تعرفينها؟» كانت أمي مغرمة بكلير لكن ليس بآل ماكواري. كانت تعتقد أنهم يتكبرون حتى في التقاط أنفاسهم. أتذكر منذ سنة أو سنتين أننا كنا مارتين بجانب مسكنهم، فقالت شيئا ما عن الحرص على ألا أطأ بقدمي فوق نجيل «القصر»، فقلت لها: «ماما، في غضون بضع سنوات سأكون مقيمة هنا، سيكون هذا «منزلي أنا»؛ لذا من الأفضل أن تكفي عن وصفه بالقصر بنبرة الصوت هذه.» نظرنا معا إلى أعلى المنزل بكل مظلاته ذات اللون الأخضر الغامق والمزينة بحرفي
Ms
بخط أبيض كبير، وكل شرفاته الواسعة ونوافذه ذات الزجاج المعشق المثبتة في الجدار الجانبي، كأنه كنيسة. ما من علامة تدل على وجود حياة، لكن في الأعلى كانت السيدة ماكواري راقدة، وما تزال، مشلولة شللا نصفيا جانبيا ولا تستطيع التكلم، تعتني بها ويلا مونتجومري نهارا ويعتني بها كلير ليلا. تزعجها أصوات الغرباء في المنزل، وكل مرة يأخذني فيها كلير إلى هناك لا يسعني إلا الهمس كي لا تسمع صوتي وتدخل في نوبة من نوبات الشلل. قالت أمي بعد أن نظرت طويلا: «هذا مضحك، لكنني لا أتصور أن تحملي اسم ماكواري.» «اعتقدت أنك مولعة بكلير.» «حسنا، أنا كذلك، لكنني لا أستطيع أن أتصوره إلا آتيا لاصطحابك للخروج ليلة السبت، أو لتناول عشاء يوم الأحد، ولا أتصوركما زوجين.» «انتظري لتري ما سيحدث حينما تموت السيدة العجوز.» «أذلك ما قاله لك؟» «هذا مفهوم.»
قالت ماما: «حسنا، قد تكونين محقة!» «إنك لست مضطرة لأن تتصرفي وكأنه يقدم لنا معروفا، لأنني أستطيع أن أخبرك أن كثيرا من الناس يمكن أن يروا الأمر على نحو معاكس.»
قالت أمي بصوت لطيف: «ألا أستطيع أن أفتح فمي من دون أن تشعري بالإهانة؟»
كنت أنا وكلير ندلف من الباب الجانبي في ليالي السبت ونصنع قهوة وشيئا نأكله في المطبخ عتيق الطراز ذي الجدران العالية، متسللين في منتهى الهدوء والسرية كأننا ولد وبنت يلتقيان بعد المدرسة، ثم نخطو على أطراف أصابعنا صاعدين السلم الخلفي إلى غرفة كلير فنفتح التلفاز بحيث تظن السيدة العجوز أنه وحده يشاهده. كنت إذا نادته استلقيت وحدي في الفراش الواسع أشاهد البرامج أو أنظر إلى الصور القديمة المعلقة على الجدار، صوره في فريق هوكي المدرسة الثانوية يلعب حارس مرمى، وصورة بوركي في لباس التخرج، وصورته مع بوركي في إحدى العطلات مع بعض أصدقاء لا أعرفهم. وكنت إذا استبقته عندها طويلا أشعر بالملل فأهبط إلى الدور السفلي مستترة بصوت التلفاز وأتناول المزيد من القهوة. (لم أشرب قط أي مشروب مسكر، كنت أترك هذا لكلير.) في النور الوحيد المضاء، نور المطبخ، كان يتسنى لي أن أدخل حجرة الطعام وأفتح الأدراج وأنظر إلى مفارشها، وأفتح خزانة الأواني الخزفية وصندوق أدوات المائدة الفضية، فأشعر كأنني لصة. لكنني كنت أفكر، لم لا أستمتع بهذا وباسم ماكواري طالما أنني أفعل هذا بالفعل على أية حال؟ قال لي كلير: «تزوجيني» بعد وقت قصير من بداية خروجنا معا، فقلت له: «لا تزعجني، لا أود أن أفكر بشأن الزواج» فكف عن الحديث في هذا الموضوع. وحينما أثرت أنا هذا الموضوع مجددا، بعد سنوات، بدا مسرورا. قال «حسنا، لا أعتقد أن ثمة كثيرا من الذكور العجائز أمثالي يسمعون فتاة جميلة مثلك تقول إنها ترغب في الزواج منهم.» فكرت في نفسي، انتظروا إلى أن أتزوج وأذهب إلى متجر كينج وأجعل هوز يهرع في كل الأرجاء ملبيا طلباتي، ذلك العجوز السخيف. كم أود أن أذله وأضايقه، لكنني سأتمالك نفسي، من باب التأدب. •••
قلت لماما: «سآخذ تلك البطاقة البريدية الآن وأضعها في صندوقي، ولا يسعني أن أفكر في طريقة أفضل نقضي بها عصر اليوم من أن نحظى بقيلولة.» صعدت إلى الدور العلوي وارتديت الروب (صيني مطرز، كان هدية من كلير). وضعت شيئا من الكريم على وجهي ثم أخرجت الصندوق الذي أحفظ فيه البطاقات البريدية والخطابات وغيرها من التذكارات، ووضعتها مع البطاقة البريدية التي كانت قد وصلت من فلوريدا منذ سنوات، وبعض البطاقات من متنزهات بانف وجاسبر وجراند كانيون ويلوستون. ثم لتضييع الوقت شرعت في مشاهدة صوري أيام المدرسة وشهادات درجاتي وصور برنامج «إتش إم إس بينافور»، الذي عرضته المدرسة الثانوية وكنت أنا بطلته - ماذا كان اسمها؟ - ابنة القبطان. أتذكر كلير حينما التقى بي في الشارع وهنأني على غنائي وروعة جمالي، وأذكر كيف كنت أتغنج عليه بعض الشيء لا لشيء إلا لأنه كان يبدو كبيرا جدا ولا خطر منه، كنت أتغنج دون أن ألقي بالا، كنت مزهوة بنفسي. ألم أكن لأفاجأ لو كنت علمت ما سيحدث؟ لم أكن حتى قد التقيت بتيد فورجي بعد.
ميزت رسالته بمجرد أن رأيتها من الخارج، ولم أقرأها قط، لكن بدافع الفضول فتحتها وبدأت القراءة: «عادة أكره أن أكتب رسالة بالآلة الكاتبة لأن الرسالة تفتقر بذلك اللمسة الشخصية، لكنني في غاية الإنهاك الليلة إلى جانب كل الضغوط الطارئة هنا؛ لذا آمل أن تعذريني.» كان مجرد النظر إلى الرسالة، مكتوبة بالآلة الكاتبة أو غير ذلك، يمنحني شعورا بالحب، إن كان لكم أن تسموه حبا، قويا إلى حد أنه يكاد يعتصر قلبي ويطرحني أرضا. تيد فورجي كان مذيعا في محطة إذاعة جوبيلي لمدة ستة أشهر في الوقت الذي كنت فيه على وشك أن أنهي دراستي الثانوية. كانت ماما تقول إنه كبير السن للغاية بالنسبة لي - لم تقل ذلك قط عن كلير - لكنه لم يكن إلا في الرابعة والعشرين من عمره. كان قد قضى سنتين في إحدى المصحات مصابا بمرض السل، وهذا جعله يبدو أكبر من عمره الحقيقي بسنوات. كنا نصعد معا إلى تل سوليفان فيحكي كيف كان يعيش والموت يحدق في وجهه، وكيف أدرك قيمة أن يكون قريبا من إنسان واحد، لكنه لم يجد إلا الوحدة. كان يقول إنه يرغب في أن يدس رأسه في حضني ويبكي، لكن طوال الوقت كان ما «يفعله» أمرا آخر. وحينما رحل صرت كمن يسير وهو نائم. لم أكن أستيقظ إلا بعد الظهر حين أذهب إلى مكتب البريد وأفتح الصندوق بينما ركبتاي لا تكادان تحملانني، كي أرى إن كنت قد تلقيت رسالة. ولم يحدث قط أن تلقيت منه رسالة بعد تلك. صارت أماكن تصيبني بالضيق؛ تل سوليفان ومحطة الإذاعة ومقهى فندق كوينز. لا أدري كم ساعة قضيتها في ذلك المقهى، أسترجع في عقلي كل حديث دار بيننا وأتصور كل نظرة علت وجهه، غير مدركة بعد أن التمني لم يكن ليجره عبر ذلك الباب ثانية. صارت علاقتي ودية بكلير هناك. كان يقول إنني أبدو كأنني بحاجة إلى من يبهجني، وراح يحكي لي بعضا من قصصه. لم أصارحه قط بمشكلتي، لكن حينما بدأنا نخرج معا وضحت له أن الصداقة هي كل ما يمكن أن أقدمه له. قال إنه يقدر ذلك وإنه سينتظر الوقت المناسب. وقد فعل.
قرأت الرسالة حتى آخرها وفكرت، ليس للمرة الأولى، أن أي أبله سيقرأ هذه الرسالة سيستطيع أن يدرك أنها الأخيرة. «أريدك أن تعلمي كم أنا ممتن لكل لطفك وتفهمك.» كانت كلمة «لطف» هي الوحيدة التي التصقت بذهني حينئذ، كي تمنحني الأمل. فكرت أنني سأتخلص من رسالته حين أتزوج أنا وكلير. إذن، لم لا أفعلها من الآن؟ مزقتها إلى نصفين ثم مزقت النصفين إلى نصفين وبدا الأمر سهلا كتمزيق الكراسات بعد انتهاء أيام الدراسة. ولما لم أكن أريد أن تعلق ماما على ما في سلة مهملاتي دسست الرسالة الممزقة في حقيبة يدي. وبعد أن انتهيت استلقيت على فراشي وفكرت في عدة أمور. مثلا، لو لم أكن في سكرة بسبب رحيل تيد فورجي، فهل كانت نظرتي لكلير ستتغير؟ هذا احتمال ضعيف. فلولا تلك السكرة ما كنت لأحفل بكلير على الإطلاق، كنت سأنطلق وأفعل شيئا مختلفا، لكن لا جدوى من التفكير في ذلك الآن. الجلبة التي أثارها كلير جعلتني آسف له في أول الأمر. كنت أزدري رأسه المستدير الأصلع، وأسمع تأوهه وهياجه وأفكر، ماذا يسعني الآن إلا أن أكون مهذبة؟ لم ينتظر مني أكثر من ذلك، لم ينتظر قط ما هو أكثر، فقط أن أستلقي وأتركه يفعل ما يشاء، وقد اعتدت على ذلك. تذكرت ذلك وتساءلت عما إذا كنت عديمة الشعور، فقط لأنني استلقيت هناك وتركته يجذبني ويجامعني ويتأوه حول عنقي ويقول ما قال، دون أن أنطق في المقابل بكلمة حب واحدة له؟ لم أرد قط أن أكون امرأة بلا قلب ولم أكن خسيسة مع كلير، وتركته يفعل ما يشاء، ألم أفعل ذلك، في أغلب الأحيان؟ •••
سمعت ماما تنهض من قيلولتها وتذهب لتشغيل غلاية الماء كي تعد لنفسها فنجانا من الشاي وتقرأ الصحيفة. بعد وقت قصير أطلقت صرخة، ظننت أن أحدا مات فقفزت من فراشي وركضت إلى الردهة، لكنها كانت هناك في الأسفل تقول: «عودي إلى قيلولتك، أعتذر لأنني أخفتك. لقد أخطأت.» عدت بالفعل ثم سمعتها تجري مكالمة تليفونية، على الأرجح تتصل بإحدى صديقاتها القديمات لتخبرها بشأن خبر ما في الصحيفة، بعد ذلك أظن أنني غلبني النعاس.
استيقظت على صوت توقف سيارة، وترجل شخص ما منها واتجه نحو الممشى الأمامي. تساءلت، أيكون هذا كلير قد عاد باكرا؟ وعندئذ، بينما أنا مشوشة ونصف نائمة، فكرت أنني قد مزقت الرسالة بالفعل، هذا جيد. لكن لم يكن ذلك وقع خطواته. فتحت ماما الباب دون أن تمنحه فرصة لقرع الجرس، وسمعت صوت آلما ستونهاوس، التي تدرس في مدرسة جوبيلي الحكومية وهي أقرب صديقاتي. خرجت إلى الردهة وانحنيت للأمام وصحت: «مرحبا آلما، هل ستأكلين هنا ثانية؟» كانت تتناول طعامها في مطعم بيلي حيث يكون الطعام جيدا في بعض الأحيان ورديئا في أحيان أخرى، لكن كانت حينما تشم رائحة «فطيرة الراعي» التي يعدونها هناك، كانت تتجه رأسا إلى منزلنا دون دعوة.
صعدت آلما مباشرة إلى الدور العلوي دون أن تخلع معطفها، ووجهها الأسمر النحيل يتوهج إثارة، فأدركت أن شيئا ما وقع. ظننت أنه لا بد يتعلق بزوجها، فهما منفصلان وهو يكتب لها رسائل فظيعة. قالت لي: «هيلين، أهلا، كيف حالك؟ هل استيقظت للتو؟»
قلت: «سمعت صوت سيارتك، ظننت لوهلة أنه صوت سيارة كلير لكنني لا أتوقع عودته قبل عدة أيام أخرى.» «هيلين، هلا جلست؟ تعالي ندخل حجرتك حيث يمكنك الجلوس. هل أنت مهيأة لصدمة؟ كم كنت أتمنى ألا أكون من يخبرك بهذا. تمالكي نفسك.»
رأيت ماما تقف خلفها مباشرة، فقلت: «ماما، أهذه مزحة؟»
قالت آلما: «كلير ماكواري تزوج.»
قلت: «إلام ترميان أنتما الاثنتان؟ إن كلير ماكواري في فلوريدا وقد وصلتني منه اليوم فقط بطاقة بريدية كما تعلم ماما جيدا.» «لقد تزوج في فلوريدا. اهدئي يا هيلين.» «كيف يمكن أن يتزوج في فلوريدا؟ إنه يقضي إجازته هناك؟» «إنهما في طريق عودتهما إلى جوبيلي الآن وسيعيشان هنا.» «آلما، أينما سمعت بهذا فإنه محض هراء. لقد لقيت منه اليوم فقط بطاقة بريدية. ماما ...»
حينئذ رأيت ماما تنظر إلي كأنني في الثامنة من عمري وأصبت بالحصبة وكانت درجة حرارتي تتجاوز المائة والخمس فهرنهايت. كانت ممسكة بصحيفتها فمدتها إلي كي أقرأ. قالت: «الخبر هنا.» وهي غير مدركة على الأرجح أنها تهمس. «الخبر مكتوب هنا في صحيفة باجل هيرالد.»
قلت: «لا أصدق ذلك البتة.» وبدأت أقرأ وأقرأ الخبر كله وكأن الأسماء المكتوبة لأشخاص لم أسمع بهم قط من قبل. بعضهم كان كذلك فعلا. في احتفال بسيط في كورال جيبلز بفلوريدا، تزوج كلير ألكسندر ماكواري، من مدينة جوبيلي، ابن السيدة جيمس ماكواري من نفس المدينة، والراحل السيد جيمس ماكواري، وهو رجل أعمال محلي مرموق وعضو البرلمان لفترة طويلة، من السيدة مارجريت ثورا ليسون، ابنة الراحلين السيد والسيدة كلايف تيبوت من لينكن بولاية نبراسكا. لم يضم الحفل سوى السيدة هارولد جونسون شقيقة العريس وزوجها. ارتدت العروس بدلة أنيقة باللون الأخضر الزيتوني مزينة بإكسسوارات ذات لون بني قاتم وسوارا من زهور الأوركيد البرونزية. وارتدت السيدة جونسون بدلة باللون البيج مزينة بإكسسوارات سوداء اللون وسوارا من زهور الأوركيد الخضراء. العروسان في طريقهما الآن بالسيارة إلى منزل المستقبل في جوبيلي.
قالت آلما في حدة: «ألا تزالين تعتقدين أن هذا هراء؟»
قلت إنني لا أدري. «هل أنت بخير؟» «بخير.»
قالت ماما إننا سنشعر جميعا بتحسن إذا نزلنا إلى الدور السفلي وتناولنا فنجانا من الشاي وبعض الطعام، بدلا من حبس أنفسنا في حجرة النوم الضيقة هذه. كان الوقت يقترب من موعد العشاء على أية حال. فنزل ثلاثتنا، وكنت لا أزال مرتدية الروب، وراحت ماما وآلما تعدان وجبة من تلك النوعية التي يمكن أن تأكلها كي تقيم أودك عندما يدخل مرض ما المنزل ولا يسعك أن تتذمر كثيرا بشأن الطعام؛ شطائر اللحم البارد مع أطباق صغيرة من مختلف أنواع المخلل وشرائح من الجبن وفطائر مربعة محشوة بالبلح. قالت لي ماما: «دخني سيجارة إن شئت.» هذه أول مرة تقول لي ذلك في حياتها. ففعلت، وكذلك فعلت آلما. قالت آلما: «جلبت بعض المهدئات معي في حقيبة يدي، إنها ليست من النوع القوي المفعول ويمكنك أن تتناولي حبة أو اثنتين.» قلت: لا، شكرا، ليس الآن على أية حال. قلت إنه يبدو أنني لست بحاجة بعد لتناولها. «هو يذهب إلى فلوريدا كل سنة، صحيح؟»
قلت: «نعم.» «حسنا، أظن أن ما حدث هو أنه التقى هذه المرأة من قبل - قد تكون أرملة أو مطلقة أو أيا ما كانت - وأنهما كانا يتراسلان ويخططان لهذا طوال الوقت.»
قالت ماما إن من الصعب أن نظن هذا بكلير. «أنا فقط أقول لكما كيف يبدو الأمر لي. وأراهن أنها صديقة لشقيقته. أخته دبرت كل شيء. كانا حاضرين في الحفل، الشقيقة وزوجها. لم تكن على وفاق معك قط يا هيلين، أذكر أنك قلت لي ذلك.» «كنت بالكاد أعرفها.»
قالت ماما: «هيلين لويس، قلت لي إنكما تنتظران فقط موت السيدة العجوز، ألم يكن هذا ما قاله لك؟ كلير؟»
قالت آلما بانفعال: «يستخدم السيدة العجوز كعذر له.»
قالت ماما: «أوه، لا أظنه يفعل. من الصعب استيعاب ذلك ... كلير!»
قالت آلما: «الرجال دوما لا يتوانون عن نيل ما يمكنهم نيله.» مرت برهة من الصمت، نظرت فيها الاثنتان إلي. لم أستطع أن أخبرهما أي شيء. لم أستطع أن أخبرهما بما كنت أفكر فيه، بشأن ما دار في آخر ليلة سبت قضيناها في الدور العلوي بمنزله، قبل أن يسافر، كان عاريا كما ولدته أمه، راح يجذب شعري ويمرره فوق وجهه وخلال أسنانه ويتظاهر بأنه سيمزقه. لم أكن أستحسن لعاب أي شخص على شعري لكنني تركته يفعل ما يفعل، لكن حذرته من أن يمزقه وإلا فسيدفع لي ثمن ذهابي إلى مصفف الشعر لتسويته. في تلك الليلة لم يتصرف كشخص ينوي أن ينهي العلاقة ويتزوج.
مضت ماما وآلما تتحدثان وتخمنان بينما بدأ النعاس يتملك مني أكثر فأكثر. سمعت آلما تقول: «كان من الممكن أن يحدث ما هو أسوأ. لقد عشت جحيما لأربع سنوات.» فقالت ماما: «لطالما كان طيب الروح وكان مولعا بتلك الفتاة.» تعجبت كيف لي أن أكون نعسانة إلى هذا الحد، في هذا الوقت المبكر من المساء وبعد ما نلته من قيلولة بعد الظهر. قالت آلما: «جيد جدا أنك نعسانة، إنه أسلوب الطبيعة. أسلوب الطبيعة مثل المخدر تماما.» تعاونتا على إيصالي إلى فراشي في الدور العلوي ولم أسمعهما تنزلان إلى الدور السفلي. •••
لم أستيقظ مبكرا أيضا. استيقظت في الموعد الذي أستيقظ فيه عادة ، وتناولت إفطاري. استطعت أن أسمع الجلبة الصادرة عن نشاط ماما في المنزل لكنني صحت عاليا، كما أفعل كل صباح، طالبة منها أن تتوقف. ردت علي: «أمتأكدة من أنك ترغبين في الذهاب إلى العمل؟ يمكنني أن أتصل بالسيد هوز وأخبره أنك مريضة مرضا شديدا.» قلت: «ولماذا ينبغي لي أن أمنح أيا منهم هذا الشعور بالرضى؟» وضعت زينتي أمام مرآة الردهة في غياب الإضاءة، وخرجت ومشيت حتى وصلت إلى متجر كينج على بعد نحو ثلاثة مربعات سكنية، دون أن ألحظ طقس ذلك الصباح، لا سيما أن الطقس لم يكن قد تحول إلى ربيع بين عشية وضحاها. داخل المتجر كانوا في انتظاري، أوه، يا للطف! صباح الخير يا هيلين، صباح الخير يا هيلين. أصواتهم حنونة مفعمة بالأمل في انتظار أن يروا ما إذا كنت سأهوي أرضا وأبدأ في الدخول إلى نوبة هستيرية. السيدة ماكول، بيريل آلن وخاتم خطوبتها، والسيدة كريس التي هجرت حبيبها منذ خمس وعشرين سنة ثم ارتبطت بشخص آخر غيره - السيد كريس - ثم اختفى هذا الشخص. ما الذي يجعلها تنظر إلي؟ هوز العجوز الذي يعض على لسانه بأسنانه حينما يبتسم. قلت صباح الخير بمنتهى الابتهاج وصعدت إلى الدور العلوي شاكرة الرب على أن لي مرحاضي الخاص، قلت في نفسي: أراهن أن هذا اليوم سيشهد مبيعات هائلة في قسم ملابس الأطفال. وقد كان. لم أشهد صباحا قط فيه كل هذا العدد من الأمهات اللائي أتين لشراء شريط للشعر أو زوج من الجوارب الصغيرة، وهن على استعداد لصعود تلك السلالم من أجل ذلك فحسب.
اتصلت بماما لأخبرها بأنني لن أكون في المنزل وقت الظهيرة. فكرت أنني سأمر فقط على فندق كوينز وأتناول الهامبرجر، مع كل فريق العاملين بمحطة الإذاعة الذين لا أكاد أعرفهم. لكن في الثانية عشرة إلا الربع جاءت آلما. «لم أكن لأدعك تأكلين وحدك في هذا اليوم!» لذا اضطررنا للذهاب إلى فندق كوينز معا. كانت تنوي أن تجعلني أتناول شطيرة بيض، لا هامبرجر، وكوبا من اللبن لا المياه الغازية، لأنها قالت إن معدتي على الأرجح لن تكون بحالة مستقرة، لكنني اعترضت على ذلك. انتظرت إلى أن حصلنا على طعامنا وجلسنا لنتناول الطعام قبل أن تقول: «حسنا، لقد عادا.»
استغرقت برهة قبل أن أعلم من الذي عاد. ثم قلت: «متى؟»
أجابت: «الليلة الماضية في ميعاد العشاء تقريبا. حينما كنت آتية بسيارتي إلى منزلك كي أنقل إليك الخبر. كان من الممكن أن ألتقيهما في طريقي.» «من أخبرك؟» «حسنا، إن آل بيتشر يسكنون بالقرب من آل ماكواري، أليس كذلك؟» كانت السيدة بيتشر تدرس للصف الرابع، وآلما تدرس للصف الثالث. «جريس رأتهما. كانت قد قرأت الصحيفة قبل ذلك فعرفتها.»
سألت رغما عني: «كيف تبدو؟» «قالت جريس إنها ليست شابة. في مثل سنه على أية حال. ألم أقل لك إنها صديقة لشقيقته؟ ولن تحظى بأي ترتيب في مسابقة الجمال. يمكنك أن تقولي إنها لا بأس بها.»
لم أستطع أن أكبح نفسي الآن: «هل هي ضخمة أم صغيرة الحجم؟ سمراء أم شقراء؟» «كانت معتمرة قبعة فلم تتمكن جريس من رؤية لون شعرها لكنها حسبته غامقا. إنها امرأة ضخمة الجسم. قالت جريس إن لها مؤخرة بحجم بيانو ضخم. ربما هي غنية.» «هل قالت جريس ذلك أيضا؟» «لا لم تقل، أنا أخمن فقط.» «كلير ليس بحاجة للزواج من أي امرأة ذات مال؛ فهو يملك المال.» «هذا وفقا لمعاييرنا نحن، لكن ربما الأمر ليس كذلك بالنسبة له.» •••
ظللت أفكر طوال فترة ما بعد الظهر في أن كلير قد يأتي، أو على الأقل يتصل بي. حينئذ يمكنني أن أسأله عما فعله. صور لي عقلي بعض التبريرات الجنونية التي قد يقدمها لي، كأن يقول إن هذه المرأة المسكينة مصابة بالسرطان ولم يتبق لها على قيد الحياة سوى ستة أشهر، وإنها عاشت حياتها في فقر مدقع (ربما عاملة نظافة في الفندق الذي يرتاده) فأراد أن يمنحها أياما من يسر العيش، أو إنها كانت تبتز زوج شقيقته بسبب ارتباط غير شريف فتزوجها كي يسكتها. لكن لم يتسن لي الوقت لتصور عدد كبير من القصص بسبب تيار الزبائن الذي لم ينقطع. كانت السيدات المسنات يصعدن السلالم لاهثات بحجة رغبتهن في شراء هدايا عيد ميلاد للأحفاد. لا بد أن يكون لكل حفيد في جوبيلي عيد ميلاد في شهر مارس. فكرت أن عليهن أن يشعرن بالامتنان لي، ألم أضف إلى يومهن شيئا من الإثارة؟ حتى آلما، كانت تبدو أفضل حالا من حالتها طوال الشتاء. أنا لا ألومها، لكن هذه هي الحقيقة. ومن يدري، قد أكون أفضل حالا أنا أيضا إذا ظهر دون ستونهاوس كما يهدد واغتصبها وترك على جسدها مجموعة من الكدمات البنفسجية - هذه كلماته لا كلماتي أنا - من رأسها حتى أخمص قدميها. سأشعر بمنتهى الأسف، وأفعل أي شيء لمساعدتها، لا شك في ذلك، لكنني قد أفكر حسنا، أن حدثا كهذا - بالرغم من فظاعته - هو على الأقل حدث وقع في هذا الشتاء الطويل الممل.
لم يكن هناك داع للتفكير في عدم العودة للمنزل بحلول ميعاد العشاء، أمر كهذا كان سيقضي على ماما. كانت في انتظاري وقد أعدت رغيف السالمون وسلطة الملفوف والجزر ووضعت فيها الزبيب، الذي أحبه، وحلوى براون بيتي. لكن وسط هذا كله بدأت دموعها تنساب فوق أحمر شفاهها. قلت: «أظن أنه إذا كان لأحد أن يبكي، فهو بالتأكيد أنا. ما الخطب الجلل الذي حل بك؟»
قالت: «حسنا، كنت أحبه جدا، كنت أحبه إلى هذا الحد. ففي مثل سني هذه لا تتطلعين لزيارة الكثيرين طوال الأسبوع.»
قلت: «حسنا، أنا آسفة.» «لكن بمجرد أن يفقد الرجل احترامه لفتاة، فمن المتوقع أن يسأم منها.» «ماذا تعنين بقولك هذا يا ماما؟» «إذا كنت لا تعرفين، فهل يفترض بي أن أخبرك؟»
قلت وقد بدأت أجهش بالبكاء أيضا: «ينبغي أن تشعري بالخجل، لأنك تتحدثين هكذا إلى ابنتك.» هأنذا! وكنت أظن طوال الوقت أنها لا تدري. بالطبع لن تلوم كلير أبدا، ستلقي كل اللوم علي.
استأنفت حديثها وهي تنتحب: «لا، لست أنا من ينبغي أن تشعر بالخجل. أنا امرأة مسنة لكنني أعرف. إذا فقد رجل احترامه لفتاة فإنه لا يتزوجها.» «لو كان هذا صحيحا لما تمت زيجة واحدة في هذه البلدة.» «أنت من ضيعت فرصك.»
قلت: «لم تقولي أي كلمة من حديثك هذا طالما كان يأتي إلى هنا، ولست على استعداد لأن اسمع هذا الآن.» ثم صعدت للأعلى. لم تأت ورائي. جلست أدخن، ساعة بعد أخرى. ظللت بثيابي ولم أخلعها. سمعتها تصعد للأعلى وتأوي إلى الفراش. بعد ذلك نزلت للأسفل وشاهدت التلفاز لفترة، أخبار عن حوادث سيارات. ثم ارتديت معطفي وخرجت. •••
أملك سيارة صغيرة أهداها لي كلير العام الماضي في عيد الميلاد؛ سيارة «موريس» صغيرة. لا أستخدمها في الذهاب إلى العمل لأنه على بعد حوالي ثلاثة مربعات سكنية فحسب، وتبدو القيادة هذه المسافة القصيرة أمرا سخيفا، وكأنني أتباهى، وإن كنت أعرف أشخاصا يفعلون ذلك. ذهبت إلى المرأب وأخرجت السيارة. كانت هذه أول مرة أقودها منذ يوم الأحد الذي أخذت فيه ماما إلى تابرتاون لتزور العمة كاي في دار المسنين. أستخدمها أكثر في فصل الصيف.
نظرت إلى ساعتي واندهشت من الوقت؛ الثانية عشرة وعشرون دقيقة. شعرت برعشة ووهن بسبب الجلوس لفترة طويلة. تمنيت لو كان معي أحد تلك الأقراص التي جلبتها آلما. لقد طرأت لي فكرة الخروج، والانطلاق بالسيارة، لكنني لم أدر إلى أين أذهب. قدت في أنحاء شوارع جوبيلي ولم أر سيارة أخرى إلا سيارتي. كل المنازل تبدو مظلمة، والشوارع سوداء، والأفنية تبدو شاحبة بسبب ما تبقى فوقها من الثلج. بدا لي أن داخل كل منزل من هذه المنازل يعيش أشخاص يعلمون أمرا لا أعلمه. فهموا ما جرى، وربما كانوا يعلمون أنه سيجري، وكنت أنا الوحيدة التي لم تدر عن ذلك شيئا.
مضيت أقود إلى شارع جروف ثم إلى شارع ميني ورأيت منزله من الخلف. لا أنوار مضاءة بالداخل أيضا. درت حول المنزل كي أراه من واجهته. تساءلت، هل يضطران للتسلل إلى الدور العلوي وتشغيل التلفاز؟ لا امرأة لها مؤخرة بضخامة البيانو ستحتمل ذلك. أراهن أنه صعد بها مباشرة إلى حجرة السيدة المسنة وقال لها: «هذه السيدة ماكواري الجديدة.» وهذا ما كان وقضي الأمر.
