1 - نشأتي الأولى
2 - اشتغالي بالسياسة
3 - اشتغالي بالصحافة ورأيي في الخديو عباس
4 - لورد كرومر أمام التاريخ
5 - ردي على اللورد كرومر
6 - طالبنا بالاستقلال التام فقالوا خرجتم على الباب العالي
7 - أربعة رجال عرفتهم
8 - رحلتي إلى أوربا وإلى المدينة المنورة
9 - مع سعد زغلول والخديو عباس
10 - عرفت تولستوي وفتحي زغلول
Bilinmeyen sayfa
11 - موقفنا من الحرب سنة 1914
12 - في ثورة سنة 1919
13 - من الجامعة إلى الوزارة
14 - من الوزارة إلى المجمع اللغوي!
15 - الأخلاق وكيف ينبغي أن تكون لتحقيق سلام عالمي
1 - نشأتي الأولى
2 - اشتغالي بالسياسة
3 - اشتغالي بالصحافة ورأيي في الخديو عباس
4 - لورد كرومر أمام التاريخ
5 - ردي على اللورد كرومر
Bilinmeyen sayfa
6 - طالبنا بالاستقلال التام فقالوا خرجتم على الباب العالي
7 - أربعة رجال عرفتهم
8 - رحلتي إلى أوربا وإلى المدينة المنورة
9 - مع سعد زغلول والخديو عباس
10 - عرفت تولستوي وفتحي زغلول
11 - موقفنا من الحرب سنة 1914
12 - في ثورة سنة 1919
13 - من الجامعة إلى الوزارة
14 - من الوزارة إلى المجمع اللغوي!
15 - الأخلاق وكيف ينبغي أن تكون لتحقيق سلام عالمي
Bilinmeyen sayfa
قصة حياتي
قصة حياتي
تأليف
أحمد لطفي السيد
الفصل الأول
نشأتي الأولى
(1) في قرية مصرية
نشأت في أسرة مصرية صميمة لا تعرف لها إلا الوطن المصري، ولا تعتز إلا بالمصرية، ولا تنتمي إلا إلى مصر؛ ذلك البلد الطيب الذي نشأ التمدن فيه منذ أقدم العصور، وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفل له الرقي والمجد.
وقد ولدت في 15 يناير سنة 1872م بقرية «برقين» من أعمال مركز السنبلاوين بمديرية الدقهلية، وهي قرية صغيرة كان تعدادها في ذلك الحين يبلغ مائة نفس، ويشاع بين أهل الريف أن اسمها «النزلة» وربما سميت باسم «برقين» الفلسطينية، وقد تضاعف سكانها، فأصبح عددهم الآن نحو ألفي نفس، وهم زراع ماهرون مشهورون بالجد والنشاط والاستقامة، وقد اعتادوا أن ينطقوا القاف «جافا»، والجيم جيما معطشة كسائر أهالي مركز السنبلاوين، وما زالت هذه اللهجة تغلب علي في حديثي.
وكان والدي «السيد باشا أبو علي» عمدة هذه القرية كوالده «علي أبو سيد أحمد»، وقد كان يجيد حفظ القرآن الكريم كله، وعرف بشخصيته المهيبة، وقوة شكيمته، وعدالته في معاملته، وعطفه على أهل قريته وغيرهم ، وأذكر أنه ما قسا يوما علي، ولا وجه إلي كلمة نابية أو عبارة تؤلم نفسي، بل كان - طيب الله ثراه - عطوفا حكيما في تربية أبنائه، يعتني بالقدوة الحسنة، وحسن التوجيه والإرشاد.
Bilinmeyen sayfa
ولما بلغت الرابعة من عمري أدخلني كتاب القرية، وكانت صاحبته سيدة تدعى «الشيخة فاطمة»، فمكثت فيه ست سنوات تعلمت فيها القراءة والكتابة، وحفظت القرآن كله، وكنت أجلس مع زملائي على الحصير، ونصنع الحبر بأيدينا، وإلى هذه السيدة يرجع فضل تنشئتي الأولى في تلك السنين.
ضرب العمد والأعيان
وقد كنت في العاشرة حينما أتممت حفظ القرآن في هذا الكتاب، فاشترى لي والدي «مهرة» من بادية الشام لم تألف رؤية قطار السكة الحديدية، فكنت أركبها للنزهة ولقضاء بعض الأعمال، وقد نصحني والدي بالابتعاد عن السكة الحديدية حتى لا يمسسني مكروه، وذات يوم امتطيت المهرة وذهبت إلى عزبة لنا في «طرانيس العرب»، وفاتني أن أعمل بنصيحة والدي، فسرت بها على طريق السكة الحديدية، وبينما أنا سائر بها؛ إذ فاجأني القطار فوثبت من فوقها وتركتها وحدها فجرت مسرعة حتى عادت إلى برقين، فذعر أهلي، وهاجت القرية، وظن الجميع أني أصبت بمكروه، وكنت وقتئذ وحيد والدي، فزاد ذلك من اهتمامهم وقلقهم، وما كاد القطار يقترب منهم حتى رأوا السائق يشير إليهم بمنديل أبيض، فاطمأن بالهم، ثم أخبرهم السائق بما فعلت، فبعثوا إلي بحمار عدت عليه إلى بلدتي، غير أني خشيت أن يعاقبني والدي، فهربت خوفا من «علقة» تصيبني، وجاء رجل من أهل القرية يدعى «عوض بدران» يهنئه بسلامتي ويقول له: «بركة عيشك يا بو علي»، وهو يعني «الحمد لله على السلامة»!
وجيء بي إلى والدي وأنا خائف أترقب، ولكنه - كعادته معي رحمه الله - ربت على كتفي قائلا: «لا تخالف أمري يا ولدي، ولا تسر مرة أخرى على السكة الحديد.» فأثر ذلك في نفسي، وازددت إعجابا به وحبا له.
وعلى ذكر «العلقة»، أذكر أن الضرب في ذلك الزمان كان مباحا، حتى ضرب العمد والأعيان! وكان هذا بعض ما يحدث في القرى المصرية من القسوة والاستبداد ، وقد رأيت بنفسي غير مرة؛ إذ كان لوالدي صديق يدعى أحمد كامل بك، وكان مفتش «تفنيش شاوى»، فكنت - وأنا بمدرسة المنصورة - أذهب إلى بيته يوم الجمعة، فأرى حوش التفنيش مرشوشا، والبيك المفتش قاعدا في صدره وقد وقف اثنان من «القواسة» يحملان الكرباج و«الفلقة» لضرب العمد الذين يتأخر أهالي قراهم في دفع الإيجار، وكانت هذه طريقتهم في ذلك الحين، فانظر كيف كانت الحال بالأمس، وكيف هي اليوم!
نوبار باشا: مسلم!
بعد أن أتممت حفظ القرآن الكريم رغب والدي في أن يبعثني للدراسة في الأزهر، وصادف في ذلك الوقت أن جاء يتغدى عندنا إبراهيم باشا أدهم - مدير الدقهلية سابقا - فدخلت لتحيته، فسأل والدي إلى أين يبعث بي للدراسة، فأجاب: «إلى الأزهر الشريف إن شاء الله»، فأشار عليه أن يبعث بي إلى مدرسة المنصورة الابتدائية، وكانت المدرسة الحكومية الوحيدة في الدقهلية كلها، وقد عين المرحوم أمين سامي باشا ناظرا لها، وكان معروفا بالدقة والنظام والشدة وعدم التسامح في أي تقصير يبدو من أحد التلاميذ، ومع ذلك فقد كنا نحبه ونحترمه ونشعر بأبوته الرحيمة، وكان بالمدرسة قسم داخلي، فالتحقت بالسنة الثانية بامتحان؛ لأني كنت - عدا حفظي للقرآن الكريم - أعرف قواعد الحساب الأربعة، و«سورة الفدان» من صراف بلدنا «المعلم حنين» وكان يلبس جبة وقفطانا.
وأذكر على سبيل الفكاهة أن أحدهم سأله يوما عن رئيس الوزارة نوبار باشا، فقال له: «قول لي يا معلم حنين، نوبار باشا مسلم؟»
فأجابه خبثا أو بسلامة نية: «نعم، مسلم وموحد بالله»! (2) العدس والفول فقط!
وكانت سنة 1882م حينما التحقت بمدرسة المنصورة الابتدائية، ولما اختطلت بزملائي التلاميذ شعرت بعد أيام بشيء من القلق؛ لأنهم كانوا يضحكون مني حينما أنطق القاف جافا كأهل بلدتي! هذا إلى أن الضرب والحبس في «الزنزانة» كانا من أنواع العقاب في هذه المدرسة، وقد رأيت في الأيام الأولى تلميذا وضعت رجلاه في الحديد؛ لأنه ارتكب ذنبا، وكانت روح الجندية هي السائدة على نظام المدارس في ذلك الحين، وكنا نخرج كل يوم جمعة «طوابير» نطوف في شوارع المدينة ثم نعود إلى عنابرنا، وكانت عيشة المدرسة عيشة شظف وخشونة، وقد كانوا في وجبة الفطور يقدمون لكل تلميذ رغيفا فقط، وعليه أن يشتري من جيبه الخاص ما يأتدم به من جبن أو حلاوة، وكان العدس أو الفول هو وجبة الغداء والعشاء، وفي بعض أيام الأسبوع يقدمون لنا شيئا من اللحم والفاكهة.
Bilinmeyen sayfa
وجاء والدي كعادته لزيارتي يوم الجمعة، فأبديت له أسباب تعبي وضيقي من هذه المدرسة، وقلت: «إنني غير مبسوط، وأخشى أن أنسى فيها القرآن الكريم فيعاقبني الله بالنسيان، وقد قال تعالى:
كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ...» فابتسم رحمه الله وقال لي: «وانت تنسى القرآن ليه؟! اقرأ كل يوم جزءا منه وأنت لا تنساه، وخليك في المدرسة»، فاستمعت لنصيحة والدي، ومكثت بالمدرسة، وقد حبب إلي البقاء فيها أستاذ اللغة العربية «سيد أفندي محمد»، وكان مشهورا بالقدرة والتفوق في تربيته وتعليمه، وكان تلاميذه أقوى زملائهم في اللغة العربية، وعلى يديه نبغ كثيرون. (3) من المنصورة إلى الخديوية
أمضيت ثلاث سنوات في مدرسة المنصورة الابتدائية، وأتممت تعليمي الابتدائي في سنة 1885م، ولم تكن شهادة الابتدائية ولا البكالوريا قد وجدتا بعد، بل كان الانتقال من مرحلة إلى أخرى بالنجاح في امتحان المدرسة، وكان بمدرسة المنصورة فرقة تجهيزية واحدة فألغيت في ذلك العام، واضطررت للسفر إلى مصر لألتحق بالمدرسة الخديوية.
