قالت ماري: «لم أكن أعلم ذلك، كنت أعتقد دوما أن السيد فولرتن وافته المنية.»
قالت السيدة فولرتن: «هو ما زال حيا يرزق مثلي.» واستقامت في جلستها. مرت دجاجة كبيرة من فصيلة بليموث روك فوق درجة السلم الأولى، فنهض ابن ماري الصغير، داني، ليلاحقها بحذر. «لقد انطلق في رحلاته فحسب، فهذا ما يفعله. ربما اتجه شمالا، وربما ذهب إلى الولايات المتحدة، لا أدري، لكنه لم يمت، كنت سأشعر بذلك. وهو ليس عجوزا أيضا، ليس عجوزا مثلي؛ فهو زوجي الثاني، وكان يصغرني سنا، لم أخف هذا الأمر. اشتريت هذا المنزل وربيت أطفالي ومات زوجي الأول قبل أن يظهر السيد فولرتن في حياتي بكثير، ففي إحدى المرات ذهبنا إلى مكتب البريد ووقفنا معا بجانب النافذة، ثم توجهت لأضع خطابا في الصندوق وتركت حقيبتي، وتوجه السيد فولرتن ليلحق بي، فنادته فتاة وقالت: «خذ، لقد نسيت أمك حقيبتها!»»
ابتسمت ماري استجابة لضحكة السيدة فولرتن العالية غير الواثقة. كانت السيدة فولرتن متقدمة في العمر، كما قالت، أكثر مما يمكنك اعتقاده، بشعرها الأسود شديد التموج، وملابسها الرمادية بفعل الاتساخ، ودبابيس الزينة الرخيصة المعلقة بسترتها ذات النسيج المنسول. لكن عينيها كانتا تعكسان ذلك، فكانتا سوداوين كلون البرقوق ولهما بريق جامد خافت، تختفي الأشياء فيهما ولا تتغير أبدا. لم ترتسم الحياة في وجهها إلا في أنفها وفمها اللذين كانا دائمي الحركة والاهتزاز، مما جذب خطوط وجهها العابسة أسفل وجنتيها. عندما كانت تأتي كل يوم جمعة لتحضر طلبيات البيض كان شعرها معقوصا، ومجموعة من الزهور القطنية تجذب طرفي بلوزتها، وشفتاها مطليتين بخط أحمر ثقيل غير منتظم، فما كانت لتظهر أمام جيرانها الجدد بأي مظهر فوضوي لسيدة عجوز حزينة.
قالت: «ظنت أنني أمه، لم آبه بذلك، بل ضحكت بشدة. لكن ما أخبرك به أنه في يوم من أيام الصيف، كان زوجي في إجازة من العمل، فارتقى السلم ليجمع بعض ثمار الكرز من شجرة الكرز الأسود. خرجت لأعلق بعض الملابس لتجفيفها لأجد رجلا لم أره من قبل في حياتي، يأخذ دلو الكرز الذي ناوله زوجي إياه، متصرفا دون قيد أو خجل، جلس لتناول الكرز من الدلو خاصتنا. سألت زوجي عمن يكون ذلك الشخص، فأجابني أنه عابر سبيل. أخبرته أنه إذا كان صديقا له، فبإمكانه المكوث ليتناول العشاء معنا، فقال: عم تتحدثين؟ لم أره من قبل. لذا لم أنبس بكلمة أخرى. اتجه السيد فولرتن وتحدث معه وهو يأكل الكرز الذي كنت أنوي استخدامه في صنع كعكة، لكن ذلك الرجل كان يتحدث مع الجميع، متسولا كان أو أحد مبشري شهود يهوه، أي شخص - لم يكن من الضروري أن يعني ذلك شيئا.»