ركنت السيارة وأنزلت زجاج النافذة. ودون أن أفكر فيما سأفعل اتكأت على بوق السيارة وأطلقته بأشد وأطول ما يمكنني أن أحتمل.
منحني الصوت حرية أن أصيح. ففعلت: «هاي، كلير ماكواري، أود أن أتحدث إليك!»
ما من إجابة. «كلير ماكواري!» صرخت في مواجهة هذا المنزل المظلم. «كلير اخرج إلي!» وأطلقت البوق، مرة ثانية وثالثة، لا أدري كم مرة. كنت أنادي صارخة أثناء ذلك. شعرت كأنني أراقب نفسي، هنا في الأسفل، تافهة للغاية، أدق بقبضتي وأصرخ وأضغط على البوق. مصابة بهياج، أفعل كل ما يخطر بذهني. كان هذا ممتعا، على نحو ما. كدت أنسى سبب فعلي ذلك وبدأت أضغط على البوق بوقع منتظم وأصيح في الوقت نفسه. «كلير، ألن تخرج أبدا؟» ورحت أنشد باسمه بصوت عال وأطلب منه الخروج. كنت أبكي وأنا أصيح، علنا في الشارع، ولم يزعجني ذلك على الإطلاق.
قال بادي شيلدز وهو يدخل رأسه من نافذة السيارة المفتوحة: «هيلين، هل تريدين إيقاظ كل من في البلدة؟» بادي شرطي وردية الليل، وكنت أدرس له في صفوف أيام الآحاد.
قلت: «كنت فقط أنشد أنشودة للعروسين، ماذا في ذلك؟» «أنا مضطر لأن أطلب منك أن تكفي عن إحداث تلك الضوضاء.» «لا أشعر أني راغبة في ذلك.» «أوه، هيلين، بل ترغبين، أنت فقط منزعجة قليلا.»
قلت: «لقد ناديته وناديته ولم يخرج، كل ما أريده هو أن يخرج إلي.» «حسنا، ينبغي أن تكوني فتاة عاقلة وتكفي عن إطلاق ذلك البوق.» «أريده أن يخرج.» «توقفي. لا تطلقي ذلك البوق ثانية.» «هل ستجعله يخرج إلي؟» «هيلين، أنا لا أستطيع أن أجعل رجلا يخرج من منزله إذا لم يكن راغبا في ذلك.» «ظننت أنك تمثل السلطة، يا بادي شيلدز.» «أنا كذلك، لكن هناك حدود لما يمكن أن تفعله السلطة. إذا كنت تريدين رؤيته فلماذا لا تعودين في النهار وتطرقين بابه بلطف، كما يمكن أن تفعل أي آنسة مهذبة؟» «لقد تزوج. ألا تعرف ذلك؟» «حسنا هيلين، إنه متزوج بالليل وبالنهار أيضا.» «أيفترض أن يكون هذا مضحكا ؟» «لا، يفترض أن يكون صحيحا. والآن لم لا تفسحين وتدعينني أقود لأقلك إلى منزلك؟ ها أنت ترين الأنوار التي أضيئت في المنازل على امتداد الشارع. وها هي جريس بيتشر تراقبنا، وبوسعي أن أرى آل هولمز يفتحون نوافذهم. لا أظنك تريدين منحهم المزيد ليثرثروا بشأنه، أليس كذلك؟» «هؤلاء لا عمل لهم إلا الثرثرة على أية حال، لا يهمني أن يثرثروا بشأني.»
ثم انتصب بادي في وقفته وابتعد قليلا عن نافذة السيارة، فلمحت شخصا في الظلام بملابس قاتمة آتيا من حديقة منزل ماكواري، كان ذلك كلير. لم يكن مرتديا الروب أو أي شيء من هذا القبيل، كان بكامل هيئته، مرتديا قميصا وسترة وبنطالا. اتجه صوب السيارة مباشرة بينما أنا جالسة في انتظار ما يمكن أن أقوله له. كان على حاله؛ رجلا بدينا ناعس الوجه مرتاح البال. لكن نظرته فقط، نظرته المعتادة الهادئة، أزالت رغبتي في البكاء. كان من الممكن أن أصرخ وأبكي حتى يحتقن وجهي، ولم يكن ذلك ليغير تلك النظرة أو يجعله يقوم من فراشه ويمشي عبر حديقته بأسرع مما فعل بثانية واحدة.
قال: «هيلين، عودي إلى المنزل.» وكأننا كنا نشاهد التلفاز طوال المساء معا ثم حان موعد العودة إلى المنزل والذهاب إلى فراشي كما ينبغي. وأضاف: «بلغي حبي لأمك، هيا امضي إلى المنزل.»
كان هذا كل ما أراد قوله. نظر إلى بادي وسأله: «هل ستقود سيارتها وتقلها إلى المنزل؟» رد بادي بالإيجاب. كنت أنظر إلى كلير ماكواري وأفكر، هذا رجل يفعل ما يحلو له. لم يكن يعنيه كثيرا ما كنت أشعر به حينما كان يفعل ما يفعل وهو يعتليني، ولم يكن يعنيه كثيرا أي نوع من الصخب أحدثت في الشارع حينما تزوج. كان رجلا لا يقدم تبريرات، ربما لأنه لا يملك أيا منها. وإذا كان ثمة شيء لا يستطيع تفسيره، حسنا، ينسى أمره وحسب. ها هم كل جيرانه يراقبوننا، لكن في الغد، إذا قابلهم في الشارع، فقد يخبرهم قصة مضحكة. وماذا عني؟ ربما إذا قابلني في الشارع في يوم ما ، فقد يقول «كيف حالك يا هيلين؟» ويقول لي نكتة. آه لو كنت فكرت حقا في حقيقة كلير ماكواري، لو كنت أعرت ذلك اهتماما، لكنت بدأت معه بداية مختلفة كل الاختلاف أيضا، ولربما كنت سأشعر بمشاعر مختلفة أيضا، ولكن الرب وحده يعلم ما إذا كان ذلك سيحدث أي فرق في نهاية المطاف.
قال بادي: «الآن، ألست نادمة على إحداثك كل هذه الجلبة؟» انزلقت إلى المقعد ورحت أراقب كلير وهو عائد إلى منزله، أقول في نفسي: نعم، هذا ما كان ينبغي لي أن أفعله، أن أعير اهتماما. قال بادي: «لن تعودي لمضايقته هو وزوجته ثانية يا هيلين، أليس كذلك؟»
قلت: «ماذا؟» «لن تعودي لمضايقة كلير وزوجته بعد الآن، أليس كذلك؟ إنه رجل متزوج الآن، انقضى الأمر. غدا صباحا ستشعرين بضيق بالغ حيال ما فعلته الليلة، لن تعرفي كيف ستواجهين الناس. لكن دعيني أقل لك إن مثل هذه الأمور يحدث طوال الوقت، والأمر الوحيد الذي ينبغي للمرء أن يفعله هو أن يواصل حياته، تذكري أنك لست الوحيدة التي تتعرض لذلك.» لم يبد عليه أنه فكر أن من المضحك أنه يوجه الوعظ لي، ذلك الذي كنت أسمعه يتلو آيات الكتاب المقدس وأمسكت به يقرأ «سفر اللاويين» خلسة.
قال: «دعيني أحك لك ما حدث الأسبوع الماضي.» بينما كان يبطئ السير عبر شارع جروف، غير متعجل وصولي إلى المنزل قبل أن ينهي محاضرته، «الأسبوع الماضي تلقينا مكالمة واضطررنا للذهاب إلى مستنقع دانوك حيث كانت هناك سيارة عالقة. كان ذلك المزارع العجوز يلوح ببندقية محشوة، ويتحدث عن إطلاق النار على هذين الاثنين بتهمة التعدي على أرضه إذا لم يخرجا من أرضه حالا. كانا قد اتخذا أحد طرق الشاحنات بعد حلول الظلام، حيث يمكن لأي أبله أن يدرك أن السيارة سوف تعلق في هذا الوقت من العام. إذا قلت لك اسميهما فستعرفينهما وستعرفين أنه ما من شأن يمكن أن يجمع بينهما في تلك السيارة معا. أحدهما امرأة متزوجة. والأسوأ أنه بحلول ذلك الوقت كان زوجها يتساءل عما منعها من العودة من تدريب جوقة الكنيسة - كلاهما يغني في الجوقة، لن أخبرك من هما - وبلغ عن غيابها. اضطررنا لأن نأتي بجرار كي نسحب السيارة، وتركناه «هو» يتصبب عرقا ويهدئ غضب ذلك المزارع العجوز، ثم أخذناها إلى المنزل في وضح النهار، وهي تبكي طوال الطريق. هذا ما أعنيه بأن ثمة أشياء كهذه تحدث. رأيت ذلك الرجل وزوجته في الشارع يشتريان بقالتهما بالأمس، لم يبدوا سعيدين لكنهما ماضيان في حياتهما. لذا، كوني فتاة عاقلة هيلين وواصلي حياتك كبقيتنا جميعا، وفي القريب العاجل سنشهد الربيع.» •••
أوه، يا بادي شيلدز، يمكنك أن تواصل الكلام، وكلير يلقي نكات، وماما تبكي إلى أن تتجاوز الأمر، لكن ما لن أفهمه هو لماذا، الآن تحديدا، حينما رأيت كلير ماكواري، رجلا لا يقدم تبريرات، شعرت لأول مرة أنني أرغب في أن أمد يدي وألمسه؟
فستان أحمر - 1946
كانت أمي تحيك لي فستانا. طوال شهر نوفمبر كنت أعود من المدرسة فأجدها في المطبخ، حولها قطع من قماش المخمل الأحمر وقصاصات «باترون» من الورق الشفاف. كانت تعمل على ماكينة خياطة قديمة ذات دواسة، موضوعة إلى الجدار الذي فيه النافذة؛ كي يتوفر لها الضوء، وكي يتسنى لها أيضا أن تنظر للخارج، إلى الحقول المجزوزة وبستان الخضر العاري من النباتات، وترى الرائح والغادي في الطريق. لكن نادرا ما كان يمر أي شخص لتراه.
كان العمل على قماش المخمل صعبا؛ لأن نسيجه «ينسل»، فضلا عن أن القصة التي اختارتها أمي لم تكن سهلة. لم تكن خياطة ماهرة في الواقع. لكنها كانت تحب حياكة الأشياء؛ وهذا أمر مختلف. كانت تحاول تخطي خطوتي «التسريج» والكي متى تسنى لها ذلك، ولا تحفل كثيرا بالتفاصيل الدقيقة للخياطة، و«تشطيب» عرى الأزرار، ولفق الثنيات، مثلا، مثلما كانت تفعل خالتي وجدتي. بل كانت - على عكسهما - تبدأ من الإلهام، من فكرة مبهرة جريئة؛ ومن تلك اللحظة فصاعدا، يتراجع ابتهاجها شيئا فشيئا. بادئ ذي بدء، لم تكن تستطيع قط أن تجد موديلا مناسبا. ولا عجب من ذلك؛ لأنه ما من موديل كان يمكن أن يوافق الأفكار التي يتفتق عنها ذهنها. كانت قد صنعت لي - في مناسبات عدة حينما كنت أصغر سنا - فستانا من قماش الأورجانزا المنقوش بالورود برقبة مرتفعة على الطراز الفيكتوري يحيطها شريط من الدانتيل المشرشر، مع قبعة بحافة مرتفعة كي تلائمه؛ كما صنعت لي طقما من القماش المنقوش بالمربعات اسكتلندي الطراز مع سترة مخملية وقلنسوة صوفية؛ وبلوزة مطرزة ريفية الطراز، أرتديها مع تنورة حمراء بالكامل وصديرية من الدانتيل الأسود. كنت أرتدي هذه الملابس مذعنة - وربما مسرورة - في الأيام التي لم أكن فيها على دراية برأي الناس. أما الآن وقد صرت أكثر فطنة، فصرت أتمنى أن يكون لدي فساتين كتلك التي لدى صديقتي لوني، والتي اشترتها من متجر «بيل».
كان لا بد أن أجربها. فقد كانت لوني في بعض الأحيان تأتي معي من المدرسة إلى منزلي وتجلس على الأريكة تراقب ما يحدث. كنت أشعر بالحرج من الطريقة التي تتحرك بها أمي ببطء من حولي، بركبتيها اللتين تطقطقان، وأنفاسها التي تخرج ثقيلة. كانت تتمتم بأشياء لنفسها، ولم تكن ترتدي في البيت مشدا للخصر أو جوارب طويلة، وكانت ترتدي حذاء ذا كعب من قطعة واحدة، وجوارب كاحل تكشف عن ساقين تعلوهما تكتلات من العروق الخضراء المزرقة. كنت أرى أن منظرها في وضع القرفصاء مخز، بل فاحش؛ فكنت أظل أتحدث إلى لوني كي أحول انتباهها عن أمي قدر المستطاع. كانت لوني ترسم على وجهها تعبيرا هادئا مهذبا ممتنا كانت تتصنعه في حضور الكبار. عدا ذلك، كانت تهزأ منهم وتقلدهم بسخرية لاذعة، لكنهم لم يعلموا بذلك قط.
أخذت أمي تجذبني يمينا ويسارا، وتغرس الدبابيس في الفستان. وجعلتني أستدير حول نفسي، وأسير أمامها، وأقف ثابتة. ثم قالت والدبابيس بفمها: «ما رأيك في الفستان يا لوني؟»
قالت لوني بطريقتها الوديعة المخلصة: «إنه جميل.» كانت أم لوني متوفاة. وكانت تعيش مع والدها الذي لم يكن يراقبها قط، وهذا في نظري، كان يجعلها محظوظة ومعرضة للأذى في الوقت نفسه.
قالت أمي: «سيكون جميلا، إذا استطعت فقط أن أضبط المقاس.» ثم قالت بطريقة مسرحية: «آه، حسنا، أشك في أنها ستقدر قيمته.» قالتها وهي تهب واقفة، وتصدر منها تنهيدة بائسة وصوت طقطقة مروع. غاظني أن تتحدث هكذا إلى لوني، وكأن لوني ناضجة وأنا ما زلت طفلة. قالت: «قفي ثابتة.» بينما كانت تخلع الفستان المسرج والمشبك بالدبابيس فوق رأسي. انكتم رأسي داخل المخمل، وظهر جسمي في قميص تحتاني مدرسي قطني قديم. شعرت أنني كتلة ضخمة عارية، خرقاء ومقشعرة الجلد. كم تمنيت لو كنت مثل لوني، رقيقة البنية، واهنة ونحيلة؛ حتى إنها كانت حين ولادتها «طفلة مزرقة».
قالت أمي: «حسنا، لم يحك لي أحد فساتين قط حينما كنت أرتاد المدرسة الثانوية، كنت أحيكها لنفسي، أو أستغني عنها.» كنت أخشى أن تبدأ ثانية قصة مشيها سبعة أميال إلى البلدة وعثورها على وظيفة نادلة في بنسيون، كي يتسنى لها أن تلتحق بالمدرسة الثانوية. كانت كل القصص عن حياة أمي - والتي كانت من قبل تثير اهتمامي - قد بدأت تبدو ميلودرامية وغير واقعية ومملة.
أخذت تروي: «ذات مرة أهديت فستانا، كان من صوف الكشمير القشدي اللون مزينا بشريط أزرق غامق من الأمام، وأزرار رائعة من الصدف، ترى إلام انتهى به الحال الآن؟»
حينما انتهينا أنا ولوني صعدنا للدور العلوي إلى حجرتي. كانت باردة، لكننا مكثنا فيها. كنا نتحدث عن الصبيان في الفصل، فنذكرهم واحدا واحدا في كل صف ونحن نسأل إحدانا الأخرى: «هل أنت معجبة به؟ حسنا، نصف معجبة؟ هل «تكرهينه»؟ هل كنت ستخرجين برفقته إن طلب منك ذلك؟» ولم يحدث قط أن طلب أحدهم من إحدانا أن تخرج برفقته. كنا ثلاثة عشر طالبا وطالبة، نرتاد المدرسة الثانوية منذ شهرين. وكنا نقضي الوقت في الإجابة على الاستبيانات بالمجلات، لتعرف الواحدة منا إذا كانت تتمتع بحضور وإذا كانت محط إعجاب. وكنا نقرأ مقالات عن كيفية وضع أدوات التجميل بطريقة تبرز مواطن الجمال، وعن كيفية إدارة الحديث في أول موعد مع فتى، وعما ينبغي فعله عندما يحاول فتى ما تجاوز حدوده. كنا نقرأ أيضا مقالات عن الفتور الجنسي في فترة انقطاع الطمث، وعن الإجهاض وعن أسباب بحث الرجل عن الإشباع خارج المنزل. وحينما لا نعمل على أداء الواجب المدرسي، كنا ننشغل معظم الوقت بجمع المعلومات الجنسية وتبادلها ومناقشتها. تعاهدنا على أن تخبر إحدانا الأخرى كل شيء. لكن ثمة أمر أخفيته، بشأن حفل الرقص، حفل عيد الميلاد المدرسي الراقص، الذي كانت أمي تحيك لي فستانا من أجله؛ أخفيت أنني راغبة عن الذهاب. •••
في المدرسة الثانوية لم أشعر بالراحة لدقيقة. لم أكن أدري إن كان هذا حال لوني أيضا. قبل الامتحان، كانت يداها تكتسبان برودة الثلج ويزداد وجيب قلبها، أما أنا فكنت أقرب إلى اليأس في كل الأوقات. وحينما كان يوجه إلي سؤال في الفصل، أي سؤال في منتهى البساطة والسهولة، كان صوتي يميل لأن يخرج حادا رفيعا، أو أجش ومتهدجا. وحينما كنت أضطر للذهاب إلى السبورة كان يراودني شعور يقيني - حتى في أيام الشهر التي لا يمكن أن يحدث فيها ذلك - بأن ثمة دما على تنورتي. كانت يداي تصيران زلقتين بفعل العرق عندما ينبغي أن أستخدمهما على نطاق السبورة. كنت لا أستطيع ضرب الكرة في لعبة الكرة الطائرة؛ لأنني كنت حينما يطلب مني أن أؤدي أي حركة أمام الآخرين تتعطل كل ردود أفعالي. كنت أكره مادة أخلاقيات العمل؛ لأنني كنت أطالب بتسطير صفحات لدفتر حسابات، باستخدام قلم قائم، وحينما كان المعلم ينظر - من خلف كتفي - على ما أفعل، كانت كل الخطوط الدقيقة تميل وتتداخل. وكنت أكره مادة العلوم؛ فقد كنا نجلس منتصبين على كراسي بلا ظهر تحت أضواء مزعجة خلف طاولات عليها معدات غريبة سهلة الكسر، وكان يدرسنا مدير المدرسة، وهو رجل له صوت رزين مزهو - كان يتلو آيات من الكتاب المقدس كل صباح - وصاحب موهبة كبيرة في الإذلال وتوجيه الإهانة. وكنت أكره مادة اللغة الإنجليزية؛ لأن الفتيان كانوا يلعبون لعبة «البينجو» في مؤخرة الفصل بينما المعلمة - وهي فتاة سمينة مهذبة، في عينيها حول خفيف - تقرأ شعر ووردز وورث في مقدمة الفصل. كانت تتوعدهم، وترجوهم، بينما يحمر وجهها ويستحيل صوتها مضطربا كاضطراب صوتي. وكانوا هم يقدمون اعتذارات مطعمة بالسخرية، وحينما تبدأ في القراءة ثانية يتخذون وضعيات توحي بالافتتان، وترتسم على وجوههم علامات الوجد، ويحركون أعينهم بحيث تصبح محولة، ويضعون أيديهم فوق قلوبهم. أحيانا كانت تجهش بالبكاء، شعورا بالعجز حيال ما يحدث؛ فتضطر لأن تهرع إلى الخارج نحو الردهة. عندئذ كان الفتيان يصدرون صوتا عاليا كخوار البقرة، بينما ضحكاتنا الجائعة - أه، وضحكتي أنا أيضا - تلاحقها. كان يسود الصف جو كرنفالي من الوحشية بالفصل في تلك الأوقات، يخيف الأشخاص الضعفاء المهزوزين أمثالي.
لكن ما يجري في المدرسة في حقيقة الأمر لم يكن يتعلق باللغة الإنجليزية والعلوم وأخلاقيات العمل، ثمة شيء آخر كان يضفي على الحياة إثارتها وبهجتها. ذلك المبنى العتيق، بأقبيته الرطبة ذات الجدران الحجرية وحجرات الملابس المظلمة وصور موتى الأسرة المالكة والمستكشفين المفقودين، كان حافلا بإثارة التنافس الجنسي وتوتره؛ وفي هذا الشأن، ورغم أحلام يقظتي الحافلة بنجاحات باهرة، كانت تنتابني هواجس هزيمة محققة. لا بد من وقوع أمر ما يمنعني من الذهاب إلى ذلك الحفل الراقص.
مع حلول شهر ديسمبر جاء الجليد، وخطرت لي فكرة؛ كنت قد فكرت من قبل في السقوط من فوق دراجتي ولي كاحلي، وحاولت أن أحتال بذلك بينما كنت أقود دراجتي إلى المنزل على طرق البلدة التي كانت مليئة بالأخاديد ويكسوها الجليد المتصلب. لكن كان الأمر صعبا للغاية. مع ذلك، كان حلقي وشعبي الهوائية يتسمان بالضعف، فلم لا أعرضهما للهواء البارد؟ بدأت أقوم من الفراش ليلا وأفتح نافذتي قليلا. كنت أجثو وأدع تيار الهواء، الممزوج بوخزات الصقيع، يندفع إلى حلقي المكشوف. كنت أخلع قميص البيجاما، وأقول لنفسي «تجمدي من البرد!» بينما أنا جاثية مغمضة العينين، أتصور صدري وحلقي يستحيلان إلى الزرقة، وأتخيل البرد، والعروق الرمادية المزرقة تحت البشرة. ظللت جالسة حتى لم أعد أحتمل الجلوس أكثر، وعندئذ تناولت حفنة من الجليد من فوق عتبة النافذة ومسحت بها على صدري كله، قبل أن أغلق أزرار البيجاما فوقها. كان الجليد سيذوب في نسيج «الفانيلا» لقميصي القطني الداخلي فأنام وأنا مرتدية ثيابا مبللة، وهو ما يفترض أن يكون أخطر الأمور على الإطلاق. في الصباح، ما إن صحوت، حتى حمحمت بحلقي لأتحقق من الشعور بأي وجع، وسعلت سعلة تجريبية، مفعمة بالأمل، ولامست جبهتي كي أرى إن كنت قد أصبت بالحمى. ولكن خاب أملي. في كل يوم - بما في ذلك يوم الحفل الراقص - كنت أصحو مهزومة، وفي أتم صحة وعافية!
يوم الحفل الراقص صففت شعري بالاستعانة ببكرات حديدية كي أجعله مموجا. لم أفعل ذلك قط من قبل؛ لأن شعري كان بطبيعته مموجا، لكن اليوم كنت بحاجة لكل ما يمكن أن توفره الطقوس الأنثوية من حماية. كنت مستلقية فوق الأريكة الموجودة في المطبخ، أقرأ «آخر أيام بومبي»، وأتمنى لو كنت أعيش أحداثها. وكانت أمي - الساخطة أبدا - تحيك «ياقة» من الدانتيل الأبيض في الفستان، فقد رأت أن مظهره يفوق سني بكثير. كنت أعد الساعات، وكان هذا أحد أقصر أيام السنة. أعلى الأريكة، على ورق الحائط، كانت هناك رسومات قديمة للعبة «إكس أو»، ورسومات وشخبطات كنت أنا وأخي قد رسمناها حينما كنا مريضين بالالتهاب الشعبي. نظرت إليها واشتقت للعودة إلى الشعور بالأمان وراء حدود الطفولة.
حينما فككت البكرات طفر شعري، المثار طبيعيا وصناعيا، كأنه أجمة لامعة غزيرة الأوراق. بللته ومشطته بالفرشاة وجذبته نحو الأسفل لأجعله بمحاذاة وجنتي، ووضعت بودرة الوجه، التي ظهرت بمظهر طباشيري، على وجهي الحار. أخرجت أمي «كولونيا رماد الورد» التي لم تستعملها قط، وجعلتني أرش منها على ذراعي، ثم أغلقت لي سحاب الفستان، وأدارتني نحو المرآة. كان الفستان من طراز «برينسيس»؛ أي محكما جدا أسفل الصدر مباشرة. رأيت كيف ظهر ثدياي، في الصدرية الصلبة الجديدة، ناهدين على نحو غير متوقع، لهما مظهر ناضج، تحت الكشكشة الطفولية التي تحيط الياقة.
قالت أمي: «حسنا، أتمنى أن ألتقط لك صورة. أنا بالفعل فخورة حقا بذلك التوافق. وأنت ينبغي أن تشكريني على هذا.»
قلت: «شكرا.»
كان أول ما قالته لوني حين فتحت لها الباب: «يا إلهي! ماذا فعلت بشعرك؟» «رفعته.» «تشبهين أحد أفراد قبيلة الزولو. حسنا، لا تقلقي. ائتيني بمشط وسوف أصفف مقدم شعرك في شكل لفيفة. سيبدو مضبوطا تماما، بل سيجعلك تبدين أكبر سنا.»
جلست قبالة المرآة ووقفت لوني خلفي، تصفف شعري. بدت أمي عاجزة عن تركنا. وددت لو تركتنا. كانت تراقب تصفيف اللفيفة قائلة: «أنت مدهشة يا لوني. ينبغي أن تحترفي تصفيف الشعر.»
قالت لوني: «فكرة.» كانت ترتدي فستانا من قماش الكريب الأزرق الفاتح، مكشكشا حول الخصر وبه أنشوطة، كان ثوبها يفوق ثوبي من حيث كونه أكثر ملاءمة للكبار، حتى إذا أزلت من ثوبي الياقة المكشكشة. وكان شعرها يبدو أملس كشعر الفتاة الموجودة على صورة بطاقات دبابيس الشعر. لطالما كنت أفكر في قرارة نفسي أن لوني لا يمكن أن تبدو جميلة بسبب أسنانها المعوجة، لكن الآن رأيت أنها - بتلك الأسنان المعقوفة أو من دونها، وبفستانها الأنيق وشعرها الأملس - تجعلني أبدو إلى حد ما مثل دمية «جوليووج» محشورة في ثوب مخملي أحمر، فاغرة العينين، ومشعثة الشعر، في منظر يوحي بالهذيان.
تبعتنا أمي حتى الباب وصاحت في الظلام بالفرنسية: «إلى اللقاء!» كانت هذه هي طريقتي المعتادة أنا ولوني لقول وداعا؛ لكن أمي قالتها بوقع أحمق وبائس. ولشدة غضبي من استخدامها هذه الكلمة لم أرد عليها. لوني فقط هي التي ردت مشجعة إياها في مرح: «طابت ليلتك!» •••
عبقت صالة الجمنازيوم برائحة الصنوبر وخشب الأرز. تدلت الأجراس الخضراء والحمراء المصنوعة من الورق المحزز من حلقات كرة السلة، وحجبت النوافذ العالية ذات القضبان بأغصان خضراء كبيرة. وبدا أن جميع من في الصفوف العليا قد أتوا أزواجا. بعض فتيات الصفين الثاني عشر والثالث عشر اصطحبن خلانا تخرجوا مسبقا، من رجال الأعمال الشباب في البلدة. كان هؤلاء الشباب يدخنون في الجمنازيوم، لم يستطع أحد منعهم، كانوا أحرارا يفعلون ما طاب لهم. وكانت الفتيات يقفن إلى جانبهم، مريحات أيديهن دون تكلف فوق أذرع الرجال، ووجوههن مرتسم عليها الملل، والسأم، والجمال. تقت لأن أكون هكذا. كانوا يتصرفون - الأكبر سنا - كما لو كانوا هم الوحيدين الموجودين في الحفل الراقص، وكأننا - نحن الواقفين وهم يتحركون وسطنا ويرمقوننا بأطراف أعينهم - جمادات، إن لم نكن غير مرئيين. حينما أعلن بدء الرقصة الأولى - رقصة بول جونز الجماعية - تحركوا بتثاقل، يبتسم بعضهم لبعض وكأنهم طلب منهم أن يشاركوا في لعبة طفولية كادوا ينسونها. شبكنا أيدينا ونحن نرتجف، وتزاحمنا سويا - أنا ولوني وفتيات الصف التاسع الأخريات - ولحقنا بهم.
لم أجرؤ على النظر نحو الحلقة الخارجية وهي تمر بي، خشية أن أشهد تسارعا فظا. وحين توقفت الموسيقى ظللت حيث أنا، ورأيت وأنا أرفع عيناي بنصف نظرة فتى يدعى مايسون ويليامز آتيا نحوي على مضض. بدأ يراقصني وهو بالكاد يلمس خصري وأصابعي. كانت ساقاي ترتجفان، وذراعاي ترتعشان من مبتدأ كتفي، لم أستطع التكلم. كان مايسون ويليامز أحد الأبطال في المدرسة، يلعب كرة السلة والهوكي ويمشي في الردهات بخيلاء يكللها تجهم ملكي وازدراء قاس. ومن ثم كان اضطراره للرقص مع نكرة مثلي أمرا مؤذيا كأذى اضطراره لحفظ نصوص شكسبير. شعرت بذلك بقوة تضارع قوة شعوره به، وتخيلته يتبادل نظرات الهلع مع أصدقائه. ساقني - وأنا أتعثر - حتى حافة حلبة الرقص، ورفع يده عن خصري وأسقط ذراعي قائلا: «إلى لقاء!» وذهب.
استغرقت دقيقة أو اثنتين كي أستوعب ما حدث وأدرك أنه لن يعود. مضيت فوقفت وحيدة إلى جانب الحائط. رمقتني معلمة التربية البدنية، التي كانت ترقص بحماس بين ذراعي فتى في الصف العاشر، بنظرة متسائلة. كانت المعلمة الوحيدة في المدرسة التي تستخدم تعبير «التكيف الاجتماعي»، كنت أخشى من أنها إذا شاهدت ذلك، واكتشفت ما حدث، فقد تقدم على محاولة علنية، علنية على نحو مريع، لجعل مايسون ينهي رقصته معي. أنا نفسي لم أكن غاضبة أو مندهشة مما فعله مايسون، كنت أتفهم وضعه، ووضعي، في عالم المدرسة، وكنت أرى أن ما فعله هو التصرف الواقعي الذي كان ينبغي فعله. كان «بطلا بالسليقة»، ليس من نوعية بطل «اتحاد الطلبة» المقدر له النجاح بعد المدرسة؛ فأي واحد من هؤلاء كان سيرقص معي بلطف وتسامح ويتركني في سرور لا يفوقه سرور. ومع ذلك، تمنيت ألا يكون عدد كبير من الأشخاص قد رأى ذلك. كنت لا أحب أن يرصد الآخرون ما يحدث. ورحت أقرض الجلد الناتئ حول إبهامي.
