وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي
صنع الله لأهله الذين يذكرونه حين تطلع الشمس وحين تزول وحين تهوي إلى مغربها، ولأصدقائه الذين يذكرونه في تلك الساعات التي كانوا يلقونه فيها، في ساعات العمل وجه النهار، وفي ساعات الفراغ من آخر النهار، وفي تلك الساعات الحلوة من أول الليل حين يتخفف الناس من أعمال النهار وأثقاله، وحين يرسلون أنفسهم على سجيتها، فتفرح وتمرح، وتعبث وتمزح، وتخوض في كل فن من فنون القول، وتجول في كل ميدان من ميادين التفكير.
فقد كان عبد العزيز رحمه الله أبا برا، وأخا وفيا، وصديقا حميما، وكان من أجل هذا كله محببا إلى النفوس، أثيرا في القلوب، عزيزا على الأهل والأصدقاء جميعا.
والشمس تشرق وتغرب في كل يوم، والليل يغمر الكون وينجلي عنه كل يوم أيضا، وفي اختلاف الليل والنهار وفي تتابع الأيام والأشهر والسنين ما يجلو عن النفوس غمراتها، ويفرج عن القلوب حسراتها، ويعزي الأحياء عن الأموات، وينسي الأحياء بعضهم بعضا. ولكني أعتقد أن اختلاف الليل والنهار، وتتابع الأيام والأشهر والسنين، وتعاقب الأحداث الجسام والخطوب العظام، واشتغال الناس بما يسرهم وما يسوءهم من شئون الحياة - كل ذلك وأكثر من ذلك ليس من شأنه أن يعزي عن عبد العزيز أهله الأقربين وذوي مودته من الأصدقاء والأخلاء؛ فقد كان عبد العزيز رحمه الله من هذه القلة القليلة النادرة التي امتازت بخفة الروح وعذوبة النفس ورقة الشمائل، والتي ظفرت من هذه الخصال بحظ غريب في طبعه وفي جوهره ومادته، إن صح هذا التعبير، بحيث لا يبلو الإنسان أقله إلا كلف به أشد الكلف، وافتتن به أشد الافتتان، وأصبح لا يستطيع له نسيانا، ولا يجد عنه سلوا مهما يلم به من الخطوب، ومهما يختلف عليه من الظروف.
وقد عرفت أنا من هذا الطراز قلة قليلة استأثر الله ببعضها، وأرجو أن يطيل الله بقاء بعضها الآخر. ومن هذه القلة التي آثرها الله بجواره الكريم ثلاثة نفر كانوا أخلاء فيما بينهم، وكانوا أصدقاء لكل من عرفهم أو اتصلت به أسبابهم من الناس، وهؤلاء الثلاثة هم: شاعر النيل حافظ إبراهيم، وكاتب النيل عبد العزيز البشري، وطبيب النيل علي إبراهيم.
كلهم كان عذب النفس، حلو الروح، كريم السجية، مهذب الطبع، مترف الذوق، مرهف الحس، رقيق الشمائل. وهم من أجل ذلك كانوا متوادين متحابين، لا يفترقون إلا ليلتقوا، ولولا أن خطوب الحياة كانت تفرقهم على كره منهم لما آثروا على اجتماع شملهم شيئا. وكانوا على ذلك أصدقاء للناس جميعا، لا يعرفون البغض ولا تطمئن نفوسهم إليه؛ لأن نفوسهم خلقت من معدن الحب وفطرت على سجية الإخاء والوفاء وحسن المعاشرة؛ ولذلك لا أعرف أحدا من الذين عرفوا هؤلاء الثلاثة - وما أكثر من عرفهم ووصل أسبابه بأسبابهم - قد تعلق على واحد منهم بكلمة مؤذية أو خطة مؤلمة أو عمل يحزن أو يسوء. وإنما نحن نذكرهم جميعا فيمزق الأسى قلوبنا، وتفرق اللوعة نفوسنا، ولا نكاد نذكرهم مجتمعين أو متفرقين حتى يأخذنا الشجا لفقدهم، وتبتسم نفوسنا الباكية لما تذكر من أعمالهم وأقوالهم، فهم كانوا ابتساما على ثغر الحياة في مصر مهما يكن حظ الحياة في مصر من العبوس والحرج ومن النكر والضيق.
وهم كانوا كغيرهم من الناس يحسنون ويسيئون، ولكنهم لم يسيئوا تعمدا للإساءة قط، ولم يسيئوا إلا كانت إساءتهم - مهما تقس في أول أمرها - مصدر رضا وغبطة وفكاهة ودعابة بعد وقت يقصر أو يطول.
وكلهم نفع الناس في حياته كأحسن ما يستطيع الإنسان أن ينفع الإنسان، وكلهم وجد في نفع الناس لذة ومتاعا، ولم يحفل بما جنى الناس عليه ولا بما جرعوه من فنون الألم وضروب الشقاء. كانوا لا يغضبون إلا ليرضوا، ولا يبتئسون إلا ليبتهجوا، ولا يعبسون إلا ليبسموا. فطرت نفوسهم على التفاؤل أو خلقت نفوسهم من التفاؤل، فلم يعرف التشاؤم إليها سبيلا، ولم يلق الناس منهم إلا خيرا.
كان حافظ يمتع الناس ويحيي نفوسهم بشعره الرائع، وكان علي إبراهيم ينفع الناس ويحيي نفوسهم وأجسامهم بفنه البارع وعلمه الواسع وتفوقه الرفيع، وكان عبد العزيز يسحر قلوب الناس ويستهوي ألبابهم، ويملك عليهم أمرهم، وينسيهم صروف الحياة، ويعزيهم عن آلامها بمحضره دون أن يتكلم، فإذا تكلم فقد كان يرقى بهم من عالم إلى عالم، وينقلهم من حياة إلى حياة، فإذا كتب ونشر فقد كان يأخذ عليهم سبل الإعجاب، ويضطرهم إلى أن يقرءوا ويقرءوا منفردين قد خلوا إليه دون غيره من الناس، فإذا لقي بعضهم بعضا تحدثوا عما قرءوا ثم أعادوا القراءة، ثم أخذوا يذهبون من الإعجاب بما يقرءون كل مذهب، يسلكون من هذا الإعجاب سبل الجد وسبل الفكاهة، وربما شغلوا أنفسهم بذكر عبد العزيز في مجلسهم كله حتى يتفرقوا ولم يقضوا منه العجب.
Bilinmeyen sayfa