واصلت حديثها: «بعد نصف ساعة، رحل ذلك الرجل. خرج السيد فولرتن بسترته البنية معتمرا قبعته، وأخبرني أنه سيقابل شخصا ما في وسط المدينة، فسألته: هل ستطيل البقاء؟ فقال: لن أتأخر. لذا خرج على الطريق، ومضى جنوبا إلى حيث اتجه المتسول العجوز - كنا جميعا في الجنبة حينها - شيء ما جعلني أتتبعه بناظري. قلت في نفسي لا بد أنه يشعر بالحر وهو يرتدي ذلك المعطف، وحينها عرفت أنه لن يعود. بيد أنني لم أكن أتوقع ذلك؛ فقد كان يحب المكان هنا، وكان يتحدث عن تربية الشنشيلة في الفناء الخلفي. لن تعرفي أبدا ما يجول بخاطر الرجل حتى وإن كنت تعيشين معه.»
قالت ماري: «هل حدث ذلك منذ زمن بعيد؟» «اثني عشر عاما. أراد أولادي أن أبيع بيتي وأنتقل للعيش في الأحياء السكنية، لكنني رفضت، فأنا أربي الدجاج هنا، وكان لدي عنزة حينذاك، كانت حيواني المدلل. كان لدي أيضا راكون مدلل لفترة من الزمان، اعتدت إطعامه العلك. قلت حسنا، يأتي الأزواج ويرحلون، لكن المكان الذي عشت فيه خمسين عاما شيء آخر. جعلت من الأمر مزحة مع عائلتي. إلى جانب هذا، فكرت أنه إذا عاد السيد فولرتن، فسيأتي إلى هنا، فلا يدري مكانا آخر يذهب إليه. بالطبع لن يعرف أين يعثر علي، فالطريق تغير الآن. لكن دائما ما كانت تراودني فكرة أنه ربما أصيب بفقدان الذاكرة، وربما تعود إليه، فهذا يحدث.
أنا لا أتذمر. أحيانا ما يبدو لي أن الرجل الحكيم سيجد ما يجعله يرحل مثلما سيجد ما يجعله يمكث. لا أنزعج من وقوع التغيرات أيضا، فهذا ساعدني في تجارتي في البيض. لكن مسألة مجالسة الأطفال هذه ... طوال الوقت يطلب مني أحدهم مجالسة الأطفال. أخبرهم أنني أملك منزلي الخاص لأجلس به وأخذت نصيبي من تربية الأطفال.»
نهضت ماري عندما تذكرت حفل عيد الميلاد ونادت على ابنها الصغير. قالت السيدة فولرتن: «فكرت في عرض الكرز الأسود لدي للبيع في الصيف القادم. تعالي وانتقي لك منه، سيكون الصندوق بخمسين سنتا. لم يعد بوسعي تعريض عظامي العجوزة للخطر بارتقاء السلم.»
قالت ماري مبتسمة: «هذا سعر غال جدا، إنه يباع بسعر أرخص من ذلك في المتجر الكبير.» كانت السيدة فولرتن قد كرهت بالفعل المتجر الكبير لأنه خفض سعر البيض. أخرجت ماري آخر سيجارة من العلبة وتركتها معها، وقالت إن لديها علبة أخرى في حقيبتها. كانت السيدة فولرتن تعشق السجائر، لكن ما كانت ستقبل بواحدة إلا إذا قدمت إليها على حين غرة. كانت ماري ترى أن مجالسة الأطفال ستغطي ثمنها. في الوقت نفسه أعجبت ماري إلى حد ما بأن السيدة فولرتن لم تكن لينة العريكة للغاية. عندما خرجت ماري من ذلك المكان، دائما ما كانت تشعر كما لو أنها تمر عبر حواجز. كان المنزل والمنطقة المحيطة يوفران الاكتفاء الذاتي بدرجة كبيرة، فكانا يتألفان من ترتيب معقد يبدو أنه غير قابل للتغيير من أحواض الخضراوات والفاكهة، وأشجار الكرز والتفاح، وحظيرة الدجاج المسيجة، وحديقة التوت والممرات الخشبية، وكومة الحطب، وسقائفه الصغيرة المعتمة المبنية على نحو عشوائي للدجاج أو الأرانب أو العنزة. لا يوجد هنا خطة صريحة أو مباشرة، لا وجود لنظام يتسنى لغريب فهمه، مع ذلك ما كان عشوائيا جعله الزمن نهائيا؛ بات المكان ثابتا، ومنيعا، وجميع ما يتكدس به ضروري، حتى بدا أن أوعية الغسيل والماسحات وزنبركات الأرائك وأكوام مجلات الشرطة العتيقة حتى في الرواق الخلفي، قدر لها أن تبقى هناك.