حينما توقفت الموسيقى انضممت إلى حشد الفتيات في طرف الجمنازيوم. قلت لنفسي: تظاهري بأن ذلك لم يحدث. تظاهري بأن الحفل يبدأ، الآن.
بدأت الفرقة تعزف مجددا. اعترت الحشد الكثيف الموجود ناحيتنا حركة، كان يتضاءل سريعا؛ فقد جاء الفتيان لدعوة الفتيات، اللائي ذهبن لمراقصتهم. ذهبت لوني، وذهبت الفتاة التي كانت تقف إلى جانبي الآخر. لم يطلب مني أحد أن أراقصه. تذكرت مقالة قرأتها في مجلة، كانت تقول: «كوني مرحة! دعي الفتيان يرون عينيك تتألقان، دعيهم يسمعون الضحك في وقع صوتك! هذا أمر بسيط وواضح، لكن كم من فتاة تنسى ذلك!» كان هذا صحيحا، لقد نسيت. كان حاجباي معقودين من التوتر، لا بد أنني كنت أبدو مذعورة وقبيحة. سحبت نفسا عميقا وحاولت أن أرخي وجهي. ابتسمت، لكنني شعرت بالسخف وأنا أبتسم للا أحد. لاحظت أن الفتيات في حلبة الرقص - الفتيات المحبوبات - لم يكن يبتسمن، كثير منهن كانت وجوههن بليدة، متجهمة، ولم يكن يبتسمن مطلقا.
كانت الفتيات لا يزلن ينصرفن إلى حلبة الرقص. منهن من ذهبن - يأسا - برفقة فتيات مثلهن، لكن معظمهن ذهب برفقة فتيان. فتيات بدينات، فتيات ببثور، فتاة فقيرة لم تكن تملك ثوبا لائقا واضطرت لارتداء تنورة وسترة لحضور حفل الرقص؛ كلهن دعين للرقص، ورقصن دون تردد. لماذا دعين ولم أدع أنا؟ لم كل الفتيات ما عداي؟ أنا أرتدي فستانا مخمليا أحمر، وموجت شعري بالبكرات، واستخدمت مزيل رائحة العرق، ووضعت الكولونيا. قلت في نفسي متضرعة: «يا إلهي!» لم أستطع أن أغمض عيني أثناء ذلك، لكني رحت أردد في نفسي: «أرجوك يا إلهي! أنا! أرجوك!» وشبكت أصابعي خلف ظهري بطريقة أكثر فعالية من شبك السبابة والوسطى، كانت هي نفسها الطريقة التي كنت أنا ولوني نستخدمها كي نتحاشى إرسالنا إلى السبورة في حصة الرياضيات.
لم تنجح تلك الطريقة، وحدث ما كنت أخشاه. سأظل منبوذة. كان ثمة أمر غامض بشأني، أمر لا يمكن علاجه مثل رائحة النفس الكريهة أو أمر لا يمكن إغفاله كبثور الوجه، والجميع كان يعلم بذلك، أنا أيضا كنت أعلم، طوال الوقت. لكنني لم أكن متأكدة، كنت آمل أن أكون مخطئة. تصاعد اليقين بداخلي كالمرض. مررت بفتاة أو اثنتين كانتا هما الأخريان منبوذتين، وذهبت إلى حمام الفتيات، واختبأت داخل إحدى الكبائن.
هناك مكثت. بين الرقصات كانت الفتيات يدخلن ويخرجن على عجل. كانت الكبائن كثيرة، فلم تلحظ إحداهن أنني لست شاغلة مؤقتة لتلك الكابينة. أثناء الرقصات، استمعت للموسيقى التي أحبها لكني لم أشارك بأكثر من ذلك؛ لأنني لم أكن أنوي المحاولة ثانية. كنت أرغب فقط في الاختباء هنا، والخروج دون أن أرى أي شخص، ثم العودة للمنزل.
ثم حدث في مرة من المرات بعد أن بدأت الموسيقى العزف أن تخلفت إحداهن. تركت الماء يجري وقتا طويلا، وهي تغسل يديها وتمشط شعرها. كان مكوثي في الكابينة كل هذا الوقت سيبدو مدعاة للضحك في نظرها. من الأفضل أن أخرج وأغسل يدي لعلها تغادر أثناء ذلك.
كانت تلك هي ماري فورتشن. كنت أعرفها اسما؛ لأنها كانت مرشدة في «جماعة الفتيات الرياضية» وكانت على لوحة الشرف ودائما تنظم فعاليات. كانت مشاركة على نحو ما في تنظيم هذا الحفل الراقص، فقد جالت على كل الفصول تنشد متطوعين للمشاركة في أعمال التزيين. كانت في الصف الحادي عشر أو الثاني عشر.
قالت: «الجو هنا لطيف ومنعش، دخلت هنا ليهدأ جسمي؛ فقد شعرت بحر شديد.»
كانت لا تزال تمشط شعرها حينما انتهيت من غسل يدي. فسألتني: «هل تعجبك الفرقة الموسيقية؟» «إنها على ما يرام.» لم أدر حقا ما ينبغي أن أقول. كنت مستغربة منها، فهي مع كونها فتاة كبرى، تستغرق هذا الوقت في التحدث إلي أنا. «أنا لا تعجبني الفرقة، لا أطيقها. أكره أن أرقص إذا لم تعجبني الفرقة. استمعي إليهم! موسيقاهم متداخلة للغاية وغير متناغمة. لا أحب الرقص على موسيقى كهذه.»
مشطت شعري، واستندت هي إلى أحد الأحواض، تراقبني. «لا أود أن أرقص ولا أود أن أظل هنا تحديدا. دعينا نخرج لندخن سيجارة.» «أين؟» «تعالي، سأريك.»
في نهاية الحمام كان ثمة باب. لم يكن مغلقا بمفتاح، وكان يؤدي إلى حجرة صغيرة مظلمة مليئة بالمماسح والدلاء. جعلتني أبقي الباب مفتوحا، كي يتسنى لنا رؤية ضوء الحمام، إلى أن عثرت على مقبض باب آخر. كان هذا الباب ينفتح على عتمة.
قالت: «لا يمكنني أن أضيء النور وإلا فسيرانا أحدهم. هذه غرفة البواب.» خطر لي أن الطلبة الرياضيين دائما ما يعرفون أكثر من بقية الطلبة عن المدرسة من حيث مبناها، كانوا على دراية بأماكن الاحتفاظ بالأشياء، وكانوا دائما يخرجون - في جرأة وشيء من الانشغال - من أبواب أماكن لا يسمح لأي طالب بالدخول إليها. قالت: «احترسي لموطئ قدمك. هناك في الطرف الآخر ثمة سلالم. إنها تصعد إلى حجرة صغيرة في الدور الثاني. الباب موصد من الأعلى، لكن يوجد ما يشبه الحجيرة بين السلالم والحجرة. ومن ثم، لن يتمكنوا من رؤيتنا إذا جلسنا فوق السلالم، حتى إذا حدث وجاء أحد إلى هنا.»
قلت: «هل سيشمون رائحة السجائر؟» «حسنا. عيشي الخطر.»
كانت ثمة نافذة عالية أعلى السلالم منحتنا بصيصا من الضوء. وكانت ماري فورتشن تحتفظ في حقيبة يدها بسجائر وثقاب. لم أكن قد دخنت من قبل إلا السجائر التي كنا أنا ولوني نلفها بأنفسنا، من الورق والتبغ المسروق من والدها، كانت تلك السجائر تتفكك عند منتصفها. أما هذه السجائر فأفضل كثيرا.
قالت ماري: «السبب الوحيد الذي جعلني آتي الليلة هو أنني مسئولة عن التزيين، فأردت أن أرى، أنت تعرفين، كيف سيبدو الأمر حالما يدخل الناس هناك وما إلى ذلك. عدا ذلك، ما الذي كان سيدفعني لأتجشم المجيء؟ لست مهووسة بالفتيان.»
على ضوء النافذة العالية استطعت أن أرى وجهها الساخر النحيل، وبشرتها السمراء المنقرة بحب الشباب، ومطبقة أسنانها الأمامية، على نحو يجعلها تبدو بالغة ومسيطرة. «معظم الفتيات مهووسات بالفتيان. ألم تلحظي ذلك؟ أضخم مجموعة يمكن أن تتخيليها من الفتيات المهووسات بالفتيان موجودة هنا في هذه المدرسة.»
كنت ممتنة لاهتمامها، ولصحبتها ولسجائرها. ووافقتها الرأي. «مثل ما حدث ظهيرة يومنا هذا . كنت أحاول ظهيرة اليوم أن أجعلهن يعلقن الأجراس وتلك الأشياء. كن يتسلقن السلم ويمزحن مع الفتيان. لم يكن يعنيهن الانتهاء من أمر التزيين ... فالتزيين مجرد ذريعة. كانت تلك غايتهن الوحيدة في الحياة، ممازحة الفتيان. في نظري، هن بلهاوات.»
تكلمنا عن المدرسين، وكل الأمور في المدرسة. قالت إنها تود أن تكون مدرسة للتربية البدنية وإن ذلك يتطلب منها ارتياد الجامعة، لكن والديها لا يملكان ما يكفي من المال لذلك. وإنها تخطط لأن تعمل كي يتسنى لها الحصول على المال اللازم لمصاريف الجامعة، تريد أن تكون مستقلة على أية حال، وإنها ستعمل في الكافيتيريا وحين يحل الصيف ستعمل في أعمال زراعية، كأن تعمل في جني التبغ مثلا. شعرت وأنا أصغي إليها أن جزءا كبيرا من تعاستي ينقشع. ها هي فتاة أخرى تعاني ما أعانيه من هزيمة - أحسست هذا - لكنها مفعمة بالهمة والاعتزاز بالنفس. فقد فكرت في اللجوء لحلول أخرى، كجني التبغ.
ظللنا هناك نتحدث وندخن أثناء الاستراحة الموسيقية الطويلة بينما كان الباقون، بالخارج، يتناولون الفطائر المحلاة والقهوة. وحينما استؤنفت الموسيقى مجددا قالت ماري: «اسمعي، هل ينبغي أن نظل هنا لأطول من ذلك؟ دعينا نحضر معطفينا ونذهب. يمكننا أن نقصد مقهى «لي»، نتناول شراب الشوكولاتة الساخن ونتحدث على راحتنا، لم لا؟»
تحسسنا طريقنا عبر حجرة البواب، حاملتين الرماد وأعقاب السجائر في أيدينا. وفي الحجرة الصغيرة توقفنا وأرهفنا السمع لنتأكد من عدم وجود أي أحد في الحمام. عدنا إلى الضوء ورمينا بالرماد في المرحاض. كان علينا أن نخرج ونعبر حلبة الرقص نحو غرفة الملابس، التي كانت بجانب الباب الخارجي.
كانت إحدى الرقصات قد بدأت للتو، قالت ماري: «امشي حول حافة حلبة الرقص، لن يلحظنا أحد.» وتبعتها. لم أنظر إلى أي شخص، لم أبحث عن لوني. ثمة احتمال بأن لوني لن تكون صديقتي بعد الليلة، على الأقل ليس بقدر ما كانت صديقتي قبل الليلة. كانت من النوع الذي وصفته ماري بالمهووس بالفتيان. •••
وجدت أنني لست خائفة للغاية، بعد أن عقدت العزم على أن أغادر الحفل . لم أكن في انتظار أي فتى ليختارني. صارت لي خططي الخاصة. لم أكن مضطرة لأن أبتسم أو لأن آتي بحركات تجلب الحظ. لم يعد للأمر أهمية بالنسبة لي. كنت في طريقي لتناول شراب الشوكولاتة الساخن برفقة صديقتي.
حينئذ قال لي أحد الفتيان شيئا ما. كان يقف في طريقي. ظننت أنه يقول لي إنني أسقطت شيئا ما، أو إنني لا يمكنني المرور من هنا، أو إن غرفة الملابس مغلقة. لم أفهم أنه طلبني للرقص إلا بعد أن كررها ثانية. كان ذلك هو رايموند بولتينج من فصلنا، والذي لم يسبق لي قط أن تحدثت إليه في حياتي. اعتقد هو أنني قصدت الموافقة على دعوته، فوضع يده على خصري وبدأت أرقص وأنا لا أكاد أقصد ذلك.
تحركنا إلى منتصف الحلبة. كنت أرقص. نسيت ساقاي التعثر وودعت يداي التعرق. كنت أرقص مع فتى طلبني للرقص. لم يطلب منه أحد أن يفعل، لم يكن مضطرا، طلبني وحسب. هل هذا ممكن؟ هل لي أن أصدق؟ أما كان هناك أي أمر كريه يعيبني في نهاية المطاف؟
فكرت أن علي أن أخبره بأن ثمة خطأ ما، وأنني كنت منصرفة للتو لأتناول شراب الشوكولاتة الساخن برفقة صديقتي، لكنني لم أقل أي شيء. كان وجهي يتخذ تغيرات رقيقة معينة، لترتسم عليه دون أي مجهود على الإطلاق تلك النظرة التي لا تلقي بالا على وجوه من جرى اختيارهن، الفتيات اللائي رقصن. كان هذا هو وجهي الذي رأته ماري فورتشن، حينما نظرت إلي من باب حجرة الملابس، ووشاحها ملفوف بالفعل حول رأسها. لوحت لها بحركة خفيفة باليد الموضوعة على كتف الفتى، في إشارة إلى أنني أعتذر عن الخروج، وأنني لم أدر ما حدث، وأيضا، أن لا جدوى من انتظاري. ثم أشحت برأسي بعيدا، وحينما نظرت ثانية كانت قد ذهبت.
أوصلني رايموند بولتينج إلى المنزل وأوصل هارولد سايمونز لوني إلى منزلها. مشينا جميعا معا حتى ناصية منزل لوني. كان الفتيان في جدال بشأن مباراة هوكي، لم نستطع أنا ولوني أن نجاريه. بعد ذلك انفصلنا إلى زوجين وواصل رايموند معي الحديث الذي كان يخوضه مع هارولد. لم يبد عليه أنه لاحظ أنه صار يتحدث إلي لا إلى هارولد. قلت مرة أو اثنتين: «حسنا، لا أدري، لم أر المباراة.» لكن بعد وهلة قررت أن أكتفي بقول: «هممم هممم.» وبدا أن هذا هو كل ما يلزم فعله.
قال لي شيئا آخر: «لم أكن أظن أنك تسكنين بعيدا هكذا.» ونشق بصوت مسموع. كان البرد قد جعل أنفي يسيل أنا أيضا، فأخذت أجول بأصابعي خلال أغلفة الحلوى داخل جيب معطفي إلى أن عثرت على منديل ورقي بال. لم أدر إن كان ينبغي لي أن أعرضه عليه أم لا، لكنه كان ينشق بصوت عال إلى حد جعلني أقول له في نهاية المطاف: «ليس لدي سوى هذا المنديل الورقي، ربما لا يكون نظيفا حتى، قد يكون ملوثا بالحبر، لكن إذا مزقته شطرين يمكننا أن نتقاسمه.»
قال: «شكرا، طبعا يمكنني أن أستخدمه.»
جيد أنني فعلت ذلك، هذا ما خطر لي؛ لأننا حين وصلنا إلى باب منزلنا وقلت: «حسنا، تصبح على خير.» وبعد أن قال «أه، حسنا، تصبحين على خير.» مال ناحيتي وطبع قبلة، قبلة خاطفة، على زاوية فمي، بطريقة توحي بأنه شخص يعلم مهمته حين يحين وقتها. ثم استدار عائدا إلى البلدة، دون أن يدري بأنه كان منقذي؛ لأنه أعادني من عالم ماري فورتشن إلى العالم الطبيعي.
درت حول المنزل إلى الباب الخلفي وأنا أفكر في أنني ذهبت إلى حفل راقص، وأن فتى أوصلني إلى المنزل وقبلني. كان هذا حقيقيا. حياتي ممكنة. مررت بجانب نافذة المطبخ ورأيت أمي. كانت تجلس واضعة قدميها على باب الفرن المفتوح، تشرب الشاي من فنجان بدون الصحن المخصص له. كانت فقط تجلس في انتظار أن أعود إلى المنزل وأخبرها بكل ما حدث. لم أكن لأفعل ذلك، أبدا. لكن حين رأيت انتظارها بالمطبخ وهي في «روبها» الفضفاض، المشجر المزغب باهت الألوان، ووجهها الذي كان ناعسا لكنه مترقب في لهفة؛ أدركت حجم الالتزام الملح الذي لا يمكن تفسيره المفروض علي: أن أكون سعيدة، وكيف أنني كدت لا أفي به، وكيف من الممكن ألا أفي به، دون أن تدري هي عن ذلك شيئا.
بعد ظهيرة يوم الأحد
دخلت السيدة جانيت المطبخ تخطو بخفة على وقع لحن يعزف في رأسها، وتلوح بذيل ثوبها الصيفي من القطن المصقول الموشى بالورود. كانت ألفا بالداخل تغسل الأكواب. كانت الساعة الثانية والنصف، وكان الناس قد بدءوا يدخلون لاحتساء الشراب في حوالي الثانية عشرة والنصف. كانوا الأشخاص المعتادين؛ فقد سبق لألفا أن رأت معظمهم عدة مرات من قبل، خلال الأسابيع الثلاثة التي عملت فيها لدى آل جانيت. كان هناك أخو السيدة جانيت، وزوجته، وآل فانس وآل فريدريك. وحضر والدا جانيت لمدة قصيرة، بعد أدائهما الصلاة في كنيسة سان مارتن، مصطحبين معهما ابن أخ، أو ابن عم، شابا ظل ماكثا بعد مغادرتهما إلى المنزل. كان فرع العائلة من ناحية السيدة جانيت يشكل الجانب القويم من العائلة؛ فقد كان لها ثلاث أخوات، كلهن جميلات، ومحترمات وغير طائشات، وأكثر نشاطا إلى حد ما من السيدة جانيت. ولها أيضا هذان الأبوان اللذان يتسمان بدرجة عظيمة من بهاء المنظر والبيان في الكلام، واللذان اكتسى شعرهما باللون الأبيض الناصع. كان والد السيدة جانيت هو صاحب الجزيرة الواقعة في خليج جورجيا، التي بنى فيها منزلا صيفيا لكل بنت من بناته؛ إنها الجزيرة التي كانت ألفا ستراها في غضون أسبوع. من ناحية أخرى، كانت والدة السيدة جانيت تعيش في شطر من البيت المبني بالآجر الأحمر في شارع يخلو من الشجر ويحوي منازل مماثلة مبنية بالآجر الأحمر، بالقرب من قلب المدينة. كانت السيدة جانيت تمر عليها مرة في الأسبوع، فتأخذها في جولة بالسيارة ثم تأتي بها إلى المنزل لتناول طعام العشاء، ولا يشرب أحد حينئذ إلا عصير العنب إلى أن تعود إلى منزلها. حدث ذات مرة، حينما اضطر السيد والسيدة جانيت للخروج مباشرة بعد العشاء، أن جاءت إلى المطبخ ورتبت الأطباق بدلا من ألفا. كانت حادة وفاترة معها إلى حد ما، مثلما كان نساء عائلة ألفا يتصرفن مع أية خادمة. لكن لم تلق ألفا بالا لذلك مثلما تعنى بما تجده من عذوبة العشرة ومراعاة المشاعر لدى أخوات السيدة جانيت.
فتحت السيدة جانيت الثلاجة ووقفت أمامها ممسكة ببابها، ثم قالت أخيرا، بما يشبه القهقهة: «ألفا، أظن أننا ينبغي أن نتناول الغداء ...»
قالت ألفا: «حسنا.» فوجهت السيدة جانيت ناظريها نحوها. لم تتفوه ألفا قط بأي خطأ، خطأ حقيقي، شيء فظ، ولم تكن السيدة جانيت خيالية بحيث تنتظر من فتاة في المرحلة الثانوية، بل وريفية، أن ترد: «أمرك سيدتي» مثلما كان يفعل الخدم المسنون في مطبخ والدتها؛ لكن نبرة ألفا كانت تحمل دائما طبيعية مصطنعة، نغمة عدم اكتراث مفرط وود يبعث على الانزعاج أكثر من أي شيء آخر لأنه كان لا يتيح للسيدة جانيت أن تفكر على الإطلاق في أن تعترض على ذلك. لكنها توقفت عن ضحكها على كل حال. وفجأة، ارتسمت الجدية والوجوم على وجهها الذي اكتسب سمرة وكانت تعلوه مساحيق التجميل.
وقالت: «سلطة البطاطا وخلاصة المرق واللسان، ولا تنسي أن تسخني اللفائف. هل قشرت الطماطم؟ حسنا ... أوه، اسمعي ألفا، لا أظن أن ذلك الفجل يبدو جذابا بأية حال، أليس كذلك؟ من الأفضل أن تقطعيه إلى شرائح، كانت جين تقطعه في شكل وردات، تعرفين كيف يقطعون البتلات في شكل دائري، كان يبدو رائعا.»
بدأت ألفا تقطع الفجل بغير إتقان. كانت السيدة جانيت تجول في المطبخ، عابسة، تمرر أطراف أصابعها فوق مناضد المطبخ الزرقاء والمرجانية. كانت قد رفعت شعرها ولفته فوق قمة رأسها، مما جعل رقبتها تبدو نحيفة للغاية، سمراء وخشنة إلى حد ما بفعل لفح الشمس، وكانت قتامة سمرتها تجعلها تبدو مشدودة البدن وصلبة العود. رغم ذلك، فإن ألفا - التي لم تحمل بشرتها أي قدر تقريبا من سمرة الشمس لأنها كانت تمضي الوقت الحار من اليوم داخل المنزل، والتي كانت وهي في السابعة عشرة من عمرها أكثر سمنة مما تتمنى عند الساقين والخصر - كانت تحسد سيدتها على هذه السمرة وهذا القوام الرفيع، فقد كانت للسيدة جانيت هيئة تجعلها تبدو كأنها قدت من مواد صناعية وراقية تماما. «قطعي كعكة الملاك بخيط رفيع، تعرفين هذا، وسأخبرك بعدد الحلوى المثلجة وعدد حلوى شراب القيقب. فانيليا فقط للسيد جانيت، موجودة في المجمد؛ ثمة الكثير منها، حتى ما يكفي لتحليتك أنت ...» ثم هرعت إلى الفناء صائحة «أوه، ديريك، يا عفريت، ديريك، ديريك!» بنبرة من الحدة والغضب الجذل. عندئذ تذكرت ألفا - التي كانت تعرف أن ديريك هو السيد فانس، وهو سمسار أسهم - في الوقت المناسب ألا تسترق النظر من النصف العلوي للباب الهولندي كي ترى ما يجري. كان هذا أحد الصعوبات التي تواجهها أيام الآحاد، حينما كانوا جميعا يحتسون الشراب، ويستحيلون إلى حالة من الاسترخاء والإثارة؛ فقد كان عليها أن تتذكر أنه يحظر عليها أن تبدي أي قدر من الاسترخاء والإثارة هي الأخرى. بطبيعة الحال لم تكن تحتسي الشراب، إلا من قعور الأكواب بعد أن تعاد إلى المطبخ، على أن يكون الشراب من نوع «الجن» وأن يكون باردا ومحلى. •••
لكن بحلول منتصف فترة ما بعد الظهيرة، صار الشعور بالانفصال عن الواقع، الإحساس بتعاقب مشاعر اللامبالاة والطيش، قويا جدا في البيت. كانت ألفا تلتقي أشخاصا خارجين من الحمام، مهمومين ومغتمين، وتلمح نساء في غرف النوم خافتة الإضاءة يملن ناحية انعكاس صورهن في المرآة، ويطلين شفاههن بأحمر الشفاه في بطء شديد، وقد يغلب شخصا ما النعاس فوق الأريكة الطويلة في حجرة التلفاز. بحلول هذا الوقت تكون الستائر قد أسدلت فوق الحوائط الزجاجية لحجرتي المعيشة والطعام، لتقيها حرارة الشمس، فتبدو تلك الحجرات المفروشة بالسجاجيد والستائر الطويلة المسدلة بألوانها الباردة كأنها سابحة في إضاءة تحت سطح الماء. أحست ألفا أنه يصعب عليها أن تتذكر أن حجرات البيت، هذه الحجرات الصغيرة، يمكن أن تحوي هذا الكم الكبير من الأشياء؛ فهنا، حيث توجد هذه الأسطح الملساء الخاوية، هذه المساحات: رواق واسع وطويل وخال، إلا من مزهريتين طويلتين على الطراز الدانمركي واقفتين قبالة الجدار الأبعد، وسجادة، وجدران وأسقف كلها بدرجات زرقاء من اللون الرمادي؛ هنا تمشي ألفا عبر هذا الرواق، دون أن تحدث أي صوت، تتمنى لو تجد مرآة، أو أي شيء تصطدم به، كي تتأكد من أنها موجودة هنا بالفعل.
قبل أن تحمل طعام الغداء إلى الفناء مشطت شعرها أمام مرآة صغيرة في طرف رف المطبخ، وجعلت تلف خصلات من شعرها تحيط وجهها. حلت رباط ميدعتها وربطته من جديد، وشدت الرباط العريض بإحكام. كان هذا كل ما ينبغي لها أن تفعله، كان هذا اللباس يخص جين من قبل، وقد علقت ألفا، عندما ارتدته لأول مرة، بأنه قد يكون كبيرا جدا بالنسبة لمقاسها، لكن السيدة جانيت لم توافقها الرأي. كان اللباس أزرق - اللون الغالب في المطبخ - بياقة وأطراف أكمام بيضاء اللون ومئزر ذي حافة مزينة بفستونات مدورة. كان عليها أن ترتدي جوارب أيضا، وحذاء أبيض متوسط الكعب كان له وقع صاخب وهي تخطو فوق حجارة الفناء، وهذا ما جعل صوته متناقضا مع وقع الصنادل والأحذية الرياضية، صوت ثقيل عازم يوحي بفقدان الكياسة. لكن أحدا لم يكن ينظر إليها، وهي تحمل الأطباق ومناديل المائدة وألوان الطعام إلى طاولة طويلة من الحديد المشغول. لم يأت إلا السيدة جانيت وأعادت ترتيب الأشياء؛ فقد كانت طريقة ألفا في وضع الأشياء تبدو أنها تفتقر أمرا ما، رغم أنها في هذا الأمر، أيضا، لم ترتكب أي خطأ حقيقي.
وبينما كانوا يتناولون غداءهم كانت هي أيضا تتناول غداءها، جالسة إلى طاولة المطبخ تطالع نسخة قديمة من مجلة «تايم». لم يكن ثمة جرس في الفناء بالطبع؛ فكانت السيدة جانيت تصيح منادية «حسنا، ألفا!» أو فقط «ألفا!» بنبرات متحفظة ونافذة كوقع الجرس. كان من الغريب أن أسمعها تصيح على هذا النحو، بينما تتحدث إلى شخص ما، ثم تعود فتبدأ الضحك؛ بدا الأمر وكأنها تملك صوتا آليا، أو مزودة بزر تضغط عليه فتنادي: ألفا.
بعد انتهائهم من تناول الطعام حملوا جميعا ما أكلوا فيه من أطباق التحلية وفناجين القهوة إلى المطبخ. قالت السيدة فانس إن سلطة البطاطا كانت لذيذة؛ وقال السيد فانس، الذي كان ثملا تماما، إنها لذيذة لذيذة . كان يقف خلف ألفا مباشرة عند الحوض، قريبا جدا منها بحيث كانت تشعر بأنفاسه وتحس موضع يديه، لم يلمسها تماما. كان السيد فانس ضخما جدا، بشرته ضاربة إلى الحمرة، أجعد الشعر، أشيبه. كانت ألفا تجده مقلقا؛ لأنه كان من نوعية الرجال الذين اعتادت أن تظهر الاحترام لهم. كانت السيدة فانس تتحدث طوال الوقت، وتبدو، حين تتحدث إلى ألفا، أقل اعتدادا بنفسها، لكن أكثر ودا، من أي من النساء الأخريات. كان ثمة اضطراب ما في وضع آل فانس، لم تكن ألفا تدرك ما هو تحديدا، ربما كان أنهم ليسوا بثراء الآخرين. على أية حال، كانوا دائما مسلين جدا ومتحمسين جدا، وكان السيد فانس دائما يفرط في السكر.
قال السيد فانس: «هل ستصحبيننا نحو الشمال يا ألفا، إلى خليج جورجيا؟» وأضافت السيدة فانس: «أوه، سيعجبك المكان، عائلة السيد جانيت تملك مكانا رائعا هناك»، وقال السيد فانس: «لم لا تحظين ببعض الشمس على بشرتك هناك، ها؟» ثم ذهبوا. استدارت ألفا، التي صار بمقدورها أن تتحرك الآن، لتجمع بعض الأطباق المتسخة، ولاحظت أن ابن عم السيد جانيت، أو أيا كان من أقربائه، ما زال موجودا. كان نحيلا، ذا هيئة خشنة، مثل السيدة جانيت، وإن كان أكثر سمرة منها. سألها: «ألم يتبق لديك بعض القهوة هنا؟» صبت ألفا له ما تبقى من القهوة؛ نصف فنجان. وقف يحتسيه، وراح يراقبها وهي تكدس الأطباق، ثم قال: «الجو مرح للغاية، أليس كذلك؟» وحين رفعت بصرها، ضحك وذهب.
لم يكن لدى ألفا ما تفعله بعد أن أنهت غسل الأطباق، فالعشاء سيكون في ساعة متأخرة. لم يكن باستطاعتها فعلا أن تترك البيت، فقد تحتاجها السيدة جانيت في أمر ما. ولم يكن باستطاعتها أن تخرج إلى الخارج، فقد كانوا جميعا هناك. صعدت إلى الأعلى، ثم حين تذكرت أن السيدة جانيت كانت قد سمحت لها أن تقرأ أيا من الكتب الموجودة في حجرة التلفاز، نزلت للأسفل ثانية كي تحضر أحدها. قابلت في الردهة السيد جانيت، الذي نظر إليها بجدية كبيرة، وبتفرس، وبدا أنه على وشك أن يمر بها دون أن يتفوه بشيء، لكنه قال: «اسمعي ألفا، انظري ... هل تحصلين على ما يكفيك من الطعام؟»
لم يكن يمزح، لأن السيد جانيت لم يكن معتادا على المزاح معها. في الواقع، كان قد سألها هذا السؤال مرتين أو ثلاثا من قبل. بدا أنه يحس بمسئولية نحوها، وكان حينما يراها في البيت يشعر أن الشيء المهم هو أنها ينبغي أن تغذى جيدا. طمأنته ألفا، وقد تصاعد الدم إلى وجهها من الضيق. فكرت: هل هي بقرة صغيرة؟ قالت: «كنت ذاهبة إلى ركن التلفاز لأحضر كتابا. قالت لي السيدة جانيت إنها لا تمانع ذلك.»
فقال السيد جانيت: «نعم، نعم، أي كتاب يعجبك» وفتح لها، على نحو غير متوقع، باب حجرة التلفاز وأخذها نحو أرفف الكتب، حيث وقف مقطبا. سألها: «أي كتاب ترغبين؟» ومد يده نحو رف الروايات التاريخية والبوليسية ذات الأغلفة البديعة، لكن ألفا قالت: «لم تسبق لي قراءة «الملك لير».»