ولقد أصبت نعمة كبرى في هذه المدرسة بصحبة صديقي وأخي عبد العزيز فهمي، من أول يوم التقيت به في عنبر المدرسة، وذلك في مناقشة أثيرت بيننا وبين بعض الطلبة في النحو، فاتفق رأيه ورأيي ضد الآخرين، ومن تلك الليلة صرنا صديقين حميمين، ولا أذكر أن أحدنا قصر في حق صديقه أو قال عنه ما يسوؤه، أو وجه إليه كلمة تؤلمه، ولو على سبيل المزاح.
ولما انتظمنا في المدرسة رتبونا بالطول، فقصار القامة في السنة الأولى، والأطول منهم في السنة الثانية، وهكذا، وكان وزير المعارف يومئذ عبد الرحمن رشدي باشا، ووكيلها يعقوب باشا أرتين وناظر المدرسة صادق بك شنن، وكان هذا الناظر معروفا بحبه لأهل البيت ، وإذا وبخ أحدا قال له: «يا يزيد!» وقد عز على صديقي عبد العزيز فهمي باشا - وقد أمضى سنة في تجهيزية مدرسة طنطا - أن يكون تلميذا في السنة الأولى، فاحتج على هذا الوضع، فقبل احتجاجه بصعوبة ونقل إلى السنة الثانية، ولما لم تكن شهادة البكالوريا قد وجدت في ذلك الحين؛ فقد شاء عبد العزيز فهمي، وهو في السنة الثالثة، أن ينتقل إلى مدرسة الحقوق، فذاكر في الإجازة لامتحان القبول بها ونجح، أما أنا فبقيت في الخديوية إلى أن حصلت على البكالوريا سنة 1889م وكان نظام الشهادات العامة قد وضع قبل ذلك بعام. (4) عصر «الفتوات»!
وفي المدرسة الخديوية عرفت عيشة الترف بالنسبة لمدرسة المنصورة، فكنا نأكل بيضا ولحما وحلوى وفاكهة كل يوم، ولم تكن نفقاتها تزيد على نفقات مدرسة المنصورة، وكانت في سراي مصطفى باشا بدرب الجماميز، هي ومدرسة الترجمة والمهندسخانة ووزارة المعارف، وكان طلبة المهندسخانة يختلفون عنا بزيهم العسكري الكامل، ويحملون إلى جانبهم سيوفا، فكانوا يشيعون بمنظرهم الرهبة في نفوس الطلبة الآخرين وبخاصة الغرباء، وكان مما يخيفني بالقاهرة حوادث «الفتوات» في ذلك الزمان؛ فقد كان في كل حارة عصابة على رأسها «فتوة»، وكثيرا ما كانت تحدث معارك دامية بين هذه العصابات، وقد امتدت عدوى الفتوة إلى الطلبة أنفسهم حتى ظهر بيننا طالب «فتوة» يدعى «منصور» كان يعلم زملاءه «التحطيب»، ولهذا كنت أوثر البقاء في المدرسة أيام العطلة الأسبوعية، وقد مكثت في أول عهدي بالقاهرة ثلاثة أشهر لا أخرج من الخديوية، قرأت فيها كتاب «أصل الإنسان» لداروين، الذي ترجمه المرحوم «شبلي شميل»، وحفظت كثيرا من المعلقات وأشعار بعض كبار الشعراء، وكان من مدرسى اللغة العربية في هذه المدرسة: الشيخ حسين والي، والشيخ محمد حسنين البولاقي والد المرحوم أحمد حسنين باشا، وكنا وقتئذ نقرأ كتابا مطولا في النحو لمؤلف يدعى الشيخ محمود العالم.
وكانت مدرسة الخديوية تجري كل شهر اختبارا لتلامذتها، فرغب تلامذة البكالوريا أن تعفيهم المدرسة من الاختبارات الشهرية؛ لينصرفوا إلى المذاكرة للامتحان العام، وأجمع رأيهم على أن يطلبوا إلى وزير المعارف علي باشا مبارك إعفاءهم منها، واختاروني للذهاب لمقابلته، فذهبت إليه، وكان من عادته أن يضع سبورة في مكتبه لاختبار كل من يتقدم إليه من الطلبة في حاجة يريدها، ولا يجيبه إلى حاجته إلا إذا أجابه إجابة صحيحة فيما يختبره فيه من المسائل الرياضية أو العلمية، فلما مثلت بين يديه طلب مني أن أقف أمام السبورة لأبرهن على النظرية الهندسية التي حاصلها «أن مربع وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين»، فأثبتها أمامه، فأجابني إلى الرغبة التي أوفدني إليه زملائي من أجلها، وقد كان رحمه الله أبا للتلاميذ، محبا لهم، عطوفا عليهم، وكثيرا ما كان يختلط بهم في وقت الفراغ، ويفسح لهم منزله للزيارة، وكان منزله في الحلمية الجديدة بشارع «نور الظلام» مقصدا لأهل العلم وطلابه. (5) إلى مدرسة الحقوق
وقد كنت في التعليم الثانوي متوسطا، فلم أكن من المتقدمين ولا من المتأخرين، على أني كنت متفوقا في العلوم العربية والرياضيات حتى لفت ذلك صابر باشا صبري، وأحمد كمال بك، في اللجنة الشفوية لامتحان الرياضة في البكالوريا، فنصحاني أن أدخل المهندسخانة، فأجبتهما إلى ذلك، غير أني قرأت في الإجازة أن المهندسخانة تقبل ساقطي البكالوريا فلم أجد من كراماتي أن ألتحق بهذه المدرسة، وتغلب في نفسي نزق الشباب والعزة الكذابة على حبي للرياضيات، فقلت لأبي: «أنا لا أرغب في المهندسخانة، ولا أعرف أية مدرسة توافقني، وأجدني في حيرة من ذلك.» فقال والدي: «علينا بالقرعة.» فأجرينا فخرجت مرتين على مدرسة الحقوق!
التحقت بمدرسة الحقوق سنة 1889م، وكانت المدرسة وقتذاك يمكن أن تسمى «كلية حقوق» و«كلية آداب» معا؛ فقد كان الطلبة يدرسون فيها إلى جانب العلوم القانونية علوما أدبية كآداب اللغة العربية، وقواعد النحو والصرف والبيان والمعاني والبديع والعروض والقوافي، وتفسير القرآن الكريم، وآداب البحث والمناظرة، والمنطق، وكانت مدة الدراسة بها خمس سنوات، وكان وكيلها عمر لطفي بك، وكان يدرس لنا قانون العقوبات، ومن أساتذتها مسيو تستو مدرس القانون المدني والأستاذ شارل ولوزينا والشيخ حسونة النواوي الذي تولى بعد ذلك مشيخة الأزهر، وحفني ناصف بك وسلطان بك محمد، وكنت في ذلك الحين أسكن في حارة (عمر شاه) التي يسكن بها الشيخ حسونة النواوي، وكنت أتردد على منزله، وكثيرا ما يبعث إلي لأقرأ له درس الفقه الذي كان يلقيه في الأزهر في بكرة الغد.
وفي مدرسة الحقوق عرفني الشيخ محمد عبده والشيخ حسن الطويل، وكانا مع الشيخ عبد الكريم سليمان في لجنة امتحان العلوم العربية، وأذكر أنه في لجنة امتحان السنة الثالثة طلب منا أن نكتب في موضوع «حق الحكومة في معاقبة الجاني»، فتناولت الموضوع من جميع نواحيه، فكتبت المذاهب الأربعة التي أنشأها علماء الجنايات في شروحهم على قانون العقوبات، ثم نقضت كل مذهب منها، وخلصت في النهاية إلى أن الحكومة ليس لها حق معاقبة الجاني؛ لأن كل حكومة نشأت بالقوة، والقوة لا تعطي الحق وإنما الذي يعطيه هو العقد فقط، وليس هناك أي عقد بين أية حكومة وبين أمتها!
Bilinmeyen sayfa
ولما خرجنا من الامتحان، وذكرت ذلك لزميلي محمود عبد الغفار، أسف جدا لما فعلت، وقال لي: «يا لطفي أنا مش عارف فلسفتك دي حاتودينا فين!»
وقد ألقى في روعي أني أخطأت في هذا العمل ووثقت أني سآخذ «صفرا» على هذا الجواب، ولكن حينما دخلت الامتحان الشفهي وجلست أمام اللجنة قال لي الشيخ محمد عبده: «إني أهنئك بما كتبت وقد أعطيناك أعلى درجة، لا على ثورتك على الحكومات، ولكن على الإنشاء!»
وأظن أن هذه الكلمة هي التي شجعتني على أن أنشئ فيما بعد «مجلة التشريع» بالاشتراك مع المغفور لهم إسماعيل صدقي (باشا)، وإسماعيل الحكيم (بك)، وعبد الهادي الجندي (بك)، وعبد الخالق ثروت (باشا) ومحمود عبد الغفار.
ولقد هويت منذ كنت طالبا في الحقوق الكتابة في الصحف، فعاونت في جريدة «المؤيد»، بترجمة تلغرافاتها الخارجية، عندما كان الأستاذ محمد مسعود بك مريضا. (6) معركة لغوية
وأذكر أن المرحوم الشيخ حمزة فتح الله اللغوي المعروف استشهد يوما على صرف اسم «عمر» ببيت هو:
إلى عمر بن أبي غبقة
بيليل يهدي ربحلا رجوفا
فاستنكر ذلك اللغوي الكبير الشيخ محمد الشنقيطي هو وجماعته ومنهم الشيخ البكري، وأحمد زكي باشا، وكتب الشنقيطي مقالا في جريدة «المقطم» يتحدى فيها الشيخ حمزة فتح الله، وينفي وجوده في الشعر العربي، ويقول: «لو دلني أحد على مكان هذا البيت واسم قائله لأهديت إليه عشر نسخ من لسان العرب.» وكان هذا الكتاب قد طبع حديثا، فرد عليه الشيخ حسن الطويل، وكان أستاذا بدار العلوم، فقال له إن صحة البيت هكذا:
إلى عمرين إلى غيقة
فيليل يهدي ربحلا رجوفا
Bilinmeyen sayfa
وإن قائله صخر الهذلي، وأنه في صفحة كذا من لسان العرب، وطالب الشنقيطي بالجائزة، فكتب الشيخ الشنقيطي يقول: «وقف لنا الشيخ حسن الطويل بين السماطين يطالبنا بالجائزة كأنما أعددنا الجائزة لمن يخطئ لا لمن يصيب.» فكتب الطويل يقول: «روي البيت خطأ فصححناه، وزيد الصحيح هو عينه زيد المريض.»
