أما أهله الأقربون وذوو مودته من الأصدقاء والخلان، فيذكرونه مصبحين ويذكرونه ممسين، لا ينسونه ولا يتعزون عنه، فليس إلى نسيانه أو إلى التعزي عنه سبيل.
وأما هذه الكثرة الكثيرة من المثقفين الذين لم يلقوه ولم يستمتعوا بمحضره، ولو يقولوا له ولم يسمعوا منه، ولم ينعموا بفكاهته الحلوة ودعابته الرائقة ونادرته الحاضرة، وإنما سمعوا عنه من بعيد أو قرءوا له بين حين وحين؛ فإن أمرهم معه كأمرهم مع غيره من الكتاب والشعراء والعلماء، يستمتعون حين يتاح لهم المتاع، ويرضون عما استمتعوا به عجلين، ثم ينصرفون إلى غيره عجلين أيضا، يطلبون إليهم كثيرا أكثر مما يطيقون، ولا يعطونهم من أنفسهم إلا قليلا أقل مما يستطيعون.
إن المثقفين جميعا يؤمنون بأن حافظا كان شاعرا فحلا، وبأن عبد العزيز كان كاتبا ممتازا، وبأن علي إبراهيم كان جراحا متفوقا. قد أقروا ذلك في أنفسهم، وسجلوه في قلوبهم، وآمنوا به عن علم أو عن غير علم، ثم لم يزيدوا على ذلك، فكم عدد الذين يطيلون القراءة فيما نظم حافظ، وما كتب عبد العزيز، ويطيلون التفكير فيما امتاز به علي إبراهيم.
لم يمض ربع قرن على وفاة حافظ ، والناس يعدونه الآن شاعرا من الشعراء البارعين كما يعدون الشعراء القدماء، ولم تمض إلا أعوام قليلة على وفاة عبد العزيز والناس يعدونه كاتبا مجيدا كما يعدون غيره من الكتاب القدماء، ولم يدر العام بعد على وفاة علي إبراهيم والناس يؤمنون له بالتفوق في الجراحة والطب، ثم لا يزيدون على ذلك شيئا.
وقد يكون هذا ملائما لطبيعة الأشياء، فالموت يلغي الزمن بالقياس إلى الموتى، ومن مات مات. وافهم من هذه الجملة ما تستطيع أن تفهم. مات بالقياس إلى نفسه، ومات بالقياس إلى أكثر الناس، وربما مات بالقياس إلى أشد الناس اتصالا به وقربا منه. مات ولم تبق منه إلا هذه الذكرى التي تظل مضطرمة متأججة في بعض القلوب حتى تخمد حين تكف هذه القلوب عن الخفقان، وتظل في سائر القلوب أشبه شيء بهذه الأسماء التي تكتب على اللافتات، ينظر الناس إليها أحيانا، ويمرون بها معرضين عنها في أكثر الأحيان. لا يتعمدون النظر إليها إلا إن احتاجوا إليها ليستعينوا بها على التماس ما يبتغون من طريق، فالذين يؤرخون الأدب الحديث سيتعمدون تذكر حافظ وعبد العزيز وإطالة التفكير فيهما، والذين يؤرخون الجراحة الحديثة سيتعمدون تذكر علي إبراهيم وإطالة الوقوف عنده، وأولئك وهؤلاء سيقفون عند هؤلاء الأشخاص كما يقف المتجول في مدينة القاهرة عند هذه اللافتة أو تلك ليتبين طريقه إلى الغاية التي يريد أن يصل إليها.
ولست أدري أخير هذا أم شر، ولكني أعلم أنه الحقيقة الواقعة من جهة، وأكاد أعتقد أنه العقوق، وأن هذا النوع من العقوق قد ركب في طبائع الناس، فهم يسرعون إلى نسيان من أحسن إليهم، وهم يضيعون على أنفسهم بهذا النسيان منافع كثيرة ومتاعا عظيما. وآية ذلك أنك تقرأ الأثر القديم الذي مضت عليه القرون الطوال من آثار الأدباء والعلماء، فتجد اللذة كل اللذة، والنعيم كل النعيم، وترثي للذين لم يقرءوا هذا الأثر من هذه الأجيال التي لا تحصى؛ لأنهم لم يقرءوه ولم يستمتعوا به، فالذين لا يقرءون اليوم حافظا ولا عبد العزيز قد دفعوا إلى هذا العقوق الذي ركب في طبيعة الناس، فأضاعوا على أنفسهم شيئا كثيرا، ما أجدرهم - لو أحسنوا التفكير والتقدير - أن يستدركوه ولا يفرطوا فيه.