فقال «الملك لير! أوه.» لم يكن يدري أين يبحث عنها، فأتت به ألفا بنفسها، ثم قالت: «ولم أقرأ أيضا رواية «الأحمر والأسود».» لم تعجبه هذه الرواية كثيرا، لكنها كانت رواية يمكن أن تقرأها بالفعل؛ لم تكن لتعود إلى حجرتها ومعها «الملك لير» فحسب. خرجت من الحجرة شاعرة بسرور بالغ، فقد أرته أنها تفعل شيئا آخر إلى جانب أكل الطعام. إن مسرحية «الملك لير» قد تعجب الرجال أكثر مما تعجب النساء. لكن لا شيء كان ليحدث فرقا في نظر السيدة جانيت، فبالنسبة لها، الخادمة خادمة. •••
لكن في حجرتها، لم ترغب في القراءة. كانت حجرتها أعلى الجراج، وحارة للغاية. كان الجلوس على الفراش يجعد لباسها، ولم يكن لديها لباس آخر مكوي؛ فخلعته وجلست مرتدية قميصها التحتاني، لكن السيدة جانيت قد تناديها، وتطلب مجيئها فورا. وقفت عند النافذة، تتطلع إلى ناحيتي الشارع. كان الشارع هلالي الشكل، عريضا ومتدرج الانحناء، من دون رصيف للمشاة. شعرت ألفا في المرة أو المرتين اللتين مشت فيهما في هذا الشارع أنها تجذب الانتباه إليها بعض الشيء؛ إذ لم يشاهد أي شخص يمشي فيه قط. كانت المنازل متباعدة عن بعضها للغاية، ومتراجعة مسافة بعيدة عن الشارع، خلف مروج وحدائق صخرية وأشجار زينة باهرة؛ وفي هذه المساحة الموجودة أمام كل منزل، لم يكن ثمة أحد عدا الجنائنيين الصينيين؛ وكانت المقاعد بالمروج، والمراجيح، وطاولات الحدائق موضوعة في المروج الخلفية، المحاطة بسياجات من الشجيرات أو جدر من الحجارة أو أسوار على الطراز شبه الريفي. كانت السيارات مصطفة على طول الشارع عصر هذا اليوم؛ وكانت تنبعث من خلف المنازل أصوات حديث وضحك كثير. ورغم حرارة الجو، ما من سديم أثناء النهار، هنا في الأعلى؛ كل شيء - البيوت المبنية بالحجارة والجص، والأزهار، والسيارات زاهية الألوان - كان يبدو متماسكا ولامعا، متقنا ومثاليا. ما من شيء عشوائي في المشهد. كان الشارع، كأنه إعلان، يحمل منظرا حيا لأجواء الصيف الساطعة، وهذا بهر ألفا، بهرها الضحك، وبهرها الناس الذين تتلاءم حياتهم مع الشارع. جلست على كرسي صلب قبالة طاولة أطفال عتيقة الطراز؛ كل الأثاث بهذه الغرفة جاء من فضلة الغرف الأخرى التي جددت ديكوراتها؛ كانت المكان الوحيد في البيت الذي يمكنك أن تجد فيه أشياء غير منسجمة مع بعضها، لا علاقة بينها، وقطعا خشبية ليست ضخمة، قصيرة وغير جذابة. ثم شرعت تخط رسالة لأسرتها. ••• «... والبيوت، وكل الأشياء الأخرى أيضا، عظيمة حقا، غالبا على أحدث طراز. ليس هناك عشب ضار واحد في حدائق البيوت، كل بيت هنا به جنائني يقضي يوما كاملا من كل أسبوع في تنظيف ما يبدو مثاليا بالفعل. أعتقد أن هؤلاء الرجال حمقى بعض الشيء، نظرا للعناية المفرطة التي يولونها لحدائق البيوت وما شابهها من الأشياء. صحيح أنهم يخرجون ليعيشوا حياة تخلو من الرفاهيات المعتادة بين الفينة والفينة، لكن الأمر يكون معقدا جدا ويجب أن يكون كل شيء مرتبا بدقة. هذه حال كل ما يفعلونه وكل مكان يقصدونه.
لا تخشي من أن أكون وحيدة أو مضطهدة أو ما إلى ذلك من الأمور التي تتعرض لها الخادمات؛ فأنا لم أكن لأتهاون مع أي أحد يفعل أي شيء من هذا القبيل. علاوة على أنني لست خادمة بالمعنى الحقيقي، أنا أعمل في الصيف وحسب. لا أشعر بالوحدة، ولم ينبغي لي؟ أنا أراقب فقط وأتسلى. أمي، بالطبع لا يمكنني أن آكل معهم. لا تكوني مضحكة. وضعي ليس مثل وضع عاملة أجيرة، فضلا عن أنني أفضل أن آكل بمفردي. وإذا حدث وكتبت رسالة للسيدة جانيت بهذا الشأن فلن تفهم عما تتحدثين أصلا، ثم إنني لا أبالي بهذا الأمر. فلا تبالي أنت أيضا به!
أعتقد أيضا أنه سيكون من الأفضل عندما تحضر ماريون أن أقابلها في وسط المدينة، إذا تمكنت من أخذ إجازة في فترة ما بعد الظهيرة؛ فأنا لا أرغب تحديدا في حضورها هنا. لا أعلم كيف يتعاملون مع حضور أقارب الخادمات. بالطبع إذا كانت ترغب ذلك فلا بأس. لكني لا يمكنني أن أعلم دائما كيف سيكون رد فعل السيدة جانيت، هذا ما في الأمر، وأنا أحاول أن أهون على نفسي هنا من دون أن أجعل السيدة جانيت تأخذ علي أي مأخذ. لكنها رغم ذلك امرأة طيبة.
في غضون أسبوع سنسافر إلى خليج جورجيا، وبالطبع أنا أتطلع لذلك؛ إذ سيتسنى لي أن أذهب للسباحة كل يوم، هذا ما قالته (السيدة جانيت) و...»
كانت غرفتها حارة للغاية. وضعت الرسالة غير المكتملة أسفل النشافة فوق المنضدة. ثمة صوت مذياع كان ينبعث من حجرة مارجريت. اتجهت عبر الردهة نحو باب حجرة مارجريت، آملة أن تجده مفتوحا. لم تكن مارجريت قد أتمت الرابعة عشرة من عمرها بعد، لكن الاختلاف في السن كان يعوض عن اختلافات أخرى، ولم يكن من السيئ جدا التواجد مع مارجريت.
كان الباب مفتوحا، وعلى الفراش كانت فساتين مارجريت الصيفية والتنانير التحتانية مفروشة. لم تكن ألفا تعرف أن لديها كل هذا الكم من الفساتين.
قالت مارجريت: «أنا لا أحزم حقيبتي فعلا. أعلم أن هذا جنوني، أنا أرى فقط ما لدي. آمل أن تكون حاجياتي على ما يرام. آمل ألا تكون مفرطة ال ...»
لامست ألفا الملابس المفروشة فوق الفراش، شاعرة بسرور عظيم بهذه الألوان الرقيقة، وبالصدارات الصغيرة الناعمة، فخمة التصميم والتشطيب، والتنانير التحتانية بشبكاتها المموجة والرائعة؛ كانت هذه الملابس تحمل براءة صناعية غاية في الجمال. لم تكن ألفا تحسدها، لا، فهذا أمر بعيد كل البعد عنها؛ إن ذلك جزء من عالم مارجريت، ذلك النمط الصارم للمدارس الداخلية (السترات القصيرة والجوارب السوداء الطويلة)، والهوكي، والكورس، والإبحار في الصيف، والحفلات، والفتيان الذين يرتدون السترات الرياضية ...
سألتها ألفا: «أين سترتدينهم؟» «في فندق «أوجيبواي»، إنهم يقيمون حفلات راقصة في نهاية كل أسبوع، الجميع يرتادون يخوتهم. ليل الجمعة للأولاد وليل السبت للآباء وغيرهم من الناس.» ثم أضافت في شيء من خيبة الأمل: «هذا هو الذي سوف أقصده، إذا لم أكن فاشلة اجتماعيا. إن ابنتي عائلة ديفيس ستقصدانه.»
قالت ألفا مشجعة: «لا تقلقي، ستبلين حسنا.»
قالت مارجريت: «لا أحب الرقص حقيقة، لا أحبه قدر حبي للإبحار مثلا. لكن المرء يضطر للرقص.»
قالت ألفا: «ستحبينه.» إذن ستكون هناك حفلات رقص، سيرتادون اليخوت، وستراهم يغادرون المنزل وتسمعهم حين يعودون له. وكل هذه الأمور، التي كان ينبغي لها أن تتوقعها ...
بينما مارجريت جالسة القرفصاء على الأرض، نظرت إليها بنظرة بليدة، ووجه بريء، وقالت: «هل تظنين أن علي أن أبدأ التقبيل والمداعبات الغرامية هذا الصيف؟»
قالت ألفا: «نعم.» ثم أضافت بشيء من الحقد: «لو كنت مكانك لفعلت.» بدت مارجريت متحيرة، ثم قالت: «قيل لي إن هذا كان السبب في عدم دعوة سكوتي لي في عيد الفصح ...»
لم يسمع أي صوت، لكن مارجريت انتفضت واقفة على قدميها. قالت بشفتيها فقط من دون صوت: «أمي قادمة»، وعلى الفور دخلت السيدة جانيت الحجرة، وبذلت جهدا لترسم ابتسامة على وجهها، وقالت: «أوه، ألفا. إذن فأنت هنا.»
قالت مارجريت: «كنت أخبرها عن الجزيرة، مامي.» «أوه، ثمة كم رهيب من الأكواب موجود في الأسفل يا ألفا، هلا غسلتها كلها فورا كي تنتهي منها حينما ترغبين في تناول طعام العشاء و... ألفا، هل لديك مئزر آخر نظيف؟»
قالت مارجريت: «الأصفر ضيق للغاية مامي، لقد جربته ...» «اسمعي عزيزتي ، لا داعي الآن لإخراج كل ما لديك من «هلاهيل»، ما زال أمامنا أسبوع قبل أن نسافر ...» •••
نزلت ألفا للأسفل، ومرت عبر الردهة المائلة للزرقة، فسمعت أشخاصا يتحدثون في جدية، وشيء من السكر، في حجرة التلفاز، ورأت باب غرفة الحياكة يغلق برفق، من الداخل، مع اقترابها ناحيته. دخلت المطبخ. صارت تفكر في الجزيرة الآن. جزيرة بأكملها يملكونها هم، لا شيء فيها على مرمى البصر لا يملكونه: الصخور والشمس وأشجار الصنوبر ومياه الخليج الباردة العميقة. ما الذي يمكن أن تفعله هناك؟ ماذا يمكن أن تفعل الخادمات هناك؟ ربما يمكنها أن تسبح، في ساعات فراغها، أو تخرج لتتمشى وحدها، وقد يمكنها أحيانا - ربما عندما يذهبون لشراء البقالة - أن تركب اليخت. لن يكون هناك عمل كثير ينبغي إنجازه مثلما هي الحال هنا، هكذا قالت السيدة جانيت. قالت إن الخادمات دائما ما يستمتعن بوقتهن هناك. فكرت ألفا في الخادمات الأخريات، اللائي يفقنها مهارة، الفتيات اللائي يفقنها لياقة ولطفا، هل يستمتعن حقا هناك؟ أي نوع من الحرية أو السرور وجدنه هناك، ولم تجربه هي من قبل؟
ملأت الحوض بالماء، وأخرجت رف تجفيف الصحون والأكواب ثانية وبدأت تغسل الأكواب. لم يكن ثمة ما يهم خاطرها، لكنها شعرت بأن صدرها يضيق، يضيق من الحرارة، وأنها متعبة وغير عابئة، تسمع من حولها ثرثرة غامضة غير مفهومة - عن حياة أناس آخرين، عن يخوت وسيارات وحفلات رقص - وترى هذا الشارع، وتلك الجزيرة الموعودة، تحت إبهار الشمس الطاغي والمتواصل. لم يكن بوسعها أن يكون لها صوت هنا، ولا همسة.
وعليها أن تتذكر، قبل ميعاد العشاء، أن تصعد لترتدي مئزرا نظيفا.
سمعت الباب يفتح، جاء شخص ما من الفناء. كان ابن عم السيدة جانيت.
قال: «إليك كوبا آخر. أين يمكنني وضعه؟»
قالت ألفا: «في أي مكان.» «قولي شكرا.» هكذا قال ابن عم السيدة جانيت بينما استدارت ألفا وهي تنشف يديها في مئزرها، في استغراب، سرعان ما زال عنها. توقفت، وظهرها مستند إلى طاولة المطبخ، حينما جذبها ابن عم السيدة جانيت إليه برفق، كما يحدث في أي لعبة جماعية مألوفة، وأمضى بعض الوقت يلثم فمها.
قال: «لقد طلبت مني أن أذهب إليهم في الجزيرة في إحدى عطلات الأسبوع في شهر أغسطس.»
استدعاه نداء من الفناء، فخرج بالرشاقة، والانسلال المضحك إلى حد ما، اللذين يميزان بعض الأشخاص صغيري البنية. وقفت ألفا لا تحرك ساكنا وظهرها مستند إلى طاولة المطبخ.
أراحتها لمسة هذا الشخص الغريب. كان جسدها ممتنا ومتلهفا، فشعرت بسعادة وثقة لم تعرفهما من قبل في هذا البيت. وهكذا، كانت هناك أمور لم تكن قد أخذتها في الحسبان، عن نفسها، وعن أساليب العيش معهم التي لم تكن مبهرة إلى الحد الذي حسبته. إنها لا تضيق من التفكير في الجزيرة الآن، في الصخور العارية المغمورة بأشعة الشمس وفي أشجار الصنوبر الصغيرة المعتمة. صارت تراها بعين أخرى الآن، بل لعلها صارت ترغب في أن تذهب إليها. لكن الأمور تأتي دائما مجتمعة، ثمة أمر لم تكن قد تبينته بعد؛ نقطة حساسة، نوع جديد وغامض من الإذلال والمهانة.
رحلة إلى الساحل
«بلاك هورس»، بقعة موجودة على الخريطة، لكن لا شيء في هذا المكان سوى متجر وثلاثة بيوت ومقبرة قديمة وسقيفة إسطبل يخص كنيسة احترقت عن آخرها. المكان حار في الصيف، يخلو من أي ظل على الطريق وأي جدول بالقرب منه. البيوت والمتجر مبنية بآجر أحمر، تشوبه صفرة باهتة، ومزينة عشوائيا بطوب رمادي أو أبيض على المداخن وحول النوافذ. خلفها تمتلئ الحقول بنباتات الصقلاب والقضبان الذهبية والقصوان. والأشخاص الذين يمرون على المكان، في طريقهم إلى بحيرات موسكوكا والأجمة الشمالية، يمكنهم أن يلاحظوا هنا المناظر الطبيعية الوارفة تضيق وتتسع، والقباب الصخرية البالية تظهر في الحقول المتآكلة، وأحراج الدردار والقيقب الكثيفة المتناغمة وهي تنفتح على أحراش أكثر كثافة وأقل رحابة من أشجار البتولا والحور، والراتنج والصنوبر، في حرارة ما بعد الظهيرة تستحيل الأشجار المدببة الموجودة عند نهاية الطريق شفافة، زرقاء اللون، منسحبة في الأفق مثل صحبة من الأشباح.
كانت ماي مستلقية في غرفة كبيرة في خلفية المتجر مليئة بالصناديق. كانت تلك الغرفة مكان نومها في الصيف، حينما تشتد الحرارة في الطابق العلوي. وكانت هيزل تنام في الغرفة الأمامية على الأريكة وتشغل المذياع طوال نصف الليل؛ أما جدتها فظلت تنام في الدور العلوي، في حجرة صغيرة ضيقة مزدحمة بقطع أثاث كبيرة وصور فوتوغرافية قديمة، وعبقة برائحة قماش مشمع حار ورائحة جوارب النساء العجائز الصوفية. لم تستطع ماي أن تميز أي وقت كان ذلك لأنها لم تستيقظ من قبل قط في وقت مبكر كهذا. فقد كانت تستيقظ في معظم الأصباح فتجد رقعة من الشمس الحارة على الأرض عند قدميها، وتسمع رجرجة شاحنات المزارعين التي تنقل الحليب وهي مارة على الطريق السريع، بينما جدتها تسرع الخطى جيئة وذهابا من المتجر إلى المطبخ، حيث تكون قد وضعت فوق الموقد براد القهوة ومقلاة فيها لحم الخنزير المقدد الثخين. وحينما كانت الجدة تمر على الأريكة القديمة التي تنام عليها ماي والتي كانت فيما مضى مخصصة للشرفة (ما تزال وسائدها تفوح بنذر يسير من رائحة العفن والصنوبر)، كانت تكبش قبضتها بحركة أوتوماتيكية جاذبة الملاءة، وهي تقول: «هيا استيقظي الآن، أفيقي، أتظنين أنك ستظلين نائمة حتى ميعاد العشاء؟ ثمة رجل يريد بنزينا.»
وإذا لم تستيقظ ماي وراحت تتشبث بالملاءة، وتتمتم في غضب، تأتي جدتها مرة أخرى حاملة قليلا من الماء البارد في مغرفة، تصبه فوق قدمي حفيدتها. فتنتفض ماي، وهي تدفع خصلات شعرها الطويل عن وجهها، الذي يكون عابسا عبوس الوسن لكنه ليس حانقا؛ كانت ترتضي سيطرة جدتها كما ترتضي الرياح المطيرة أو ألم المعدة، بيقين أساسي وقوي من أن مثل هذه الأشياء ستمر. كانت ترتدي كل ملابسها تحت لباس النوم، وذراعاها متحررتان أسفل هذا كله من كميهما، وكانت وهي في الحادية عشرة قد دخلت مرحلة احتشام جنوني؛ إذ كانت ترفض أن تأخذ حقن التطعيم في مؤخرتها وتصرخ ثائرة إذا دخلت هيزل أو جدتها الغرفة التي ترتدي فيها ملابسها؛ لأنها كانت تظن أنهما تفعلان ذلك بغرض التسلية والاستهزاء بخصوصيتها. كانت تخرج وتضع البنزين في السيارة ثم تعود في منتهى اليقظة جائعة؛ وتأكل في إفطارها أربع أو خمس شطائر من خبر «التوست» مع المربى، وزبدة الفول السوداني ولحم الخنزير المقدد.
لكنها حينما استيقظت هذا الصباح كان الصبح لا يزال يبدأ نشر ضوئه في الغرفة الخلفية، لم تكن تستطيع أن تتبين إلا الكتابة المطبوعة على الصناديق الكرتونية. قرأت «حساء طماطم هاينز» و«مشمش جولدن فالي». راحت تمارس طقسا خاصا اعتادته، بأن تقسم الحروف إلى ثلاثات؛ فإذا نتجت في نهاية ذلك مجموعات متساوية، كان هذا يعني أنها ستتمتع بحسن الحظ في ذلك اليوم. وبينما كانت تفعل ذلك، خالت أنها سمعت جلبة، وكأن شخصا ما يتحرك في الفناء، فاعترى جسدها اضطراب مريع حتى أخمص قدميها جعلها تثني أصابع قدميها وتمط ساقيها حتى لامست طرف الأريكة. كان الشعور الذي اجتاح جسدها كله كالشعور الذي يستولي على دماغها حين تكون على وشك العطس. نهضت بأبطأ ما يمكنها وسارت في حذر فوق الألواح الخشبية للغرفة الخلفية، التي شعرت بها تحت قدميها رملية رطبة، إلى المشمع الخشن الذي يغطي أرضية المطبخ. كانت ترتدي لباس نوم قطنيا قديما يخص هيزل، يموج من خلفها في خفة وانسيابية.
كان المطبخ خاليا، والساعة تتكتك بانتظام فوق الرف الذي يعلو الحوض. إحدى الحنفيات كانت تقطر باستمرار، وأسفلها قماشة مسح الصحون مطوية في شكل لفافة صغيرة. كانت واجهة الساعة تكاد تكون مخفية وراء حبة طماطم صفراء، لم تنضج بعد، وعلبة بودرة كانت جدتها تضع منها على طقم أسنانها. كانت الساعة السادسة إلا الثلث. تحركت نحو الباب السلكي، وبينما هي مارة بصندوق الخبز امتدت إحدى يديها بحركة عفوية داخله وخرجت بكعكتين من كعك القرفة راحت تأكلهما دون أن تنظر إليهما، كانتا جافتين بعض الشيء.
في هذا الوقت من اليوم كان الفناء الخلفي غريبا ومقبضا ومظلما، والحقول رمادية، وكل الأجمات الشعثاء المتشابكة على طول الأسوار كثيفة بما عليها من الطير، والسماء باهتة باردة، تنبسط عليها أذرع الضوء في نعومة وتتوهج حوافها، كأنها باطن محارة. سرها أن جدتها وهيزل كانتا بمعزل عن هذا، لأنهما ما زالتا نائمتين . لم يكن أحد قد رأى هذا اليوم بعد، أدهشها نقاؤه. راودها إحساس قوي بالتحرر والخطر، كشعاع فجر يخترق تلك السماء. عند ركن المنزل، حيث يوجد ركام الحطب، سمعت صوت قعقعة خشن واهن.
قالت ماي بصوت مرتفع: «من هناك؟» بعد أن ازدردت ملء فمها من كعك القرفة. قالت: «أعرف أنك هناك.»
جاءت جدتها من المنزل حاملة بعض الأعواد لإشعال النار ملتحفة بميدعتها، وهي تتمتم بتمتمات ساخطة خافتة غير مفهومة. رأتها ماي قادمة، دون أن تشعر بالمفاجأة وإنما بشعور غريب بالخذلان، شعور بدا أنه ينتشر على نحو لم تنجح في إخفائه من اللحظة الراهنة إلى كل أرجاء حياتها، السابقة والقادمة. بدا لها أن أي مكان تذهب إليه ستسبقها جدتها إليه، وأن أي شيء تكتشفه ستكون جدتها قد عرفت بأمره قبلها، أو تبين أنه غير ذي قيمة.
قالت مدافعة: «حسبت أحدا ما في الفناء.» نظرت إليها جدتها بلا اكتراث واتجهت إلى المطبخ.
قالت ماي: «لم أكن أظن أنك يمكن أن تستيقظي في ساعة مبكرة كهذه. ما الذي يجعلك تستيقظين في ساعة مبكرة كهذه؟»
لم تجب جدتها. كانت تسمع لكل ما تقوله لها لكن لا تجيب إلا إذا شاءت ذلك. بدأت العمل بأن أشعلت نار الموقد. كانت ترتدي أثناء النهار فستانا مطبوعة عليه رسومات، وميدعة زرقاء مهترئة ومتسخة من عند بطنها، وسترة حائلة اللون منسلة غير مزررة كانت لزوجها من قبل، وزوجا من الأحذية القماشية. كانت الملابس تتهدل عليها، بالرغم من محاولاتها أن تصلح من هندامها وتغلق ملابسها، وذلك لأن جسمها لم يكن صحيح الشكل بحيث تتماسك الملابس فوقه؛ فقد كانت ضعيفة التضاريس ونحيلة الجسم، عدا تقبب صغير في بطنها، كامرأة حامل في شهرها الرابع، يبرز على نحو يتناقض مع صدرها الهزيل. كانت ساقاها نحيلتين، وركبتاها بارزتين، وذراعاها سمراوين معرقتين ومعقوفتين كأنهما سوطان، وكان رأسها كبيرا بعض الشيء بالنسبة لجسمها، ومع شعرها المسحوب بإحكام أعلى جمجمتها، كانت تبدو كطفل سيئ التغذية لكنه خبيث الذكاء.
قالت لماي: «عودي أنت للنوم.» لكن ماي اتجهت ناحية مرآة المطبخ وبدأت تمشط شعرها وتلفه حول إصبعها كي ترى إن كان سيبدو لائقا في قصة شعر «بايج بوي». تذكرت أن اليوم هو موعد قدوم بنت عم يوني باركر. كانت ستأخذ بكرات الشعر التي تخص هيزل لترفع بها شعرها، في حال رأت أنها يمكنها فعل ذلك من دون أن تدري جدتها.
أغلقت جدتها باب الغرفة الأمامية حيث تنام هيزل. أفرغت براد القهوة وملأته بماء وقهوة جديدين، ثم أحضرت إبريق الحليب من الثلاجة، وشمته كي تتأكد من أنه ما يزال صالحا، وانتشلت بملعقتها نملتين من سلطانية السكر، ولفت لنفسها سيجارة على ماكينة كانت لديها لهذا الغرض، ثم جلست إلى الطاولة وراحت تقرأ جريدة اليوم السابق. لم تتفوه بكلمة أخرى إلى ماي إلا بعد أن نضجت القهوة وهدأت هي نار الموقد وصارت الغرفة مضاءة بنور أقرب إلى ضوء النهار.
قالت: «هاتي فنجانك إن كنت تريدين بعض القهوة.»
عادة كانت تقول إن ماي صغيرة للغاية على شرب القهوة. جاءت ماي لنفسها بفنجان جميل عليه طيور خضر. لم تقل جدتها أي شيء. جلستا إلى الطاولة تحتسيان القهوة، وماي مرتدية لباس النوم السابغ وشاعرة بأنها نالت امتيازا وأنها مضطربة. كانت جدتها تنظر إلى أرجاء المطبخ بجدرانه وتقاويمه المبقعة كما لو كان عليها أن تحفظ المنظر في ذهنها، كانت نظرتها متأملة أريبة نوعا ما.
قالت ماي محاولة بدء حديث: «ابنة عم يوني باركر آتية اليوم. اسمها هيذر سو موراي.»
لم تعر الجدة حفيدتها أي انتباه، ثم سرعان ما سألتها: «أتعلمين كم عمري؟»
ردت ماي: «لا.» «حسنا، خمني.»
فكرت ماي ثم قالت: «سبعون؟»
تأخرت الجدة في الرد كثيرا إلى حد أن ماي اعتقدت أن هذا الحديث لم يكن سوى واحد آخر من أزقة حديثها المسدودة. قالت، على سبيل الإحاطة: «هيذر هذه كانت تمارس الرقص الاسكتلندي منذ أن كانت في الثالثة. إنها ترقص في المسابقات وما إلى ذلك.»
قالت جدتها: «ثمانية وسبعون. لا أحد يعلم بهذا، فأنا لم أخبر أحدا قط، وليس لي شهادة ميلاد، ولم أحصل قط على معاش حكومي، أو إعانة.» فكرت قليلا ثم استطردت: «لم أرقد قط في المستشفى. ادخرت ما يكفي في البنك لتغطية مصاريف الجنازة والدفن. أما شاهد القبر فينبغي أن يأتي حسنة من مؤسسة خيرية أو عن طريق ما سيشعر به أقاربي من وخز للضمير.»
قالت ماي مكتئبة وهي تنتف القماش المشمع من بقعة بالية فيه: «وما حاجتك إلى الشاهد؟» كرهت هذا الحديث؛ كان يذكرها بخدعة لئيمة نوعا ما كانت جدتها قد مثلتها عليها منذ ثلاث سنوات. حينها كانت عائدة للتو إلى المنزل من المدرسة، فوجدت جدتها مستلقية على نفس أريكة الحجرة الخلفية التي صارت ماي تنام عليها فيما بعد. كانت الجدة راقدة ويداها ساقطتان إلى جانبيها، ووجهها بلون الحليب المتخثر، وعيناها مغلقتان؛ وعلى وجهها فتور البراءة والمسالمة. فحاولت ماي إيقاظها وقالت أولا: «مرحبا»، ثم نادتها بنبرة صوتها المعتادة: «جدتي.» لم تكن جدتها تحرك أي عضلة في وجهها الذي عادة ما يكون متوهجا وعصبيا. قالت ماي ثانية، بمزيد من التوقير: «جدتي» ومالت عليها فلم تسمع أدنى صوت لأنفاسها. فمدت يدها لتلامس خد جدتها، لكن صدمها أمر غير مطمئن لم تتوقعه في هذا التجويف البارد المتهدل. ثم راحت تبكي، بالطريقة الجزعة المتقطعة لمن يبكي دون أن يسمعه أحد. كانت تخاف أن تذكر اسم جدتها ثانية، خائفة أن تلمسها، وفي الوقت نفسه خائفة أن تشيح بعينيها عنها. لكن جدتها فتحت عينيها. من دون أن ترفع ذراعيها أو تحرك رأسها، نظرت إلى ماي ببراءة مفرطة زائفة وبريق ظافر مستفهم، قائلة: «ألا يمكن للمرء أن يستلقي قليلا هنا؟ من العار أن تكوني طفولية هكذا.»
ردت الجدة على سؤال ماي عن شاهد القبر: «لم أقل قط إنني «أريد» شاهدا.» ثم قالت في برود، بعد أن رأت ماي مخرجة إحدى كتفيها من الرقبة الواسعة للباس نومها: «الآن اذهبي وارتدي بعض ثيابك، إلا إذا كنت تظنين نفسك إحدى ملكات مصر.»
قالت ماي: «ماذا؟» وهي تنظر إلى كتفها الموسومة ببقعة مزعجة من أثر حرق شمس تقشر. «أوه، أرى أنهم أحضروا إحدى ملكات مصر لمهرجان مدينة كينكايد.»
حينما عادت ماي إلى المطبخ كانت جدتها ما تزال تحتسي القهوة وتنظر إلى قسم «مطلوب» من الإعلانات المبوبة في جريدة المدينة، وكأنها لا تملك متجرا ينبغي أن يفتح أو طعام إفطار ينبغي أن يعد أو أي شيء ينبغي عمله على الإطلاق. كانت هيزل قد استيقظت وبدأت تكوي فستانا لتذهب به إلى العمل. كانت تعمل في متجر في مدينة كينكايد التي تبعد ثلاثين ميلا، وكان عليها أن تغادر إلى العمل في ساعة مبكرة. حاولت أن تقنع والدتها بأن تبيع المتجر وتنتقل للعيش في كينكايد التي تحوي دارين لعرض الأفلام السينمائية، والكثير من المحال والمطاعم وفرعا من فروع «رويال دانس بافيليون»، لكن المرأة العجوز لم تكن لتتزحزح. وأخبرت هيزل أن تذهب لتعيش حيثما طاب لها ذلك، لكن هيزل لم تفعل لسبب ما. كانت فتاة طويلة واهنة في الثالثة والثلاثين من عمرها، ذات شعر أشقر، ووجه متحفظ طويل، يرتسم عليه دائما تعبير ساخط يبرزه حول خفيف، شرود متعمد في إحدى العينين. كان لديها صندوق مليء بأغطية وسائد مطرزة وفوط وأوان فضية. واشترت طقما من الأطباق وطقما من القدور ذات القعور النحاسية وأودعتهما ذلك الصندوق؛ وظلت هي والمرأة العجوز وماي يأكلن في أطباق متكسرة الحواف ويطبخن في قدور من كثرة ما تخبطت كانت تتأرجح فوق الموقد.