فكتب أحمد زكي باشا ينصر الشيخ الشنقيطي على الشيخ الطويل، وفي ذلك الحين قابلت الشيخ الطويل ومعه سلطان بك محمد، فسلمت عليهما، فقال لي الشيخ الطويل: «لماذا لم تنصرني؟» فكتبت رسالة في «المقطم» نظرت فيها إلى النزاع من ناحيته القانونية، وانتصرت فيها للشيخ الطويل وقلت: إنه يستحق الجائزة. ولكن الشنقيطي أبى أن يدفعها! (7) في إستانبول
وفي صيف سنة 1893م سافرت إلى إستانبول، وكنت ما أزال طالبا بالحقوق، فالتقيت بزميلي وصديقي المغفور له إسماعيل صدقي (باشا)، وكان الخديو عباس حلمي الثاني يزور وقتئذ العاصمة العثمانية، فكنا فيها نحن الاثنين كأنما نمثل الطلبة المصريين في الاحتفال بالخديو.
وذات يوم كنت سائرا مع «إسماعيل صدقي» نتنزه على «كوبري غلطة»، وكان به شيء من القدم والتهدم، فأخذ «إسماعيل» يتساءل: أين ميزانية الدولة؟ وينتقد بطء التعمير والإصلاح، ويظهر أنه كان يسير وراءنا - دون أن نشعر - جاسوس عثماني، كما كانت الحال في ذلك الزمان، فأبلغ رؤساءه هذا الانتقاد.
وبعد بضعة أيام ركبنا معا حصانين، وذهبنا للتفرج في «بيوكدره» ولما عدنا إلى المرفأ لنركب «الحميدية» إلى إستانبول قال لي إسماعيل صدقي: «أرجو أن تنتظرني حتى أمر بأمين باشا.» فانتظرته على ضفة البوسفور حتى عاد من زيارته، فوجدته ممتقع اللون واجما حزينا، فسألته عن أمره، فأجاب: «سأقول لك متى دخلت المركب.» ثم قال لي ونحن في «الحميدية»: «إن أمين باشا كان في «المابين» (المعية السنية) فسمع من رجاله أن شابا مصريا اسمه إسماعيل صدقي تكلم ضد الدولة العلية وسياستها.» وكان جزاء من يثبت عليه ذلك أن ينفى في بغداد حتى يموت، ولكن أمين باشا أجابهم: «إن هذا الشاب الذي تعنونه ليس غير تلميذ صغير في المدرسة لا يعبأ بكلامه.»
فقالوا له: «إذن ما دام يهمك، فليسافر في أول سفينة تقوم من إستانبول.» فسافر إسماعيل صدقي في صباح اليوم التالي، ووصل إلى مصر في 12 يوما.
أما أنا فبقيت في إستانبول مدة إجازة الصيف أتتلمذ على جمال الدين الأفغاني.
الفصل الثاني
اشتغالي بالسياسة
(1) تتلمذت على جمال الدين
Bilinmeyen sayfa
في اليوم التالي لسفر إسماعيل صدقي (باشا) - وكان ذلك في صيف سنة 1893 - مررت بأحد مقاهي الأستانة، فلقيت فيها بعض المصريين، وفيهم سعد زغلول بك (باشا) وكان وقتئذ قاضيا بالاستئناف، والشيخ علي يوسف، وحفني بك ناصف، وقد تأهبوا لزيارة السيد جمال الدين الأفغاني، فصحبتهم إلى منزله، وكنت أعرف طرفا من حياته، ولكني لم أكن قد اجتمعت به من قبل، وكان قد ذاع صيته في الشرق الإسلامي كمصلح ديني، وفيلسوف جليل، وسياسي خطير، ونزل مصر سنة 1871، وأقام بها حتى أواخر سنة 1879، وعلى يديه نبغت طائفة من العلماء وكبار الكتاب في القطر المصري، وقد رحل إلى الهند وإيران والعراق وأوربا، ثم أقام في أواخر حياته بالأستانة، فنزل ضيفا على السلطان عبد الحميد في منزل يدعى (المسافرخانة) موفور العيش ووسائل الاطمئنان، وقد قوبل من العلماء ورجال السياسة الأتراك بالحفاوة والإكرام، وكان يخرج عصر كل يوم للرياضة والنزهة في أطراف المدينة على عربة سلطانية خاصة.
ولما ذهبت إليه مع إخواني، ألفيته رجلا مهيب الطلعة قوي الشخصية لا نظير له بين أهل عصره في علمه وذكائه وألمعيته، وكان أبيض اللون، ربعة، ممتلئ البنية، أسود العينين، نافذ اللحظ، خفيف العارضين، مسترسل الشعر، جذاب المنظر، يلبس عمامة وجبة وسراويل على زي علماء الأستانة.
وأظهر ما رأيته فيه سعة الاطلاع، وقوة الحجة والإقناع، فكان يستوي في مجلسه الطالب مثلي وأساتذته الحاضرون.
وفي اليوم التالي ذكرت لسعد زغلول رغبتي في التلمذة على السيد جمال الدين، وسألته عن السبيل التي أسلكها لأكون تلميذا له، فأجاب سعد: اذهب اليه، واطلب منه ذلك.
فقصدت إليه، فما كدت أقبل عليه حتى قام لتحيتي كالمعتاد، فقلت له: أنا لست زائرا، ولكني تلميذ ...
فسر رحمه الله بذلك، وأخذ علي عهدا بأن ألازمه طول إقامتي بالأستانة، وقد فعلت.
اشرب يا ولدي، اشرب!
وأهم ما أظن أني انتفعت به من السيد جمال الدين في تلك المدة أنه وسع في نفسي آفاق التفكير، وهداني إلى أن المرء لا يستطيع أن يربي نفسه إلا إذا حاسبها آخر كل يوم على ما قدمت من عمل، وما لفظت من قول، وما خطر لها من خاطر.
وكان جمال الدين ميالا للسياسة يتحدث عنها كثيرا، وكأنه يريد أن يقيم في الشرق دولة تضارع إنجلترا في الغرب.
وكان رحمه الله شديد النقمة على الإنجليز؛ لسياستهم في البلاد الإسلامية، وهدمهم لدول الإسلام، ولما وجده من اعتداءاتهم عليه، وإخراجهم له من الهند، ودسهم له في مصر حتى أخرج منها في عهد الخديو توفيق، وهو الذي كان يتمتع في عهد الخديو إسماعيل بكرم الضيافة المصرية، وكان يجرى له راتب شهري، وقد روى لي قصة سعيه الحثيث في ذلك العهد للإفراج عن لطيف سليم باشا ومن معه من الحبس حينما قاموا بالثورة العسكرية في مدة الوزارة المختلطة.
Bilinmeyen sayfa
وكان رحمه الله يقدر تلميذه «الشيخ محمد عبده»، وإذا ذكر اسمه في مجلسه أعرب عن احترامه له، وتقديره لذكائه وعلمه، وكان يعيب على المصريين تخاذلهم وتفرقتهم ونزاعهم وسط ما يلم بهم من الحوادث الجسام، ويردد قوله: «اتفق المصريون على ألا يتفقوا.»
وكان طيب الحديث، لطيف المعشر، حلو الفكاهة، وأذكر من حوادث مزاحه الطريف أنه قدم لي يوما سيجارة فدخنتها، فأعطاني الثانية، فاعتذرت، فقال لي: ألا ترى أن الإنسان منذ نشأته إلى الآن يأكل ويشرب ويلبس على خلاف في الصورة في العصور المتغيرة، ولكن الجوهر واحد، فما الذي جد عليه حتى علا نفسه في القرنين الأخيرين، فاستكشف البخار والكهرباء، إلخ، لا أظن أنه جد عليه شيء إلا شرب الدخان، اشرب يا ولدي، اشرب! (2) جمعية سرية لتحرير مصر
أتممت الدراسة سنة 1894 وحصلت على شهادة ليسانس الحقوق، فعينت في صيف ذلك العام أنا وجميع زملائي كتبة في النيابة بمرتب خمسة جنيهات في الشهر، وكان تعيينى في هذه الوظيفة لأول مرة بالقاهرة، ثم نقلت إلى الإسكندرية، فمكثت بها أشهرا، عينت بعدها سكرتيرا للأفوكاتو العمومي حسن باشا عاصم، ثم انتدبت معاونا للنيابة ببني سويف، وسرني ذلك؛ لأني وجدت بها صديقي عبد العزيز فهمي (باشا) وكيل النيابة وقتئذ، وفي سنة 1896 عينت وكيلا للنيابة بمرتب عشرة جنيهات، وكان صديقي عبد العزيز ما زال بها أيضا، فأقمنا معا في هذه المدينة، وكنا نفكر في حالة مصر، وما تعانيه من الاحتلال البريطاني، وفي ذلك العام أنشأنا جمعية سرية غرضها «تحرير مصر».
وكانت هذه الجمعية مؤلفة من: عبد العزيز فهمي، وأحمد طلعت رئيس النيابة (أحمد طلعت باشا فيما بعد)، وحامد رضوان وكيل النيابة، ومحمد بدر الدين وكيل النيابة، والدكتور عبد الحليم حلمي، وأنا، ثم ضممنا إليها علي بهجت بك، ومحمد عبد اللطيف الذي كان صيدليا بطنطا. (3) حزب وطني برياسة الخديو
وذات يوم كنت بالقاهرة بعد تأليف تلك الجمعية، فالتقيت بمصطفى كامل، فقال لي: «إن الخديو عباس يعلم كل شيء عن جمعيتكم السرية وأغراضها، وأظن أنه لا تنافي بينها وبين أن تشترك معنا في تأليف حزب وطني تحت رياسة الخديو.»
فأجبته: «لا مانع عندي من ذلك.» وأبلغ مصطفى الخديو هذا القبول، واستأذن لي في مقابلة سموه، وذهبت إليه، فتحدث معي سموه عن أغراض الحزب الذي يريد تأليفه، وطلب مني أن أسافر إلى سويسرا؛ لكي أكتسب الجنسية السويسرية، ثم أعود إلى مصر لأحرر جريدة تقاوم الاحتلال البريطاني، والسبب في اختيار سويسرا دون أية دولة، أن التجنس بجنسيتها قريب المنال لا يكلف الراغب فيه إلا إقامة سنة واحدة بها.
وكان الخديو عباس يظن وقتئذ أن فرنسا تستطيع أن تؤلب الدول على إنجلترا؛ لتجلو عن مصر، والذي أطمعه في ذلك زيارة «المسيو ديلونكل» النائب الفرنسي لسموه ووعده له بذلك.
وبعدما خرجت من مقابلة الخديو عباس، اجتمعت أنا ومصطفى كامل وبعض زملائنا في منزل محمد فريد، وألفنا الحزب الوطني كجمعية سرية رئيسها الخديو، وأعضاؤها: مصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعيد الشيمي ياور الخديو، ومحمد عثمان «والد أمين عثمان باشا»، ولبيب محرم (شقيق عثمان محرم باشا)، وأنا.
