قلت: تفسيره تراب على رأسك. هذا القول إنما أراد به الخطيب التشنيع على أحسن وجهيه أما الوجه الآخر فهو الصحيح لأن الخطيب إنما أراد التشنيع وما علم ما ينقل، لأن الأمة قد أجمعت أن أئمة الأمصار هم اليوم الأربعة فمتى جاء عن أحدهم كلام لا يشك أحد أنه منقول من الكتاب والسنة، أو مقيس عليهما أو على أحدهما، ولا شك أن الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكمل العمل به اليوم، لأنا لا نعلم أحوال الرواة. ثم إن المحدثين يأخذون الآثار عمن سمع وهو طفل صغير لم يقف على ما يرويه ولا يعلم كيف سمعه. أو يكون رجلا سمع الحديث ثم لم يقرأه ولم يدر ما هو حتى يرويه. وقد أجمعت الأمة على أنه لا يجوز أخذ الأحكام إلا ممن سمعها ووعاها وأداها كما سمعها، كما قال عليه الصلاة والسلام: «رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها» وإذا سمع أحد الخبر على هذا الوجه لا يحل له العمل به حتى يعلم أنا سخا هو أو منسوخا، أم ثم حديث آخر يجب على الفقيه أن يجمع بينهما مثل قوله صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن مس الفرج- فقال: «من مس فرجه فليتوضأ» . ثم روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل فقال: «هل هو إلا بضعة منك» فورد عنه صلى الله عليه وسلم هذان الوجهان، فإذا أردنا الجمع بينهما قلنا إن أصل الوضوء من الوضاءة وهي النظافة، والوضوء الشرعي هو غسل أعضاء معينة، فلما ورد الأمران احتجنا إلى أن نعرف تأويل الخبر فقلنا لما أمر بالوضوء تارة وبتركه أخرى قلنا إن أمره بالوضوء محمول على قوله صلى الله عليه وسلم: «فتوضئوا مما مسته النار فتوضئوا ولو من تور أقط» وهذا للنظافة. وقد أجمعنا على أنه لا يجب من هذا إلا النظافة وحملنا قوله هل هو إلا بضعة منك على الوجوب فلم يوجب وضوءا.
واعلم أيدك الله أن الخلاف نشأ بين الأئمة من ثمانية أوجه؛ وهي الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والأفراد والتركيب، والاجتهاد فيما لا نص فيه إلى ما فيه نص، واشتراك الألفاظ مع اختلاف المعنى واختلاف الألفاظ مع اشتراك المعنى، والتأويل، والنقلة والرواة.
فأما النقلة والرواة فقد انقطع أمرهم عنا لأنا لا نعرفهم إلا بالنقل، ولعل الناقل لا يعرف حاله على الوجه أيضا. فمن لا يعرف هذا كله لا يحل له الكلام إلا فيما ينقله عن الأئمة لأن الله تعالى يقول فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون
فبين أن بعضنا إذا قام بالعلم جاز لنا أن نأخذ عنه أمر ديننا. وأجمع أهل عصر أبى حنيفة على أنه لم يكن مثله في علم التأويل، والفقهاء إلى يومنا هذا مسلمون أن القياس مع أبى حنيفة وقد أجمعنا أن الأئمة لم يأخذوا إلا من كتاب الله وسنة رسوله، فإذا قد سلموا الفقه لأبى حنيفة وسلموا أنه مشاركهم في الكتاب والسنة فوجب على العامة الأخذ بقول أبى حنيفة دون غيره.
هذا إذ لو كان الخطيب لما ذكر الإسناد بين الخبر الذي أسنده وما المسألة التي سألها هارون وطعن الخطيب هذا ليس على أبى حنيفة وحده لأن الأئمة الأربعة على مذهب واحد في أنهم إذا سألوا عن مسألة لم يرووها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم يذكرون المسألة ويعلم السامع أنهم لم يأخذوها إلا من الكتاب والسنة. وكأن الخطيب أراد التشنيع في الظاهر على أبى حنيفة ومراده الجميع.
وروى عن القاضي أبى بكر الحرشي إلى عفان قال سمعت أبا عوانة يقول:
Sayfa 72