كانت المرأة العجوز تقول: «هيزل لديها كل ما يلزمها لتتزوج لكن يعوزها فقط أمر واحد.»
كانت هيزل تطوف البلدة لحضور حفلات راقصة مع فتيات أخريات يعملن في كينكايد أو يدرسن في المدرسة. وفي صباح يوم الأحد كانت تصحو تعبة من آثار الإفراط في الشراب، فتتناول قهوة وأسبرينا، وترتدي فستانها الحريري المطبوعة عليه رسومات وتركب سيارتها وتولي مغادرة كي تغني ضمن جوقة المنشدين بالكنيسة. أما أمها، التي كانت تقول إنها لا تدين بدين، فتفتح المتجر وتبيع البنزين والآيس كريم للسائحين.
علقت هيزل طاولة الكي وهي تتثاءب وتفرك برفق وجهها بينما المرأة العجوز تقرأ بصوت مرتفع: «رجل مجتهد طويل القامة، في الخامسة والثلاثين، يرغب في التعرف إلى امرأة حسنة الخلق، لا تدخن ولا تشرب الخمر، تحب حياة المنزل، العابثات يمتنعن رجاء.»
قالت هيزل: «أوه، لا يا أمي.»
سألت ماي: «ماذا يعني بالعابثات؟»
راحت المرأة العجوز تقرأ في عناد: «رجل في أوج رجولته، يرغب في صداقة امرأة صحيحة البنية، لا أعباء لديها، برجاء إرسال صورة فوتوغرافية في أول رسالة.»
قالت هيزل: «أوه، أمي كفي عن هذا.»
سألت ماي: «ما هي الأعباء؟» «ماذا سيحدث لك إذا تزوجت أنا؟» قالتها هيزل على نحو كئيب وعلى وجهها ارتضاء ممتعض. «متى شئت أن تتزوجي، يمكنك أن تفعلي.» «لدي أنت وماي.» «أوه، دعك من هذا. هذا ليس صحيحا.» «حسنا هذه هي الحقيقة.» «أوه، أنت تمزحين» قالتها المرأة العجوز بقرف، واستطردت: «أنا أتولى شئوني بنفسي. ودائما ما كنت كذلك.» كانت ستردف بالمزيد، لأن هذا الحديث كان في حقيقة الأمر علامة توجيهية فارقة في مسار حياتها، لكن في اللحظة التي أعقبت استحضارها ذلك المشهد الذي كان زاهي الألوان وبريئا كرسم طفل بألوان الشمع، ثم أحدثت مثل هذه التحريفات الماهرة، أغمضت عينيها كما لو كان الشعور بالزيف كبتها، ثمة شك معقول بأن أيا من هذا لم يكن له وجود قط. دقت بملعقتها على الطاولة وقالت لهيزل: «حسنا، لا أعتقد أن حلما كالذي راودني ليلة الأمس راودك قط.»
قالت هيزل: «أنا لا أحلم بالمرة على أية حال.»
جلست المرأة العجوز تدق بملعقتها وتنظر في تركيز إلى لا شيء سوى واجهة الموقد.
ثم قالت: «حلمت أنني أسير في الطرق. كنت أسير في الطريق المار على بوابة آل سيمونز وشعرت كأن سحابة تغشي الشمس، وأحسست بالبرد. فنظرت إلى الأعلى ورأيت طائرا ضخما، أوه، أضخم طائر يمكن أن ترينه، أسود اللون سواد غطاء الموقد هذا، كان فوقي تماما حاجبا الشمس عني. هل سبق لك أن حلمت بشيء كهذا؟» «لا أحلم بأي شيء على الإطلاق.» قالتها هيزل بشيء من الغطرسة.
قالت ماي: «هل تذكران الكابوس الذي راودني حينما كنت نائمة في الغرفة الأمامية عقب إصابتي بالحصبة؟ هل تذكرانه؟»
قالت المرأة العجوز: «لا أتحدث عن أية كوابيس.» «كنت أرى أشخاصا يرتدون قبعات ملونة يغدون ويروحون في أرجاء الغرفة، ثم صاروا يتحركون أسرع فأسرع حتى صرت أرى قبعاتهم تتداخل معا. كانت بقية أجسامهم جميعا غير مرئية، ولم أكن أرى منهم إلا هذه القبعات الملونة.»
أخرجت الجدة طرف لسانها لتلعق بضع شذرات جافة من التبغ كانت عالقة بشفتيها، ثم قامت ورفعت غطاء الموقد وبصقت في النار. قالت: «ربما أتحدث إلى الجدار.» ثم أردفت: «ماي، ضعي بعض أعواد الحطب في هذه النار، سأقلي لنا بعض لحم الخنزير المقدد. لا أرغب أن أبقي الموقد مشتعلا اليوم أكثر من ذلك فيصعب علي إطفاؤه.»
قالت هيزل في هدوء: «الجو سيكون أكثر حرارة من جو الأمس. اتفقنا أنا ولويز على ألا نرتدي أية جوارب. وإذا وجه لنا السيد بيبلز كلمة فسنقول له: لم في اعتقادك عينوك هنا؟ كي تجول الأرجاء وتتفحص سيقان الجميع؟ فيصاب بالخجل.» اختفى رأسها الأشقر في تنورة فستانها وهي تطلق قهقهة تشبه صوت جرس قرع مرة واحدة بالصدفة، ثم سكت.
قالت المرأة العجوز في استهجان: «هه.» •••
جلست ماي ويوني باركر وهيذر سو موراي عصرا على الدرجات الأمامية للمتجر. كانت الشمس قد اكفهرت خلف الغيوم خلال وقت الظهيرة لكن اليوم بدا أنه يزداد حرارة مع ذلك. لم يكن بالإمكان سماع صرصور أو طير، لكن كانت ثمة ريح خفيفة، ريح ساخنة زاحفة تهب من أعشاب البلدة. ولأن اليوم كان السبت، لم يتوقف أي شخص تقريبا عند المتجر، بل كانت سيارات المنطقة تولي عابرة في طريقها إلى المدينة.
قالت هيذر سو: «ألا تحظين يا بنات بأية توصيلات مجانية من هذه السيارات المارة؟»
قالت ماي: «لا.»
قالت يوني باركر صديقة ماي المقربة منذ سنتين: «أوه، لم تكن ماي ليسمح لها بذلك. أنت لا تعرفين جدتها. ماي لا تستطيع فعل أي شيء.»
جرت ماي قدميها في التراب وسحقت بعقبها بيتا للنمل، ثم قالت: «ولا أنت أيضا تستطيعين فعل شيء.»
قالت يوني: «بل أستطيع. أستطيع أن أفعل ما يحلو لي .» نظرت إليهما هيذر سو بطريقة تشي بشعورها كضيف لا يعلم شيئا عن المكان وقالت: «ما الذي يمكن فعله هنا في هذا المكان؟ أعني ما الأنشطة التي تمارسنها أنتن يا بنات»؟
كان شعرها مقصوصا قصيرا يحيط بوجهها، وكان خشنا، أسود، مموجا. وكانت تضع أحمر شفاه بلون أحمر قان كلون حلوى التفاح، وبدت كأنها حفت شعر ساقيها.
قالت ماي في جمود: «نذهب إلى المقابر.» وقد كانت ماي ويوني تذهبان إلى المقابر بالفعل، فقد كانتا تذهبان للجلوس في المقابر بعد ظهيرة كل يوم تقريبا؛ لأن هناك كان يوجد ركن ظليل تنأيان فيه عن إزعاج الأطفال الأصغر سنا، ويتسنى لهما الحديث عما يدور بخلديهما بمأمن من أن يستمع أحد إلى ما تقولانه.
قالت هيذر: «تذهبان إلى «أين»؟» قطبت يوني حاجبيها وهي تنظر إلى التراب تحت قدميهما وقالت: «أوه، لا نذهب إلى هناك، أكره تلك المقابر السخيفة.» لكن في بعض الأحيان كانت هي وماي تقضيان طوال فترة ما بعد الظهيرة تنظران إلى شواهد القبور وتنتقيان الأسماء التي تعجبهما وتؤلفان قصصا عن الأشخاص المدفونين تحت تلك الشواهد.
قالت هيذر سو: «يا إلهي! لا تخيفيني هكذا. الجو حار بدرجة رهيبة، أليس كذلك؟ أحسب أنني لو كنت في منزلي في هذا الوقت، لذهبت أنا وصديقتي إلى بركة السباحة.»
قالت يوني: «يمكننا أن نذهب للسباحة عند «ثيرد بريدج».» «وأين يقع هذا؟» «على مقربة من هنا. نصف ميل.»
قالت هيذر سو: «في هذا الحر؟»
قالت يوني: «سآخذك معي على دراجتي.» ثم قالت لماي بمرح وود زائدين: «أنت أيضا أحضري دراجتك، هيا.»
فكرت ماي للحظة ثم قامت ودخلت المتجر، الذي كان معتما في كل أوقات النهار، وحارا أيضا، ويحوي ساعة خشبية كبيرة على الجدار، وسلالا مليئة بفتات بسكويت محلى وبرتقال رخو وبصل. ذهبت نحو الخلفية حيث تجلس جدتها فوق كرسي بلا ظهر إلى جانب مجمد الآيس، أسفل لافتة كبيرة عليها إعلان عن مسحوق خبيز خلفيتها من ورق القصدير الرقراق، كبطاقات عيد الميلاد.
قالت ماي: «هل يمكنني أن أذهب للسباحة مع يوني وهيذر سو؟»
سألت الجدة بنبرة تكاد تكون محايدة: «أين ستذهبن للسباحة؟» كانت تعلم أن لا مكان يصلح للسباحة إلا مكان واحد. «ثيرد بريدج.»
كانت يوني وهيذر سو قد دخلتا المتجر ووقفتا عند الباب. ابتسمت هيذر سو برقة وأدب إلى المرأة العجوز. «لا، لا يمكنك.»
قالت ماي: «المياه ليست عميقة هناك.»
بدرت عن الجدة غمغمة غير مفهومة، ثم جلست منحنية، مرفقها فوق ركبتها وذقنها مستند على إبهامها. لم تكلف نفسها رفع ناظريها.
قالت ماي بعناد: «لم لا يمكنني الذهاب؟»
لم تجب الجدة. بينما يوني وهيذر سو تراقبان المشهد من عند الباب.
قالت ثانية: «لم لا يمكنني؟ جدتي، لم لا؟» «تعلمين السبب.» «لماذا؟» «لأن هذا هو المكان الذي يرتاده كل الفتيان. أخبرتك هذا من قبل. لقد صرت الآن كبيرة بما يحول دون هذا.» أطبقت فمها بشدة، وارتسمت على وجهها تجعدات تحفظ راض وكريه، ثم سددت نظرة طويلة إلى ماي حتى علا وجهها توهج خزي وغضب، ثم اعترى وجهها هي حيوية ما وأضافت: «دعي الأخريات يلاحقن الفتيان، وانظري ما سيجلبه عليهم ذلك.» لم تكن قد وجهت أية نظرة إلى يوني وهيذر سو لكن حينما قالت ذلك استدارتا وهرعتا إلى خارج المتجر. كان بالإمكان سماعهما تجريان بجانب مضخة البنزين وتنفجران في نوبة مجلجلة، ويائسة نوعا ما، من الضحك. لم يبد على المرأة العجوز أنها سمعت ذلك.
لم تقل ماي أي شيء. كانت تستكشف في العتمة بعدا آخر للشعور بالمرارة. كانت تشعر بأن جدتها لم تعد «مقتنعة» بالأسباب التي تسوقها هي نفسها، وأنها لا تكترث لذلك، لكنها تخرج نفس تلك الأسباب من جعبتها، وتلوح بها بخبث، لا لشيء سوى أن ترى كم الأذى الذي يمكن أن تحدثه. قالت الجدة: «البنت هيذر ... ماذا كان اسمها؟ رأيتها تترجل من الحافلة صباح اليوم.»
سارت ماي خارجة من المتجر إلى الغرفة الخلفية مارة بالمطبخ إلى الفناء الخلفي. ذهبت وجلست إلى جانب المضخة. ثمة قناة خشبية عتيقة، تعلوها خضرة العفن، ممتدة من صنبور المضخة إلى جزيرة من الطين المبتل وسط مجموعات من الأعشاب الجافة. كانت تجلس هناك، وبعد وهلة رأت علجوما ضخما، حسبته هي مسنا ومنهكا، يتقافز متعثرا وسط العشب، فأوقعت به بين يديها.
سمعت الباب السلكي يغلق، فلم تنظر، ثم رأت حذاء جدتها، وكاحليها النحيلين يتحركان نحوها فوق العشب. أمسكت بالعلجوم بإحدى يديها والتقطت باليد الأخرى عصا صغيرة، وبدأت تنخسه بوتيرة منتظمة في بطنه.
قالت الجدة: «توقفي عن هذا.» فرمت ماي العصا. قالت لها الجدة: «أفلتي هذا المخلوق البائس.» ففتحت ماي أصابعها ببطء شديد. وفي الوقت الذي يعقب الظهيرة مباشرة كانت ماي تستطيع أن تشم الرائحة المميزة المنبعثة من جسم جدتها التي كانت واقفة تراقبها؛ كانت رائحة مائلة إلى الحلاوة والعطب كرائحة قشر التفاح القديم الذي بات رخوا، وكانت تنفذ فتغطي على الروائح المعتادة أكثر للأشياء التي كانت تحملها معها دائما كالصابون الصلب والقماش القطني المكوي والتبغ. «أراهن بأنك لا تعرفين.» قالتها الجدة بصوت مرتفع. «أراهن بأنك لن تتوقعي ما كان يجول بخاطري في المتجر.» لم ترد ماي لكنها انحنت وبدأت تقشر في اهتمام قشرة جرح في ساقها. «كنت أفكر في بيع المتجر.» قالتها جدتها بنفس الصوت المرتفع الرتيب وكأنها تتحدث إلى شخص أصم أو إلى سلطة ما عليا. كانت واقفة تنظر إلى الأفق الأزرق الصنوبري غير المنتظم، تشد ميدعتها إلى الأسفل بيديها المنبسطتين في حركة من حركات النساء العجائز، وقالت: «أنا وأنت يمكننا أن نستقل القطار ونذهب لرؤية لويس.» كان لويس هو ابنها الذي يعيش في كاليفورنيا، والذي لم تره منذ نحو عشرين عاما.
عندئذ كان لا بد أن ترفع ماي عينيها لترى ما إذا كانت جدتها تمارس خدعة ما. فالمرأة العجوز كانت دائما تقول إن السائحين حمقى لاعتقادهم أن أي مكان أفضل من سواه وأنهم كانوا أفضل حالا في موطنهم.
استطردت الجدة: «يمكنا أنا وأنت أن نذهب في رحلة إلى الساحل، لن تكلفنا الكثير جدا، نستطيع أن نسهر ليالي ونصر بعض الطعام لنأخذه معنا. من الأفضل أن تصري طعامك بنفسك، فأنت أدرى بما سيكفيك.»
قالت ماي بفظاظة : «لكنك مسنة للغاية. أنت في الثامنة والسبعين.» «من في سني يسافرون إلى بلداتهم الأصلية في الأرياف وإلى كل مكان، اقرئي الجريدة لتعلمي.»
قالت ماي: «قد تصابين بأزمة قلبية.»
قالت المرأة العجوز: «حينئذ يمكنهم أن يضعوني في تلك السيارة التي ينقلون فيها الخضار، مع الخس والطماطم، ويشحنوني إلى بلدتي الأم مبردة.» في تلك الأثناء، كانت ماي تتخيل الساحل أمام عينيها؛ فرأت الرمال الممتدة مثل الشاطئ الطويل عند البحيرة ولكنه أكثر اتساعا وإشراقا؛ إن كلمة «الساحل» نفسها خلقت شعورا بالانتعاش والسرور في نفسها، ولكنها لم تصدقه، فلم تفهم ما يجري؛ فمتى حدث أن وعدتها جدتها بشيء جميل من قبل؟ •••
ثمة رجل كان واقفا عند واجهة المتجر يتناول مشروبا غازيا بطعم الليمون. كان رجلا صغير البنية في أواسط العمر ذا وجه ممتلئ تعلوه لمعة الحر؛ كان يرتدي قميصا أبيض، غير نظيف، وربطة عنق حريرية باهتة. وكانت المرأة العجوز قد حركت كرسيها إلى النضد الأمامي وجلست هناك تتحدث إليه. وكانت ماي واقفة وظهرها لكليهما تنظر من الباب الأمامي. كانت الغيوم رمادية، والدنيا يملؤها ضوء كريه مغبر عتيق بدا أنه لا يأتي من السماء فحسب، وإنما يأتي أيضا من جدران الآجر الجامدة، والطرق البيضاء، ومن حفيف أوراق الأجمة الرمادية، ومن صفع رفرفة اللافتات المعدنية في مهب الريح الرتيبة الحارة. كانت ماي قد شعرت، منذ أن تبعتها جدتها إلى الفناء الخلفي، بأن شيئا ما تغير، شيئا ما انبلج؛ نعم، إنه النور الجديد الذي رأته في الدنيا. وشعرت بشيء ما حيال نفسها، كأنه قوة، قوتها العدائية التي لم تتصور أنها تملكها لكنها لم تستكشفها بعد، فأرادت أن تحتفظ بها لفترة لحين استخدامها.
سألت الجدة: «لحساب أي شركة تسافر؟» فأجاب الرجل: «شركة روج.» «ألا يسمحون للمرء أن يعود لأسرته في عطلة نهاية الأسبوع؟»
قال الرجل: «لست مسافرا في مهمة عمل حاليا، على الأقل لست مسافرا في عمل لشركة «روج». يمكنك أن تقولي إنني مسافر في مهمة عمل خاصة.» «أوه، حسنا.» قالتها المرأة العجوز بنبرة من لا يريد أن يحشر أنفه فيما يخص أي شخص آخر من عمل خاص، وأردفت: «هل تعتقد أنها ستمطر؟»
قال الرجل: «ممكن.» وتناول شربة كبيرة من مشروب الليمون ووضع الزجاجة جانبا ثم مسح فمه بمنديله في أناقة. كان من النوع الذي يمكن أن يتحدث عن عمله الخاص على أية حال، بل إنه لم يكن ليتحدث عن أي شيء سوى هذا. قال: «أنا في طريقي لرؤية شخص من معارفي، يقيم في كوخه الصيفي. إنه يعاني من أرق حاد إلى حد أنه لم ينل نوما هانئا لليلة واحدة منذ سبع سنوات.» قالت المرأة: «أوه، حسنا.» «وأنا ذاهب لأرى إن كان بإمكاني أن أعالجه. سبق أن حققت نجاحا عظيما مع بعض حالات الأرق، ليس بنسبة مائة بالمائة، لكنه نجاح جيد جدا.» «هل تمارس الطب أيضا؟»
قال الرجل القصير: «لا، لا أفعل. أنا منوم مغناطيسي. هاو، ولا أعتبر نفسي إلا هاويا.»
نظرت إليه المرأة العجوز لعدة لحظات دون أن تقول شيئا. لكن هذا لم يثر استياءه، بل تحرك نحو واجهة المتجر وراح يلتقط أشياء وينظر إليها بطريقة مزهوة ومفعمة بالنشاط. «أراهن بأنك لم تري أي شخص في حياتك يقول إنه منوم مغناطيسي.» قالها ممازحا المرأة العجوز. «أنا أبدو كأي شخص آخر، أليس كذلك. أبدو أليفا تماما.»
قالت: «أنا لا أومن بأي من هذه الأمور.»
أجابها بضحكة. ثم سألها: «ماذا تعنين بأنك غير «مؤمنة» به؟» «لا أومن بأي نوع من الأمور الخرافية.» «سيدتي، هذا ليس خرافيا، إنه حقيقة واقعة.» «أدري ما هو في الحقيقة.»
قال: «حسنا الآن ثمة عدد كبير من الأشخاص يوافقونك الرأي، كبير بدرجة مذهلة. لعلك لم تقرئي مقالا نشر منذ نحو سنتين في مجلة «دايجست» بشأن هذا الموضوع؟ كنت أتمنى لو كان معي. كل ما أعرفه هو أنني عالجت رجلا من إدمان الشراب. عالجت أشخاصا من كل أنواع الحكة والطفح الجلدي والعادات السيئة، ومن العصبية. لا أدعي أن في استطاعتي علاج كل الناس من عاداتهم العصبية، لكن أستطيع أن أقول إن عددا من الأشخاص كانوا ممتنين للغاية لي. في غاية الامتنان.»
رفعت المرأة العجوز يديها إلى رأسها ولم تجب. «ما الأمر سيدتي، هل أنت بخير. هل تعانين الصداع؟» «أنا على ما يرام.»
سألته ماي في جرأة: «كيف عالجت هؤلاء الأشخاص؟» مع أن جدتها طالما حذرتها قائلة: إياك أن أجدك تتحدثين إلى أشخاص غرباء في المتجر.
التفت الرجل القصير في اهتمام، ثم سألها: «لماذا أنومهم مغناطيسيا، آنستي الصغيرة؟ أنا أنومهم مغناطيسيا. هل تطلبين مني أن أشرح لك ما هو التنويم المغناطيسي؟»
احمر وجه ماي التي لم تكن تعلم عم تسأل، ولم تدر ما ينبغي أن تقول. رأت جدتها تنظر إليها مباشرة. كانت المرأة العجوز قد وجهت ناظريها من رأسها إلى ماي بنظرة حادة وكأن نيرانا اشتعلت ولم يكن بوسعها أن تفعل شيئا حيال ذلك، لم تكن تستطع حتى أن تخبرهما ما الأمر.
قالت الجدة: «إنها لا تدري عم تتحدث.» «حسنا، الأمر بسيط.» هكذا قال الرجل لماي مباشرة، بصوت بالغ الحنو، لا بد أنه اعتقد أنه يناسب التحدث إلى الأطفال. «الأمر يشبه أن تنومي شخصا. إلا أنهم لا ينامون نوما حقيقيا، هل أنت منتبهة إلى ما أقول عزيزتي؟ يمكنك أن تتحدثي إليهم. واسمعي، اسمعي هذا، يمكنك أن تتوغلي داخل عقولهم وتكتشفي أشياء ما كانوا ليتذكروها وهم مستيقظون. وتكتشفي ما خفي من مخاوفهم ومصادر قلقهم التي تسبب لهم المتاعب. والآن، أليس هذا شيئا رائعا؟»
قالت المرأة العجوز: «لن تستطيع أن تفعل ذلك معي. سأعلم ما يجرى. لن تستطيع فعل ذلك معي.»
فقالت ماي: «أراهن أنه يستطيع.» قالتها وهي مندهشة من نفسها إلى حد أنها ظلت فاغرة فاها. لم تكن تدري لماذا قالت ذلك. كانت مرارا وتكرارا قد شهدت جدتها تواجه العالم الخارجي، لا تواجهه بكبرياء بقدر ما تواجهه بقناعة أساسية صلبة بأن المرأة العجوز ستنتصر. الآن، ولأول مرة بدا لها ثمة احتمال بأن تنهزم جدتها، رأت ذلك على وجه جدتها لا على وجه الرجل القصير الذي اعتقدت أنه لا بد أن يكون مجنونا، والذي جعلها ترغب في الضحك. ملأتها الفكرة بخوف وبإثارة موجعة لا تقاوم. «حسنا، لا يمكنك الحكم ما لم تجربي.» قالها الرجل كما لو كانت نكتة، ونظر إلى ماي. اتخذت المرأة العجوز قرارها وقالت في ازدراء: «الأمر ليس مهما بالنسبة لي.» ووضعت كوعيها فوق النضد وأمسكت برأسها بين يديها كما لو كانت تضغط شيئا ما بداخلها. قالت: «أشفق أن أضيع وقتك.» «عليك أن تستلقي كي تسترخي أكثر.» «الجلوس ...» قالتها ثم بدت للحظة أنها تلهث، ثم أردفت: «الجلوس جيد جدا بالنسبة لي.»
عندئذ أخذ الرجل فتاحة قناني من على بطاقة حلي صغيرة رخيصة كانوا يبيعونها في المتجر، ومشى خطوات كي يقف أمام النضد. لم يكن في عجلة من أمره. وعندما بدأ يتكلم، كان بصوت طبيعي لكنه مختلف بعض الشيء، فقد بات صوته أهدأ ولا يحمل أي انفعالات. قال بهدوء: «الآن، أعرف أنك تقاومين هذه الفكرة. أعلم أنك تقاومينها وأعلم السبب. السبب هو أنك خائفة.» ندا عن المرأة العجوز صوت ينم عن احتجاج أو انزعاج، فرفع هو يديه، لكن برفق. ثم واصل: «أنت خائفة. كل ما أرغب أن أريك إياه، كل ما أقصد أن أريك إياه، أن لا شيء ينبغي أن تخشيه. ليس هناك ما ينبغي أن تخشيه. لا شيء. لا شي ينبغي أن تخشيه. أريدك فقط أن تثبتي نظرك على هذا الشيء المعدني اللامع الذي أمسكه بيدي. هذا جيد، فقط أبقي عينيك مثبتتين عليه. لا تفكري. لا تقلقي. فقط قولي لنفسك: ليس هناك ما ينبغي أن أخشاه، ليس هناك ما أخشاه، ليس هناك ما أخشاه ...» ثم أصبح صوته عميقا، ولم يعد باستطاعة ماي أن تتبين ما يقول. مكثت مستندة إلى ثلاجة المشروبات الغازية. أرادت أن تضحك، لم يكن يسعها أن تمنع نفسها من ذلك، وهي ترى مؤخر رأس هذا الرجل المتواضع المظهر بعض الشيء وكتفيه المستديرتين المنتفضتين البيضاوين. لكنها لم تضحك لأنها كانت يجب أن تنتظر رؤية ما ستفعله جدتها. إذا حدث واستسلمت جدتها للأمر فسيكون هذا حدثا مزلزلا شأنه شأن الزلازل أو الفيضانات، سيحدث تصدعا في أساسات حياتها ويمنحها حرية مهولة. حملقت المرأة العجوز في فتاحة القناني في يد الرجل في طاعة هائلة دون أن يرمش لها جفن.
قال: «الآن أريدك فقط أن تخبريني، إذا كنت ما تزالين تستطيعين رؤية ... إذا كنت تستطيعين رؤية ...» وانحنى للأمام لينظر في وجهها. «أريدك أن تخبريني إذا كنت ما تزالين تستطيعين رؤية ...» كان وجه المرأة العجوز بعينيه الباردتين الكبيرتين وهيئته الضارية المتيبسة في بعد خاص وحده. توقف الرجل وتراجع بظهره.
قال: «مهلا، ما الأمر؟» لم يقلها بصوته المنوم بل بصوته العادي، بل بصوت أكثر حدة من العادي، ما جعل ماي تقفز معتدلة. راح يقول: «ما الخطب سيدتي؟ هيا، استيقظي.» ولمس كتفها ليهزها هزة خفيفة. فسقطت المرأة إلى الأمام، ونظرة ازدراء مفرط ما تزال على وجهها، مرتطمة بالطاولة بصوت عال، ومبعثرة على الأرض عددا من علب المناديل الورقية والعلكة الفقاعية وزينة الكعك. أسقط الرجل فتاحة القناني ونظر إلى ماي مصدوما وهو يصيح: «لست المسئول ... هذا لم يحدث من قبل.» وركض خارجا من المتجر إلى سيارته. حين سمعت ماي صوت تشغيل محرك السيارة هرعت خلفه، كما لو كانت تريد أن تطلب شيئا ما، كما لو كانت تريد أن تقول: «ساعدني» أو «لا تذهب.» لكنها لم تطلب أي شيء، بل وقفت فاغرة فاها وسط سحابة الغبار أمام مضخة البنزين، ولم يكن هو ليسمعها على أية حال؛ فقط انعطف بحركة عنيفة نحو الطريق ملوحا بيده في استنكار من نافذة السيارة، وزمجر محرك السيارة وهو يبتعد نحو الشمال.
وقفت ماي خارج المتجر ولم تمر أية سيارات أخرى على الطريق السريع، ولا واحدة. كانت كل الأفنية خاوية في «بلاك هورس». كانت حبات المطر قد بدأت تتساقط قبل ذلك بوهلة قصيرة، وتتقاطر حولها منفصلة، ومحدثة صوت طقطقة جراء ارتطامها بالتراب. أخيرا، عادت وجلست على عتبة المتجر التي يتساقط المطر عليها أيضا. كان الجو دافئا للغاية ولم تكن تشعر بانزعاج من المطر. جلست وساقاها مطويتان تحتها تتطلع إلى الطريق، إلى حيث يمكنها أن تذهب الآن في أي اتجاه تشاء ، وإلى العالم الذي بدا مبسوطا ومتاحا وغارقا في الصمت أمامها. كانت تجلس في انتظار أن تأتي تلك اللحظة، اللحظة التي لن يسعها فيها أن تنتظر أكثر، والتي ستضطر فيها للنهوض والدخول إلى المتجر حيث المكان أكثر عتمة من أي وقت مضى، بسبب المطر، وحيث ترقد جدتها ملقاة فوق الطاولة ليست ميتة فحسب، بل ومنتصرة أيضا.
سلام أوترخت
1
لي ثلاثة أسابيع حتى الآن في منزل العائلة ولم يكن الأمر موفقا. فأنا ومادي، مع أننا نتحدث بمرح عن بهجتنا بزيارة طويلة وحميمة كهذه، سنرتاح من حمل يثقلنا حين تنتهي هذه الزيارة. الصمت يربكنا؛ لذا نضحك على نحو مبالغ فيه. أخشى - وأغلب الظن أن كلتينا تخشى - حين تأتي لحظة قول إلى اللقاء، إذا لم تسارع إحدانا بتقبيل الأخرى وتعصر إحدانا كتف الأخرى بحرارة زائفة، أن نضطر لأن نواجه المسافة الشاسعة بيننا ونعترف بأن كلا منا ليست فقط غير مكترثة للأخرى، بل يضاف إلى ذلك أننا في صميم قلبينا ترفض إحدانا الأخرى؛ وبالنسبة لذلك الماضي الذي نبالغ في الحديث عن تشاركنا إياه، فنحن لم نتشاركه على الإطلاق، بل تحتفظ به كل منا لنفسها في غيرة وحرص، تفكر في نفسها بأن الأخرى صارت غريبة عنها، وخسرت ما لها من حقوق عليها.