ومن طرائف ما يذكر عن هذا الحزب أن الخديو كان اسمه بيننا: «الشيخ» ومصطفى كامل «أبو الفداء»، وأنا «أبو مسلم»! (4) إقامتي في جنيف
سافرت بعد ذلك إلى جنيف لأكتسب الجنسية السويسرية حسب الاتفاق، وكان معي كتابان من علي بهجت بك إلى المستشرق «ماكس فان برشم» والأستاذ «نافيل» الأثري المعروف، فلما قابلت الأستاذ «ماكس» سهل لي استخراج جواز الإقامة، وأدخلني ندوة الفنانين، وكان مكلفا من الحكومة الفرنسية بجمع الآثار الإسلامية في مصر والشام ودراستها، ووضع مؤلف بها، فأخذت أقضي معه وقتا في مساعدته على استجلاء معاني النقوش العربية التي جمعها من الآثار، وأما المسيو نافيل الذي كان مشهورا بعلاقاته برجال السياسة في سويسرا وفي الخارج؛ فقد جاءني في الفندق بعد خمسة عشر يوما، وجرى بيني وبينه حديث طويل انتهى بقوله: لا تظن أن أوربا تساعدكم على إنجلترا، وأرى أن لا يحرر مصر إلا المصريون!
Bilinmeyen sayfa
مع الشيخ عبده بجنيف
مكثت في جنيف سنة 1897 أقضي الأشهر الأولى في الدراسة وحضور بعض المحاضرات بالجامعة، وأتعلم «الشيش» في أوقات الفراغ حتى أقبل الصيف، فجاءني فيها الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، فلم أخبرهم بمهمتي السياسية، وكان قاسم وقتئذ يؤلف كتابه «تحرير المرأة»، فقرأ علينا فصولا منه مدة إقامته بيننا، ثم سافر مع سعد زغلول من سويسرا، وبقي معي الشيخ عبده، وكانت جامعة جنيف قد أعدت فصلا صيفيا لدراسة الآداب والفلسفة للحائزين على درجة الليسانس فدخلت فيه، ولما ذكرت ذلك للشيخ محمد عبده أحب أن يحضر دروسه ، فقدمته إلى مدير الجامعة باعتباره قاضيا في الاستئناف وأحد مديري الأزهر، فقبله بهذا الوصف فمكثنا نتردد على هذه الدراسة.
والد محمد فريد يبكي
وأذكر أنني والشيخ محمد عبده في جنيف ذهبنا لزيارة محمد ثابت باشا الذي كان مهردارا للخديو إسماعيل - أي حامل أختام الخديو - وهو يساوي رئيس الديوان، وكان معه أثناء الزيارة أحمد فريد باشا والد محمد فريد، وكان ناظرا للدائرة السنية، ومن كبراء مصر المعدودين، فلما استقر بنا المقام أخذ فريد باشا يشكو ابنه إلى الشيخ محمد عبده، ويبكي، وكان وقتئذ مريضا، ويقول للشيخ: هل يصح يا سيدي الأستاذ أن يهزئني محمد فريد في آخر الزمن، ويفتح دكان أفوكاتو (مكتب محام)؟!
وكان محمد فريد قبل ذلك وكيلا للنيابة، وحدثت واقعة شركة التلغرافات التي اتهم فيها الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد، وقدم إلى المحاكمة من أجل نشر هذه التلغرافات في جريدته، وحضر محمد فريد الجلسة، فبدرت منه ألفاظ ضد الحكومة عدتها جارحة لها، فأمرت بنقله إلى الصعيد، فاستقال من وظيفته بعد استشارة رياض باشا، وفتح مكتبا للمحاماة بالاشتراك مع محمود أبو النصر، وأنشأ مجلة «الموسوعات» وكنت أنا أحرر فيها من وقت لآخر، وأذكر أنني كتبت بها عدة مقالات تحت عنوان «مشخصات الأمة» ناديت فيها بإصلاح الحروف العربية؛ كي يقرأ القارئون اللغة قراءة صحيحة من غير أن يتعلموا النحو والصرف ...
فلما سمع الشيخ محمد عبده شكوى أحمد فريد باشا لاشتغال ابنه بالمحاماة أخذ يهدئ من نفسه، ويعرب له أنه يخالفه في رأيه، ويرى أن الاشتغال بالمحاماة ليس فيه ما يجرح الكرامة وما يخل بالشرف على نحو ما يظن الناس، وما كان مألوفا في فهمهم لهذه المهنة في ذلك الزمان! (5) الخديو يغضب مني
كان الخديو عباس لا يميل إلى الشيخ محمد عبده، ويظهر أن بعض الناس أبلغ الخديو أنه كان يعايشني في جنيف، فلما عاد إلى مصر جاءني مصطفى كامل، وأفضى إلي بأن الخديو مغضب مني لأسباب؛ منها: اتصالي بالشيخ عبده، ثم قال مصطفى: «... ومع ذلك لم ننجح في الحصول على موافقة الباب العالي على تجنسك بالجنسية السويسرية!»
رجعت من سويسرا، ولما وصلت إلى الإسكندرية أرسلت تقريرا ضافيا إلى الخديو عباس دونت فيه أبحاثي السياسية بجنيف، وقلت: «إن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها، وإن المصلحة الوطنية تقضي أن يرأس سمو الخديو حركة شاملة للتعليم العام.» ثم سافرت من الإسكندرية إلى الفيوم عائدا لوظيفتي بالفيوم، ولم أتصل بالخديو، وكان صديقي عبد العزيز فهمي قد انتقل منها لوزارة الأوقاف وأنا بأوربا، فبقيت في الفيوم مدة انتقلت بعدها وكيلا للنيابة بميت غمر سنة 1900 ثم نقلت منها إلى الفيوم ثانيا، ثم إلى المنيا.
وكانت سنة 1905، فاستقلت من النيابة؛ لخلاف في الرأي القانوني بيني وبين النائب العمومي كوربت بك، ولم تكن الاستقالة الأولى من النيابة، بل استقلت قبل ذلك مرة أخرى؛ لخلاف قانوني أيضا، ولكني لم أنجح في الإصرار عليها.
فلما وقع هذا الخلاف بيني وبين النائب العمومي، أصررت على الاستقالة على الرغم من أنه نزل عن رأيه الذي كونه من خطأ وقع فيه وكلاؤه في تكييف الوقائع؛ لأني ضقت باحتمال جو خانق بالنيابة؛ إذ كنا مكلفين بألا نتصرف في الجنايات الكبرى إلا بعد أخذ رأي النائب العمومي، وقد عزمت على أن أعيش في بلدي، وكنت متأثرا وقتئذ بما كنت قرأته من مؤلفات تولستوي، ولكن صديقي عبد العزيز فهمي - وكان قد استقال من الأوقاف واشتغل بالمحاماة - ألح علي في الاشتغال معه، فأجبت رغبته واشتغلت بها فترة قصيرة ثم اعتزلتها؛ لأنصرف إلى العمل بالسياسة والتحرير في صحيفة «الجريدة».
Bilinmeyen sayfa
الفصل الثالث
اشتغالي بالصحافة ورأيي في الخديو عباس
أسلفت أني عدت من سويسرا بعد أن أبلغني مصطفى كامل أن الخديو مغضب مني لأسباب؛ منها: اتصالي بالشيخ محمد عبده في جنيف، وكان سموه لا يميل إليه، وقد قدمت لسموه تقريرا عن أبحاثي السياسية بعد عودتي إلى الإسكندرية، ثم سافرت إلى وظيفتي بالنيابة، ومكثت بها بضع سنوات حتى كانت 1905 فاستقلت منها لخلاف في الرأي القانوني بيني وبين النائب العمومي «كوربت بك»، وعلى الرغم من نزوله عن رأيه؛ فقد أصررت على الاستقالة؛ لأني ضقت باحتمال جو خانق بالنيابة؛ فقد كنا مكلفين فيها بألا نتصرف في الجنايات الكبرى إلا بعد أخذ رأي النائب العمومي خلافا لما كان العمل جاريا عليه من قبل، وعزمت بعد ذلك على أن أعيش في بلدي؛ لأني كنت وقتئذ متأثرا بما قرأته من مؤلفات تولستوي، ولكن صديقي عبد العزيز فهمي - وكان قد استقال من الأوقاف واشتغل بالمحاماة - ألح علي في الاشتغال معه، فأجبته إلى رغبته، واشتغلت بالمحاماة بضعة أشهر
1
ثم اعتزلتها؛ لأنصرف إلى العمل بالسياسة والتحرير بالجريدة. (1) أصحاب المصالح الحقيقية
وفي ذلك الحين وجدت مشكلة «العقبة» بين مصر وتركيا، وكان الأتراك يدعون أنها لهم، والإنجليز يقولون: إنها ملك لمصر، وكانت الجرائد الوطنية تنصر الأتراك على الإنجليز في هذه المشكلة، كما كانت الحال في مسألة «فاشودة»، فإن المصريين كان ضلعهم مع الفرنسيين ضد الإنجليز الذين كانوا يطالبون بفاشودة باسم مصر، وهذا المعنى لا يمكن تفسيره إلا بأن البلاد ثقل عليها الاحتلال فأصبحت تبغضه وتبغض معه ما يأتي به، ولو كان فيه الخير لمصر. (2) فكرة إنشاء «الجريدة»
وفي هذه الأثناء تحدثت في حالنا السياسية مع صديقي محمد محمود باشا - وكان وقتئذ سكرتيرا لمستشار نظارة الداخلية - وكان حديثي يتناول مسألة «العقبة» وما يجب لمصر في ظروفها السياسية من إنشاء جريدة مصرية حرة، تنطق بلسان مصر وحدها، دون أن يكون لها ميل خاص إلى تركيا أو إحدى السلطتين الشرعية والفعلية في البلاد، وقد رأينا أن تكون هذه الجريدة ملكا لشركة من الأعيان أصحاب المصالح الحقيقية الذين كان يصفهم اللورد كرومر وغيره من الإنجليز بأنهم راضون عن الاحتلال، ساكتون عن حقوق مصر، وأن الحركة المعارضة للاحتلال إنما يقوم بها من ليس لهم مصالح حقيقية في البلاد كالشبان الأفندية والباشوات الأتراك!
لهذا الغرض دعوت في «الكونتننتال» أصدقاءنا: محمد محمود، وعمر سلطان وأحمد حجازي، ومحمود عبد الغفار، وتحدثنا في الأمر، وقد لاحظنا في حديثنا وأبحاثنا أن الأمل الذي كان المصريون يعقدونه على فرنسا في المساعدة على زوال الاحتلال قد تبدد وانتهى أمره بالاتفاق الودي بين فرنسا وإنجلترا الذي عقد في أبريل سنة 1904، وكانت السياسة الفرنسية قبل هذا الاتفاق ترمي إلى مناوأة السياسة الإنجليزية في مصر بعد أن فازت إنجلترا دونها باحتلال وادي النيل، وكانت فرنسا تعاني في ذلك الحين مصاعب في مراكش، وخشيت أن يؤدي فشل إدارتها هناك إلى تدخل الدول وبخاصة إنجلترا وإسبانيا.