وقد كنت من المفتونين بحديث عبد العزيز حين يتحدث، ومن المفتونين بآثاره حين يكتب، وقد توسلت إليه حين أزمع نشر «المختار» أن يأذن لي بتقديمه إلى الناس، وشهد الله ما تكلفت ولا تزيدت، وشهد الله ما جاملت وما صانعت، وإنما علمت فقلت بعض ما علمت، ورضيت فقلت أيسر ما يوجبه الرضا.
وإني لأراني مع عبد العزيز في تلك الغرفة التي كان صديقنا علي عبد الرازق قد استأجرها في ربع من ربوع خان الخليلي، وكنا نلتقي فيها حين نتفرق عن دروس الفقه وحين يرتفع الضحى لنقرأ بعض كتب الأصول أو بعض كتب البلاغة، وكان عبد العزيز يلهينا بدعابته وفكاهته عن جد البلاغة والأصول، ثم لم يلبث أن ضاق بهذا الجد فانسل كما تنسل الشعرة من العجين، ودون أن يلقى كيدا. وأقمنا نحن على هذا الجد ننفق فيه حياتنا، ونزعم لأنفسنا أننا كنا نغذو به العقول والقلوب، وإني لأراني مع عبد العزيز وعلي عبد الرازق في هذه الغرفة نفسها بعد أن نصلى العصر، نقرأ معا كتاب الكامل للمبرد، نحصل بهذه القراءة الأدب كما كنا نحصل البلاغة والأصول بقراءة الضحى. وكان مزاح عبد العزيز وتندره يصرفاننا عن هذا التحصيل كما كانا يصرفاننا عن ذاك. ثم لم يلبث أن انسل من هذا التحصيل كما تنسل الشعرة من العجين ودون أن يلقى كيدا؛ ذلك لأنه، رحمه الله، كان أقل الناس حبا للاستقرار وميلا إلى الإمعان في طريق واحدة.
فطر على حب التنقل، على حب التنقل المادي والمعنوي جميعا، فكنت تراه مصبحا في هذا الحي من أحياء القاهرة في الأزهر أو قريبا منه، فإذا صليت الظهر رأيته في حي آخر من أحياء القاهرة ملما بدار الكتب أو قريبا منها في قهوة من قهوات باب الخلق، فإذا صليت العصر رأيته في حي آخر من أحياء القاهرة في قهوة من القهوات التي كان الأدباء يختلفون إليها في حي الأزبكية، فإذا صليت العشاء الآخرة رأيته في غير حي من أحياء القاهرة، تلقاه عند آل عبد الرازق في عابدين، وتلقاه عند غيرهم من ذوي المكانة والجاه، وقد تلقاه في قهوة من قهوات الناصرية مع جماعة من الأدباء صدرهم حافظ إبراهيم رحمه الله.
كل ذلك حين كنا طلابا قبل أن تشب الحرب العالمية الأولى، وقبل أن تتغير الدنيا ويتحضر هذا الجيل من أجيال المصريين بعد انقضاء الحرب الأولى وشبوب الثورة الوطنية واشتجار الخلاف بين السعديين والعدليين، وانتقال مركز النشاط لهذا الجيل إلى مكان آخر من مدينة القاهرة، فكنت ترى عبد العزيز في ذلك الوقت في «بار اللواء» أثناء الأصيل، وفي «الكافيه ريش» حين يقبل الليل، وفي الأهرام أو غير الأهرام من دور الصحف حين يتقدم الليل، وربما رأيته أثناء النهار أو أثناء الليل عند هذا العظيم أو ذاك من عظماء العدليين.
Bilinmeyen sayfa