وعندما يهبط الليل، كثيرا ما نجلس في الخارج على سلالم الشرفة، نشرب الجين وندخن بشراهة كي نهزم الناموس ونرجئ وقت الذهاب إلى النوم إلى ساعة متأخرة. الجو حار، والمساء يستغرق طويلا حتى ينبلج الصبح، والمنزل القرميدي المرتفع، الذي يظل باردا إلى حد ما حتى منتصف ما بعد الظهيرة، يبقي حرارة النهار حبيسة فترة طويلة بعد حلول الظلام. كانت هذه هي الحال دائما؛ وأتذكر أنا ومادي كيف كنا نجر مرتبتنا إلى الشرفة في الدور السفلي، حيث نستلقي ونعد النجوم التي تتهاوى ونحاول أن نظل مستيقظتين حتى طلوع الفجر. لكننا لم نفعل قط؛ لأن النعاس كان يغلبنا كل ليلة في الوقت الذي ينسم فيه تيار هواء بارد قادم من ناحية النهر، حاملا رائحة البوص ورائحة الطين الأسود في قاع النهر. في العاشرة والنصف تمر حافلة عبر المدينة، لا تبطئ كثيرا، نراها مارة عند طرف شارعنا. إنها الحافلة نفسها التي كنت أستقلها عند عودتي من الكلية إلى المنزل. وأتذكر وأنا أدخل جوبيلي في إحدى الليالي الحارة، رؤية الأرض عارية حول الجذور الضخمة للأشجار، ونافورة الشرب محاطة ببريكات ماء صغيرة في الشارع الرئيسي، ولافتات صعبة القراءة مكتوب عليها بالأضواء الزرقاء والحمراء والبرتقالية «بلياردو ومقهى»، شاعرة وأنا أتبين هذه اللافتات بإحساس غريب من القمع والتحرر، وأنا أستبدل بعالم المدرسة الترويحي كله - عالم الأصدقاء، وفيما بعد، عالم الحب - العالم المظلم لمحنة لا تنتهي، عالم المنزل. لا بد أن مادي التي كانت تقطع نفس الرحلة منذ أربع سنوات راودها هذا الشعور أيضا؛ أود أن أسألها: هل يمكن لأطفال في مرحلة نشأتهم، مثلما كنا، أن يفقدوا القدرة على أن يصدقوا وجود - أن يألفوا - أي واقع مستقر وعادي؟ لكنني لا أسألها، فنحن لا نتحدث عن أي شيء من هذا. لا سلوى هنا! هكذا قالت مادي بصوتها المبتهج الرفيع بطابع اللهجة العامية التي كنت نسيتها، لن تكئب إحدانا الأخرى. وهذا ما فعلناه.
ذات ليلة أخذتني مادي إلى حفلة عند البحيرة، التي تبعد نحو ثلاثين ميلا إلى الغرب من هنا. كانت الحفلة مقامة في كوخ استأجرته امرأتان من جوبيلي لهذا الأسبوع. معظم النساء هناك بدا أنهن أرامل أو عزبات أو منفصلات أو مطلقات؛ أما الرجال فكان أغلبهم شبانا غير متزوجين، من كانوا من جوبيلي من بينهم كانوا صغار السن إلى درجة أنهم ذكروني بفتيان الصفوف الأولى. كان هناك رجلان أو ثلاثة أكبر سنا، من دون زوجاتهم. أما النساء فمن المستغرب أنهن كن يذكرنني بنساء كنت أعرفهن في طفولتي، مع أنني بطبيعة الحال لم أكن أرى قط شخصيات هؤلاء النساء في الحفلات، لم أكن أرى إلا عملهن في المتاجر والمكاتب، وفي كثير من الأحيان، في مدارس الأحد في جوبيلي. كن يختلفن عن النساء المتزوجات في كونهن أكثر دراية بوضعهن في الدنيا، وأنشط وأذكى وأغلظ قليلا (مع أنني أكن لهن جميعا الاحترام عدا واحدة أو اثنتين). كن يرتدين ملابس لا شك في أناقتها وإن كانت وقورة، وكثيرا ما كانت تهف وترف فوق كورسيهاتهن المطاطية المشدودة بإحكام، ويضعن العطور، قدرا كبيرا منها، على أزهارهن الصناعية. وكانت صديقات مادي متمدينات إلى حد كبير، فقد كن يستخدمن على شعورهن غسول اللون النحاسي، ويصبغن جفونهن باللون السماوي، ويتمتعن بقدرة عاتية على ألا يسكرن من احتساء الشراب.
كنت أرى أن مادي لا تبدو واحدة منهن، بجسدها الضئيل وشعرها الداكن الذي ما زالت تصففه دون عناية، ووجهها الذي صار نحيلا ومشدودا من دون أن يفقد تماما نظرة الفتاة التي تعلوه والتي تشي بالصفاقة والزهو. لكنها ما زالت تتكلم بالخنة الفجة للهجة المحلية، التي كنا في الماضي نسخر منها. وكانت رابطة الجأش وهي تعربد وتشرب. فقد بدا لي أنها لا تدخر جهدا كي تبدو واحدة من هؤلاء الأشخاص وأنها قد تنجح في ذلك سريعا. بدا لي أيضا أنها كانت تود أن أراها تنجح، أراها تتنكر لتلك الخيلاء السرية المبهجة الرهيبة بحق، التي كانت فينا حينما كنا طفلتين معا، وكنا نمني نفسينا، بطبيعة الحال، بأمور أكبر بكثير من جوبيلي.
أثناء اللعبة التي تضع فيها كل واحدة من النساء قطعة من الملابس - يبدأ الأمر بفردة حذاء من باب الاحتشام والتأدب - في سلة، ثم يأتي كل الرجال ويتنافسون في محاولة ملاءمة كل قطعة على صاحبتها الأصلية، خرجت للخارج ومكثت في السيارة، حيث شعرت بوحشة لزوجي وأصدقائي، واستمعت إلى أصوات الجذل الصادرة من الحفل وإلى الأمواج وهي تتهاوى على الشاطئ، ثم غلبني النعاس. جاءت مادي بعد ذلك بفترة طويلة جدا وقالت: «بحق السماء!» ثم ضحكت وقالت بعبث سيدة في فيلم سينمائي إنجليزي: «ألا تروق لك هذه الفعاليات؟» ضحكنا نحن الاثنتان، وشعرت برغبة في الاعتذار، وبشيء من الاعتلال لأنني شربت ولم أثمل. «قد لا تكون لهم قدرة تذكر على خوض حوار فكري لكن قلوبهم بيضاء، كما يقول المثل.» لم أجادل في هذا، وقطعنا رحلة العودة من إنفرهورون إلى جوبيلي بسرعة ثمانين ميلا في الساعة. ومنذ ذلك الحين لم نذهب إلى أي حفل آخر.
لكننا لا نكون وحدنا دائما حين نجلس على السلم؛ ففي كثير من الأحيان ينضم إلينا رجل يدعى فريد باول. كان موجودا في الحفل، جالسا في الخلفية في استرخاء يحاول أن يتذكر صاحب كل كأس من كئوس الشراب، بينما يقف بالقرب من سور الشرفة المتهالك. كان قد نشأ في جوبيلي مثلنا لكنني لا أتذكره، ربما لأنه ارتاد المدرسة قبلنا ببضع سنوات ثم ذهب بعد ذلك إلى الحرب. فاجأتني مادي بدعوته إلى العشاء في أول ليلة وصلت فيها هنا، وبقضائه الأمسية معنا، وأمسيات عديدة بعد ذلك، جاعلة هذا الغريب شاهدا على طفولتنا، أو على نسخة طفولتنا المحفوظة في أمان في حكي النوادر، في شيء يشبه السيلوفان الفكري. كم كانت الخيالات التي نسجناها حول صورتينا الواهيتين ونحن طفلتين رائعة، إلى حد أنهما ظهرتا مرحتين وتغيرتا تغيرا جعلهما صورتين أخريين لا نعرفهما. إننا ماهرتان في سرد القصص معا. فريد باول يقول: «لديكما ذكريات رائعة أيتها الفتاتان» ويجلس يراقبنا بإعجاب وبشيء آخر - تحفظ واضطراب واستهجان - كالذي يبدو على وجوه الأشخاص المتروين الهادئين وهم يشاهدون المهازل المثيرة للممثلين الكوميديين.
الآن وأنا أفكر في فريد باول، أعترف بأن ردة فعلي إزاء هذا - هذا «الوضع»، كما أسميه - كانت أكثر تقليدية بكثير مما توقعت، بل كانت حمقاء. أنا لا أدري حتى ما هو الوضع في الواقع. أعلم أنه متزوج؛ فمادي أخبرتني بذلك في الأمسية الأولى، بطريقة من تريد إخباري بالأمر وحسب. لكن زوجته عليلة، ومادي تقول إنه يأخذها إلى البحيرة في الصيف، وإنه بار بها للغاية. أنا لا أدري إن كان عشيقا لمادي، وهي لن تخبرني أبدا. لكن لماذا ينبغي أن يعنيني هذا الأمر؟ إن مادي تعدت سن الثلاثين منذ زمن. لكنني لا أكف عن التفكير في الطريقة التي يجلس بها على سلالمنا ويداه منبسطتان فوق ركبتيه الممدودتين، ووجهه الهادئ الممتلئ متجه باستغراق شبه تام ناحية مادي وهي تتحدث. إن له نظرة رجولية محببة توحي بأنه مستمتع لكنه غير مهتم. تغيظه مادي مازحة، فتخبره بأنه بدين جدا، أو أنه لن يدخن سيجارته، أو تقحمه في جدالات لطيفة ذات طبيعة خاصة تحتدم بينهما، ولا معنى لها ولا نهاية. وهو لا يمانع في ذلك. (وهذا ما يخيفني، أعلم الأمر الآن: هو لا يمانع، «وهي محتاجة لذلك».) حين تكون مادي ثملة قليلا تقول بنبرات تهكمية تحمل ما يشبه التبرير إنه صديقها الحقيقي الوحيد. وتقول عنه إنه يفهمها ولا أحد غيره قادر على ذلك. ليس لدي رد على هذا.
ثم أبدأ أتساءل ثانية: هل هو «وحده» صديقها؟ لقد نسيت قيودا معينة مفروضة على الحياة في جوبيلي - وهذا واقع حقيقي بصرف النظر عما تقوله روايات الجيب عن الحياة في المدن الصغيرة - ونسيت أيضا كيف يمكن أن تزدهر في ظل هذه القيود صداقات محترمة قوية، لا يقال صراحة أبدا إنها جنسية، بل وتتغذى على هذه القيود أيضا، إلى حد أن العلاقات من هذا النوع تستحوذ في نهاية المطاف على نصف حياة المرء. أكأبتني هذه الفكرة كثيرا (العلاقات التي لا تكلل بالزواج قد تخيب أمل من ليسوا طرفا فيها أكثر من أي شخص آخر) لدرجة أنني وجدت نفسي أتمنى أن يكونا في حالة حب حقيقي. •••
إيقاع الحياة في جوبيلي موسمي بإيقاع ثابت؛ فالوفيات تحدث في الشتاء، والزيجات تعقد في الصيف. لكن ثمة سبب وجيه لهذا، هو أن الأشتية طويلة وحافلة بالعناء، ومن ثم، قد لا يقوى الضعفاء والمسنون دائما على اجتيازها. فالشتاء الماضي كان كارثيا، على نحو يمكن توقع حدوثه كل عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة؛ كان من الممكن أن ترى كيف كانت أرصفة الشوارع مكسرة، كما لو كانت المدينة قد خرجت لتوها من قصف مدفعي على هامش حرب. في هذه الأوقات، يتعامل الناس مع الموت في خضم صعوبات بالغة؛ ثم يأتي في الصيف وقت للتفكير في الأمر، والحديث عنه. فأنا أرى الناس يستوقفونني في الشارع للحديث عن أمي. سمعت منهم عن جنازتها؛ نوع الزهور التي حظيت بها وحالة الطقس في ذلك اليوم. والآن وقد ماتت، لم أعد أشعر حين يقولون كلمة «أمك» أنهم يتعمدون توجيه ضربة ماكرة لكبريائي. كنت من قبل أشعر بهذا، حين أسمع هذه الكلمة كنت أشعر أن كياني كله، ذلك الصرح الفتي الزائف، يتداعى وينهار.
الآن أسمعهم يتحدثون عنها، بلطف ولياقة، فأدرك أنها صارت من ممتلكات المدينة وعجائبها، من أساطيرها الموجزة. وقد حققت هذا رغما عنا، لأننا كنا نحاول، بفجاجة وبدهاء، أن نبقيها في المنزل، بعيدا عن تلك السمعة المحزنة؛ لا لصالحها، بل لصالحنا، فنحن اللتان كانتا تعانيان من مثل هذا الخزي العظيم من منظر مقلتيها اللتين كانتا تنقلبان لأعلى في محجريهما نتيجة شلل مؤقت في عضلات العين، ومن وقع صوتها المتثاقل، الذي كانت وظيفتنا أن نترجم للغرباء منطوقاته المحرجة. كانت التأثيرات التي يحدثها مرضها غريبة بدرجة جعلتنا نشعر أننا نضج بالاعتذار (مع أننا كنا نحتفظ بصلابتنا وتحفظنا) كأننا ضمن أحد العروض البالغة الرداءة التي تقام في الشوارع أثناء الكرنفالات. كل هذا قضى على كبريائنا؛ تخلصنا من حدة حنقنا من خلال رسم صور كاريكاتورية جامحة كانت إحدانا تعدها للأخرى (لا، ليست صورا كاريكاتورية، إنما محاكاة، لأنها كانت نفسها صورة كاريكاتورية). كان ينبغي لنا أن نتركها لرعاية أهل المدينة، كانت ستلقى معاملة أفضل.
إنهم لا يتحدثون عن مادي وسهرها على رعاية أمي طوال عشر سنوات إلا بأقل القليل، ربما رغبة منهم في الحفاظ على مشاعري، غير ناسين أنني أنا التي رحلت، وها هما طفلاي أمارة على ذلك، بينما مادي وحيدة ولا شيء لديها الآن سوى ذلك المنزل الكئيب. لكنني لا أعتقد ذلك، ففي جوبيلي لا تراعى المشاعر بهذه الطريقة. فهم يسألونني مباشرة عن السبب وراء عدم مجيئي المدينة لحضور الجنازة. أنا مسرورة أن العاصفة الثلجية العنيفة التي تسببت في وقف حركة الطيران في ذلك الأسبوع وفرت لي عذرا لعدم الحضور، لأنني لا أدري ما إذا كنت سأحضر هذه الجنازة على أية حال، بعد أن كتبت إلي مادي رسالة ملتهبة المشاعر تحثني فيها على أن أظل بعيدة. راودني شعور قوي بأن من حقها أن تنفرد بهذه المناسبة، إذا شاءت ذلك، بعد مرور كل هذه الفترة.
بعد مرور كل هذه الفترة، مادي هي التي بقيت. كانت هي من رحل أولا للالتحاق بالكلية، ثم رحلت أنا. قالت لي: امنحيني أربع سنوات، ثم أمنحك أنا بعد ذلك أربعا مثلها. لكنني تزوجت. لم تتفاجأ؛ كانت حانقة علي بسبب ما أشعر به من شعور بائس وغير مجد بالذنب. قالت إنها دائما كانت عازمة على البقاء. وإن أمي لم تعد تشكل مصدر «ضيق» لها. قالت: «لقد فاض الكيل بي من أمنا غريبة الأطوار الآن، ولم أعد أفعل شيئا حيالها. كففت عن محاولاتي المستمرة أن أجعل منها «إنسانة»، كما تعلمين.» لكن من قبيل التبسيط المفرط أن أفترض بأن مادي متدينة، وأنها كانت تشعر بمباهج التضحية بالذات، بالجاذبية الروحانية القوية لنكران الذات التام. لكن من ذا الذي يمكن أن يقول ذلك عن مادي؟ في مراهقتنا، عندما كانت خالتانا، الخالة آني والخالة لو، تتحدثان إلينا عن أحد الأبناء أو البنات البررة الذين ضحوا بكل شيء في سبيل رعاية أحد الأبوين في مرضه، كانت مادي تستشهد بآراء الطب النفسي الحديث على نحو لا يدل على تدين. لكنها بقيت. كل ما يمكنني قوله عن هذا - كل ما أمكنني أن أفكر فيه على الإطلاق - لتعزية نفسي إنها ربما كانت قادرة على ذلك، بل وربما اختارت أن تعيش بمعزل عن الزمن في حرية تامة متخيلة، كما يفعل الأطفال، مستقبل لا يعبث به أحدهم، حيث كل الخيارات متاحة دائما. •••
يسألني الناس - كي يغيروا الموضوع - عن شعوري حيال العودة إلى جوبيلي، لكنني لا أدري، ما زلت أنتظر شيئا يخبرني بذلك، يجعلني أدرك أنني عدت. ففي اليوم الذي وصلت فيه من تورونتو بصحبة طفلي في المقعد الخلفي للسيارة كنت في غاية التعب في آخر مراحل رحلة طولها ألفان وخمسمائة ميل. كنت مضطرة للسير خلال منظومة معقدة من الطرق السريعة والفرعية، لأن ما من طريق سهل للوصول إلى «جوبيلي» من أي مكان على الأرض. ثم في حوالي الساعة الثانية بعد الظهر رأيت أمامي القبة المبهرجة المقشرة، المألوفة والمفاجأة، لمجلس المدينة، التي لا تمت بأي صلة على الإطلاق إلى معمار أبنية المدينة المبنية على نحو بسيط، بالقرميد الأحمر والرمادي المتسخ. (معلق أسفل هذه القبة جرس هائل الحجم، يقرع في حال حدوث كارثة لن تحدث.) قدت سيارتي نحو الشارع الرئيسي - مركز خدمة جديد، وواجهة زخرفية جديدة لفندق كوينز - وانعطفت نحو الشوارع الجانبية المتهالكة تماما التي تعيش فيها العزبات المسنات، اللائي لديهن في حدائقهن فسقيات الطيور وزهور نباتات العائق الزرقاء. كانت البيوت الكبيرة المبنية بالقرميد التي عرفتها، بشرفاتها الخشبية ونوافذها ذات الأسلاك الداكنة، تبدو لي حقيقية لكن غير واقعية. (كان كل من أتحدث إليه عن الجو العام المقبض الشبيه بجو الأحلام لهذه الشوارع يرغب في أخذي إلى الجانب الشمالي من المدينة حيث يوجد مصنع جديد لتعبئة زجاجات المياه الغازية، وعدد من البيوت على طراز بيوت المزارع وفرع من فروع تيستي فريز.) أوقفت سيارتي في بقعة ظليلة صغيرة أمام المنزل الذي كنت أسكن فيه. تساءلت ابنتي الصغيرة مارجريت بصوت هادئ حمل قدرا من عدم التصديق: «أمي! هل هذا منزلك؟»
شعرت في صوت ابنتي بخيبة أمل مضاعفة - بدت أنها، كعادتها، تصالحت معها، أو فعلت ذلك «سلفا» قبل أن ترى المنزل - احتوت كل فتور وغرابة اللحظة التي انكشفت فيها الحقيقة، المحبطة، المؤسفة، المستعصية لمنبع الأساطير. بدا القرميد الأحمر للبيت قاسيا وحارا تحت الشمس، يعلوه في موضعين أو ثلاثة شقوق طويلة تشوه منظره؛ أما الشرفة، التي كانت دائما فقيرة الزينة، فكانت مائلة متداعية على نحو جلي. كانت هناك - ولا تزال - نافذة وهمية ذات زجاج ملون إلى جانب الباب الأمامي. ظللت أحدق فيها، متحيرة لا أدرك ما أحس به. ظللت أنظر إلى البيت ولم تتحرك مصاريع النوافذ، ولم ينفتح الباب بغتة، ولم يخرج أحد إلى الشرفة؛ لم يكن ثمة أحد بالمنزل. كان هذا ما توقعته، لأن مادي تعمل الآن في مكتب مجلس المدينة، لكنني فوجئت من استحالة البيت إلى هذا المنظر الفقير الأجرد الموصد ، لمجرد عدم وجود أحد به. وأدركت، وأنا أمشي عبر الباحة الأمامية إلى السلالم، أنني قد نسيت، بعد قضائي كل هذه الأصياف على الساحل، ما تتسم به المدن الداخلية من حر قائظ، يجعلك تشعر وكأنك تحمل فوق رأسك السماء المحرقة برمتها.
ثمة لافتة، مكتوبة بخط مادي المنمق والطفولي بعض الشيء، معلقة على الباب الأمامي تقول: «مرحبا بالزوار، الأطفال مجانا، والأسعار سنتفق عليها لاحقا (ستندمون) تفضلوا بالدخول.» فوق طاولة الردهة توجد باقة من زهور الفلوكس الوردية، عبقت بعبيرها الناعم الهواء الحار لمنزل مغلق بعد ظهيرة يوم صيفي. قلت للطفلين: «إلى الدور العلوي!» آخذة بيد طفلتي وأخيها الأصغر، الذي كان قد نام في السيارة، وأخذ يتمسح في، ناشجا، وهو يسير. ثم توقفت، وإحدى قدمي على أولى درجات السلم، واستدرت لأستقبل، دونما قصد مني، صورة امرأة على وجهها علامات طول السهر، مسمرة، نحيلة، لها ملامح أم شابة، شعرها معقود فوق قمة رأسها، لها صدغان لم يعودا لحيمين انسيابيين، ورقبة سمراء تطل بمنظر مشدود من العقد العظمية الحادة للترقوة؛ كان هذا في مرآة الردهة التي كنت قد طالعت فيها، آخر مرة نظرت إليها، صورة فتاة عادية الجمال، وجهها غير متأثر بما يجيش داخلها، وناعم كثمرة التفاح، مهما كان ما يخبئ وراءه من ذعر أو اضطراب.
لكنني لم أكن قد استدرت لهذا الغرض؛ أدركت أنني ربما كنت أنتظر أن تنادي أمي، من فوق أريكتها في غرفة الطعام، حيث ترقد والستائر مسدلة لحجب حر الصيف، تحتسي فناجين الشاي التي لم تنه أيا منها قط، وتأكل - كانت، كطفل سقيم، ليس لها مواعيد للوجبات على الإطلاق - سلطانيات صغيرة فيها فاكهة محفوظة وفتات الكعك. تراءى لي أنني لا يمكن أن أغلق الباب ورائي دون أن أسمع صوت أمي الضعيف ينادي، فأشعر بنفسي متثاقلة تماما وأنا أهم بإجابتها. كانت تصيح: «من هناك؟»
أخذت طفلي إلى غرفة النوم الكبيرة في خلفية المنزل، حيث كنت أنام أنا ومادي. كانت تحوي فوق نوافذها ستائر بيضاء رقيقة، تكاد تكون ناحلة بالية، ومشمعا مربعا فوق الأرضية ؛ كان بالحجرة سرير يتسع لشخصين، وطاولة عليها حوض وإبريق للاغتسال كنت أنا ومادي نستخدمها كطاولة حينما كنا في المدرسة الثانوية، ودولاب للملابس ذو مرايات صغيرة في الجوانب الداخلية لأبوابه. وأنا أتحدث إلى طفلي كنت أفكر - لكن بإمعان، ودون استعجال - فيما كانت تفكر فيه أمي وهي تصيح «من هناك؟» كنت أسمح لنفسي - وكأنني لم أجرؤ على فعل ذلك من قبل - بأن أسمع التماس المساعدة - السافر، آه، السافر والفج والمتضرع على نحو مهين - في نبرة صوتها. كانت الصيحة تتردد كثيرا، ولا يتغير شيء، دون أي جدوى، حتى صرت أنا ومادي نعتبرها مجرد صوت من الأصوات التي يصدرها المنزل ويتعين معالجة سببها، كي لا تنتهي إلى ما هو أسوأ. كانت إحدانا تقول للأخرى: «اذهبي لتتعاملي مع أمي» أو «علي أن أتعامل مع أمي، لن أستغرق أكثر من دقيقة.»
قد يتضمن الأمر أن نقوم ببعض الخدمات البسيطة والكريهة التي لا تكف عن احتياجها، أو أن نضطر لمنحها خمس دقائق من حديث مبهج على نحو مقتضب، وكنا نفعل ذلك بعدم اكتراث لا يعرف الرحمة لدرجة أننا لم نكن ندرك للحظة حقيقة الأوضاع، من دون أية بارقة شفقة تفك ولو لمرة حصار دموعها المضني الطويل. لكن الشفقة لم تعرف طريقها إلى قلبينا، والدموع كانت لتسيل على أية حال، بحيث كنا ننهزم، فنضطر - رغبة في إيقاف هذه الضوضاء - للتظاهر بإبداء الحب. لكننا صرنا أكثر دهاء، وصرنا نقدم العناية الفاترة؛ فنزعنا غضبنا وفراغ صبرنا واشمئزازنا، نزعنا كل المشاعر من تعاملنا معها، كما يحدث عندما يمنع اللحم عن سجين رغبة في إسقامه، حتى الموت.
كنا نأمرها أن تقرأ، أن تستمع إلى الموسيقى وتستمتع بتعاقب الفصول وتشعر بالامتنان لأنها لم تصب بالسرطان، وأنها أيضا لا تعاني من أية آلام، وهذا صحيح؛ إن لم يكن الحبس في حد ذاته ألما من الآلام. في الوقت نفسه كانت هي تطلب حبنا بكل طريقة تخطر على بالها، دون خجل أو حساسية، بتشبث كتشبث الأطفال. قلت في نفسي: كيف لنا أن نحبها، كانت منابع الحب داخلنا شحيحة، وكان قدر الحب المطلوب منا هائلا أكثر مما يمكن. ثم إن هذا لم يكن ليغير أي شيء.
كانت تقول: «لقد سلب مني كل شيء.» كانت تقولها للغرباء، ولأصدقائنا الذين كنا نفشل دائما في محاولاتنا أن نعزلهم عنها، ولصديقاتها القديمات اللائي كن يأتين، مدفوعات بالشعور بالذنب، لرؤيتها على فترات متباعدة، كانت تتكلم بنفس الطريقة، بنفس الصوت الثقيل الحزين الذي لم يكن مفهوما أو لم يكن بشريا تماما؛ وكنا نضطر لترجمة ما تقول. كانت هذه السلوكيات المسرحية تشعرنا بإذلال يكاد يقتلنا، لكني الآن أرى أنها لولا إصرارها على تغذية تلك الأنانية حتى وهي على شفا كارثة، كانت ستغرق سريعا في حياة مضجرة كئيبة. ظلت تجعل نفسها على صلة بالعالم قدر ما استطاعت، دون أن تعبأ بمدى تقبل الناس لها؛ كانت لا تكف عن الطواف في المنزل وفي شوارع جوبيلي. أوه، لم تكن تستسلم؛ لا بد أنها ذرفت الدمع وكافحت حتى النهاية في ذلك المنزل الحجري (كما أستطيع أن أتخيل، لكني لن أفعل).
لكني لا أزال أرى الصورة ناقصة؛ صورة أمنا الغريبة الأطوار، وراء ما يمثله الشلل الرعاش من قناع مريع بارد جاثم فوق ملامحها، بتثاقلها وبكائها وشرهها لأن تحظى بالاهتمام متى تسنى لها أن تناله، بعينيها الميتتين الحمراوين، المطلتين بثبات على داخل نفسها؛ وليس هذا كل شيء. فهذا المرض عشوائي وبطيء في تدهوره، فقد كانت في بعض الأصباح (التي أخذت تقل شيئا فشيئا وتتباعد فيما بينها) تصحو في حال أفضل، وتخرج للفناء وتسوي نبتة من النباتات بالطريقة البسيطة لربة المنزل، وتقول لنا كلاما رصينا وواضحا ومفهوما، وتنصت في اهتمام إلى الأخبار. وتحاول، كمن استيقظ من حلم مزعج، أن تعوض ما ضاع من الوقت، فترتب المنزل، وتجبر يديها المتيبستين المرتجفتين على العمل قليلا على ماكينة الخياطة، وتصنع لنا أحد أطباقها المميزة؛ كعك الموز أو فطيرة كريمة الليمون. منذ أن ماتت، أحلم بها من آن لآخر (لم أكن أحلم بها قط حينما كانت على قيد الحياة) وأراها تفعل شيئا من هذا القبيل ، وأفكر: لماذا أضخم لنفسي الأمر؟ انظري، إنها على ما يرام، جل ما هنالك أن يديها ترتجفان ...
في نهاية فترات الهدوء هذه كان يعتريها نوع من الطاقة الهدامة، فتتحدث على نحو ملح بترابط منطقي يقل شيئا فشيئا، وتطلب منا أن نضع لها أحمر الخدود ونصفف شعرها؛ وقد تستأجر في بعض الأحيان خياطة لتأتي وتحيك لها بعض الملابس في غرفة الطعام حيث يمكنها أن تراقبها وهي تعمل، وتعود لتمضي وقتها أكثر فأكثر فوق الأريكة. كان هذا زائدا عن الحد، ومبالغا فيه من أي وجهة نظر عملية (إذ ماذا كانت حاجتها إلى هذه الملابس، أين كانت سترتديها؟) ومرهقا للأعصاب لأن الخياطة لم تكن تفهم ما تريده أمي، ولا كنا نحن أيضا نفهم في بعض الأحيان. أتذكر بعد أن رحلت أنا أنني تلقيت من مادي عدة رسائل حائرة، ومسلية، وعصبية تماما، تصف فيها هذه الجلسات مع الخياطة. قرأتها متعاطفة لكن دون أن أقدر على دخول مناخ الإحباط والخبل الذي ألفته يوما ما والذي كانت طلبات أمي كفيلة بصنعه. على أرض الواقع، لم يكن من الممكن بعثها من جديد، وبدت لي صورة وجهها التي يحملها عقلي مروعة للغاية، وغير حقيقية. بالمثل، كان التوتر المضاعف الناجم عن العيش معها، ومشاعر الهستيريا التي كنت أنا ومادي نبددها في الماضي من خلال قدر هائل من الضحك المر، كل هذا قد بدأ الآن يبدو لي خياليا إلى حد ما؛ وشعرت ببوادر إحساس مذنب وسري بالوحشة. •••
جلست في الغرفة مع طفلي فترة قصيرة لأنها كانت مكانا غريبا، فبالنسبة لهما لم تكن سوى مكان غريب آخر ليناما فيه. حينما نظرت إليهما في هذه الغرفة شعرت أنهما محظوظان للغاية وأن حياتهما آمنة وسهلة. أظن أن معظم الآباء يفكرون على هذا النحو في وقت من الأوقات. نظرت في دولاب الملابس لكنه كان خاويا، إلا من قبعة مزينة بزهور من متجر السلع الرخيصة، لا بد أن إحدانا صنعتها لأحد أعياد الفصح المبهجة. حينما فتحت درج طاولة الاغتسال رأيت أنه مكتظ بصفحات من مفكرة مفكوكة الأوراق. قرأت: «سلام أوترخت، عام 1713، وضع حدا لحرب الخلافة الإسبانية.» وتبين لي أن الخط المكتوب كان خطي. من الغريب أنه لا يزال هنا منذ عشر سنوات، والأكثر غرابة، أنه بدا وكأنني كتبته اليوم.