ولكن إسبانيا كانت مشغولة بمتاعبها في المنطقة الإسبانية، وكانت إنجلترا هي الدولة التي يخشى منها، ولهذا أرادت فرنسا أن تحصل على حيادها، وكان الثمن الطبيعي لذلك أن تحصل إنجلترا على حياد فرنسا في شئون مصر، فعقدت الدولتان هذا الاتفاق، وأهم ما نص عليه:
أن تعترف الحكومة الإنجليزية أنها لا ترغب في تغيير نظام مصر السياسي، وتعترف الحكومة الفرنسية من جانبها أنها لا تعرقل أعمال إنجلترا في مصر بسؤالها أن تحدد موعد الجلاء أو بأية طريقة أخرى.
Bilinmeyen sayfa
وبعبارة أخرى اعترفت فرنسا بالاحتلال الإنجليزي لمصر، وتركت لإنجلترا حرية أكثر مما كان لها في الشئون المصرية، وكان من نتيجة ذلك أن انهار أمل المصريين في فرنسا، وتحققوا أنه لا يمكن الاعتماد عليها، ولا على أية دولة في المسألة المصرية، وأن على مصر أن تعتمد على نفسها في المطالبة بالحرية والاستقلال.
تأليف شركة «الجريدة»
تبادلنا الرأي نحن المجتمعين في هذا الموقف، ووضعنا الخطة التي نسير عليها، وعينا المبادئ التي تقوم عليها جريدة حرة مستقلة غير متصلة بسراي الخديو، ولا بالوكالة البريطانية، وأخذنا نسعى في إقناع أصدقائنا ومعارفنا من أعيان البلاد، وألفنا في بيت محمود باشا سليمان شركة «الجريدة»، وانتخبت أنا مديرا لها ورئيسا لتحريرها لمدة عشر سنوات.
وكان رئيس الشركة محمود باشا سليمان، ووكيلها حسن باشا عبد الرازق الكبير.
وبعد تأليف هذه الشركة أخذت الجرائد المتصلة بالخديو عباس تتهمنا بأننا متصلون بالإنجليز، وأننا نمالئهم ضد الخديو، وقد كان لهم عذر في هذا الاتهام؛ لأنه كان بين شركائنا في «الجريدة» - عدا الأعيان - طائفة من كبار الموظفين المصريين في الوقت الذي سيطر فيه الإنجليز على الحكومة، ومن هؤلاء أحمد فتحي زغلول باشا رئيس محكمة مصر ، وأحمد عفيفي باشا المستشار بالاستئناف، وعبد الخالق ثروت باشا عضو لجنة المراقبة وصاحب الأثر الكبير في وزارة العدل.
ومن الطريف أن كانت هناك جريدة يصدرها وقتئذ حافظ عوض باسم «خيال الظل» فنشرت أبياتا ينسبها بعضهم إلى أحمد شوقي جاء فيها:
ما في «الجريدة» من نرجيه سوى «لطفي» فردوه لنا وكلوها!
وقد بقيت هذه التهمة عالقة بالجريدة حتى ظهرت بعد ستة أشهر من تأليف الشركاء في 9 مارس سنة 1907.
وقد افتتحتها بمقال تضمن أغراضها ومبادئها، جاء فيه:
ما الجريدة إلا صحيفة مصرية، شعارها الاعتدال الصريح، ومراميها إرشاد الأمة المصرية إلى أسباب الرقي الصحيح، والحض على الأخذ بها، وإخلاص النصح للحكومة والأمة بتبيين ما هو خير وأولى، تنقد أعمال الأفراد وأعمال الحكومة بحرية تامة، أساسها حسن الظن من غير تعرض للموظفين والأفراد في أشخاصهم وأعمالهم التي لا مساس لها بجسم الكل الذي لا ينقسم، وهو الأمة.
Bilinmeyen sayfa
لا يكون من أهل الوطن الواحد أمة إلا إذا ضاقت دائرة الفروق بين أفرادها واتسعت دائرة المشابهات بينهم، وإن أظهر المشابهات في حالة الأمة السياسية هو التشابه في الرأي بين الأفراد وهذا ما يسمونه بالرأي العام.
والناس بطبائعهم أشتات في الرأي، كما قيل: «للناس عدد رءوسهم آراء» وهم في البلاد الحديثة العهد بالرقي، ينصرف كل منهم غالبا عن التفكير في الأمور العامة إلى تدبير حاجتهم الخاصة، حتى ترشدهم الصحف كل يوم إلى أن لهم فوق وجودهم الخاص وجودا عاما، وأن بهذا الوجود العام كما لا يجب أن يرقى إليه بعمل الأفراد ... إلخ.
وكان من عادتي أن أكتب افتتاحيات الجريدة، ما كاد يمضي على صدورها غير أيام، حتى انتهت مهمة اللورد كرومر في مصر، فخطب خطبته المشهورة في «الأوبرا»، وعلقت «الجريدة» عليها تعليقا لا يقل عنفا عن الجرائد المتصلة بالخديو عباس، وسارت في طريقتها وعلى مبادئها تنقد أعمال السلطة الفعلية التي كانت للإنجليز، كما تنقد أعمال السلطة الشرعية؛ سلطة الخديو عباس.
وقد يحسن هنا أن أتحدث بإيجاز عن هاتين السلطتين ليقف القارئ على حالة مصر، ومركز كل من الخديو واللورد كرومر في ذلك الحين . (3) الخديو عباس
كان الخديو عباس حلمي الثاني قوي الإرادة لا يحتمل أن يرى غيره يتصرف في حقه، فعندما ولي الخديوية المصرية أظهر صفات القوة الشخصية والشجاعة الأدبية والعزة اللائقة بالملوك، فأنكر على الإنجليز تصرفهم في حقوقه واستئثارهم بالأمر دونه، وعز عليه أن يصدر كل شيء باسمه على غير ما يختار، فنفر من معاملتهم إياه معاملة المغفور له والده، وعارض في كثير من المسائل بشدة، فتنبه لذلك الشعور الوطني، وقال الناس: «إن هذا الأمير سيعيد لنفسه مجد أبيه الأكبر محمد علي باشا.»
وقد رأى أن وزارة مصطفى فهمي باشا هي من أكبر وزارات «الوفاق» أو «الاستسلام»، فأسقطها، ونصب وزارة حسين فخري باشا في 16 يناير سنة 1893، ولكن إنجلترا أرغت لهذا التصرف وأزبدت وعارضت في تنصيب الوزارة الجديدة، وأكرهت «الخديو» على إسقاطها، فلم تلبث في الحكم غير ثلاثة أيام! ولكن ذلك لم يفل من عزم الأمير المطالب بحقه، فسار في سياسة الخلاف كلما حانت الفرصة، حتى انتقد الجيش في بعض نظمه، وكان على رأسه «كتشنر» حينما تفقده الخديو في الحدود المصرية، فغضبت الحكومة الإنجليزية، وطلبت الترضية فوقف سموه موقف المتمسك بحقه من إبداء رأيه في جيشه، ولكن الوزارة المصرية الجديدة برياسة مصطفى رياض باشا قد اضطرت يومئذ إلى إجابة مطالب إنجلترا، فكانت النتيجة أن شكر سموه الجيش ترضية للسردار كتشنر!
وبعد ذلك جاءت سياسة «شبه الوفاق» من سنة 1894، فأكثر الإنجليز من عدد مستشاريهم وموظفيهم في النظارات، وأخذت «عابدين» و«قصر الدوبارة» كلتاهما تحمي من يلجأ إليهما من الموظفين من الجهة الأخرى، وترتب على حادثة الحدود وما سبقها نتيجة مساوية للنتيجة التي ترتبت على رضا الخديو السابق توفيق باشا بإلغاء قرار مجلس انتظار القاضي بالاستغناء عن خدمات «مستر سكوت»، ثم أعقب ذلك إمضاء اتفاقية السودان التي جعلت إدارته شركة بين الحكومة المصرية والحكومة الإنجليزية، ولكن المصريين فطنوا إزاء تلك الحوادث، إلى أنه يستحيل عليهم أن يتقدموا في سبيل المدنية خطوة إلى الأمام إلا بمشاركة الأمة المحكومة في الأعمال العامة، فأخذ كتابنا وكبراؤنا يشعرون بضرورة طلب الدستور عن طريق التدريج، فحنق الإنجليز - رغم إشادتهم بالحرية - من هذه المطالب، ولم يقتصروا على مناوأتهم للأمير الذي لا يريد أن يكون الاتفاق معهم سببا في انتقاص سلطته الشخصية، بل نالوا من الأمة أيضا بالتشهير، فلما أن جاءت حادثة «العقبة» رأى الإنجليز أن المصريين يتبرمون بهم، فأرادوا أن يعطوهم درسا أليما بأحكام حادثة دنشواي سنة 1906؛ ظنا منهم أن تلك السياسة - سياسة القسر - تصرف المصريين عن آمالهم في الدستور، وتقطع ألسنة الخاطبين، وتكسر أقلام الكاتبين لترشيح الأمة للدستور، ولكن النتيجة جاءت على العكس مما قدروا؛ فإن هذه الحادثة جعلت مصر تزيد اقتناعا بأن حياتها موقوفة على نيل الدستور بقدر ما يسمح به مركزها السياسي، فازدادوا طلبا له وتشبثا به، فقلل الإنجليز من حدتهم، وألانوا من جانبهم، وجنحوا إلى استرضاء الخديو عباس بسياسة الوفاق.
وفي أثناء تلك الحرب السجال بين السلطة الشرعية والسلطة الفعلية - أو بين الخديو واللورد كرومر واختلافهما على أيهما يكون له الأثر الفعلي في الأمة المصرية - قامت «الأمة» بين السلطتين تثبت شخصيتها غير المعترف بها من الفريقين، وتؤدي في سياسة البلاد واجبها حتى لا تكون متاعا لكل غالب، ملتزمة في ذلك طريق الحكمة والسلام.
