ورتل كهنة المعبد أنشودة النيل على نغم القيثارة والمزمار والناي، وعلى توقيع الدفوف في ألحان عذبة وأنغام شجية.
ولما أن ضاعت الأنغام في تضاعيف الفضاء، تقدم الأمير ناي من فرعون وأسلم إليه قرطاسا مختوما من البردي، يشتمل على دعاء النيل المعبود، فأخذه الملك ورفعه إلى جبينه، ثم تركه يهوي إلى النيل فحملته أمواجه المتدافعة في صخب صوب الشمال.
وهبط فرعون أدراج الهضبة، وركب عجلته، ورجع الموكب كما أتى تحف به العظمة ويحوطه المجد، وتهتف له قلوب الملايين من الرعايا المخلصين، وقد أهاجهم الحماس، وأسكرتهم نشوة الطرب.
الصندل
عاد الموكب الملكي إلى السراي الفرعونية، وظل الملك يحافظ على جلاله وهدوئه، إلى أن خلا إلى نفسه، فتبدى الغضب على وجهه الجميل بصورة وحشية، وجبت لها قلوب الجواري اللائي يخلعن ثيابه، فانتفخت أوداجه وتصلبت عضلات جسمه، وكان سريع الانفعال شديد الغضب، لا تطمئن نفسه حتى تنزل العقاب الصارم بمن أثارها، وكان يدوي في أذنيه الهتاف الأخرق، فيظنه إنذارا جريئا موجها إلى رغباته، فيشتد به الغضب وينذر بالويل والثبور.
وكان عليه أن ينتظر ساعة كاملة، قبل أن يستقبل رجال مملكته الرسميين، الذين جاءوا من أقصى البلاد للاشتراك في عيد النيل، ولكنه لم يستطع صبرا، فهرع كالريح الهوج إلى جناح الملكة، واقتحم بابها بعنف. وكانت الملكة نيتوقريس جالسة بين وصيفاتها، تلوح في عينيها الصافيتين آي السلام والطمأنينة، فلما رأى الوصيفات الملك، وشاهدن الغضب يصرخ في وجهه، وقفن مرتبكات مضطربات، وانحنين له وللمملكة، وانسحبن مسرعات لا يلوين على شيء .. ولبثت الملكة جالسة هنيهة، ترمقه بعينين هادئتين، ثم قامت في جلال، ودنت منه، ثم شبت على أطراف قدميها وقبلت كتفه وقالت: أغاضب أنت يا مولاي؟
كان يحس بالحاجة القصوى إلى إنسان يطلعه على النار الموقدة في دمائه، فارتاح إلى سؤالها وقال بشدة: كما ترين يا نيتوقريس!
وكانت الملكة تشعر شعورا قويا بعد درايتها بأخلاقه، بأن واجبها الأول هو أن تذهب عنه حدة الغضب إذا أهاجه، فقالت بهدوء وهي تبتسم إليه: الحلم أحرى بالملك.
ولكنه هز كتفيه العريضين استخفافا وقال: أتوصينني بالحلم أيتها الملكة؟ إنه لثوب زائف يتقنع به الضعفاء.
فقالت الملكة في تألم ظاهر: مولاي .. لماذا تضيق بالفضائل ذرعا؟ - أحقا أنا فرعون؟ .. وهل حقا أتمتع بشبابي وقوتي؟ .. فكيف إذن أريد، ولا أستطيع نيل ما أريد؟ .. كيف تنظر عيناي إلى أراضي مملكتي فيتصدى لي عبد ويقول: لن يكون هذا لك؟
Bilinmeyen sayfa