لسبب ما، كان لقراءة هذه الكلمات تأثير غريب علي؛ فقد شعرت كأن حياتي القديمة مبعثرة حولي، في انتظار أن ألتقط شتاتها ثانية. لم يراودني هذا الشعور إلا حينها وللحظات قليلة في غرفتنا القديمة. تكشفت أمامي صورة القاعات البنية للمدرسة الثانوية القديمة (مبنى متهالك منذ ذلك الحين)، وتذكرت ليالي السبت في فصل الربيع، بعد أن يذوب الجليد وتعج المدينة بكل أهل الريف. تذكرتنا ونحن نمشي جيئة وذهابا في الشارع الرئيسي، متشابكي الأذرع بصحبة فتاتين أو ثلاث أخريات، إلى أن يخيم الظلام، ثم نذهب إلى مرقص آل كي نرقص، تحت مجموعة من الأضواء الملونة الخافتة. كانت نوافذ قاعة الرقص مفتوحة، تسمح بدخول هواء الربيع المنعش وما يحمله من رائحة الأرض والنهر. كانت أيدي الفتيان الذين يعملون في المزارع تجعد بلوزاتنا البيضاء وتوسخها عندما نراقصهم. من الغريب أن تجربة لم تكن جديرة بالتذكر على الإطلاق حينها (في الواقع، كان مرقص آل مكانا كئيبا، وكنا نعتبر طقس المشي جيئة وذهابا في الشارع لاستعراض أنفسنا حماقة وسخفا، مع أننا لم نكن نستطيع مقاومته) تحولت الآن إلى شيء ذي معنى بالنسبة لي، ومكتمل؛ كان الأمر يتضمن أكثر من مجرد رقص الفتيات والشارع الوحيد، فقد امتد للمدينة برمتها، نمط شوارعها البدائية وأشجارها العارية وأفنيتها الموحلة بعد زوال الجليد عنها، إلى الطرق الترابية حيث كانت أضواء السيارات تبدو مسددة نحو المدينة، تحت غلالة سماوية شديدة الشحوب.
كنا أيضا نرتدي أحذية «باليرينا»، وتنورات واسعة ضيقة من الخصر من قماش التافتا الأسود، ومعاطف قصيرة بألوان مثل الأزرق الفيروزي، أو الأحمر الزاهي، أو الأخضر الليموني. وكانت مادي ترتدي قوسا جنائزيا كبيرا حول رقبة بلوزتها وإكليلا من الزهور اللؤلؤية الاصطناعية في شعرها. كانت هذه موضات إحدى السنوات التي تلت الحرب، أو هكذا كنا نظن. مادي، هذه نظرتها المتشككة المتألقة ، أختي. •••
سألت مادي: «ألا تتذكرين كيف كانت قبل المرض؟»
فأجابت: «لا، لا أستطيع.»
فأقول في تردد: «أظن أنني أستطيع أحيانا، ليس كثيرا.» حنين هش جبان، يحاول العودة إلى حقيقة ألطف.
قالت مادي: «أعتقد أنك كان لا بد أن تبتعدي. كان لا بد أن تبتعدي خلال تلك السنوات الأخيرة - القليلة - كي يتأتى لك الحصول على هذه الذكريات.»
كان هذا الموقف الذي قالت فيه: «لا سلوى هنا.»
لم تقل شيئا آخر سوى أن أمي «كانت تمضي الكثير من الوقت في فرز الأشياء. كل أنواع الأشياء؛ بطاقات التهاني، الأزرار والخيوط. كانت تفرزها وتضعها في أكوام. كان ذلك يجعلها هادئة على مدار الساعة.»
2
ذهبت لزيارة الخالة آني والخالة لو. هذه ثالث مرة أذهب إليهما منذ عودتي، وفي كل مرة كانتا تمضيان فترة ما بعد الظهيرة في صنع سجاجيد من الخرق المصبوغة. إنهما هرمتان الآن. تجلسان في شرفة صغيرة حارة تظللها ستائر من الخيزران. تشيع حولهما الخرق والسجاجيد التي لم تكتمل بعد نوعا مبهجا من الفوضى يحمل ألفة المنازل. لم تعودا تخرجان من البيت، لكنهما تستيقظان مبكرا، ثم تغتسلان وتضعان المساحيق على وجهيهما ثم ترتدي كل منهما أحد فساتينها المطبوعة العديمة الشكل والمزينة بأشرطة متعرجة وجديلة بيضاء. ثم تعدان القهوة والعصيدة وتنظفان المنزل. تعمل الخالة آني في الطابق الأعلى وتعمل الخالة لو في الأسفل. بيتهما نظيف للغاية، معتم ومنمق، وعبق برائحة الخل والتفاح. بعد الظهيرة تستلقيان ساعة ثم ترتديان فستانيهما لفترة ما بعد الظهيرة، وتضعان بروشين عند الرقبة، ثم تجلسان لمباشرة العمل.
إنهما من النساء اللائي يذوب لحمهن أو يتبدد لسبب غير معلوم مع تقدمهن في السن أكثر فأكثر. لا يزال شعر خالتي لو أسود، لكنه يبدو قاسيا وجافا من غطائه الشبكي مثل شوشات الشعر الميتة التي تكون في نهاية كوز ذرة ناضج. تجلس منتصبة وتحرك ذراعيها اللتين نحلتا حتى ظهر عظمهما بحركات وئيدة وشديدة الإتقان؛ تبدو مثل مصرية فرعونية، برقبتها الطويلة ووجهها الحاد الصغير وبشرتها شديدة السمرة والتجعد. أما خالتي آني - ربما بسبب ما تتمتع به من طابع ألطف، بل ولعوب - فتبدو أكثر هشاشة وتدهورا. سقط شعرها كله تقريبا، وباتت ترتدي نوعا من أغطية الرأس اللطيفة التي ترتديها الزوجات الشابات فوق بكرات الشعر عند ذهابهن للنوم. وهي تلفت نظري لهذا وتسألني: ألا ترينه جذابا؟ إن كلتيهما بارعة في هذه الملاحظات الساخرة الصغيرة، وتجذلان قليلا من الإشارة إلى كل ما هو بشع فيهما. صحبتهما مرحة إلى أقصى حد، وحديث إحداهما مع الأخرى يتخذ إطارا بارعا من الإغاظة والاحتجاج. لقد تراءت لي لمحات رائعة رأيت فيها نفسي ومادي، وقد تقدم بنا العمر، وجمعتنا ثانية علاقة الأخوة بعد أن تبدد كل شيء آخر، ونحن نعد الشاي لقريبة من القريبات، شابة ومحبوبة ولا تمثل أهمية كبيرة لنا، ونتظاهر بنفس هذه العلاقة الممتازة. ما الذي سيعلمه عنا أي شخص؟ أتساءل، وأنا أراقب خالتي المسنتين المسليتين: هل يؤدي الأشخاص المسنون مثل هذه الأدوار النموذجية المبسطة معنا لأنهم يخشون من أن أي شيء آخر أكثر صدقا سيستنفد صبرنا، أم يفعلون ذلك من باب اللطف - لشغل الوقت الاجتماعي - بينما في الحقيقة هم يشعرون بأنهم بعيدون كل البعد عنا، إلى حد عدم وجود أي إمكانية على الإطلاق للتواصل معنا؟
على أية حال، شعرت أنهما تبقيانني على مسافة منهما، على الأقل حتى هذه الزيارة الثالثة، حينما أظهرتا أمامي بعض علامات الخلاف بينهما. أعتقد أن هذه أول مرة يحدث فيها ذلك؛ فأنا بالتأكيد لم أرهما تتجادلان قط طوال كل السنوات التي اعتدت أنا ومادي أن نزورهما خلالها؛ ليس من قبيل الواجب فحسب، بل أيضا لأننا كنا نجد عندهما جو التعقل والسكينة مقابل الفوضى التي نعيش فيها، الميلودراما الرهيبة، في بيتنا بالمدينة.
كانت الخالة آني تريد أن تأخذني إلى الأعلى لتريني شيئا. فاعترضت خالتي لو، في رفض واستياء، كما لو كان الموضوع برمته مصدر حرج لها. كان هذا الشعور بالرغبة في الكتمان، أسلوب المراوغة المتبع في ذلك البيت، هو الذي جعل من غير الوارد أن أسألهما عما تتحدثان بشأنه.
قالت خالتي لو: «أوه، دعيها تتناول شايها .» فردت خالتي آني: «حسنا، «بعد» أن تتناول شايها.» «افعلي ما طاب لك إذن. هذا الطابق العلوي حار.» «هل ستأتين للأعلى يا لو؟» «ومن الذي سيراقب الطفلتين إذن؟» «أوه، الطفلتان، لقد نسيت.»
وهكذا انسحبنا أنا وخالتي آني إلى الأجزاء الأكثر عتمة من المنزل. من الحمق أن خطر لي أنها سوف تعطيني ورقة مالية من فئة الخمسة دولارات. فقد تذكرت حينما كانت معتادة على أن تأخذني إلى الردهة الأمامية بهذه الطريقة التي يلفها الغموض ثم تفتح كيس نقودها وتفعل ذلك. لا أظن أن خالتي لو كانت تعلم شيئا عن هذا السر أيضا. لكننا ذهبنا إلى الأعلى، وفي غرفة نوم الخالة آني، التي بدت مرتبة للغاية كما لو لم يستخدمها أحد من قبل، ومغطاة بورق حائط مزهر هادئ، كانت طاولة الزينة مفروشة بأوشحة بيضاء. وكان الجو حارا للغاية، كما قالت خالتي لو.
قالت الخالة آني وهي لاهثة الأنفاس قليلا: «الآن، ائتيني بذلك الصندوق الموضوع على الرف العلوي للدولاب.»
ففعلت. ثم فتحته وقالت بمرح المتآمر المتلهف: «الآن، أراهن أنك تتساءلين عما حل بكل ملابس أمك.»
لم يكن هذا الأمر قد خطر على ذهني من قبل. جلست فوق السرير، ناسية أن الأسرة يجب ألا يجلس عليها في هذا المنزل، وأنه كان يوجد في كل غرفة نوم كرسي مستو لهذا الغرض، لكن خالتي آني لم تمنعني، وراحت تخرج الملابس وهي تقول: «لم تذكر مادي شيئا عنها، أليس كذلك؟»
قلت: «لم أسألها قط.»
قالت: «لا، وما كنت أنا لأسألها. ما كنت لأقول أي كلمة بشأن ملابس أمك لمادي، لكنني رأيت أنني يمكن أن أريها لك، ولم لا؟ انظري، لقد غسلنا وكوينا كل ما أمكننا غسله وكيه، أما ما لم نستطع فأرسلناه لمحل التنظيف. دفعت أجرة التنظيف من جيبي. ثم أصلحنا كل ما كان بحاجة منها للإصلاح. إنها جميعها بحالة جيدة. هل ترين؟»
ظللت أنظر وأنا مغلوبة على أمري بينما أخذت هي تعرض علي الملابس الداخلية التي كانت على السطح. أرتني أشياء جرى رفيها وإصلاحها بمهارة وجرى تجديد أشرطتها المطاطية. أرتني سروالا تحتيا قالت إنه كان باليا قبل ذلك. ثم أخرجت ملابس النوم، وروبا، وشالا ذا رباط يلبس للنوم. قالت: «هذا ما كانت ترتديه آخر مرة رأيتها. أظن ذلك، نعم.» ميزت في شجو هذا الشال الدراقي اللون الذي كنت قد أرسلته إليها بمناسبة عيد الميلاد. «كما ترين، تكاد تكون جديدة. كأنها لم تستعمل بتاتا.»
قلت: «نعم.»
قالت: «في أسفل الصندوق توجد فساتينها.» وراحت تجيل يديها في الأسفل خلال تلك الحرائر المزهرة والمزركشة - التي تزداد غرابة عاما بعد عام - التي كانت أمي تتمنى أن ترتديها. حتى الخالة آني كانت تبدي ترددا في ارتداء هذه الألوان الطاوسية الزاهية بعدما تخيلت نفسها فيها. سحبت بلوزة من الأسفل وقالت: «غسلت هذه غسيلا يدويا. تبدو كالجديدة. ثمة معطف معلق في الصوان، في حالة ممتازة؛ فهي لم ترتد معطفا قط، ارتدته فقط حين حجزت في المستشفى. ألن يكون مقاسك؟»
قلت: «لا.» كررت «لا» لأن الخالة آني كانت تتحرك بالفعل نحو الصوان، فأردفت: «لقد اشتريت مؤخرا واحدا جديدا. لدي عدة معاطف يا خالة آني!»
قالت الخالة آني بطريقتها لطيفة العناد: «ولم تشترين، بينما توجد أشياء بجودة الأشياء الجديدة تماما؟»
قلت: «أفضل أن أشتري.» أسفت فور شعوري بالفتور في صوتي. ومع ذلك أردفت قائلة: «حينما أحتاج شيئا، أذهب وأشتريه.» هذا الإيحاء بأنني لم أعد فقيرة جعل نظرة عتاب وتحفظ تعلو وجه خالتي. لكنها لم تقل شيئا. رحت أنظر إلى صورة كانت معلقة فوق المكتب للخالة آني والخالة لو وإخوانهما الكبار وأمهم وأبيهم. كانوا يحدقون في هم أيضا بوجوه رزينة علتها نظرة اتهامية محتجة، لأنني اجتزت الحالة المادية المتواضعة التي كانت تشكل العقبة الكئود في حياتهم. يجب أن يستخدم كل شيء، يستخدم إلى أن يبلى، ويدخر ويصلح ويصنع منه شيء جديد ليستخدم ثانية؛ كان لا بد أن تسمل الملابس. شعرت أنني جرحت مشاعر الخالة آني، والأكثر، أنني على الأرجح أكدت ما توقعته خالتي لو، لأنها كانت حساسة إزاء بعض المواقف الدنيوية التي كانت أعقد من أن تهتم بها الخالة آني، وربما قالت إنني لن أرغب في ملابس أمي.
قالت الخالة آني: «لقد رحلت بأسرع مما توقع أي أحد.» استدرت مندهشة. فأضافت: «أمك.» تساءلت عما إذا كانت الملابس هي الشيء الأهم الباقي، لعل الملابس كانت مجرد مقدمة للحديث عن موت أمي، وهو أمر ربما شعرت الخالة آني أنه جزء ضروري من زيارتنا. أما الخالة لو فستشعر شعورا مختلفا؛ فهي لديها كره نابع من الخرافات لبعض طقوس التأثر بتذكر الموتى، وحديث كهذا لم يكن ليجري قط في وجودها.
قالت الخالة آني: «بعد شهرين من دخولها المستشفى. رحلت بعد شهرين.» رأيتها تبكي ذاهلة، كعادة كبار السن، بدموع زهيدة بائسة. ثم سحبت من ثوبها منديلا ومسحت وجهها.
قالت: «لم تقل لها مادي سوى أنها ستدخل لتجري فحصا طبيا، وأن الأمر سيستغرق نحو ثلاثة أسابيع. دخلت أمك وهي تظن أنها ستخرج في غضون ثلاثة أسابيع.» كانت الخالة آني تهمس كما لو كانت خائفة من أن يسمعنا أحد. واصلت: «هل تعتقدين أنها كانت راغبة في البقاء هناك حيث لا أحد يستطيع أن يفسر ما تقول، وحيث لن يسمحوا لها بأن تبرح فراشها؟ كانت تريد العودة إلى المنزل.»
قلت: «لكن مرضها كان أشد من أن يسمح لها بذلك.» «لا، هذا ليس صحيحا، كانت على حالها المعتادة، تتدهور قليلا شيئا فشيئا بمضي الوقت. لكن بعد أن دخلت هناك شعرت بأنها سوف تموت، كل شيء من حولها كان مغلقا، فتدهورت سريعا.»
قلت: «لعل هذا كان سيحدث على أية حال. ربما عاجلا أو آجلا.»
لم تعرني الخالة آني اهتماما، وأكملت: «ذهبت لرؤيتها، ولشد ما سرت لرؤيتي لأنني كنت أستطيع تفسير ما تقوله. قالت: خالتي آني، إنهم لن يبقوني هنا إلى الأبد، أليس كذلك؟ فقلت لها: بلى.
فقالت أمك: «خالتي آني، اطلبي من مادي أن تعيدني إلى المنزل ثانية وإلا فسأموت.» لم تكن ترغب في الموت. ألم يخطر على بالك قط أن إنسانا يمكن أن يرغب في الموت لا لسبب سوى أن الجميع من حوله يرون أنه لا داعي لبقائه على قيد الحياة؛ لذلك أخبرت مادي أن تخرجها، لكنها لم تقل شيئا. كانت تذهب إلى المستشفى يوميا وترى أمك، ولا تأخذها إلى المنزل. قالت لي أمك إن مادي قالت لها: «لن آخذك إلى المنزل.»»
قلت: «لم تكن أمي تقول الحق في بعض الأحيان. تعلمين هذا خالتي آني.» «هل نما إلى علمك أن أمك خرجت من المستشفى؟»
أجبتها: «لا.» لكنني لم أشعر بالمفاجأة، لم أشعر إلا بشعور بالخوف يسري في جسدي، توق إلى ألا أعرف؛ وفوق هذا شعور بأنني أعلم مسبقا ما سيجري إخباري به، دائما كنت أعلمه. «مادي، ألم تخبرك؟» «لا.» «حسنا لقد خرجت. خرجت من الباب الجانبي الذي تدخل منه سيارة الإسعاف، إنه الباب الوحيد الذي لا يغلق. حدث ذلك ليلا حينما لم يكن هناك عدد كبير من الممرضات لمراقبة المرضى. ارتدت روبها وخفها - كانت هذه أول مرة ترتدي شيئا بنفسها منذ سنوات - وخرجت من المستشفى. كان ذلك في يناير، فوجدت الجليد يتساقط، لكنها لم تعد إلى الداخل. كانت قد توغلت مبتعدة في الشارع حينما أمسكوا بها. وبعد ذلك ثبتوا لوحا على فراشها.» «الجليد، الروب والخف، لوح فوق الفراش!» صورة كنت أميل كثيرا إلى مقاومتها. ومع ذلك لم يكن لدي ثمة شك بأنها حقيقية، كل هذا كان حقيقيا وكما حدث تماما. كان هذا ما يمكن أن تفعله، فكل حياتها التي كنت أعرفها خلالها أدت إلى ذلك الهروب.
قلت: «إلى أين كانت ذاهبة؟» لكني كنت أعلم أن هذا السؤال لم تكن له إجابة. «لا أدري. ربما لم يكن ينبغي أن أخبرك. أوه، هيلين، حينما عثروا عليها حاولت أن تركض. حاولت أن «تركض».»
الهروب الذي يكدر الجميع. حتى وراء وجه خالتي المألوف الناعم، توجد امرأة أخرى مسنة وأكثر بدائية، يمكن أن ترتعب في مكان لم يمسه إيمانها قط.
بدأت تطوي الملابس وتضعها ثانية في الصندوق. وقالت: «ثبتوا لوحا بالمسامير فوق فراشها. لقد رأيته. لا يمكنك أن تلومي الممرضات. إنهن لا يستطعن مراقبة الجميع. ليس لديهن وقت لذلك.
قلت لمادي عقب الجنازة: «مادي، أتمنى ألا يحدث لك مثل هذا أبدا.» لم أستطع منع نفسي، فكان هذا ما قلته.» جلست هي الأخرى على الفراش الآن، وراحت تطوي الملابس وتعيدها إلى الصندوق، وهي تبذل جهدا كي تعيد صوتها إلى نبرته العادية؛ وسرعان ما نجحت في ذلك. فمن ذا الذي يمكن أن يعيش عمرا مديدا كهذا من دون أن يكون قد اكتسب حنكة في اللوعة وتمالك النفس؟
قالت أخيرا: «وجدنا الأمر صعبا. أنا ولو وجدنا أن هذا الأمر كان صعبا.»
أهذه آخر وظيفة يمكن أن تؤديها امرأة عجوز، بعد صنع سجاد الخرق وإعطائنا ورقات الخمسة دولارات؛ أن تطمئن إلى أن هواجس العذاب التي انتابتنا موجودة معنا، لم يفلت منها أحد؟
كانت تخشى مادي؛ ومن خلال هذا الخوف نبذتها للأبد. فكرت فيما كانت مادي قد قالته: لا يفكر الجميع بالطريقة نفسها. •••
حينما عدت إلى البيت كانت مادي في المطبخ الخلفي تعد سلاطة، وكانت مستطيلات من ضوء الشمس ساطعة فوق مشمع الأرضية الخشن. كانت مادي قد خلعت حذاءها ذا الكعب العالي، ووقفت هناك حافية القدمين. المطبخ الخلفي عبارة عن غرفة كبيرة لطيفة غير مرتبة تطل، من وراء الموقد ومناشف تجفيف الأطباق، على الفناء الخلفي المنحدر، ومركز إنعاش القلب والرئتين، والنهر السبخي اللامع الذي يكاد يتحلق حول مدينة جوبيلي. طفلاي اللذان كانا قد شعرا بشيء من الكبت في البيت الآخر بدآ على الفور يلعبان تحت الطاولة.
قالت مادي: «أين كنت؟» «لا عليك. كنت أزور الخالتين.» «كيف حالهما؟» «بخير. لا شيء يقهرهما.» «حقا؟ نعم، أظن أنهما كذلك. لم أرهما منذ فترة. في الواقع لم أعد أرهما كثيرا.»
قلت: «حقا.» وعلمت مادي حينئذ ما أخبرتاني به. «كانتا قد بدأتا تضغطان على أعصابي قليلا، بعد الجنازة. فريد وفر لي هذه الوظيفة وكل شيء وكنت مشغولة للغاية ...» ثم نظرت إلي، تنتظر في صبر ما سأقول، وعلى وجهها ابتسامة تشي بشيء من الاستهزاء.
قلت في رفق: «لا تشعري بالذنب مادي.» طوال هذا الوقت كان الطفلان يركضان جيئة وذهابا ويتصايحان بين أرجلنا .
قالت: «لا أشعر بالذنب. من أين أتيت بهذا؟ أنا لا أشعر بالذنب.» وذهبت لتشغل المذياع، وهي تتكلم وظهرها إلي. «سيتناول فريد الطعام معنا ثانية لأنه وحيد. لقد أحضرت بعض توت العليق للتحلية بعد الطعام. موسم التوت هذا العام انتهى تقريبا. هل تبدو لك الحبات جيدة؟»
قلت: «جيدة تماما. هل تريدين مني أن أعدها؟»
قالت: «لا بأس. سأذهب لأحضر السلطانية.»
دخلت حجرة الطعام وعادت حاملة سلطانية زجاجية كبيرة للتوت.
قالت: «لم أستطع التحمل. أردت حياتي.»
كانت تقف على الدرجة الصغيرة الموجودة بين المطبخ وحجرة الطعام، وفجأة انزلقت منها السلطانية، إما لأن يدها بدأت ترتجف أو لأنها لم تكن قد أمسكتها من البداية على النحو الصحيح؛ كانت السلطانية قديمة وفاخرة وثقيلة للغاية. انزلقت من يديها وحاولت أن تمسك بها لكنها تهشمت على الأرض.
بدأت مادي تضحك. وقالت: «أوه، يا للجحيم! أوه، اللعنة، أوه هيل ... ين» مستخدمة واحدة من عبارات اليأس الحمقاء القديمة التي كنا نستخدمها. «انظري ماذا فعلت الآن. وأنا حافية القدمين أيضا. ائتيني بمقشة.» «استردي حياتك يا مادي. اقتنصيها.»
قالت مادي: «نعم، سأفعل. سأفعل.» «ارحلي. لا تمكثي هنا.» «حاضر، سأفعل.»
ثم انحنت وراحت تلتقط جذاذات الزجاج المكسر، ووقف طفلاي إلى الخلف يرقبانها في خشية بينما كانت هي تضحك وتقول: «لم أخسر شيئا. لدي رف كامل مليء بالسلطانيات الزجاجية. لدي من السلطانيات الزجاجية ما يكفيني لبقية عمري. أوه، لا تقفي هناك تنظرين إلي، اذهبي وأتيني بمقشة!» فذهبت إلى المطبخ أبحث في أنحائه عن مقشة وقد بدا أنني نسيت مكان وضعها. وقالت مادي: «لكن لم لا أستطيع يا هيلين؟ لماذا لا أستطيع؟»
رقصة الظلال السعيدة
الآنسة مارسيللا ستقيم حفلة أخرى. (وهي لا تدعوها «عزفا»، إما من باب الالتزام الموسيقي أو لعشقها الجارف للاحتفال.) لكن أمي ليست مبتكرة أو مقنعة في الكذب، والأعذار التي تخطر لها واهية دون شك؛ فهي قد تقول أعذارا من عينة: سيحضر عمال الطلاء، أو أصدقاء من أوتاوا، أو كاري المسكينة ستستأصل لوزتيها. وفي نهاية المطاف، لا يسعها إلا أن تقول: أوه، ألن يسبب كل هذا الكثير من المشكلات، الآن؟ و«الآن» هذه تحمل عدة تفسيرات مزعجة، ولك أنت أن تختار؛ الآن وقد انتقلت الآنسة مارسيللا من الكوخ المبني بالقرميد والخشب في شارع بانك، حيث أقيمت الحفلات الثلاث الأخيرة في حيز ضيق، إلى مكان أصغر - لو كان وصفها له صحيحا - في شارع بالا. (شارع «بالا»، أين يقع هذا؟) أو، الآن وقد أصبحت الأخت الكبرى للآنسة مارسيللا طريحة الفراش، عقب إصابتها بسكتة دماغية؛ الآن وقد صارت الآنسة مارسيللا نفسها - علينا أن نواجه هذه الأمور، كما تقول أمي - مسنة «للغاية».
تتساءل الآنسة مارسيللا في دهشة: «الآن؟» وهي تتظاهر بالتحير، أو ربما هذا شعورها حيال هذا الأمر. فهي تسأل كيف يمكن أن تشكل حفلتها لشهر يونيو كثيرا من التعب، في أي زمان، وأي مكان؟ إن هذه هي التسلية الوحيدة التي ما زالت تقدمها (وبحسب معلومات أمي، هذه هي التسلية الوحيدة التي كانت تقدمها على الإطلاق، لكن صوت الآنسة مارسيللا المسن الناعم، الثابت العزم، الفياض الود، يمنح روحا لحفلات الشاي، وحفلات الرقص الخاصة، وفي المنازل، وولائم عشاء العائلات الضخمة العدد). وإذا حدث واضطرت لعدم إقامتها فقد تصاب بخيبة الأمل بالقدر نفسه الذي يصيب الأطفال. تقول أمي لنفسها ما هو أكثر من ذلك، لكنها بالطبع لا يمكن أن تعلنه على الملأ؛ فهي تعرض بوجهها عن الهاتف بتلك النظرة الممتعضة - وكأنها رأت شيئا متسخا لم تتمكن من تنظيفه - التي تمثل تعبيرها الخاص عن الشفقة، فتعدها بالحضور. وقد تخطر لها قصص واهية للتملص من الذهاب خلال الأسبوعين التاليين، لكنها تعلم أنها ستذهب.
تتصل بمارج فرنش، وهي مثلها من تلميذات الآنسة مارسيللا القديمات، والتي أرسلت ولديها التوءمين لتلقي الدروس لديها، فتتعاطفان لوهلة وتتواعدان على الذهاب سويا كي تؤازر إحداهما الأخرى. وتتذكران السنة قبل الماضية حينما كان المطر يهطل وكانت القاعة الضيقة مليئة بمعاطف المطر، مكومة فوق بعضها لأنه لم يكن ثمة متسع لتعليقها؛ وكانت على الأرضية الداكنة برك صغيرة كونتها قطرات الماء التي كانت تتقاطر من المظلات. تكسرت فساتين البنات بسبب اضطرارهن للتكدس، ولم تكن نوافذ الغرفة تفتح. والعام الماضي أصيب أحد الأطفال بالرعاف. «بالطبع لم تكن هذه غلطة الآنسة مارسيللا.»
تقهقهان في يأس. «لا، لكن مثل هذه الأمور لم تكن تحدث من قبل.»
وهذا صحيح، هذا هو الأمر برمته. ثمة شعور لا يمكن التعبير عنه بالكلمات حيال الحفلات التي تقيمها الآنسة مارسيللا؛ فالأمور تزداد خروجا عن السيطرة، وقد يحدث أي شيء. بل إن المرء في لحظة ما - وهو مستقل سيارته إلى حفلة كهذه - يراوده سؤال مثل: هل سيتواجد أي شخص غيري هنا؟ فأحد أكثر الأمور إثارة للقلق بشأن الحفلتين أو الثلاث الأخيرة كان يتمثل في التناقص المستمر في أعداد مرتادي هذه الحفلات؛ أي التلاميذ القدامى الذين يبدو أن أطفالهم هم التلاميذ الجدد الوحيدون الذين تنالهم الآنسة مارسيللا. ويكشف حلول شهر يونيو من كل عام عددا جديدا وكبيرا دون شك من المتخلفين عن الحضور. فابنة ماري لومبر لم تعد تأخذ دروسا لدى الآنسة مارسيللا، وكذلك ابنة جون كريمبل. ماذا يعني هذا؟ هكذا تتساءل أمي ومارج فرنش؛ وهما المرأتان اللتان انتقلتا إلى ضواحي المدينة واعتراهما في بعض الأحيان شعور بأنهما تخلفتا عما يحدث؛ لدرجة أن قدرة كل منهما على تمييز الصواب صارت مشوشة. إن دروس البيانو الآن لم تعد ذات أهمية كبرى مثلما كانت في السابق، والجميع يعرف ذلك. بل يعتقد أن الرقص أكثر نفعا لتطور الطفل تطورا كاملا؛ والأطفال - البنات منهم على الأقل - لا يمانعون في تعلمه قدر ممانعتهم في تعلم دروس البيانو. لكن كيف لك أن توضح ذلك للآنسة مارسيللا، التي تقول: «كل الأطفال بحاجة للموسيقى. كل الأطفال يحبون الموسيقى في صميم قلوبهم»؟ من المعتقدات الراسخة لدى الآنسة مارسيللا أنها تستطيع رؤية ما في قلوب الأطفال، وأنها تجد فيها كنزا من النوايا الطيبة والحب الفطري لكل ما هو خير. إن الخداع الذي تمارسه عاطفيتها، بوصفها عانسا، على حكمها السليم، خيالي ومبالغ فيه، فهي تتحدث عن قلوب الأطفال كما لو كانوا من القديسين؛ وأمام هذا لا يدري أي أب أو أم ما يقول.