هوامش
الفصل الرابع
Bilinmeyen sayfa
لورد كرومر أمام التاريخ
(1) أعمال اللورد كرومر
في أوائل سنة 1907 استقال اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر، وذلك بعد أن مضى على حادثة دنشواي الشهيرة نحو عام، تلك الحادثة التي أبرزت سياسته الاستبدادية للعالم بصورة بشعة، وأوضحت أعماله الاستعمارية لمصلحة قومه وبلاده بحالة لا تتفق مع مكانة دولة متمدنة، ومع ذلك فإن هذه الاستقالة عزيت إلى سبب آخر هو ضعف صحته، ومهما يكن هذا السبب فإنه لو كان قد بقي لورد كرومر عاما واحدا في منصبه لعيد عيده الذهبي في خدمة دولته؛ لأنه صرف حتى يوم استقالته تسعة وأربعين عاما في خدمة المصلحة البريطانية، ولقد أصدرت من صحيفة «الجريدة» في ذلك الحين ملحقا ذكرت فيه لمعة من ترجمته، ثم فصلت أعمال ذلك السياسي بما له وما عليه، فقلت: تنقسم أعمال اللورد في مصر إلى قسمين: أعمال مالية واقتصادية، وأعمال سياسية. (2) أعماله المالية والإقتصاية
أما أعماله المالية الاقتصادية فيبتدئ تاريخها في مصر سنة 1877 إذ عين عضوا إنجليزيا في صندوق الدين المصري، فأظهر لدولته من صدق النظر وسعة الاطلاع في المسائل المالية ما أنساها القاعدة القائلة: إن الذي يربى بين البنادق والمدافع كالشاب «أفلن بارنج» لا يميل به طبعه إلى المالية أو السياسة.
وفي سنة 1879 اتفقت الحكومتان البريطانية والخديوية على تعيينه مراقبا عاما للمالية المصرية؛ لأن إنجلترا كانت تهتم مع فرنسا أشد اهتمام بالمالية المصرية؛ صونا لأموال الإنجليز والفرنسيين، فأظهر براعة كبيرة، وكان في جملة الذين مهدوا السبيل لإصدار قانون التصفية
1
الذي ضمن للدائنين الأوربيين أموالهم مع فائدتها، وقبل أن يصدر ذلك القانون حدث أن مالية الهند ارتبكت ارتباكا شديدا فعينته حكومته عضوا ماليا في المجلس الهندي، وهناك لم يفعل إلا ما زاد حكومته ثقة به.
ولما تقرر أن يغادر السير إدوارد مالت معتمد إنجلترا في القطر المصري، لم تجد الحكومة البريطانية رجلا أخلق بمنصبه من لورد كرومر (وكان لا يزال اسمه السير أفلن بارنج)، ولما اجتمع مؤتمر لندرة سنة 1884 للنظر في المالية المصرية كان فيه مندوبا محترم الرأي، وكان يقول مثل كل عاقل: إنه لا يمكن الإصلاح في مصر قبل أن تقوم المالية فيها على أساس متين، ولا تقوم المالية على ذلك الأساس إلا إذا زادت مواردها ووثقت بها أوربا، ولا تزيد مواردها إلا إذا تحسنت أحوال الري على الأخص، فأصبحت أرض مصر تنبت من الخيرات كل ما تقدر على إنباته، وأما الموارد الأخرى كالجمارك والسكك الحديدية والبوستة، وسائر مصادر الدخل فإنها تأتي في المقام الثاني، ولذلك أفرغ كل جهده لدى الدول حتى حملها على عقد قرض خص جزءا منه بالري.
وما إن جاء سنة 1899 حتى صار دخل الحكومة (11415000 جنيه) وكان كلما زاد التحسن في المالية، زاد في المساعدة على تخفيف الضرائب، غير أن النفقات كانت طائلة بسبب فوائد الديون ونفقات المشروعات.
وكان لدى لورد كرومر مشروعان يؤلمانه ويشكو منهما؛ أولهما: صندوق الدين، والثاني: وهو متعلق بتخصيص ما قيده قانون التصفية بالديون كالدائرة السنية والدومين ونحو نصف دخل السكك الحديدية، فلم يجد وسيلة للخلاص من هذين المشروعين سوى الاتفاق مع فرنسا أولا، وحدث أن الملك إدوارد مال إلى هذا الاتفاق، وحببه إلى حكومته، فاغتنم كرومر الفرصة، وأيده بما استطاع، كما ذكر أخيرا في حديثه مع مراسلي الطان.
Bilinmeyen sayfa
أما السبب الذي حمل لورد كرومر على الشكوى من صندوق الدين مرارا في تقاريره، فهو أن الصندوق لم يكن يقدم كل ما تطلبه الحكومة المصرية من الأموال اللازمة للإصلاح، وقيل: إن لورد كرومر لما أذن بتأسيس البنك الأهلي، وأيده تأييدا معروفا كان يؤمل أن يقوم يوما مقام صندوق الدين، وها نحن أولاء نرى هذا الأمل يوشك أن يتحقق. •••
ولما تم الاتفاق الودي سنة 1904
2
بين فرنسا وإنجلترا كان أول ما فكر فيه اللورد كرومر حل عرى صندوق الدين، فرضيت فرنسا بالشروط التي عرضها عليها، ثم وافقت الدول الأخرى التي لها أعضاء في ذاك الصندوق.
ولقد بات لورد كرومر في راحة عظيمة من الوجهة المالية بفضل ذلك الاتفاق، فلم يعد يرى فرنسا تعاكسه كما عاكست في مسألة تحويل الدين، ولا تشاكسه كما فعلت مع روسيا حين أخذت نصف مليون جنيه من صندوق الدين لحملة السودان، اضطر إلى رده بحكم من المحكمة المختلطة، ولا يشك أحد في أن لورد كرومر فاز فوزا ماليا عظيما بإدخال ما أراده من المواد المتعلقة بالمالية المصرية في ذلك الاتفاق، كما فاز مع حكومته فوزا سياسيا بحمل فرنسا على التعهد لهم فيه: «بأنها لا تقيم أقل عقبة في سبيل إنجلترا بمصر سواء كان بطلب تعيين موعد للجلاء أو غيره».
وكان من سياسته المالية أيضا، أن يرفع أثقال الربا الفاحش عن عواتق الفلاحين، فأنشأ البنك الزراعي بعد إنشاء البنك الأهلي ونصح للحكومة المصرية وللبنك الأهلي بأن يساعداه حتى يقدم للفلاحين مبالغ صغيرة تسهل عليهم سبيل المعاش، فأنشئ هذا البنك، وجعل من مواد قانونه أن يسلف الفلاحين من عشرة جنيهات إلى 500 جنيه بفائده 9 في المائة ، غير أن بعضهم ينتقد البنك المذكور في بعض أمور ليس هنا محل إيرادها.
وليس في وسع أحد أن ينكر النتيجة التي وصلت إليها مصر بفضل تلك السياسة المالية، وإذا كان بعضهم ينتقد تفاصيل معينة في بعض المصروفات، فإن كل عاقل ينظر نظرة شاملة صادقة إلى تلك السياسة، يحكم بأن لورد كرومر من خيرة الاقتصاديين وأكابر الماليين، فكم زادت مساحة الأرض المزروعة منذ سنة 1883 إلى اليوم، وكم زادت قيمة الأرض الزراعية وأرض البناء بفضل سياسته، فليس بعجيب أن تعظم ثقة الأوربيين باللورد حتى صاروا يعدون كلمته حجة، أما خلاصة آرائه في الحالة الحاضرة، فهي أن هذا النجاح الاقتصادي قائم على قواعد راسخة، غير أنه يجدر بالمصريين وغيرهم ألا يتهوروا في الإقبال على إحدى الشركات قبل أن يدققوا ويفحصوا، ويستشيروا حتى يعلموا إذا كانت ثابتة القواعد قوية الأركان. (3) أعماله السياسية
لا ينكر أحد على لورد كرومر أنه سياسي محنك بعيد النظر رحب الصدر، طويل الأناة كما يجب على كل سياسي، غير أن سياسته لا تخلو من أثر العسكرية التي صرف فيها شبابه، نريد أنه شديد المراس في مطلبه، عظيم الإصرار على أمره، يبقى سنوات عديدة يسعى إلى غاية واحدة، ويتخذ من كل سانحة حجة وبرهانا لتأييد رأيه، ولا يدلنا على هذا كله مثل الحوادث التي جرت منذ 1884 إلى اليوم، ولو اتخذنا من تلك الحوادث مسألة الجلاء فقط مثلا، لكانت برهانا كافيا على خطته، فانظر كيف أنه كان يجاهد جهادا متواصلا حتى يستنبط في كل زمن وسيلة جديدة لإرساخ قدم دولته في وادي النيل، فسير حملة السودان، وكان في كل ساعة يستنجد الدماء الإنجليزية التي أريقت في أم درمان على كل إنجليزي أن يلفظ كلمة الجلاء، حتى استمال إلى رأيه كبار الأحرار والمحافظين، فأيده لورد روزبري، كما أيده لورد سالبري، واستمال إليه لورد لانسدون، كما استمال سير إدوارد جراي، وبات الأسطول البريطاني حارسا لما قرره في المسألة المصرية، فما رأينا حكومته ترد له طلبا، أو تستنكر عليه سياسة، ولو بلغت أقصى درجات الشره ، وإننا نورد للقارئ هنا مثلا واحدا لتلك الثقة العظمى بسياسته:
لما وقع الخلاف بينه وبين الخديو عباس على تعيين حسين فخري باشا خلفا لمصطفى فهمي باشا سنة 1893، ذهب لورد كرومر إلى عابدين، واعترض اعتراضا شديدا على تعيين فخري باشا، وأظهر للخديو أن إصراره على رأيه يجعل الأمر خطرا، وأبرز له تلغرافا من اللورد روزبري ناظر الخارجية يؤيد قوله.
3
Bilinmeyen sayfa
فإن معتمدا سياسيا يجد من حكومته مثل هذه المساعدة في هذا الحادث، يستشعر من نفسه حزما وإن يكن بلا حزم، فكيف برجل عسكري كاللورد كرومر؟! وإذا أراد المطالع برهانا آخر على تقديس الحكومة الإنجليزية لكل رأي من آراء لورد كرومر في المسائل المصرية، فليذكر حادثة فاشودة
4
التي كادت تضرم نار الحرب بين إنجلترا وفرنسا، وما تلك الحادثة وطرد كولونيل مرشان ورجاله من الجزء الذي احتله من السودان إلا تاييدا لسياسة كرومر، وما الاتفاق الذي عقد بين فرنسا وإنجلترا بعد تلك الحادثة على مناطق السودان إلا بناء على رأي لورد كرومر أيضا؛ تمهيدا لاتفاق أكبر وخطوة أوسع في سبيل التقرب بعد ذلك التباعد بين الدولتين.
ولما عقد ذاك الاتفاق، أي اتفاق سنة 1904، استراح اللورد من المسألة المالية الدولية في هذا القطر، كما استراحت دولته من المعارضة السياسية، ثم التفت إلى المسألة الدولية القانونية، فكتب قبل استقالته بعام فصلا طويلا عن وجوب تغيير الطريقة القديمة في الامتيازات الأجنبية، ثم نشر فصلا ضافيا في هذا الموضوع، أطلع عليه الناس وقتئذ ... فكانت حملاته على طريقة الامتيازات متتابعة كحملاته على صندوق الدين قبل أن ينال مراده.
