فأجابه بصوت مهموس عما جاء من أجله، وطرح الرجل عليه أسئلة بخصوص عمره وعمله والأسلوب الذي اتبعه في حياته «الزوجية»، ثم قال له: إنه الإفراط البعيد عن العقل ... والقلق النفسي ... تلزمك راحة جسدية ونفسية.
فهمس عبد الله: والدواء؟
هز رأسه نفيا، وقال: سيضرك أكثر مما يفيدك.
رجع إلى الوكالة مغتما، وهو يلعن الطبيب. وازدادت حاله سوءا، فحصر في ركن مظلم وغمغم لنفسه: «كأنه مصير لا مفر منه». وإذا بعبدون فرج الله يسأله: سلامتك، لماذا ذهبت إلى العيادة؟
فقال له بحنق: انتبه لعملك، متى كانت صحتي تهمك؟!
فقال الشاب متظاهرا بالجدية: سمعت الشيخ كافور يقول يوما: «لا يملك إنسان ما يستحق أن يحسد عليه حقا ...»
فصاح به: أنت كاذب، ولم يخل قلبك من الحسد ساعة واحدة.
وخيل إليه أن حكاية الاستشارة الطبية تلوكها ألسنة لا حصر لها، فازداد انحصارا في الغم واليأس، وغمغم لنفسه مرة أخرى: «كأنه مصير لا مفر منه». وفي هذه الدوامة المظلمة المنذرة بسوء المصير انساق بقوة إلى التفكير في المجهول من حياته، فقد يجد فيه المأوى إذا افتقد مأواه، وقد يجد فيه العزاء إذا عز العزاء. هذه الحياة المتاحة تتسرب من يديه كالماء، لم تعد حقيقة ثابتة، ولكنها حلم تحدق به يقظة الصباح القريب، وسوف يجد نفسه وحيدا منبوذا ضائعا إن لم يهتد إلى حقيقته الغائبة ... إنه صاحب حياة ماضية، تمثلت في أهل وعلاقات وأناس، تجسدت في حي من الأحياء القريبة أو البعيدة، وثمة عمل ارتزق منه، وربما زوجة وأبناء، وثمة هدف دعاه إلى المجيء إلى هذا الحي، وحدث ما دفع به إلى القبو حيث وقع له ما وقع ففقد كل شيء. ترى ما السبيل إلى الكشف عن تلك الحقائق الغارقة في الظلام؟! وقد سمع ما يقال عن نشر صور المفقودين في الصحف فلم لم يجد أحد في البحث عنه؟ وهل ينشر هو صورته باعتباره فاقد الذاكرة؟! تردد طويلا أمام هذه الفكرة لخطورة عواقبها ... أجل قد دار الحديث يوما في المقهى عن هارب تبحث عنه الدولة لتشنقه، كما سمع آخر يقرأ إعلانا لأسرة موجها لابن هارب تقول له: «يا فلان ... عد إلى أهلك، جميع طلباتك مجابة!» فإلى أي الفرعين ينتمي؟ وهل إذا نشر صورته انقضت عليه الشرطة أو تحققت أمنياته جميعا؟ ماذا يكمن وراء الباب المغلق؟! تراجع عن الفكرة وهو يزداد مرارة، وشعر - كما لم يشعر من قبل - بحاجته إلى الصديق، أو في الأقل المشير ... لم يفكر في نعمة الله التي مضت توغل في الغربة والبعد، حتى كاد ينكر المسكن تواجدهما معا تحت سقفه ... ومضى إلى العيادة، ولما رآه الطبيب محسن زيان تساءل باسما: من أجل الحب أيضا؟
فأجاب بضيق وهو يشير إلى رأسه: من أجل الذاكرة.
ففكر الرجل قليلا ثم قال: لو كنت تعيش في بيئتك القديمة بين أهلك لساعدك ذلك على الشفاء، ولوجدت في معلم ما أو شخص ما يوقظك من نومتك الطويلة، ولكنك مارست حياة تشجع على النسيان وتخاف اليقظة.
Bilinmeyen sayfa