لا يكون من أهل الوطن الواحد أمة إلا إذا ضاقت دائرة الفروق بين أفرادها واتسعت دائرة المشابهات بينهم، وإن أظهر المشابهات في حالة الأمة السياسية هو التشابه في الرأي بين الأفراد وهذا ما يسمونه بالرأي العام.
والناس بطبائعهم أشتات في الرأي، كما قيل: «للناس عدد رءوسهم آراء» وهم في البلاد الحديثة العهد بالرقي، ينصرف كل منهم غالبا عن التفكير في الأمور العامة إلى تدبير حاجتهم الخاصة، حتى ترشدهم الصحف كل يوم إلى أن لهم فوق وجودهم الخاص وجودا عاما، وأن بهذا الوجود العام كما لا يجب أن يرقى إليه بعمل الأفراد ... إلخ.
وكان من عادتي أن أكتب افتتاحيات الجريدة، ما كاد يمضي على صدورها غير أيام، حتى انتهت مهمة اللورد كرومر في مصر، فخطب خطبته المشهورة في «الأوبرا»، وعلقت «الجريدة» عليها تعليقا لا يقل عنفا عن الجرائد المتصلة بالخديو عباس، وسارت في طريقتها وعلى مبادئها تنقد أعمال السلطة الفعلية التي كانت للإنجليز، كما تنقد أعمال السلطة الشرعية؛ سلطة الخديو عباس.
وقد يحسن هنا أن أتحدث بإيجاز عن هاتين السلطتين ليقف القارئ على حالة مصر، ومركز كل من الخديو واللورد كرومر في ذلك الحين . (3) الخديو عباس
كان الخديو عباس حلمي الثاني قوي الإرادة لا يحتمل أن يرى غيره يتصرف في حقه، فعندما ولي الخديوية المصرية أظهر صفات القوة الشخصية والشجاعة الأدبية والعزة اللائقة بالملوك، فأنكر على الإنجليز تصرفهم في حقوقه واستئثارهم بالأمر دونه، وعز عليه أن يصدر كل شيء باسمه على غير ما يختار، فنفر من معاملتهم إياه معاملة المغفور له والده، وعارض في كثير من المسائل بشدة، فتنبه لذلك الشعور الوطني، وقال الناس: «إن هذا الأمير سيعيد لنفسه مجد أبيه الأكبر محمد علي باشا.»
وقد رأى أن وزارة مصطفى فهمي باشا هي من أكبر وزارات «الوفاق» أو «الاستسلام»، فأسقطها، ونصب وزارة حسين فخري باشا في 16 يناير سنة 1893، ولكن إنجلترا أرغت لهذا التصرف وأزبدت وعارضت في تنصيب الوزارة الجديدة، وأكرهت «الخديو» على إسقاطها، فلم تلبث في الحكم غير ثلاثة أيام! ولكن ذلك لم يفل من عزم الأمير المطالب بحقه، فسار في سياسة الخلاف كلما حانت الفرصة، حتى انتقد الجيش في بعض نظمه، وكان على رأسه «كتشنر» حينما تفقده الخديو في الحدود المصرية، فغضبت الحكومة الإنجليزية، وطلبت الترضية فوقف سموه موقف المتمسك بحقه من إبداء رأيه في جيشه، ولكن الوزارة المصرية الجديدة برياسة مصطفى رياض باشا قد اضطرت يومئذ إلى إجابة مطالب إنجلترا، فكانت النتيجة أن شكر سموه الجيش ترضية للسردار كتشنر!
وبعد ذلك جاءت سياسة «شبه الوفاق» من سنة 1894، فأكثر الإنجليز من عدد مستشاريهم وموظفيهم في النظارات، وأخذت «عابدين» و«قصر الدوبارة» كلتاهما تحمي من يلجأ إليهما من الموظفين من الجهة الأخرى، وترتب على حادثة الحدود وما سبقها نتيجة مساوية للنتيجة التي ترتبت على رضا الخديو السابق توفيق باشا بإلغاء قرار مجلس انتظار القاضي بالاستغناء عن خدمات «مستر سكوت»، ثم أعقب ذلك إمضاء اتفاقية السودان التي جعلت إدارته شركة بين الحكومة المصرية والحكومة الإنجليزية، ولكن المصريين فطنوا إزاء تلك الحوادث، إلى أنه يستحيل عليهم أن يتقدموا في سبيل المدنية خطوة إلى الأمام إلا بمشاركة الأمة المحكومة في الأعمال العامة، فأخذ كتابنا وكبراؤنا يشعرون بضرورة طلب الدستور عن طريق التدريج، فحنق الإنجليز - رغم إشادتهم بالحرية - من هذه المطالب، ولم يقتصروا على مناوأتهم للأمير الذي لا يريد أن يكون الاتفاق معهم سببا في انتقاص سلطته الشخصية، بل نالوا من الأمة أيضا بالتشهير، فلما أن جاءت حادثة «العقبة» رأى الإنجليز أن المصريين يتبرمون بهم، فأرادوا أن يعطوهم درسا أليما بأحكام حادثة دنشواي سنة 1906؛ ظنا منهم أن تلك السياسة - سياسة القسر - تصرف المصريين عن آمالهم في الدستور، وتقطع ألسنة الخاطبين، وتكسر أقلام الكاتبين لترشيح الأمة للدستور، ولكن النتيجة جاءت على العكس مما قدروا؛ فإن هذه الحادثة جعلت مصر تزيد اقتناعا بأن حياتها موقوفة على نيل الدستور بقدر ما يسمح به مركزها السياسي، فازدادوا طلبا له وتشبثا به، فقلل الإنجليز من حدتهم، وألانوا من جانبهم، وجنحوا إلى استرضاء الخديو عباس بسياسة الوفاق.
وفي أثناء تلك الحرب السجال بين السلطة الشرعية والسلطة الفعلية - أو بين الخديو واللورد كرومر واختلافهما على أيهما يكون له الأثر الفعلي في الأمة المصرية - قامت «الأمة» بين السلطتين تثبت شخصيتها غير المعترف بها من الفريقين، وتؤدي في سياسة البلاد واجبها حتى لا تكون متاعا لكل غالب، ملتزمة في ذلك طريق الحكمة والسلام.
هوامش
الفصل الرابع
Bilinmeyen sayfa