وليس بنا من حاجة إلى زيادة الإسهاب في هذا الباب، فإن كل خطبة لرجال الحكومة الإنجليزية، وكل تقرير من تقارير لورد كرومر، وكل أثر من آثاره السياسية، يظهر حقيقة تلك السياسة التي اتبعها الشيخ الراحل، ولقد كان تقريره الأخير كوصية سياسية قبل رحيله عن هذا الوادي، وفي تلك الوصية لا ينصح دولته ببسط الحماية على مصر الآن؛ لأن بسطها يقضي بتغير في الحالة السياسية مع أن إنجلترا تعهدت في الاتفاق الإنجليزي الفرنسي، بأنها لا تغير شيئا من تلك الحالة، كما تعهدت فرنسا بأن تطلق يد إنجلترا في القطر المصري.
نتيجة تلك السياسة
فما هي نتيجة تلك السياسة كلها؟
نتيجتها أننا إذا نظرنا إليه بعين إنجليزي فلا يسع الناظر سوى الثناء عليه، وأما إذا نظرنا إليه بالعين التي يجب على المصري أن ينظر بها إلى مصلحة وطنه، فلا يمكننا أن نصوغ له شيئا من الثناء على عمله السياسي في مصر، فإنه حرم مصر من حياة سياسية تطمح إليها كل أمة حية، وإذا كنا لا نستطيع سوى الاعتراف بأن اللورد وسع نطاق الحرية الشخصية، فلا يمكننا أن ننكر أنه فعل العكس كل العكس مع موظفي الحكومة من المصريين فنزع حريتهم وسلطتهم ونفوذهم، وألقاها في أيدي الموظفين الإنجليز، فبات كثير من أذكياء الشبان المصريين ينفرون من وظائف الحكومة، ولا أدل على هذا كله من شدة احتياج الحكومة إلى موظفين ومستخدمين، ولا نظن أن قلة الكفاءة التي يذكرها اللورد في تقريرة إلا نتيجة التعليم الناقص، وسوء معاملة الموظفين والمستخدمين في الحكومة، وربما كان يرى خذلان التعليم الصالح موافقة لمصلحة بريطانيا العظمى؛ لأن اللورد كان ينظر في كل أمر إلى مصلحة دولتة قبل كل شيء؛ سنة الوطني الغيور على وطنه.
وإنه لمن هذا الطراز كلامه عن الوحدة الإسلامية وعن وجود التعصب لها في القطر المصري، مع أن التعصب ليس له فيه أثر على الإطلاق، ولكن المصلحة البريطانية، تريد أن تمثله هائلا مخيفا، ومن هذا الطراز أيضا كل عمل وكل اتفاق، وكل خطوة وكل حركة لذلك السياسي الإنجليزي العظيم.
وربما كان في وسع اللورد أن يحصل لدولته على أكثر من الفوائد التي حصل عليها، لو أنه صرف همته أيضا في كسب ولاء المصريين الذين وصف نفسه بأنه صديقهم، ولو أنه وضع للتعليم العام قواعد تجعله منتجا مفيدا للأمة، ودفع عن المعارف العمومية من كان يناهضها، واعتمد في الإصلاح على أكفاء المصريين، ورشحهم بحرية العمل إلى حسن الإدارة، ورغب عن محو الجنسية المصرية الصميمة بما قال من إنشاء جنسية دولية لمصر.
Bilinmeyen sayfa
لا شك أنه بذلك كان يكسب لدولته صداقة الأمة المصرية، ولشخصه ثناء من المصريين يعادل ثناءهم عليه لعمله على نمو الحرية الشخصية واحترام الحق والمساواة بين طبقات الأمة. (4) خصائص السياسة الإنجليزية
للسياسة الإنجليزية عدة خصائص أو بالأولى عدة قوى متماسكة متضامنة يتألف من مجموعها تلك السياسة التي تحكم على خمس العالم، وإحدى تلك المميزات أنها لا تنقل سفيرا في دولة ولا حاكما في مستعمرة ولا معتمدا في بلد، إلا إذا قضت الدواعي القاهرة كما حدث للورد كرومر معتمدها في القاهرة؛ فإن هذا السياسي الكبير يقيم في العاصمة المصرية منذ بضعة وعشرين عاما، ولولا طول إقامته لما تمكن من إظهار مقدرته؛ لأن النقل يقطع على السياسي سلسلة أفكاره التي يتمكن بها من الصعود إلى أعلى مراتب العلاء.
فلورد كرومر كان كبيرا بثلاث: مقدرته الشخصية، ومساعدة دولتة له بكل قواها، وسعة الوقت الذي انفسح له في مصر، وكان من يرسل نظرة شاملة إلى أعمال لورد كرومر منذ تعيينه معتمدا لدولته في هذا الوادي، يجد أن تلك المزية في السياسة الإنجليزية ساعدته أعظم مساعدة؛ لأنها مكنته من إتمام سلسلة أعماله حلقة فحلقة، والرجل كان يشهد له الخصوم قبل الأحباب بأنه بعيد مرمى النظر، طويل حبل الصبر، فكان كل عمل يأتيه تمهيدا لما يأتي بعده، وتوطئة للغرض الذي وضعه نصب عينيه، فما وافق على ترك السودان في أوائل عهد الاحتلال إلا ليبقي استئناف الحملة على السودان وسيلة جديدة بين يدي الاحتلال يتوصل بها لزيادة توطيد القدم الإنجليزية عند الفرصة الموافقة، وقد عرضت له تلك الفرصة سنة 1895 حين علم بسير القائد الفرنسي مارشان نحو السودان المصري، وما عقد بعد فاشودة من الاتفاق السوداني مع فرنسا إلا ليزيل ما بقي من آثار الاستياء في نفوس الفرنسيين بعد تلك الحادثة ويمهد السبيل لإطلاق يد الاحتلال في المالية داخل القطر، وإطلاق يد حكومته من الوجهة السياسية، فكان له ما أراد باتفاق سنة 1904 مع فرنسا، ثم بموافقة سائر الدول صاحبات الشأن في صندوق الدين على ما يتعلق بمصر، فتزعزع من تلك الساعة أساس هذا الصندوق.
وما مد اللورد يمين المساعدة في ذاك الاتفاق اكتفاء بمزاياه فقط، بل قال في نفسه: نحن نغنم ما يقدمه من المزايا السياسية والمادية، ثم نجعله تمهيدا جديدا لمشروع آخر عظيم هو تغير تلك الامتيازات في مصر، وحصر السلطة التشريعية في قبضة بريطانية، وما نيل هذا المراد بالأمر المستحيل ما دام الاتفاق الودي موجودا بين لندن وباريس.
هوامش
الفصل الخامس
ردي على اللورد كرومر
المصريون في رأي اللورد كرومر
على إثر استقالة اللورد كرومر نشر تقريرا عن آرائه وأفكاره وما قام به من أعمال في القطر المصري، وقد تناول هذا التقرير طبيعة المصريين وأخلاقهم وأفكارهم، كما تناول ميولهم نحو الجامعة الإسلامية التي كانت تجول في خواطر بعض المصريين في ذلك الحين، وقد قمت في مايو سنة 1907 بالرد على ما حواه هذا التقرير من أخطاء وادعاءات، وإني ألخص هذا الرد في الصفحات التالية:
ليس من موضوعنا أن نبحث عن قيمة الشرقي على العموم من جهة الأخلاق الثابتة وآثار التطوير المدني في تلك الأخلاق، ولا من جهة كفاءته السياسية لتدبير شئونه وحكم نفسه، ولا من جهة تاريخ الشرق في التمدن، ولا من جهة أن اليابان من بلاد الشرق كما استثناها اللورد كرومر في تقريره معتذرا بعدم معرفتها، ولكنا نتعرض إلى تفسير تلك الجملة المبهمة الكثيرة المعاني القليلة الألفاظ التي صدر بها هذا الموضوع في تقرير اللورد.
Bilinmeyen sayfa
قال الأستاذ سايس: «إن الذين أقاموا في الشرق وحاولوا الاختلاط بأهله يعلمون حق العلم أنه يستحيل مطلقا على الأوربي أن يتحد في النظر مع الشرقي، ومن المحقق أن الأوربي بادئ الأمر يظن أنه هو والشرقي يتفاهمان ولكنه يأتي وقت - عاجلا أو آجلا - يرى الأوربي نفسه يحس فجأة أن ذلك كان حلم نائم، ويجده أمام إنسان ذي ملكات عقلية غريبة بالمرة؛ حتى ليظنه من سكان زحل!»
وبهذا الرأي يدين اللورد كرومر، ويحكم به على الشرقيين الذين يعرفهم لا على اليابانيين والصينيين.
صدق الأستاذ سايس إذا كان قوله منصرفا إلى أن الأخوين: الشرقي والغربي مختلفان في النظر جدا فيما يتعلق بتفضيل المنفعة المادية على المنفعة الأدبية، أو بعبارة أخرى إن الشرقي بذكائة وأطوار تمدنه، ولغاته المملوءة بضروب المجازات، ووجوه القليل الاضطرابات، وطبيعة أوطانه، وما ألفه من التقاليد الدينية العريقة في نفسه ومواعظ أسلافه الغالب فيها تفضيل الزهادة؛ كل ذلك يجعله يميل بطبعه إلى أن يجعل للفضائل الأدبية كالإحسان والكرم والوفاء والإخلاص الديني المقام الأول في حياته الدنيا، ويفضلها على المنافع المادية، فعيب الشرقي قد يكون في سهولة أخلاقة وسلاسة انقياده، كما وصف به أرسطو سكان آسيا الذين يشهد لهم بالذكاء المقتضي صحة الإنتاج، ولكنه عاب عليهم ما ينتجه تأصل طبائع الاستبداد في حكوماتهم، ولا يظن المطلع على تقرير اللورد أنه أراد بقوله الإشارة إلى تلك الفضائل، خصوصا أنه ليس في مقام مدح الشرقي، ولكن الذي يطلع على هذا الموضوع من التقرير يرى أنه يريد بيان مسألتين:
أولاهما: أن أفكار المصريين عقيمة غير منتجة إلى حد أنه يصعب معرفة مقاصدهم وآمالهم السياسية، وأقام على ذلك دليلا هو أن أفكارهم بعيدة عن تطبيق هذه القاعدة: «من يبغ المطلب يبغ الوسيلة»؛ لأن بعضهم يظهر له الرغبة في الرضا عن نتائج الاحتلال دون الرضا عن الاحتلال، وأن أحدهم طلب إليه تعيين مهندس إنجليزي لتقسيم الماء، وبعضهم طلب قاضيا إنجليزيا للفصل في قضية، ولا نتعرض هنا لذكر الأشياء التي حملت هؤلاء الأشخاص على مثل هذه الطلبات - على فرض أن طلباتهم تؤخذ على شعور المصريين جميعا - بل نرجئ هذا البحث إلى الفصل الخاص بالموظفين، وغاية ما نورده هنا هو مناقشة القاعدة «من يبغ المطلب يبغ الوسيلة».