في الأيام الخوالي، حينما كانت أختي وينفريد تأخذ دروسا في البيانو، كان المنزل يقع في حي روسدل، حيث كانت تقام الحفلة دائما. منزل ضيق، مبني بالقرميد باللونين الأسود والتوتي، ذو شرفات زخرفية صغيرة كئيبة المنظر، تبرز في تقوس من نوافذ الطابق الثاني، من دون أبراج في أي جزء منه، لكن له طابعا مبرجا بعض الشيء؛ منزل معتم، مبهرج، سيتفنن الشعراء في وصف قبحه؛ إنه منزل العائلة. وفي روسدل لم تكن الحفلة السنوية تجري على غير ما يرام. كانت دائما ما تسبق تقديم الشطائر فسحة قصيرة مثيرة للحرج؛ لأن المرأة التي كانت قائمة لديهم على إعدادها في المطبخ لم تكن معتادة على الحفلات، وكانت بطيئة إلى حد ما، لكن عندما تظهر الشطائر كانت دائما ما تكون لذيذة للغاية، وتحتوي أشياء صحية ومألوفة مثل: الدجاج ولفائف الهليون؛ طعام دور حضانات لكنه معد جيدا. وكان العزف على البيانو، كالعادة، عصبيا ومتقطعا أو نكدا وكئيبا، يصاحبه بث شعور بالمفاجأة والإثارة المصاحبتين لكارثة مثيرة. من المفهوم أن النظرة المثالية التي كانت الآنسة مارسيللا ترى بها الأطفال، ورقتها وسذاجتها في هذا الصدد، كل هذا جعلها تكاد تكون مدرسة عديمة الجدوى؛ فهي لم تكن تستطيع أن تنتقد أي طفل إلا بأكثر الطرق رقة واعتذارا، أما مديحها لأحدهم فكان غير حقيقي على نحو يتعذر تبريره، فكان التعامل معها يتطلب أن يتمتع التلميذ بجد وحرص استثنائيين كي يخرج من تحت يديها يعزف بأداء مشرف.
لكن في المجمل، كانت المسألة في تلك الأيام تتسم بالإحكام، كان لها نسق تسير عليه، وطابع خاص لا يعكر صفوه أي شيء والذي عفى عليه الزمان. كان كل شيء يجري على النحو المتوقع؛ فكانت ميس مارسيللا بنفسها تنتظر في رواق المدخل ذي الأرضية المبلطة والرائحة المكتومة التي تشبه رائحة غرف تخزين الأردية الكهنوتية في الكنيسة، واضعة مساحيقها، ومصففة شعرها في تسريحة عتيقة لا تتخذها إلا لهذه المناسبة فحسب، ومرتدية فستانا يصل للأرض، مرقطا بلطخات خوخية ووردية ربما أخذت من قماش تنجيد قديم؛ كانت بهيأتها هذه لا تدهش أحدا سوى أصغر الأطفال. لم يكن الظل الذي يقبع خلفها لآنسة مارسيللا أخرى - تزيد عنها قليلا في الحجم والسن، وتفوقها كآبة بعض الشيء، كان وجودها يغدو منسيا بين يونيو من كل عام إلى يونيو الذي يليه - ظلا كريها، ولو أنه كان - ولا شك - يمثل حقيقة دامغة بأن من المستحسن ألا يحوي العالم وجها آخر بهذا الشكل سوى هذين الوجهين فقط، كلاهما طويل بلون الحصى، يوحي بالطيبة والقبح في الوقت نفسه، ذو أنف ضخم، وعينين حمراوين خرزيتين حانيتين وضعيفتي البصر. لا بد أن هذا القبح صار في نهاية المطاف من قبيل حسن الحظ بالنسبة لهما، حماية لهما من أن تترك صروف الحياة أثرها عليهما بطرق عديدة، و«مستحيلة»، فقد كانتا تبدوان مرحتين وطفوليتين كأنهما منيعتان أمام الهموم؛ بدتا عديمتي الجنس، مخلوقتين بريتين ولطيفتين في نفس الوقت، غريبتين لكنهما أليفتان، تعيشان في منزلهما الواقع في روسدل بعيدا عن تعقيدات العصر.
في الحجرة التي تجلس بها الأمهات، على الأرائك الصلبة وبعضهن على الكراسي التي تطوى، لسماع الأطفال وهم يعزفون مقطوعات مثل «أغنية الغجر» و«الحداد الطروب» و«المسيرة التركية»، ثمة صورة للملكة ماري، ملكة اسكتلندا، مرتدية ثوبا مخمليا وسترا حريريا، أمام «قلعة هوليرود». كانت توجد أيضا صور ضبابية بنية اللون لمعارك تاريخية، ومجموعة كتب «كلاسيكيات هارفرد»، وأحصنة حديدية لسند حطب المدفأة، وتمثال برونزي للحصان المجنح «بيجاسوس». لم تكن أي من الأمهات تدخن، ولم تكن هناك منافض لرماد السجائر. كانت هذه هي نفس الغرفة، هي نفسها، التي كن يعزفن فيها حينما كن صغيرات؛ هذه الغرفة الكئيبة الموحشة الطراز (كانت الباقة المنسقة من زهور الفاوانيا والاسبيريا المتساقطة منها البتلات فوق البيانو هي لمسة الآنسة مارسيللا الشخصية والخالية من البهجة) كانت لا تبعث على الراحة لكنها في الوقت نفسه تبعث على الطمأنينة. هنا وجدن أنفسهن - عاما تلو الآخر - مجموعة من النساء الشابات المشغولات اللائي قدن سياراتهن على مضض عبر شوارع روسدل المهملة، وظللن يتذمرن لأسبوع قبل الحفلة بسبب الوقت الذي سيضيع، والجلبة التي ستصحب تنسيق ملابس الصغار، وفوق هذا كله، الملل الذي سيلاقينه، لكنهن اجتمعن معا بدافع من الولاء الزائف نوعا ما، لا للآنسة مارسيللا نفسها بقدر ما هو لطقوس طفولتهن، لنمط حياة أكثر انضباطا كان يتفكك حتى في ذلك الوقت لكنه ظل باقيا، باقيا على نحو غير مفهوم، في غرفة معيشة الآنسة مارسيللا. أخذت البنات الصغيرات في فساتينهن ذات التنانير اليابسة كالأجراس يتحركن أمام الجدران الداكنة التي عليها أرفف الكتب، وبداخلهن إدراك طبيعي لقواعد هذا الطقس الاحتفالي، بينما تطل من وجوه أمهاتهن نظرة ضجرة مزعجة توحي بالإذعان، وشيء من الحنين الأحمق والمتصنع نوعا ما الذي يعينهن على اجتياز أي طقس عائلي طويل المدة. كن يتبادلن ابتسامات تبدي أنهن لا تعدمن لياقة السلوك، لكنها تعبر عن دهشة هزلية مألوفة من تكرار الأمور على نفس النحو، بما في ذلك حتى: مجموعة المقطوعات المختارة التي ستعزف على البيانو، ونوعية الحشو داخل الشطائر؛ وهكذا، فإنهن يدركن ما تعيشه الآنسة مارسيللا وأختها وما تنطوي عليه حياتهما من ثبات غير معقول وتكرار غير واقعي بالمرة.
بعد عزف المقطوعات على البيانو، يأتي وقت طقس قصير دائما ما يشيع شيئا من الحرج. فقبل أن يسمح للأطفال بأن يفروا إلى الحديقة - الضيقة جدا، حديقة منزل ببلدة، لكنها تظل حديقة، لها سور شجري وظلال ولها حد من زهور السوسن الصفراء - توضع طاولة طويلة مغطاة بورق الكوريشة بلوني هدايا الأطفال حديثي الولادة، الوردي والسماوي، وتبدأ المرأة المسئولة عن المطبخ في رص أطباق الشطائر، والآيس كريم، وبعض مشروبات معلبة عديمة الطعم أنيقة التعليب؛ كان الأطفال يضطرون، واحدا واحدا، إلى قبول هدايا نهاية العام، الملفوفة كلها والمربوطة بشرائط، من الآنسة مارسيللا. لم تكن هذه الهدية تحرك أي حماسة لدى الأطفال عدا الجديد الساذج منهم الذي لا دراية له بما تحوي هذه الهدايا. كانت عادة ما تحوي كتبا، وكان السؤال الذي يطرأ على الذهن هو: أين عثرت على هذه الكتب؟ كانت تأتي بها من حصيلة الكتب العتيقة التي توجد في مكتبات مدارس الأحد، وفي عليات متاجر الأشياء المستعملة وأقبيتها، لكنها كانت جميعها متيبسة التغليف، لم تقرأ قط من قبل، جديدة كليا، ذات عناوين من نوعية: «البحيرات والأنهار الشمالية»، «معرفة الطيور»، «حكايات أخرى من جراي آول»، «أصدقاء الإرسالية الصغار». كانت أيضا تقدم صورا مثل: «كيوبيد نائما ومستيقظا»، «بعد الحمام»، «حراس الأمن الصغار»، معظمها كان يمثل ذلك العري الطفولي اللطيف الذي كان اهتمامنا المتشدد بالاحتشام واللياقة يجعلنا نجده في منتهى السخف وإثارة الاشمئزاز. حتى اللعب الموضوعة داخل صناديق صغيرة كان يتبين أنها مملة ولا يمكن اللعب بها؛ حافلة بالقواعد المعقدة وتتيح للجميع الفوز.
لم يكن الحرج الذي تستشعره الأمهات في تلك اللحظة ناجما عن نوعية الهدايا بقدر ما كان ناجما عن معرفتهن برقة حال الآنسة مارسيللا المادية وتشككهن حيال قدرتها على تحمل كلفة هذه الهدايا. وتذكر أن أجرتها لم تشهد زيادة خلال عشر سنوات إلا مرة واحدة فقط لم تحدث فارقا (رغم ذلك، سحبت اثنتان أو ثلاث من الأمهات أبناءهن من دروسها). كانت الأمهات دائما ما يستنتجن أنها لا بد وأن لها مصادر دخل أخرى. كان ذلك واضحا، وإلا لما عاشت في منزل كهذا. ثم إن أختها كانت مدرسة، أو لم تعد تدرس، بل يعتقد أنها تقاعدت لكنها تعطي دروسا خاصة في اللغتين الفرنسية والألمانية. لا بد أن لديهما ما يكفيهما هما الاثنتين. فامرأة مثل الآنسة مارسيللا وأختها ستكون احتياجاتهما بسيطة بالضرورة ولن تحتاجا كثيرا من النقود للإنفاق على معيشتهما.
لكن بعد زوال منزل روسدل، وانتقالهما إلى الكوخ المبني بالقرميد والخشب في شارع بانك، لم تعد تدور هذه الأحاديث حول مصادر الآنسة مارسيللا المادية، وصار هذا الجانب من حياتها يشكل موضوعا جارحا، من الفظاظة وعدم التهذب التحدث بشأنه. •••
قالت أمي: «سأموت إن أمطرت، سأموت من الإحباط إن أمطرت في هذه المناسبة.» لكنها لا تمطر يوم الحفلة، بل إن الطقس يكون حارا للغاية. وجدنا اليوم صيفيا حارا مغبرا ونحن نسير بالسيارة عبر شوارع المدينة وضللنا الطريق بحثا عن شارع بالا.
وحينما عثرنا عليه وجدناه أفضل مما صورت لنا توقعاتنا. هذا في الأغلب لأنه كان يحوي صفا من الشجر، بينما كانت الشوارع الأخرى التي سرنا فيها بالسيارة، بجانب سور السكك الحديدية، جرداء عديمة الظلال وقذرة. البيوت هنا من النوع المقسوم إلى قسمين، ومزودة بحاجز خشبي فاصل ذي ميل يقسم المدخل الأمامي؛ وفيها درجتان خشبيتان وفناء ترابي. والظاهر أن الآنسة مارسيللا تعيش في أحد أنصاف تلك البيوت. كلها مبنية بالقرميد الأحمر، وأبوابها ونوافذها الأمامية متناسقة الشكل، ومداخلها مطلية بألوان: القشدي والرمادي والأخضر الزيتوني والأصفر. تبدو أنيقة ومتناغمة. الجزء الأمامي للمنزل المجاور لمنزل الآنسة مارسيللا تحول إلى متجر صغير، تعلوه لافته كتب عليها «بقالة وحلويات».
الباب مفتوح، والآنسة مارسيللا محشورة بين الباب وعلاقة المعاطف والسلالم؛ لا متسع تقريبا للمرور من جانبها إلى غرفة المعيشة، وسيكون من المستحيل - في ظل الوضع الحالي - على أي شخص الخروج من غرفة المعيشة إلى الدور العلوي. كانت الآنسة مارسيللا قد وضعت مساحيق التجميل، وكان شعرها مصففا في التسريحة المعتادة لهذه المناسبة، وارتدت فستانها المقصب، الذي يصعب ألا يدوس عليه أحد بقدمه. كانت تبدو في هذا الضوء السابغ كإحدى شخصيات الحفلات التنكرية، كمحظية مهتاجة فاقعة البهرجة صنعتها مخيلة متزمتة بغيضة. لكن الاهتياج لا يتجسد إلا في زينتها المبهرجة فحسب؛ لأنك إذا أمعنت النظر في عينيها فستجدهما كما عهدتهما دائما؛ محمرتي الحواف، مرحتين، خاليتين من الهموم. قبلتنا أنا وأمي - وحيتني أنا، كالمعتاد، كما لو كنت في الخامسة من عمري - ومررنا إلى الداخل. بدا لي أن الآنسة مارسيللا تنظر إلى ما وراءنا وهي تقبلنا، متطلعة إلى الشارع تبحث بعينيها عمن لم يأتوا بعد.
في البيت غرفة طعام وغرفة معيشة، بينهما بابان من خشب البلوط مفتوحان، وهما غرفتان صغيرتان. على الحائط صورة عملاقة للملكة ماري ملكة اسكتلندا. لا توجد مدفأة، ومن ثم لا وجود للأحصنة الحديدية التي يستند إليها حطب المدفأة، لكن البيانو موجود، علاوة على باقة فاوانيا واسبيريا يعلم الرب وحده من أين قطفت. ولأن غرفة المعيشة ضيقة، فهي تبدو مزدحمة، لكن عدد من فيها لم يبلغ العشرة، بمن فيهم الأطفال. راحت أمي تتحدث إلى الموجودين وتبتسم لهم ثم جلست. قالت لي: مارج فرنش لم تأت بعد، ترى هل ضلت الطريق هي الأخرى؟
لا نعرف المرأة الجالسة إلى جانبنا. هي متوسطة العمر وترتدي فستانا من التافتا المتموج اللون عليه مشبك من حجر الراين، تفوح منه رائحة مواد التنظيف. قدمت نفسها لنا بصفتها السيدة كليج، جارة الآنسة مارسيللا في النصف الآخر من المنزل. كانت الآنسة مارسيللا قد سألتها إن كانت تحب سماع عزف الأطفال، فرأت أن هذا سيكون ممتعا، فهي مغرمة بالموسيقى على اختلاف أنواعها.
سألت أمي - التي بدت مسرورة وإن كانت منزعجة بعض الشيء - عن أخت الآنسة مارسيللا: هل هي في الطابق العلوي؟ «أوه، نعم إنها بالأعلى. المسكينة، صارت امرأة أخرى.»
قالت أمي: هذا مؤسف للغاية. «نعم، إنه لأمر مخجل. أعطيتها شيئا لتنام فترة ما بعد الظهيرة. لقد فقدت قدرتها على الكلام، كما فقدت قدرتها على التحكم بشكل عام.» كان صوت المرأة وهو يتخافت على نحو بالغ ينذر أمي بأنها ستسترسل في قول المزيد من التفاصيل الخاصة، فكررت ثانية: هذا مؤسف للغاية. «آتي هنا لأعتني بها بينما تذهب الأخرى لتعطي دروسها.» «هذا كرم منك. لا بد أنها تقدر لك هذا.» «حسنا، أشعر بنوع من الرثاء لامرأتين مسنتين مثلهما. إنهما كالأطفال، الاثنتان.»
ردت أمي بتمتمة ما دون أن تنظر للسيدة كليج، لوجهها المعافى الذي تعلوه حمرة القرميد أو للفرج الهائلة - كما أراها - الموجودة بين أسنانها. كانت تحدق إلى جانبها نحو غرفة الطعام بقدر من الوجل تحكمت به جيدا.
رأت هناك طاولة مفروشة، معدة تماما لمأدبة حفلة، لا ينقصها شيء. أطباق الشطائر مرصوصة، ربما منذ عدة ساعات؛ لأنك تستطيع أن تلاحظ أن حواف الشطائر العلوية المكشوفة للهواء قد اتخذت التواء خفيفا. الذباب يطن فوق الطاولة ويحط فوق الشطائر ويزحف دون عائق داخل أطباق الكعك المجلوب من المخبز والمغطى بطبقة من السكر. والسلطانية الزجاجية، قابعة كالعادة في وسط الطاولة، مليئة بشراب البنش البنفسجي، الواضح أنه آسن وخال من الثلج .
همست السيدة كليج: «حاولت أن أنصحها بألا تضع كل شيء على الطاولة قبل الحفلة بوقت طويل.» قالت ذلك وهي تبتسم في حبور كأنها تتحدث عن نزوات وأخطاء طفلة جامحة. وواصلت: «تعلمين، لقد استيقظت في الخامسة صباحا كي تعد الشطائر. لا أدري كيف سيكون طعمها الآن. كانت تخشى ألا يسعفها الوقت لتجهيز كل شيء، تخشى أن تنسى أي شيء. إنهما تكرهان النسيان.»
قالت أمي: «كان ينبغي ألا يترك الطعام خارجا في الطقس الحار.» «أوه، حسنا، لا أعتقد أن الطعام سيسممنا هذه المرة. كنت أفكر فقط كم من المخزي أن تقدم الشطائر يابسة. وحينما أضافت شراب الزنجبيل الغازي إلى شراب «البنش» عند الظهيرة لم يسعني أن أمنع نفسي من الضحك. يا له من تبديد!»
استدارت أمي وعدلت تنورتها المصنوعة من قماش الفوال، وكأنما أدركت فجأة قبح، بل شناعة، أن تتحدث عن ترتيبات مضيفتها بهذه الطريقة وهي جالسة في غرفة معيشتها. قالت لي بصوت جامد: «مارج فرنش ليست موجودة. لقد قالت إنها آتية.»
قلت في قرف: «أنا أكبر بنت هنا.» «صه! هذا يعني أنك يمكن أن تكوني آخر من تعزف. حسنا، سيكون برنامج الحفلة هذا العام طويلا للغاية، أليس كذلك؟»
مالت بيننا السيدة كليج، فانطلقت من بين ثدييها هبوة دافئة من ريح عطنة، وقالت: «سأذهب لأرى إن كانت قد رفعت درجة تبريد البراد بما يكفي لتجميد الآيس كريم. ستنزعج كثيرا لو ذاب كله.»
سارت أمي عبر الغرفة وراحت تتحدث إلى امرأة تعرفها. أكاد أجزم أنها تقول لها إن مارج فرنش «قالت إنها آتية» ولم تأت. بدأت تظهر على وجوه النساء - اللائي وضعن عليها الزينة قبلها بوقت طويل - آثار الحر وحالة عامة من التململ. رحن يتساءلن فيما بينهن: متى ستبدأ الحفلة؟ سريعا ولا شك، لا سيما وأن أحدا لم يحضر في ربع الساعة الأخيرة. كن يقلن: كم من الخسة ألا يأتي الباقون، مع أن هذا المكان - في هذا الحر الشنيع بدرجة استثنائية - سيكون أسوأ مكان في المدينة بلا شك. فيتفهمن إلى حد ما سبب عدم مجيء من لم يحضروا. نظرت حولي في الغرفة وحسبت الأعمار فوجدت أن لا أحد قريب من سني بسنة أكثر أو أقل.
بدأ الصغار العزف. وكانت الآنسة مارسيللا والسيدة كليج تصفقان في حماس، بينما تصفق الأمهات تصفيقة أو اثنتين بعد كل أداء، يغمرهن شعور بقرب الانفراج. بدت أمي عاجزة، رغم ما تبذله من جهد جهيد، عن إبعاد عينيها عن الطاولة في غرفة الطعام وعن الطلعات الجسورة للذباب المغير. أخيرا، نجحت في تثبيت عينيها في نظرة بعيدة حالمة على مكان ما أعلى سلطانية شراب البنش، مكنتها من أن تبقي رأسها ملتفتة نحو هذا الاتجاه دون أن ينفضح ما تحس به بأي طريقة معبرة. الآنسة مارسيللا أيضا كانت تواجه مشكلة في إبقاء عينيها على الأطفال العازفين، وهي تنظر من آن لآخر نحو الباب. هل ما زالت تتوقع إلى الآن ظهور أحد ممن تغيبوا عن الحضور؟ هناك أكثر بكثير من نصف دستة هدايا في الصندوق المحتوم الموجود إلى جانب البيانو، ملفوفة كلها بورق أبيض ومربوطة بشريط فضي، لم يكن الشريط من النوع الأصلي، بل من النوع الرخيص الذي ينسل ويتهرأ.
بينما أعزف على البيانو موسيقى رقصة «بيرنيس»، حدث الحدث الاستثنائي ووصل من لم ينتظر حضورهم أحد عدا الآنسة مارسيللا. لأول وهلة، بدا وكأن في الأمر خطأ ما؛ فقد لمحت بطرف عيني موكبا كاملا من الأطفال، ثمانية أو عشرة، بصحبة امرأة صهباء مرتدية ما يشبه اللباس الرسمي، وهم يخطون جميعا من العتبة الأمامية للبيت. بدوا كأنهم مجموعة أطفال من إحدى المدارس الخاصة في رحلة ما (كانت ملابسهم متماثلة الشكل واللون) لكنهم دخلوا بقدر كبير من التدافع والفوضى بالنسبة لمجموعة مدرسية يفترض أن تكون منظمة. أو هكذا بدا لي؛ لم أكن أستطيع أن أنظر جيدا. لا بد أنهم ضلوا ودخلوا هنا بطريق الخطأ، ربما كانوا في طريقهم للطبيب ليعطيهم حقنا، أو إلى أحد الفصول الدراسية الكنسية التي تقيمها الكنيسة في الإجازات؟ لا! فقد صدر من الآنسة مارسيللا همس يحمل أسفا مسرورا، وذهبت لاستقبالهم. من خلفي ، كنت أسمع صوت أشخاص يتجمعون متقاربين، وصوت فتح الكراسي القابلة للطي، وقهقهة غامضة غريبة لا أدري لها سببا.
وفوق كل هذا الاضطراب الذي صاحب هذا الوصول - أو بالأحرى وراءه - خيم صمت مهيب على نحو غامض. أمر ما حدث، أمر غير متوقع، ربما أمر كارثي؛ يستطيع المرء أن يدرك أمورا كهذه وإن حدثت وراء ظهره. واصلت العزف. ملأت الصمت المبدئي الصارم بمحاولاتي الخرقاء بالغة العناد لعزف موسيقى هاندل. وحينما انتهيت وقمت من أمام البيانو كدت أتعثر فوق أحد الأطفال الجالسين على الأرض.
كان أحدهم - صبي في التاسعة - هو التالي من بعدي في العزف على البيانو. أخذت الآنسة مارسيللا بيده وابتسمت له. لم تتشنج يده، ولم تكن حركة رأسها هي مضطربة حرجا بحيث تتنكر لابتسامته. كم هذا غريب، لا سيما أنه ولد، وليس بنتا. التفت برأسه نحوها وهو يجلس، وتحدثت هي إليه مشجعة. لكن انتباهي كان مركزا على صورة ملامحه الجانبية وهو ينظر نحوها: ملامح غليظة ينقصها شيء ما، وعينان صغيرتان ومسحوبتان بدرجة غير طبيعية. نظرت إلى الأطفال الجالسين على الأرض فرأيت نفس الملامح الجانبية مكررة في اثنين أو ثلاثة منهم؛ ورأيت صبيا آخر ذا رأس ضخم وشعر قصير مزغب كشعر حديثي الولادة، وأطفالا آخرين لهم ملامح عادية وغير شاذة، لا يميزها إلا انفتاح طفولي وسكينة. كان الأولاد يرتدون قمصانا بيضاء وسراويل رمادية قصيرة، وكانت البنات يرتدين فساتين قطنية لونها أخضر رمادي ذات أزرار وأحزمة حمراء.
قالت السيدة كليج: «هذا النوع من الأطفال يمتاز في بعض الأحيان بموهبة موسيقية كبيرة.»
همست أمي متسائلة: «من هؤلاء؟» وهي غير مدركة لما يشي به صوتها من ضيق. «إنهم من ذلك الفصل الذي تدرس له الآنسة مارسيللا في مدرسة جرين هيل. مخلوقات صغيرة لطيفة وبعضهم يتمتع بموهبة موسيقية عظيمة، لكن بالطبع ليس كلهم كذلك.»
أومأت أمي برأسها في شرود، ثم نظرت حولها في أرجاء الغرفة فضبطت أعين غيرها من النساء متحفزة، لكن دونما اتخاذ قرار ما. لا شيء يمكن عمله. وهؤلاء الأطفال سيعزفون. عزفهم ليس أسوأ - ليس أسوأ بكثير - من عزفنا، لكنهم يعزفون ببطء شديد، ومن ثم لا مكان يمكن أن ينظر المرء نحوه؛ لأنه من قبيل التهذيب عدم التحديق في هذا النوع من الأطفال، لكن إلى من يمكن أن ينظر المرء أثناء عزف على البيانو إلا إلى العازف نفسه؟ يسود الغرفة جو كأنه جو حلم مرعب لا يستطيع المرء أن يفيق منه. يكاد صوت أمي والأخريات يسمع وهن يحدثن أنفسهن قائلات: «لا، أعلم أن من الخطأ أن أنفر من أطفال كهؤلاء، أنا لا أشعر بالنفور. لكن أحدا لم يخبرني أنني سآتي هنا لأستمع لعزف مجموعة من الأطفال ... الأطفال المعتوهين، فهذا هو الوصف الفعلي لهم ... أي نوع من الحفلات هذه؟» رغم ذلك زاد تصفيقهن، وصار أكثر نشاطا، وكأن لسان حالهم يقول: دعونا على الأقل نتلهى بهذا التصفيق حتى ننتهي من هذا الأمر. لكن لا أمارات تدل على أن البرنامج سينتهي.
تذكر الآنسة مارسيللا اسم كل طفل كما لو كان سببا للاحتفال. الآن تذكر اسم دولوريس بويل! فتاة في سني، طويلة الساقين، نحيفة إلى حد ما ولها نظرة حزينة وشعر أشقر مائل للبياض، ها هي تقوم من تكومها على الأرض. جلست إلى البيانو وبعد أن التفتت لفتة خفيفة وأزاحت شعرها الطويل إلى خلف أذنيها، بدأت تعزف.
اعتدنا أن ننتبه للعزف، في حفلات الآنسة مارسيللا، لكن هذا لا يعني أن أحدا من الموجودين كان يتوقع أن يستمع إلى موسيقى حقيقية. لكن هذه المرة كانت الموسيقى تفرض نفسها بسلاسة، دون أن تبذل جهدا كبيرا في شحذ الاهتمام، لدرجة أننا لم نندهش. لم يكن ما تعزفه هذه البنت مألوفا. كان شيئا رقيقا ولطيفا ومرحا، يحمل في طياته الحرية الموجودة في سعادة ليست مشبوبة العاطفة. جل ما تفعله هذه البنت - وهو الشيء الذي لم يكن المرء يتوقع أن أحدا سيفعله - هو أنها كانت تعزف على نحو يجعل هذه الأشياء محسوسة. كل هذا أحسسناه، حتى في غرفة معيشة الآنسة مارسيللا في شارع بالا ذات عصر سخيف. كل الأطفال كانوا هادئين، أطفال مدرسة جرين هيل والآخرون أيضا. وكانت الأمهات جالسات، تستحوذ على وجوههن نظرة احتجاج، وقلق أشد من ذي قبل، وكأن شيئا ما ذكرهن بشيء كن قد نسينه. كانت جلسة الفتاة الشقراء الشعر إلى البيانو تفتقر إلى الرشاقة، رأسها متدل للأسفل، بينما كانت موسيقاها تسبح عبر الباب والنوافذ المفتوحة إلى الشوارع الرمادية الحارة.
جلست الآنسة مارسيللا إلى جانب البيانو وهي تبتسم للكل ابتسامتها المعتادة. لم تكن ابتسامة انتصار أو تواضع. لم تكن تبدو مثل ساحر يرقب وجوه الأشخاص كي يشاهد عليها ما أحدثه أحد العروض المبتكرة من تأثير. لا! لم تكن من هذا النوع؛ لكن يمكن أن تقول إنها، وقد شارفت حياتها على النهاية، ووجدت من تستطيع أن تعلمه - بل من يجب أن تعلمه - العزف على البيانو، فإن من شأنها أن تتوهج إشراقا من أهمية هذا الاكتشاف. لكن يبدو أن عزف البنت بهذا المستوى كان دائما أمرا متوقعا بالنسبة لها، تراه طبيعيا ومرضيا، فالأشخاص الذين يؤمنون بالمعجزات لا يحدثون الكثير من الهرج والجلبة انبهارا برؤيتهم إحداها في الواقع. بل إنها لا يبدو عليها أنها تنظر لهذه البنت نظرة أكثر تعجبا من نظرتها لبقية أطفال مدرسة جرين هيل، الذين يحبونها، أو بقيتنا نحن، الذين لا نحبها. بالنسبة للآنسة مارسيللا، ما من هدية غير متوقعة، وما من احتفال يشكل مفاجأة.
انتهت البنت من العزف. كانت الموسيقى تملأ الغرفة ثم ذهبت، وبطبيعة الحال لم يدر أحد ما ينبغي أن يقول؛ لأنها حالما انتهت تبين واضحا أنها نفس البنت التي كانت قبل العزف، مجرد بنت من مدرسة جرين هيل. إلا أن الموسيقى لم تكن من نسج الخيال. لا مجال للهروب من الحقائق. وهكذا بعد دقائق قليلة بدأ العزف يبدو - برغم براءته - مثل خدعة، خدعة في غاية النجاح والتسلية، بالطبع، لكن ربما - كيف يمكن قول ذلك؟ - ربما ليست «ملائمة» تماما؛ لأن موهبة البنت، التي لا سبيل لإنكارها، عديمة الفائدة رغم كل شيء، في غير محلها، ولا تشكل في حقيقة الأمر شأنا يحب أي شخص أن يتحدث عنه. بالنسبة للآنسة مارسيللا هذا أمر مقبول، أما بالنسبة للأشخاص الآخرين، الذين يعيشون في العالم، فهو ليس كذلك. لكن لا بأس، عليهم أن يقولوا شيئا ما، وهكذا راحوا يشيدون بالموسيقى نفسها: يا لروعتها! يا لجمال المقطوعة! ما اسمها؟
قالت الآنسة مارسيللا: «رقصة الظلال السعيدة» ثم كررتها بالفرنسية، وهو ما لم يضف أي شيء لأي أحد من الحضور. •••
بعد ذلك، ونحن في طريقنا بالسيارة عبر الشوارع الحارة ذات القرميد الأحمر، تاركين المدينة، تاركين وراءنا الآنسة مارسيللا وحفلاتها التي لم تعد محتملة بعد الآن، ولن نحضرها ثانية للأبد، أخذت أتساءل: لماذا كنا عاجزتين عن أن نقول ما كان يفترض بنا أن نقوله: «يا للآنسة مارسيللا المسكينة!»؟ إن رقصة الظلال السعيدة هي التي منعتنا، تلك الرسالة البليغة من ذلك العالم الآخر الذي تحيا فيه الآنسة مارسيللا.
Bilinmeyen sayfa