وكان يضع على رأسه تاج مصر المزدوج، ويقبض بيد على السوط الملكي، وبالأخرى على العصا المعقوفة، وقد ارتدى فوق لباسه الملكي كساء من جلد النمر احتفالا بالعيد الديني.
وأفعمت القلوب حماسة وسعادة، فتعالى الهتاف، فكاد لشدته أن يفزع الطير المحلق في السماء. وأثار الحماس رادوبيس نفسها فدبت بها حياة فجائية، وأضاء وجهها بنور بهيج، وصفقت يداها الرخصتان.
وأفلت من بين الأصوات الهاتفة صوت يصيح على عجل: «ليحي صاحب القداسة خنوم حتب.» فردد هتافه عشرات الأصوات، وأحدث هتافه انزعاجا وأهاج ضجة شديدة، وتلفت الناس يبحثون عن الجسور الذي هتف باسم رئيس الوزراء على مسمع من فرعون الشاب، والجماعة التي ناصرت هذا التحدي العجيب!
ولم يترك الهتاف أثرا ظاهرا، ولم يبد على أحد من حاشية الملك أدنى تأثر، وتابع الموكب سيره حتى بلغ هضبة المعبد، فتوقفت العجلات جميعا، وتقدم إلى عجلة فرعون أميران يحملان وسادة من ريش النعام مكللة بغطاء من نسيج ذهبي، فترجل الملك عليها. ونفخ في الصور، فأدى الجند التحية العسكرية، وصدحت موسيقى الحرس بنشيد النيل المعبود، وصعد فرعون درجات الهضبة في تؤدة وجلال، يتبعه وجوه مملكته من الأمراء والوزراء والحكام، ولدى باب المعبد العظيم وجد الكهنة في استقباله سجدا. ولما أعلن كبير الحجاب سوفخاتب وصول الملك، وقف رئيس كهنة المعبد وأحنى ظهره، وأخفى عينيه بيديه، وقال في صوت خافت: يتشرف خادم الرب المعبود النيل، بإزجاء تحية العبودية والإخلاص إلى مولاي سيد القطرين، ابن رع ورب المشرقين.
فأعطاه فرعون العصا المعقوفة، فقبلها الكاهن في إجلال عميق، وقام الكهنة واصطفوا صفين موسعين لفرعون، فسار تتبعه حاشيته إلى ساحة المذبح المحاطة بالأعمدة الشاهقة من كل جانب، وطافوا بالمذبح، وكان الكهنة يحرقون البخور، فينتشر أريجه في جو المعبد، وتتنفسه الرءوس المنعكسة إجلالا وقنوتا. وأحضر بعض الحجاب ثورا ذبيحا، ووضعوه على المذبح قربانا وزلفى، ثم تلا فرعون هذه الكلمات التقليدية: «مثلت في رحابك أيها الإله المقدس بعد أن طهرت نفسي. وقدمت القربان زلفى إليك، فامنن بالخير على أرض هذا الوادي الطيب، وأهله الآمنين.»
ورددت الكهنة الدعاء في صوت عال مؤثر، يفيض بالإيمان والتقوى، رافعين رءوسهم إلى السماء، باسطين أيديهم في الهواء. وردد الحاضرون جميعا الدعاء، وسرى الصوت إلى خارج المعبد، فسارع الناس في ترديده، وما هي إلا هنيهة حتى لم يبق لسان لم يلهج بدعاء النيل المقدس، ثم سار الملك وفي معيته كاهن المعبد، ويتبعهما رجال المملكة إلى بهو الأعمدة ذي الصحون الثلاثة المتوازية، ووقفوا صفين بينهما الملك وخادم الرب، ثم رتلوا نشيد النيل المعبود بأصوات متهدجة، تختلج بخفقات القلوب، فيرن صداها في جو المكان القاتم المهيب.
وصعد الكاهن الدرجات المؤدية إلى البهو الخالد، واقترب من باب قدس الأقداس، وأبرز المفتاح المقدس، وفتح الباب العظيم وانتحى جانبا، وركع ساجدا يصلي. وتبعه الملك ودخل الحجرة المقدسة حيث يرقد تمثال النيل في السفينة الإلهية، وأغلق الباب، وكان المكان واسعا، شاهق السقف، شديد الظلمة، قوي الأثر، وعلى مقربة من الستار المسدل على تمثال الآلهة أقيدت الشموع على مناضد من الذهب الوهاج. ونفذت هيبة المكان إلى قلب الملك الكبير، فوهنت حواسه، وتقدم في إجلال إلى الستار المقدس وأزاحه بيده، وأحنى ظهره الذي لا ينحني أبدا، وسجد على ركبته اليمنى ولثم قدم التمثال، وكان ما يزال مهيبا، ولكن غابت عن وجهه آي مجد الدنيا وكبريائها، واكتست صفحته بلون باهت من الخشوع والتقوى .. وصلى فرعون صلاة طويلة، واستغرق في العبادة ناسيا مجده التالد وعظمته الدنيوية.
ولما بلغ النهاية لثم القدم المقدسة مرة أخرى، وقام واقفا وأسدل الستار الكريم، وانسحب إلى الباب ووجهه إلى الرب، حتى تنفس هواء البهو الخارجي ثم أغلق الباب.
وحيا القوم فرعون بالدعاء، وساروا وراءه إلى بهو المذبح، وتبعوه إلى خارج المعبد، وعرجوا جميعا إلى حافة الهضبة المطلة على النيل. ورآهم الأهلون المتجمعون فوق أسطح السفن، فتعالت أصواتهم بالهتاف، ولوحوا بالأعلام والغصون.
ودعي رئيس الكهنة إلى إلقاء الخطبة التقليدية، فنشر بين يديه ورقة طويلة من أوراق البردي، وتلا بصوت قوي النبرات: «السلام عليك أيها النيل، يا من يعم فيضه الوادي مبشرا بالحياة والسعادة. إنك لتسكن الغياهب أشهرا، فإذا أصخت إلى توسلات عبادك، ولان قلبك الكبير رحمة بهم، خرجت من الظلمات إلى النور، وانسبت في بطن الوادي زاخرا، فتبعث في الأرض الحياة، وسرعان ما تهتز النباتات طربا، وتفض الصحراء تحت بساط سندسي، وتزدهر البساتين، وتغني المغارس، وتصدح الطير، وتهتف القلوب بنشوة الفرح ، فيكسى العاري، ويطعم الجائع، ويروى الصديان، ويتزوج الأعزب، وتتلفع أرض مصر بالسعادة والمجد .. تعاليت والمجد لك .. تعاليت والمجد لك.»
Bilinmeyen sayfa