وجد الاحتلال الإنجليزي في مصر بعلة إطفاء الثورة وتأييد سلطة الخديوية المصرية والمحافظة على المصالح الأوربية، ثم تدرجت العلة إلى إصلاح شئون الأمة المصرية وإعدادها لتحكم نفسها بنفسها، وليأمن الإنجليز على حقوقهم التي كسبوها في مصر، ثم ينصرف عنها الاحتلال.
متى كان هذا هو غرض الاحتلال، وكانت أعمال الاحتلال الظاهرة الحسية تؤيد هذا الغرض ، فيكون المصري الذي يرضى بالنتائج (أي بالإصلاح الذي لأجله جاء الاحتلال) ولا يرضى بالاحتلال هو إنسان عقيم النظر حقيقة.
أما وقد رأى المصري رأي العين أن الاحتلال لم يثبت له بالحس أن علة وجوده في مصر هو تأهيل مصر لأن تحكم نفسها بنفسها، بل رأى بين الغرض من الاحتلال وبين كثير من أعمال الاحتلال في مصر بونا بعيدا فأشكل عليه الأمر إلى حد أن المصري المنصف الكثير التدبر والتروي، الذي لا يشوب حكمه على الأمور في مصر غرض من الأهواء، يكاد كلما طابق بين علة الاحتلال وبين عمله يقع في روعه أن للاحتلال مقصدا خفيا غير ما يقول الساسة الإنجليز، ولا شك في أن مثل هذا معذور إذا رضي بنتائج الاحتلال دون الاحتلال الذي أشكل المقصود منه على العقول. •••
بشر المصري آماله حين رأى احترام الحكومة للحرية الشخصية التي نشرها الاحتلال وإلغاء السخرة وغيرها، والقيام بالأعمال النافعة، ولكنه لم يلبث أن رأى الاحتلال بعد ذلك بقليل قد ظهر في كثير من المواطن بمظهر المعاند، فأخذ أولا يقتسم هو والخديوية المصرية آراء الناس وميولهم، فأخذ الناس أيضا بمقتضى هذه المعاندة بين السلطتين أن يلتجئ كل إلى ما يرى في الالتجاء إليه مصلحته الذاتية؛ لأن المصلحة العامة هي في ألا يلتجئ الناس إلى أحد الطرفين دون الآخر؛ لأن انتشار ذلك يضيع شخصية الأمة، ويجعلها كما كانت لا حق لها إلا الطاعة للأمير - (إن سميت الطاعة حقا) - ولا ينكر أحد أن تنازع السلطتين من طبعه أن يجعل العناد يتخلل كثيرا من أعمال كلتيهما؛ كلما ظفر الاحتلال بالسلطة قرب كثيرا من الذين لا يهمهم إلا مصالحهم أو رواتبهم، ثم التفت إلى التعليم العام في المدارس الأميرية فوصل بها إلى هذا الحد الذي نراه اليوم، والذي جعل الحكومة نفسها تشكو قلة الأكفاء بل ندرتهم، ثم مال إلى النفوذ الشخصي للحكام الوطنيين فجردهم منه، وانحصر عملهم في الطاعة لغيرهم من الإنجليز سواء أكانوا رؤساء أم مرءوسين، ثم لم يستبدله بمشاركة الأمة له في الحكم، فاعتقد المصريون أو أغلبهم أن الاحتلال هو لمصلحة إنجلترا وأوربا بالذات، حتى لقد غلا بعضهم في تقدير فهمه العدل الذي جرى على يد الاحتلال، فقال: إن إنجلترا مهما كانت نياتها لمصر، لا يمكنها إلا أن تعدل ما دامت ترى أن لا مصلحة لها في الظلم.
فهل يكون المصري غير منتج إذا بنى فكره على الأعمال المشاهدة من خير وشر، واستنتج من هذه الأعمال نتيجتها اللازمة، وهي أن الاحتلال قد جاء ببعض الفوائد، ولكن تمشيه على طريقة حرمان الأمة من الحياة السياسية خطر على الأمة يوجد الضجر والقلق وسوء الظن بالاحتلال، كما قدمنا، فتكون النتيجة أن تطبيق القاعدة المذكورة على وجود الاحتلال (وهو الوسيلة) وعلى فوائده (وهي المطلب) من الصعوبة بحيث لا يمكن تطبيقها من غير تعسف إلا إذا أبان الاحتلال لمصر أنه يسعى في منح مصر حياة سياسية بالتدريج، والمؤمل أنه يعمل على ذلك، ولا ينكر منصف أن الحكومة اهتمت في هذه السنين الأخيرة بأمر نشر التعليم بين طبقات الفلاحين، ونجحت في تذليل كثير من الصعوبات التي كانت تقف في طريق تعليم البنات، ولو أضافت إلى ذلك منح الأمة شيئا من الاشتراك معها في العمل لاقتنع الناس بأن الاحتلال مؤقت وأنه لا يقيم إلا ريثما تصلح مصر لحكم نفسها بنفسها، ولأمكن بعد ذلك القول بحق أن «من يبغ المطلب يبغ الوسيلة».
ولكن هناك أمرا آخر لا يصح إغفاله؛ لأنه قد زاد من الاحتلال إبهاما على إبهام، وهو ما ذكره اللورد كرومر في خطبته الأخيرة في حفلة الوداع، تلك الخطبة التي هي منصبة في أغلب معانيها على الغرض السياسي الخطر الذي يحاول إقناع العالم به، وهو جعل مصر مستعمرة أوربية مختلطة يكون للأوربيين فيها الغنم، وعلى المصريين منها الغرم، فكان مهر قبول هذه الفكرة لدى الأوربيين أن صرح في خطابه بأن الاحتلال باق في مصر إلى ما شاء الله، فكان في هذا التصريح التباس جديد على الناس ... ولكن مع ذلك نرى أن هذا التصريح ليس من شأنه أن يؤثر تأثيرا جوهريا في السياسة المصرية؛ لأن وقت التفكير فيه لم يحن بعد.
Bilinmeyen sayfa
ومن هذا يرى القارئ أن عدم صحة الفكر المصري في الإنتاج لم تأت من طبيعة له ولا من عرض ملازم له، بل أتت من إمكان الحكم على مقاصد إنجلترا من الاحتلال.
المسألة الثانية هي: الجامعة الإسلامية
إن فكرة الوحدة الإسلامية قد تجول أحيانا بخواطر بعض الناس الذين لا يزالون بعيدين عن الاشتغال بالسياسة والنظر في الأمور العامة بشيء من التدقيق، ولكن تلك الفكرة لم تخرج عن حيز الخواطر، تظهر وتختفي تبعا للحوادث، فكلما رأى المصريون اتفاق رجال السياسة الأوربية على شيء يضر بمصلحة مصر، أو يبعد ميعاد استقلالها أو يفيد استمرار الاحتلال إلى الأبد، قارنوا بين مصر وبين غيرها من ولايات البلقان التي استقلت، واستنتجوا من ذلك أن ذنب مصر أنها أمة إسلامية، وأن أوربا لا تساعد في الشرق إلا الأمم المسيحية، فتمنى بعضهم لو كان للمسلمين وحدة كما في أوربا هذه الوحدة التي يتخيلون وجودها، وأنها كانت الحامل لأوربا على التداخل في أمر ولايات البلقان وأرمينية، نقول ذلك ونحن لا نعرف أنه يوجد في اللغة كلمة جامعة مسيحية «بانيكريستيانزم» كما خلقت كلمة جامعة إسلامية «بانيسلامزم».
على أن عقلاء المصريين لا يرون لكلتيهما وجودا في العالم، ولكن السياسة تخلق ما تشاء، فليس لأوربا أن تتوجس خيفة من فكرة ساذجة كهذه، بعيدة عن أن تؤدي إلى اعتداء من جهة المصريين، ولا أن تسبب قلق المستعمرين من الأوربيين، بل يرى هؤلاء العقلاء أن الذي خلق هذا الخاطر الساذج هو مظاهر السياسة الأوربية في الشرق.
أما كون الجامعة الإسلامية موجودة وجودا حقيقيا، أو أنها مقصد من المقاصد التي يسعى المسلمون لتحقيقها، فهذا لا دليل عليه مطلقا، كما أنه لو حوول إيجادها لاستحال ذلك بالمرة على طلابه.
علمنا التاريخ وطبائع البشر أنه لا شيء يجمع بين الناس إلا المنافع، فإذا تناقصت المنافع بين قلبين استحال عليهما أن يجتمعا لمجرد قرابة في الجنسية، أو وحدة في الدين، وإن أبلغ مثال على ذلك هو انشقاق المسلمين على أنفسهم في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مما هو مشهور ومأثور، إن أحسن ما قرأنا في الجامعة الإسلامية، هو ما ذكره الأستاذ براون في خطبته التي ألقاها في جامعة كيمبردج سنة 1903 وأبان فيها أن الجامعة الإسلامية هي خرافة ابتدعها دماغ مكاتب التيمس في فينا، قال الأستاذ براون:
إنه ليس من السهل تعريف معنى البانيسلامزم بعبارة تنطبق على المثل العربي المشهور «خير الكلام ما قل ودل» ومع الأسف إننى استشرت أحد أصدقائي المسلمين في هذا الموضوع، فعرفني معنى «بانيسلامزم» بلا تردد في بضع كلمات، وهي «أن البانيسلامزم هي خرافة خلقها دماغ مكاتب التيمس في فينا.
وإن تجسيم الأمر في نفس عميد الاحتلال في مصر إلى حد أنه قد جعله تعصبا للدين لا محل له بالمرة، إلا إذا كان الغرض منه بعث القلق إلى نفوس السياسيين من الأوربيين، حتى لقد جره ذلك الغرض إلى التعريض بأحكام الدين الإسلامي، وادعى أنها غير صالحة إلى أن تطبق في هذا الزمان.
قال ذلك بتصريحات كان من عادته أن يتوقاها؛ مراعاة لاحترام الدين الإسلامي، وتفاديا من جرح شعور المسلمين، نقول: على غير عادته؛ لأنه كثير الاحترام للدين الإسلامي، كثير الحيطة في التعبير عنه بشيء يتعلق به، وكل تصريحاته مستفيضة في هذا المعنى؛ فقد قال في خطبته في كلية غوردون في 4 يناير سنة 1899:
ولا يخفى عليكم أن جلالة الملكة ورعاياها المسيحيين من أشد الناس استمساكا بعروة دينهم، ولذلك فهم يعرفون وجوب احترام دين غيرهم، على أن حكم جلالتها يظلل من المسلمين عددا أكثر مما يظلل حكم أي ملك في الأرض، وهم مع ذلك في عيشة هنية، وسعادة تحت حكمها الكثير الخيرات، دينهم موقر، وعاداتهم الشرعية محترمة كل الاحترام ... إلخ.
Bilinmeyen sayfa