مضى كل من ماري وداني بالطريق الذي كان يدعى في السابق ويكس رود، إبان شباب السيدة فولرتن، لكنه أصبح الآن على خرائط التقسيم السكني يحمل اسم هيذر درايف. كان اسم التقسيم السكني جاردن بليس، وسميت شوارعه على أسماء الزهور. على كل جانب من جانبي الطريق كانت الأرض غير معبدة، ومصارف المياه ممتلئة على آخرها. وضعت ألواح خشبية فوق المصارف المفتوحة، ووضعت ألواح خشبية بالقرب من أبواب المنازل الجديدة. تنتصب المنازل الجديدة البيضاء والمضيئة بعضها إلى جانب بعض في صفوف طويلة على امتداد الطريق. لطالما رأتها ماري على أنها منازل بيضاء، رغم أنها لم تكن بالطبع بيضاء تماما؛ فقد كانت من الجص ومكسوة بالألواح الخشبية، وكان الجص فقط أبيض اللون، أما الكسوة الخارجية فكانت مطلية بدرجات الأزرق والوردي والأخضر والأصفر، جميعها ألوان حديثة وزاهية. في العام الماضي، في هذا الوقت تحديدا، في مارس، جاءت الجرارات لإزالة الجنبات والأشجار التي نمت مرة أخرى بعد قطعها والأشجار الضخمة من غابة الجبل، بعد برهة وجيزة برزت المنازل بين جلاميد الصخور وجذوع الأشجار الضخمة المقطوعة، وتضاريس الأرض البديعة. كانت المنازل واهية في البداية، هياكل خشبية جديدة تقف في الظلام في أيام الربيع الباردة. لكن بنيت بعد ذلك الأسقف، سوداء وخضراء، زرقاء وحمراء، ثم الجص والكسوة، وركبت النوافذ، وألصقت عليها علامات مكتوب عليها: موري للزجاج، وفرنش للأرضيات الخشبية الصلبة. وتسنت رؤيتها كمنازل حقيقية. توافد الأشخاص الذين سيقطنون بالمنازل يسيرون بتثاقل في الوحل أيام الآحاد. كانت المنازل لأناس مثل ماري وزوجها وطفلهما، لا يملكون الكثير من المال لكن لديهم تطلعات كبيرة، استقرت جاردن بليس، في أذهان الأشخاص الذين يفسرون العناوين، على أنها أقل ترفا من باين هيلز، لكن أكثر جاذبية من ويلنجتون بارك. كانت الحمامات جميلة، بها مرايا من ثلاثة أجزاء، وبلاط خزفي، ولوازم ملونة، وكانت خزانات المطابخ من الماهوجني أو خشب البتولا الفاتح، وكان هناك تركيبات إضاءة نحاسية في المطبخ وفي زوايا تناول الطعام، كما تفصل أحواض نباتات من القرميد - تتوافق مع المدفآت - بين حجرات المعيشة والردهات. والغرف جميعها رحبة وفاتحة اللون، وكانت الأقبية جافة، ظهرت كل هذه المتانة والامتياز في وضوح وفخر في واجهة كل منزل، تلك المنازل المتشابهة على نحو خلا من الإبداع، ينظر بعضها إلى بعض في هدوء، على امتداد الشارع.
Bilinmeyen sayfa